[Back to Page][Download]

DARE.fulltext: FT108

Averroes, Talḫīṣ kitāb al-burhān (تلخيص كتاب البرهان).

[Page 369]

بسم الله الرحمٰٰٰن الرحيم
صلى الله على محمد وعلى آله
المقالة الاولى
من كتاب البرهان
‑١‑
[ضرورة المعرفة المتقدمة الوجود]

قال : كل تعليم وكل تعلم فكري فانما يكون بمعرفة متقدمة للمتعلم، والا لم
يمكنه ان يتعلم ﺷﻴﺌﴼ، وهذه القضية يظهر صدقها بالاستقراﺀ. وذلك ان العلوم
التعاليمية وما اشبهها من الامور النظرية اذا تصفح امرها ظهر ان العالم الحاصل منها
عن اﻟﺘﻌﻠّﻢ انما يكون من معرفة متقدمة للمتعلم. وكذلك يظهر الأمر قي ساﺋﺮ الاشياﺀ
التي ﺷﺄنها ان تتعلم بقول. وقد يظهر صدق هذا مما تقدم، وذلك ان كل تصديق
بقول فانه انما يكون: اما من قبل القياس، واما من قبل الاستقراﺀ او التمثيل على
ما ﺗﺒﻴّﻦ مثل هذا. فالذي يتعلم بالقياس فقد يجب قبل تعلمه نتيجة القياس ان
يكون قد سبق عنده العلم بمقدمات القياس، والذي يصحح المقدمة الكلية
بالاستقراﺀ قد يجب اﻳﺿًﺎ ان تكون عنده معرفة الجزﺋﻴﺎت متقدمة على معرفة الكلية؛
وكذلك الذي يعلم الشيﺀ بطريق التمثيل والاقناع قد يجب اﻳﺿًﺎ ان يكون قد تقدم
فعرف الشيﺀ الذي تمثل به قبل ان يعرف الشيﺀ الذي عرف من قبل المثال.
والعلم الذي يجب ان يتقدم على كل ما ﺷﺄنه ان يدرك بفكر وقياس على
ضربين: اما علم ﺑﺄن الشيﺀ موجود او غير موجود وهو الشيﺀ الذي يسمى

[Page 370] التصديق، واما علم بماذا يدل عليه اسم الشيﺀ وهو الذي يسمى ⟪تصورًا⟫.
فبعض الاشياﺀ يجب على المتعلم ان يتقدم فيعلم من امره انه موجود فقط، مثل
المقدمة التي يقال فيها ان على كل شيﺀ يصدق اما الايجاب او السلب، فان
امثال هذه المقدمات يحتاج ان يعلم من امرها صدقها فقط، وانه لا يدفعها الا
السوفسطاﺋﻴﻮن، وبعضها يجب ان يتقدم فيعلم من امرها على ماذا يدل اسمها فقط،
مثل ان يتقدم المهندس فيعلم على ماذا يدل اسم الداﺋﺮة في صناعته واسم المثلث؛
وبعضها يحتاج ان يتقدم المتعلم فيعلم الامرين ﺟﻤﻴﻌًﺎ مثل الوحدة فانه يجب على
المتعلم ان يعلم على ماذا يدل اسمها وانها شيﺀ موجود. وذلك ان العلم بوجود الشيﺀ
غير العلم بماذا يدل عليه اسمه، فقد يعلم ما يدل عليه الاسم ولا يعلم وجوده. ولا
ينعكس هذا بل يجب على من علم الوجود ان يعلم دلالة الاسم.

الفرق بين التعلم والتذكر ﺑﺄن التذكر احساس ثانية وما يشبهه والعلم الحاصل بالقياس يحصل اولاً بانه لازم المقدمتين

وليس تقدم العلم المتقدم على العلم المتعلم بمنزلة تقدم الاحساس الاول للشيﺀ
على الاحساس الثاني له في وقت آخر، وذلك انّا قد نحسّ اشياﺀ قد كنا تقدمنا
قبل ﻓﺄحسسناها، فعندما نحسّها ثانيًا نعرف انها التي قد أحسسنا قبل. فانه لو
كانت حال العلم المستفاد بالتعلم مع العلم المتقدم هذه الحال، لوجب ان يكون التعلم
تذكرًا.
دفع الشبهة التي مثل ان التعلم الذي يحصل من احساس اول

ولا اﻳﺿًﺎ يشككنا في هذه المقدمة، اعني القاﺋﻠﺔ ان كل تعليم وتعلّم انما يكون
بمعرفة متقدمة، انّا قد نحسّ اشياﺀ من غير ان يتقدم لنا حس بها، فان هذه
المعرفة والمعرفة الحاصلة عن التعلّم معرفة باشتراك الاسم. وبعض الاشياﺀ تحصل لنا
معرفتها بالحس ابتداﺀً ونعلمها معًا، وتلك هي الأشياﺀ الجزﺋﻴﺔ التي لم نحسّها وهي
داخلة تحت الأشياﺀالكلية التي علمناها. مثال ذلك انّا عندنا علم بأن كل

[Page 371] مثلث فزواياه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ، وليس عندنا علم بأن المثلث الذي رسمته انت في
اللوح وأخفيته عنّا انه بهذه الصفة، فاذا كشفت لنا عنه حصل لنا من قبل الحس
انه موجود مثلث ومن قبل العلم بالامر الكلي ان زواياه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ. فالمقدمة
الصغرﻯ في هذا العلم حصلت عن الحس وهي ان هذا مثلث، والنتيجة، وهي
ان هذا المثلث زواياه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ، حصلت لنا عن المقدمة الكبرى التي كانت
عندنا معلومة من اول الامر لما انضافت الى المقدمة الحاصلة عن الحس وهي
الصغرى. وهذه حال جميع الاشخاص مع كلياتها المعلومة قبل ان نعلمها بالحس،
اعني انها مجهولة من جهة ومعلومة من جهة اخرى.

القول في بيان شك ⟪مانن⟫ بأن التعلم لا يمكن وحل ذلك الشك

وبالجملة فهذه هي حال الشيﺀ المستفاد بالتعلم، اعني انه مجهول من جهة ما هو
جزﺋﻲ ومعلوم من جهة الأمر الكلي المحيط به. فانه لو كان الشيﺀ المجهول عندنا
مجهولاﹰ من جميع الجهات لما امكننا ان نتعلمه، وللزمنا شك ⟪مانن⟫ المشهور وهو
الذي يقول فيه ان الانسان لا يخلو ان يتعلم ما قد علمه او ما لم يعلمه وهو جاهل
به؛ فان كان يتعلم ما علمه فلم يتعلّم بعد ﺷﻴﺌًﺎ مجهولاً عنده، وان كان تعلّم ما جهله
فمن اين علم ان ذلك الذي كان يجهله هو الذي عمله. فان من يطلب عبدًا ﺁنفًا
وهو يجهله، اذا صادفه لم يعلم ان ذلك هو الذي كان يطلبه الا ان يكون قبل
ذلك يعمله. فاذن لا تعلّم هنا اصلاً ولا تعليم. واما نحن لما كنا نقول ان الشيﺀ
المطلوب يعلم بامر كلي ويجهل بجهة جزﺋﻴﺔ، وهي الجهة التي تخصه، لم يلزمنا هذا
الشك المذكور. وكذلك بهذه الجهة بعينها نحلّ الشك السوفسطاﺋﻲ الذي جرت
العادة باستعماله في هذه الاشياﺀ الجزﺋﻴﺔ. وذلك انهم كانوا يقولون: هل عندك
علم بأن المثلث زوابه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ او ليس عندك علم بذلك؟ فاذا اجابهم مجيب
بأن عنده علمًا من ذلك، كشفوا له عن مثلث مرسوم في لوح وقالوا: فهل
كان عندك علم بهذا المثلث ان زواياه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ قبل ان يكشف لك عنه ام لم
يكن عندك علم بذلك؟ فاذا قال: لم يكن عندي علم بأن زواياه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ.

[Page 372] قالوا: فقد كان عندك علم بأن المثلث زواياه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ، ولم يكن عندك علم
بذلك لان هذا مثلث لم تعلم حاله قبل. فنحن محلّه بأن نقول: كان عندنا علم
به بجهة ولم يكن عندنا بأخرى. وليس مستحيلاً ان نعلم الشيﺀ بجهة ونجهله
بأخرى، وانما المستحيل ان نعلم الشيﺀ بالجهة التي نجهله بها.

قال : ولا ينبغي ايضًا ان نحلّ هذا الشك بالجهة التي حلّه بها قوم، وذلك
انهم قالوا في جواب هذا: وانّا لم نعلم ان كل مثلث فزواياه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ، بل
انما علمنا ان كل ما علمنا انه موجود مثلثًا فزاياه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ، فان العلم
الحاصل لنا بالمثلث عندما كشف عنه لم يحصل بهذا الشرط، اعني ان النتيجة لم
تكن مأخوذة بهذا الشرط، اعني انه لم ينتج لنا ان هذا لما كان معلومًا انه مثلث
كانت زواياه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ، بل انما ينتج لنا عن الحس وعن المقدمة الكلية
التي كانت عندنا ان هذا لما كان مثلثًا وجب ان تكون زواياه مساوية لقاﺋﻤﺘﻴﻦ. فاذن
العلم الحاصل لنا عن هذا البرهان انما حصل لنا عن طبيعة المثلث مطلقة لا من
حيث هي مأخوذة بهذا الشرط.

[Page 373]

‑٢‑ [القول في العلم والبرهان]

قال : وانما نرى انّا قد علمنا الشيﺀ علمًا حقيقيًّا في الغاية متى علمنا الشيﺀ لا
بأمر عارض له على نحو ما يعمله السوفسطاﺋﻴﻮن، بل متى علمناه بالعلة الموجبة لوجوده
وعلمنا انها علته، فانه لا يمكن ان يوجد من دون تلك العلة. ومن الدليل على ان
العلم الحقيقي هو هذا ان كل من يدّعي انه قد علم الشيﺀ فانه انما يرى انه قد علمه
بهذه الجهة سواﺀً علمه بالحقيقة او لم يعلمه، فان كليهما انما يزعمان انهما علما
الشيﺀ بهذه الجهة. لكن الفرق بينهما ان الذي لا يعلم الشيﺀ على ما هو به يظن
انه علمه بعلّته وهو لم يعلمه والذي علمه على التحقيق علمه بعلّته، واذا كان هذا
هو العلم الحقيقي المطلوب، فالذي يفيد هذا العلم هو البرهان. وقد يقال العلم
الحقيقي على نحو ﺁخر وهر العلم المكتسب بالحدّ، الا ان القول ها هنا اولاً انما هو في
العلم المكتسب بالبرهان، ثم من بعد ذلك نتكلم في ذلك العلم الثاني.
القول في تحديد البرهان وتعديد شروطها واثبات ذلك الشروط

والبرهان بالجملة هو قياس يقيني يفيد علم الشيﺀ على ما هو عليه في الوجود
بالعلة التي هو بها موجود، اذا كانت تلك العلة من الامور المعروفة لنا بالطبع. واذا
كان القياس البرهاني هو الذي من شأنه ان يفيد هذا العلم الذي هو العلم الحقيقي
كما قلنا، فبيّن انه يجب ان تكون مقدمات القياس البرهاني صادقة واواﺋﻞ وغير
معروفة بحدّ اوسط، وان تكون اعرف من النتيجة، وان تكون علة للنتيجة بالوجهين
جميعًا، اعني علّة لعلمنا بالنتيجة وعلة لوجود ذلك الشيﺀ المنتج نفسه؛ واذا كانت

[Page 374] علة للشيﺀ المنتج نفسه فقد يجب فيها ان تكون مناسبة للامر الذي يتبيّن بها. فان
هذه هي حال العلة من المعلول، وقد تبيّن في الكتاب المتقدم انه قد يكون قياس
صحيح دون هذه الشروط على ما تقدم. فاما الذي يتبيّن ها هنا فهو انه لا
يمكن ان يكون قياس برهاني دون اجتماع هذه الشروط. اما كون مقدمات البرهان
صادقة فمن قبل ان المقدمات الكاذبة تفضي بمستعملها ان يعتقد فيما ليس بموجود
انه موجود، مثل ان يعتقد ان قطر المربع مشارك لضلعه. واما كونها غير ذوات حدّ
اوسط فمن قبل ان التي تعلم بحدود وسط فهي محتاجة الى البرهان كحاجة الاشياﺀ
التي يرام ان يبرهن بها. واما كونها عللاً للشيﺀ فمن قبل ما قلناه من ان العلم
الحقيقي في الغاية انما يكون لنا في الشيﺀ متى علمناه بعلته. واما كونها متقدمة على
النتيجة فمن قبل انها علة للنتيجة متقدمة عليها بالسببية. واما كونها اعرف منها
فانه يجب ان تكون اعرف في الوجهين المتقدمين جميعًا، اعني ان تكون اعرف
من النتيحج فيماذا يدل عليه اسمها، وفي انها موجودة اي صادقة. والاعرف يقال
على ضربين: احدهما عندنا والآخر عند الطبيعة، فانه ليس المتقدم في المعرفة عندنا
هو المتقدم عند الطبيعة في جميع الاشياﺀ، وذلك ان الامور المحسوسة المركبة هي
اقدم في المعرفة عندنا، والاعرف عند الطبيعة هي الامور البسيطة التي منها اﺋﺘﻠﻔﺖ
المركبات وهي البعيدة من الحس، اعني التي يدركها الحس بآخرة ان كانت مما
شأنها ان يدركها الحس. والاشياﺀ البعيدة من الحس بالجملة هي الاشياﺀ الكلية
والقريبة منه، اي الاعرف عنده، هي الاشياﺀ الجزﺋﻴﺔ اي الاشخاص الموجودة
المركبة. ومعنى قولنا في البرهان انه يكون من الاواﺋﻞ، اي من المبادئ المناسبة، فانه
لا فرق بين قولنا اواﺋﻞ وبين قولنا مبادئ من قبل انهما اسمان مترادفان اي يدلاّن على
معنى واحد.

ومبدأ البرهان هو مقدمة غير ذات وسط، اي مقدمة غير معروفة بحدّ
اوسط، وهي التي ليس يوجد مقدمة اخرى اقوم منها في المعرفة ولا في الوجود. فاما
المقدمة بالجملة فقد تقدم رسمها حيث قيل انها احد جزﺋﻲ القول الجازم اما
الموجب واما السالب، وقد تحدّ بأنها قول حكم فيه بشيﺀ على شيﺀ واخبر فيه
بشيﺀ عن شيﺀ، وهذه منها موجبة ومنها سالبة. واما المقدمة الجدلية فهي المقدمة
التي يتسلّم باﻟﺴﺆال اي جزﺀ من النقيض اتفق ان يسلمه المجيب، كان ذلك

[Page 375] الذي يسلمه هو الصادق او غير الصادق. واما المقدمة البرهانية فهي الصادقة من
احد جزﺋﻲ النقيض. واما الحكم فهو بأي جزﺀ اتفق من المتقابلين بالايجاب
والسلب. واما النقيض فهو المقابل الذي ليس بينه وسط. وكل هذا قد سلف في
الكتب المتقدمة.

القول في بيان مبادﺉ البرهان وتقسيمها الى العلوم المتعارفة والاصول الموضوعة

ومبدأ البرهان الذي هو كما قلنا مقدمة غير ذات وسط ينقسم اولاً
قسمين: فاحدهما ما لم يكن سبيل الى برهانه في تلك الصناعة ولا كان معروفًا
بنفسه عند المتعلم، و هذا يسمى ⟪اصلاً موضوعًا⟫؛ والقسم الثاني ما كان معروفًا
بنفسه عند المتعلم وهذا هو الذي يسمى ⟪العلوم المتعارفة⟫.
القول في تقسيم الوضع الى المقدمة والى الحدّ


والوضع ايضًا ينقسم قسمين: فمنه ما يوضع فيه وضعًا أيهما اتفق من جزﺋﻲ
النقيض اما الموجب واما السالب، وهذا هو الذي يخص باسم الوضع وهو معدود
في جنس المقدمات؛ ومنه ما هو حدّ بمنزلة حدّ الوحدة التي يضعها العددي اذ يقول
انها شيء غير منقسم بالكمية غير ذات وضع. والفرق بين المقدمة الموضوعة والحدّ
الموضوع ان المقدمة تقتضي ولا بدّ ان الشيء موجود او غير موجود، وهذا هو معنى
المقدمة؛ واما الحدّ فليس يتضمن بذاته ان الشيء موجود او غير موجود، اعني من
جهة ما هو حدّ، فانه ليس معنى ما هي الوحدة ومعنى انها شيء موجود معنى
واحدًا بل ذلك علمان مختلفان، وان كان يلحق في اشياء ان نعلمها بالعلمين
معًا كما سيأتي بعد.
ولما كان الشيء المعلوم بالبرهان انما يقع لنا التصديق اليقيني به من قبل القياس
البرهاني، وكان التصديق بالقياس البرهاني انما يكون من قبل المقدمات التي منها
ائتلف القياس، فقد يجب من ذلك الاّ تكون معرفتنا بالشيء المعلوم بالبرهان،
وهي النتيجة، ومعرفتنا بالمقدمات التي بها عرفت النتيجة، على حد سواء، اعني ان

[Page 376] تكون معرفتنا بالمقدمات والنتيجة في مرتبة واحدة من المعرفة، وذلك اما في جميع
المقدمات واما في بعضها بل يجب ضرورة ان تكون معرفتنا بالمقدمات اكثرء؛ وذلك
ان الشيء الذي من اجله وجد شيء ما بصفة ما هو أحق بوجود تلك الصفة له من
الشيء الذي وجدت له تلك الصفة من قبله. ومثال ذلك انّا لما كنا نحب المعلم
من اجل حب الصبي فقد يجب ان يكون حبّنا للصبي اكثر من حبنا للمعلم.
وكذلك ان كنا انما نصدق بالنتيجة من اجل تصديقنا بالمقدمات، محال ان يكون
تصديق الانسان بالشيء الذي لا يعرفه اكثر من الشيء الذي يعرفه، وان يكون في
علمه افضل من الشيء الذي يعرفه بعد الجهل به، لان الجهل قد يلزمه ان لم
يتقدم الانسان فيعرفه بالاشياء التي لم يجهلها قط. واذا كان هذا هكذا فواجب ان
تكون مبادئ البرهان اما كلها واما بعضها اعرف من النتيجة.
ومن اراد ان يحصل له العلم البرهانى فليس يكتفي بأن تكون المقدمات اعرف
من النتيجة عنده، وان يكون تصديقه بها اكثر من تصديقه بالنتيجة، بل وقد
يحتاج مع ذلك الاّ يصدق بشيﺀ من مقابلات المقدمات المعروفة بنفسها، وتلك
هي الامور المغلّطة التي هي مبادئ قياس السوفسطائيين. والسبب في ذلك ان العلم
البرهاني خاصته لا تقبل التغيّر ولا الفساد، ولا يخطر ببال المعتقد له
امكان مقابله ما دام المعتقد له صحيح العقل موجودًا.

[Page 377]

‑٣‑ [ابطال بعض الخطاﺀ الواردة في العلم والبرهان]

قال : وقد ظن قوم انه ليس ها هنا برهان اصلاً، ونفوا طبيعته جملة من قبل
انهم ظنوا ان كل شيء يجب ان يقام عليه برهان، اعني انهم رأوا ان حال مقدمات
البرهان في حاجتها الى البرهان هي مثل حال النتيجة بعينها. وقوم آخرون أثبتوا
طبيعة البرهان واعتقدوا ان البرهان يكون على جميع الأشياء. وكلا الرأيين كاذب
فانهما ليسا بمتقابلين. فاما الذين نفوا طبيعة البرهان فانهم قالوا انه لما كان كل شيء
محتاجًا الى البرهان، وكان غير ممكن ان تعلم اشياء متأخرة في العلم بأشياء متقدمة
دون ان تكون تلك المتقدمة معلومة ايضًا بمتقدمة اخرى، وتلك المتقدمة بمتقدمة
اخرى، وكذلك الى ما لا نهاية له، وكان قطع ما لا نهاية له غير ممكن. فاذن ليس
ها هنا مبادئ معلومة تنتهي اليها على سبيل الوضع ولا على سبيل الطبع، واذا لم
يكن هنا مبادئ فلا برهان هنا. وما اعتقدوا من ان الاشياء المتأخرة لا تعلم الا
بمتقدمة وان قطع ما لا نهاية له مستحيل صحيح وصواب؛ واما ما اعتقدوا ان
كل شيء يحتاج الى البرهان، وانه ليس ها هنا مبادئ معلومة بانفسها فباطل. واما
القوم الآخرون فانهم سلّموا ان كل شيء يحتاج الى البرهان، ورأوا ان وجود البرهان
لكل شيء ممكن على جهة الدور لا على جهة الاستقامة، وهي التي يلزم فيها قطع
ما لا نهاية له المستحيل.
واما نحن فنقول انه ليس كل شيء يعلم بالبرهان، بل ها هنا أشياء تعلم بغير
وسط ولا برهان، ووجود ذلك بيّن بنفسه؛ ومن سلّم وجود البرهان فيلزمه ضرورة ان
يقرّ ان ها هنا مبادئ معلومة بنفسها. وذلك انه ان كان واجبًا ان تعرف
مقدمات البرهان فاما ان نعرفها بوسط او بغير وسط؛ فان عرفت بوسط عاد السؤال

[Page 378] ايضًا في ذلك الوسط: هل عرف بنفسه او بوسط؟ فاما ان يمر الامر الى غير نهاية
على استقامة فلا يكون ها هنا برهان اصلاً، واما ان تكون ها هنا مبادئ معلومة
بنفسها، واما ان يكون البرهان دورًا.
قال: ولنا الاّ نسلّم للسوفسطائيين ان مبادئ البرهان غير معلومة بغيرها بل
نقول انها معلومة بالعقل وهو الذي يدرك اجزاء القضية المعروفة بنفسها. اما انه غير
ممكن ان يتبيّن شيء مجهول بمعلوم على طريق الدور فذلك يتبيّن مما اذكره. اما اولاً
فقد تبيّن ان البرهان الذي في غاية اليقين انما يكون من المبادي التي هي اعرف عند
الطبيعة؛ فان بيّنت المقدمات، بالنتيجة على ان النتيجة اقدم منها عند الطبيعة،
وقد كانت النتيجة تبيّنت بالمقدمات قبل على انها اقدم عند الطبيعة، فقد لزم
ان يكون شيء واحد بعينه متقدمًا على شيء واحد بعينه ومتأخرًا عنه بجهة واحدة
وذلك مستحيل. فانه ليس يمكن ذلك الا ان يكون المتقدم بجهتين مختلفتين، مثل
ان يكون احدهما اقدم عندنا في المعرفة والثاني اقدم في المعرفة عند الطبيعة. الاّ انهم
ان ادّعوا ذلك لزمهم اما اولاً فان تكون طبيعة البرهان الذي في الغاية من اليقين
طبيعتين. وذلك ان يكون منه ما هو من الاشياء الاقدم في المعرفة عندنا، ومنه ما هو
من الاشياء الاقدم عند الطبيعة، فتكون طبيعة البرهان المطلق هي طبيعة الاستقراء؛
وذلك ان الاستقراء انما يبيّن فيه الاعرف عند الطبيعة وهو الكلي بالاعرف عندنا
وهي الجزئيات.
وايضًا فان سلّمنا لهم ان ها هنا نوعًا من البرهان يسمى برهانًا بالاضافة الينا
وهو الذي يسمى ⟪الدليل⟫، لا بالاضافة الى الامر في نفسه وهو الذي جرت
العادة بأن يسمى ⟪برهانًا مطلقًا⟫، فقد يلحق من زعم ان كلى البرهانين محتاج الى
صاحبه على طريق الدور في تبيين ان الشيء موجود او غير موجود شناعة اخرى لا
انفكاك لهم عنها، ومحال آخر وهو ان يؤخذ الشيء في بيان نفسه. وهذا يظهر بأن
نفرض ثلاثة اشياء يلزم بعضها بعضًا في البيان على جهة الدور؛ فانه لا فرق بين
ان نضع الدور في اشياء كثيرة على طريق اللزوم، او في اشياء قليلة، ومن القليلة في
اثنين او ثلاثة، فان طبيعة الدور فيها كلها طبيعة واحدة، اذ كان انما يجب ان
تكون في عدد متناهٍ فقط واقل العدد اثنان؛ فلنفرض ان ا انما علمناها من قبل

[Page 379] علمنا ب ب وان ، ب انما علمناها من قبل علمنا ﺑﺠ ، وان ‍ ﺟ انما علمناها من قبل
علمنا با . وذلك انه اذا كانت ا انما علمناها من قبل علمنا بب و ب من قبل
علمنا ﺑ ﺠ ، فبيّن ان ا انما علمناها من قبل علمنا ﺑﺠ ؛ واذا كانت ‍ ﺟ انما عرفناها
من قبل علمنا با ، فبيّن ان ا انما عرفناها من قبل علمنا با ، وذلك مستحيل.
وايضًا فقد تبيّن في ⟪كتاب القياس⟫ ان البيان بالدور انما يمكن في المقدمات
المنعكسة، وتلك هي المقدمات التي تأتلف من الحدود والخواص. وقد تبيّن هنالك انه
ليس يمكن ان ينتج شيء عن مقدمة واحدة بل اقل ما يمكن ان ينتج عنه شيء
هو مقدمتان، فالدور في المقاييس. لذلك انما يكون بأن تبيّن اولاً نتيجة ما
بمقدمتين، ثم تبيّن كل واحدة من المقدمتين بالنتيجة وبعكس المقدمة الثانية.
ولذلك من شرط البيان الدائر ان تنعكس المقدمتان، فاذا لم تنعكس المقدمتان لم
يتفق البيان الدائر على التمام. ويتبيّن ايضًا انه اذا كانت النتيجة موجبة،
والمقدمتان بهذه الصفة، امكن ان يبيّن بها لا في جميع الاشكال كل واحدة من
المقدمتين اذا اضيف اليها عكس قرينتها بل في الشكل الاول فقط. واما اذا كانت
النتيجة سالبة فليس يمكن ان تبيّن بها الا المقدمة السالبة فقط لا المقدمة الموجبة.
واذا كان هذا هكذا فالبيان الدائر يحتاج الى اربعة شروط: ان تكون كل واحدة من
المقدمتين منعكسة، وان تكون النتيجة منعكسة، وان يكون التأليف في الشكل
الاول، وان يكون ذلك بجهتين، اعني ان تكون المقدمات اعرف من النتيجة بجهة
والنتيجة اعرف منها بجهة اخرى. فكيف يصحّ قول من قال ان جميع الاشياء يبيّن
بعضها ببعض على طريق الدور؟ وذلك ان هذه المقاييس التي يتفق فيها بيان
الدور هي يسيرة بالاضافة الى جميع المقاييس اذ كان الدور انما يتأتى فيها بجميع
هذه الشروط التي ذكرنا.
واذ قد تبيّن هذا، فلنرجع الى ما كنا فيه من ذكر شروط مقدمات البرهان.

[Page 380]

‑٤‑ [تعريف ⟪الحمل على جميع الشيﺀ⟫، و ⟪الحمل بالذات⟫، و ⟪الحمل على الكل⟫]

فنقول : انه لما كان من البيّن بنفسه ان المطالب التي تعلم علمًا محققًا، وهو العلم
الذي حددناه قبل، انه يجب في الشيء المعلوم مع انه موجود على الصفة التي علم
ان يكون غير ممكن ان يوجد بخلاف ما هو عليه موجود ولا في وقت من الاوقات
وذلك هو ان يكون ضروريًا ودائمًا، وكان هذا انما يعلم من امر المطلوب من قبل
البرهان، وكان البرهان انما يعطى هذا من قبل مقدماته على ما تبيّن في ⟪كتاب
القياس⟫، فانه تبيّن هنالك ان النتيجة الاضطرارية الدائمة لا تكون الا عن
مقدمات اضطرارية. فبيّن انه اذا كان من شرط العلم المحقق ان تكون النتيجة
ضرورية، انه يجب ان تكون مقدمات البرهان ضرورية اي غير مستحيلة ولا
متغيّرة. واذا تبيّن هذا من امر مقدمات البرهان، فقد يجب ان ننظر في سائر
الشروط والخواص التي تكون لمقدمات البرهان من قبل كونها ضرورية، ثم نتبع ذلك
بالنظر في المطالب البرهانية.
القول في بيان معنى ⟪الحمل على جميع الاشياﺀ⟫، ومعنى ⟪الحمل بالذات⟫، ومعنى ⟪الحمل على الكل⟫ ، والشروط التي تلزم البرهان من قبل انه ضرورية

واول ذلك فينبغي ان نبيّن ما معنى ⟪الحمل على جميع الشيء⟫، وما معنى
⟪الحمل بالذات⟫ وما معنى الحمل المسمى في هذا الكتاب ⟪الحمل على الكل⟫.
فاما معنى قولنا ان الشيء محمول على جميع الشيء فنعني به في هذا الكتاب متى لم

[Page 381] يكن المحمول موجودًا لبعض الموضوع ولبعضه ليس بموجود، ومتى لم يكن له ايضًا
موجودًا في وقت ما وفي وقت آخر غير موجود، بل ان يكون لجميع الموضوع وفي
جميع الزمان، مثل قولنا: ان الانسان حيوان، فانه اي شيء وصف به انه انسان
فهو يوصف بانه حيوان، ومتى وصف بالانسانية فهو يوصف بالحيوانية.
قال: وقد يظهر ان ⟪الحمل على جميع الشيء⟫ يحتاج ان يشترط فيه هذان
الشرطان من ان العناد لا مثال هذه المقدمات انما يكون من هاتين الجهتين، وذلك
بأن يبيّن المعاند ان بعض الموضوعات قد يخلو من ذلك المحمول، او يبيّن انه قد يخلو
من الموضوع الذي يوجد فيه وقتًا ما.

القول في بيان معاني محمولات الذاتية بأنها تستعمل مطلقة بأربعة معان وان المستعمل منها في البراهين اثنتان

واما ⟪الذي بالذات⟫ فيقال على وجوه اربعة:
احدها على المحمولات التي تؤخذ في حدود موضوعاتها اما على انها حدود تامة
لها او اجزاء حدود، مثل الخط المأخوذ في حدّ المثلث، وذلك انّا نقول انه شكل
تحيط به ثلاثة خطوط، ومثل اخذ النقطة في حدّ المستقيم لانها ايضًا جزء حدّ،
مثل من حدّه بانه اقصر خط وصل به بين نقطتين، او الموضوع على سمت النقط
المتقابلة، فان حمل الخط على المثلث امر ذاتى له، وكذلك حمل النقطة على
الخط.

والثاني من معنى ⟫ما بالذات⟪ هي المحمولات التي تؤخذ موضوعاتها في حدودها
على انها اجزاء حدّ بمنزلة الخطّ المأخوذ في حدّ الاستقامة و الانحناء الموجودين في
الخط، وبمنزلة اخذ العدد في حدّ الزوج و الفرد وفي حدّ الاول والمركب، وبمنزلة
اخذ المثلث في مساواة الزوايا لقائمتين. والمحمولات التي ليس تحمل بهاتين الجهتين
فهي المحمولات العرضية بمنزلة حمل الابيض والحيوانية على الموسيقى والطبيب، فان
قولنا: الموسيقار ابيض او الطبيب حيوان هو حمل بالعرض.
واما المعنى الثالث فهو المقول على اشخاص الجوهر. وذلك انه قد جرت العادة
ان يقال فيما ليس هو موجود في شيء ولا هو مقول على شيء، على ما قيل في رسم

[Page 382] الجوهر، انه موجود بذاته؛ واما ما يقال في موضوع فليس يقال فيه انه موجود بذاته
بل بغيره، وهذه هي الاعراض.

واما المعنى الرابع فهو المعلولات اللازمة دائمًا لعللها الفاعلة لها، اعني التي
تتبعها ولا بدّ، فان هذه تقال ان معلولاتها لازمة عنها بالذات مثل الموت الذي يتبع
الذبح. واما المعلولات التي ليس نتبع عللها الا بالاتفاق وفي الأقل فهي العلل
العارضة، مثل ان يمشي انسان فيبرق برق، فان ليس مشي الانسان علة
لوجود البرق وانما اتفق ذلك اتفاقًا وليس هكذا حال الموت التابع للذبح، فانه لم
يعرض الموت عن الذبح بالاتفاق بل حدوثه عنه ضروري وأمر لازم.

والمستعمل من اصناف ⟪ما بالذات⟫ في مقدمات البراهين هما صنفا
المحمولات الذاتية، اعني الصنف الذي يؤخذ المحمول في حدّ الموضوع، والصنف
الذي يؤخذ الموضوع في حدّ المحمول. وذلك ان هذا الصنف ايضًا يظهر من امره ان
المحمول فيه ضروري وذاتي للموضوع، فان نسبة اجزاء الحدّ الى المحدود نسبة
ضرورية. وهذه: اما ما كان منها الموضوع نفسه يؤخذ في حدّ المحمول فالامر فيه
بيّن انه ضروري اذ كان لا يفارقه، مثل اخذ الانسان في حدّ الضحاك، واما ما كان
يؤخذ في حدّها جنس الموضوع وهي الاعراض المتقابلة، مثل الخط المأخوذ في حدّ
الاستقامة والانحناء، والعدد المأخوذ في حدّ الزوج و الفرد. فان هذه لما كان الجنس
ينقسم بها قسمة ذاتية، وكان واجبًا الاّ يخلو الجنس من احدها، وذلك ان
تقابلهما يكون اما على جهة العدم والملكة واما على جهة الايجاب والسلب، وجب
ان تكون هذه المتقابلات محدودة ومنحصرة في الطبيعة التي تنسب اليها متى تكون
نسبة الجنس الى جميع تلك المتقابلات نسبة الموضوع نفسه الى خاصته، اعني مثل
نسبة الانسان الى الضحاك، اي كما ان الانسان لا يفارقه الضحك كذلك لا
يفارق الجنس احد المتقابلات، واذا كان ذلك كذلك فمن جهة انه يعلم انه ليس
يخلو الجنس من احدهما يعلم انهما من الاضطرار لكن لا على التعيين.
فقد تبيّن من قولنا ما معنى ⟪بالذات⟫ و ⟪الحمل الكلي⟫ المستعمل في البراهين.

[Page 383]

في بيان معنى ⟪الحمل على الكل⟫ المستعمل في البرهان

واما ⟪الحمل على الكل⟫ المخصوص بهذا الكتاب فهو المحمول الذي جمع
ثلاثة شروط: احدها المحمول الذي يقال على جميع الموضوع الذي رسمناه قبل؛
والثاني ان يكون محمولاً على الموضوع بالذات؛ والثالث ان يكون محمولاً عليه حملاً
اولاً، اعني الاّ يكون محمولاً على الموضوع من قبل طبيعة اخرى، مثل حملنا
مساواة الزوايا لقائمتين فانها اولى للمثلث وليس بأولى للمختلف الاضلاع لانه ليس
مساواة زواياه لقائمتين موجود له بما هو مثلث مختلف الاضلاع بل بما هو
مثلث.

قلت : وانما شرط هذا في محمولات البراهين لان المحمول الذي ليس
يحمل من طريق ما هو داخل بوجه ما في الحمل الذي بالعرض. ولذلك قد نرى ان
⟪الحمل الذي على الكل⟫ يكفي فيه ان يقال انه المحمول على كل الموضوع بذاته
من قبل انه لا فرق بين قولنا ان هذا الشيء المحمول موجود لهذا الموضوع بذاته
وموجود له اولاً. وذلك ان الاستقامة والانحناء هما امران موجودان للخط بذاته
وبما هو خط: وهما مأخوذان في ماهيته اذ كانا فصلا الخط الذي به يتقوم.
وكذلك الحال في مساواة الزوايا لقائمتين في المثلث فان هذا المحمول ليس يمكن ان
يبرهن للشكل بما هو شكل اذ كان المربع شكلاً، وليس زواياه مساوية لقائمتين؛ ولا
يمكن ايضًا ان يبرهن للمثلث المختلف الاضلاع وان كان امرًا موجودًا له فان ذلك
ليس له بما هو مختلف الاضلاع اذ كانت مساواة الزوايا لقائمتين توجد في
المتساوي الاضلاع والمتساوي الساقين. واذا كان ذلك كذلك فهذا المحمول انما هو
ذاتي للمثلث بما هو مثلث، والبرهان المحقق انما هو الذي محمولاته امثال هذه
المحمولات، لذلك كان برهان مساواة الزوايا لقائمتين للمثلث المختلف الاضلاع
ليس ذاتيًا له ولا بما هو.

[Page 384]

‑٥‑ [الاخطاﺀ الواردة في برهان ⟪الحمل على الكل⟪]

قال : وقد ينبغي الاّ ننخدع ونظن انّا قد بيّنّا الشيء على طريق الحمل الذي
على الكل ونحن لم نبيّنه، او نكون قد بينّاه ونحن نظن انّا لم نبيّنه. فاما الاشياء التي
يعرض لنا فيها ان نبيّن فيها المحمول على الكل ونظن انّا لم نبيّنه فهي الاشياء التي
ليس يوجد منها الا شخص واحد فقط، مثل السماء والارض والشمس والقمر؛
فانه متى اقمنا برهانًا على شيء من هذه انه بصفة ما، مثل ان نقيم البرهان على ان
السماء جسم لا ثقيل ولا خفيف وان الارض في الوسط، فانّا قد نظن انّا انما
اقمنا البرهان على امر شخصي لا على امر كلي اذ كان ليس يوجد من هذه اكثر من
شخص واحد. وليس الامر كذلك فانّا لم نقم ذلك على الارض بما هي مشار اليها
وشخص، وانما اقمناه على الطبيعة الكلية الموجودة للارض بما هي ارض سواء وجد
منها اشخاص كثيرة او لم يوجد؛ بل اذا اقمنا البرهان عليهما فقد علمنا انه لو
وجدت ارضون كثيرة لكانت حالها هذه الحال، اعني انها كانت تكون في الوسط
مثلاً، كما انه لو عدم اشخاص الناس حتى لا يبقى منها الا شخص واحد لكان
يقوم البرهان على ذلك الانسان انه ناطق لا بما هو شخص انسان بل بما هو انسان،
ولم يكن ذلك ضارًا لنا في اقامة البرهان عليه من طريق ما هو. واما الاشياء التي
يعرض لنا فيها ان نكون لم نبيّن الذي على الكل، ونظن انّا قد بيّناه، فهي
شيئان:
احدهما الاشياء المختلفة الانواع التي يعرض ان نبرهن وجود محمول واحد بعينه
لكل واحد منها على حدته من قبل خفاء الطبيعة المشتركة التي يوجد لها ذلك
المحمول بما هي. مثل ما يبرهن العددي ان الاعداد المتناسبة اذا بدلت تكون

[Page 385] متناسبة، ويبيّن المهندس ان الاعظام المتناسبة اذا بدّلت تكون متناسبة، ويبيّن
هذا المعنى بعينه الرجل الطبيعي للازمنة. فانه قد يظن كل من هؤلاء انه قد بيّن
الامر الذي على الكل وليس كذلك، فان تبديل النسبة ليس هي للخطوط بما
هي خطوط، ولا هي للاعداد بما هي اعداد، وانما هو شيء موجود بذاته للطبيعة
العامة التي تشترك فيها هذه الثلاثة. ولذلك يصدق ان كل الاعداد والاعظام
والازمنة المتناسبة فانها اذا بدّلت تكون مناسبة. وانما كان يكون البرهان في هذه على
الكل لو كانت الطبيعة المشتركة لهذه معروفة فاقيم البرهان عليها، واما اذا اقيم
البرهان في تبديل النسبة على كل واحد من هذه على حدته فانه لم يقم البرهان
على الكل ولا عرف ذلك معرفة تامة. كما انه اذا بيّن مبيّن في المثلث الاضلاع
على حدة ان زواياه مساوية لقائمتين، وبيّن ذلك بعينه في المتساوي الساقين وفي
المتساوي الاضلاع، ولم يعرف من طبيعة وجود مساواة الزوايا لقائمتين للمثلث اكثر
من هذا، اعني من وجودها لكل واحد من انواع المثلث، فهو بعد لم يعرف ما يوجد
لطبيعة المثلث بما هو مثلث الا ان يكون يعرفه بضرب من العرض على نحو ما يكون
العلم السوفسطاﺋﻲ. وايضًا فمن لم يعرف من طبيعة وجود مساواة الزوايا لقائمتين
للمثلث اكثر من انها موجودة للمختلف الاضلاع والمتساوي الاضلاع والمتساوي
الساقين، فمن لم يعرف بعد ان هذا امر موجود لكل مثلث بما هو مثلث، وانه لا
مثلث من المثلثات الا زوايا مساوية لقائمتين، الا ان قلنا انه يعرفه بنحو من المعرفة التي يفيدها
الاستقراء، وذلك شيء غير كافٍ في البرهان.

الموضع الثاني الذي يعرض لنا فيه ان نظن انّا قد بيّنا الامر الذي على
الكل ونحن لم نبيّنه فهو الموضع الذي يعرض لنا فيه ان نبيّن شيئًا لشيء ما بحدّ اوسط
يؤخذ محمولاً على الكل ولا يكون الشيء المبيّن به محمولاً على الكل فنظن به انه
محمول على الكل من قبل كون الحدّ الاوسط بهذه الصفة. مثال ذلك ان يبيّن مهندس
انه اذا وقع خط مستقيم على خطين مستقيمين فتصير كل واحدة من الزاويتين
الداخلتين اللتين في جهة واحدة مساوية لقائمتين، فان الخطين متوازيان، فان التوازي
موجود لكلى الخطين اللذين بهذه الصفة لكن لا على الكل لان التوازي انما يوجد
على الكل للخطين اللذين يقع عليهما خط ثالث فيكون مجموع الزاويتين الداخلتين

[Page 386] اللتين في جهة واحدة مساوية لقائمتين، سواء كان كل واحدة منهما قائمة، او
كان ما نقص من الواحدة زاد في الاخرى. واما كون الحدّ الاوسط في هذا فهو
محمول على الكل.
واذا كان هذا املك الشروط بالبراهين، فقد ينبغي ان نعلم متى يقع لنا
العلم بالحمل الذي على الكل ومتى لا يقع.

القول في القانون الذي يعرف منها معنى الحمل على الكل في البراهين

فنقول : انه اذ بيّنا شيئًا واحدًا بعينه لاشياء كثيرة، فان وجدنا تلك الاشياء انما
تختلف بالاسماء فقط، مثل اختلاف السيف والصمصام، والمعنى فيهما واحد،
فالبرهان عليها على الكل. مثال ذلك انه لو كان معنى المثلث المختلف الاضلاع
ومعنى المثلث المتساوي الساقين معنًى واحدًا بعينه، لقد كنا نرى ان مساواة
الزوايا لقائمتين انما بيًنت للمثلث المختلف الاضلاع والمتساوي الساقين على طريق
الكل، فاذا لم يكن معناهما واحدًا بعينه لكن معنى كل واحد منهما غير
معنى الآخر، فالبيان لم يكن محمولاً على الكلّ ولا بحدّ اوسط محمول على الكل.
واذا لم يكن معروفًا عندنا الوصف للشيء الذي له يكون البيان على الكل، امكننا
ان نستنبطه بأن نتأمل ساﺋﺮ الاشياء التي بها يتصف ذلك الشيء الذي أوجبنا له
ذلك المحمول؛ فاذا وجدنا الصفة التي اذا بقيت هي وارتفعت سائر الصفات بقي
المحمول، واذا ارتفعت هي ارتفع المحمول اولاً بارتفاعها، فتلك الصفة هي
الصفة التي من قبلها وجد البيان على الكل. مثال ذلك انّا اذا بيّنا في المثلث
المتساوي الساقين، المعمول من نحاس مثلاً او من خشب، ان زواياه مساوية
لقائمتين، فانّا اذا اردنا ان نستنبط الصفة التي من قبلها وجد له هذا المحمول،
فوجدنا انه متى رفعنا عنه انه من نحاس وأبقينا انه مثلث لم يرتفع عنه المحمول الذي
هو مساواة الزوايا لقائمتين. وكذلك متى رفعنا عنه انه متساوي الساقين او غير ذلك
من الصفات الموجودة له، لم يرتفع عنه هذا المحمول؛ واما متى رفعنا عنه انه مثلث
وأبقينا سائر الصفات، فان المحمول يرتفع عنه ارتفاعًا اوليًّا. وليس مما يخلّ بهذا
القانون انّا نجد اذا رفعنا عنه انه شكل او ذو حدود انه يرتفع مساواة الزوايا

[Page 387] لقائمتين، فان ذلك ليس هو ارتفاعًا اوليًّا وانما عرض له ذلك من قبل ارتفاع
المثلث بارتفاعها، ولو امكن ان يبقى المثلث ويرتفع الشكل لما ارتفع المحمول الذي
هو مساواة الزوايا لقائمتين. فاذا علمنا بهذه الطريق ان المحمول انما هو موجود
على الكل للمثلث، علمنا انه الشيء الذي وجد له البيان على الكل، وانه الذي
من قبله تبيّن على طريق البرهان لكل واحد من اصناف المثلثات، اعني المختلف
الاضلاع والمتساوي الساقين، مساواة زواياه الثلاث لقائمتين.

[Page 388]

‑٦‑ [القول في ان مقدمات البرهان يجب ان تكون ضرورية واساسية]

واذ قد تبيّن ما هو المحمول على الكل، وتبيّنت اصناف المحمولات الذاتية،
وانها صنفان: احدهما المحمول الذي يؤخذ في حدّ الموضوع، والصنف الثاني
المحمول الذي يؤخذ في حدّه الموضوع، وكان قد تبيّن ان البرهان يجب ان يكون
من مقدمات ضرورية اذ كان المعلوم بالبرهان من شرطه الاّ يكون بخلاف ما علم
ولا في وقت ما، وذلك انما وجب له من قبل المقدمات الضرورية هي الذاتية المحمولة
على الكل، فبيّن انه يجب ان يكون البرهان من المقدمات الضرورية الذاتية
المحمولة على الكل. قلت هذا انما يصحّ لان ارسطو يرى ان كل ذاتية ضرورية
وكل ضرورية ذاتية. وايضًا فان البرهان كما قال لا يخلو ان يكون من المقدمات
الذاتية او العرضية، فان كان من العرضية لم يكن من الضرورية لان العرضية ليست
بضرورية لكنه من الامور الضرورية فليس من الامور العرضية، واذا لم يكن من
العرضية فهو من الذاتية.
القول في بيان ان مقدمات البرهان يجب ان تكون ضرورية

قال : فاما ان مقدمات البراهين ينبغي ان تكون ضرورية، وهو الذي جعلناه
مبدأ في انه يجب ان تكون ذاتية، فقد يمكن ان يكتفي في بيان بما سلف.
وقد يمكن ان نبيّن ذلك بيانًا اوسع بأن نبتدأ القول فيه ابتداء آخر فنقول: انه
اذا وجب ان تكون النتيجة اضطرارية غير مستحيلة ولا متغيّرة، فواجب ان يكون
البرهان الذي من قبله حصل لنا العلم بهذه الصفة ايضًا، بل هو احرى بذلك. واذا
كان واجبًا في البرهان ان يكون بهذه الصفة، اعني ضروريًا، فالمقدمات واجب فيها
ايضًا ان تكون ضرورية، الا انه ليس واجبًا في كل قياس ان يكون من مقدمات

[Page 389] ضرورية، وذلك انه قد يمكننا ان ننتج نتيجة ما صادقة عن مقدمات صادقة غير
ضرورية. فاما البرهان فمن شرطه ان تكون مقدماته مع انها صادقة ضرورية ايضًا،
وقد يدل على ذلك انّا انما نعاند من ظن انه قد اتى ببرهان على مطلوب ما من
المطالب من غير ان يكون اتى به بأن نعرّفه ان البرهان الذي اتى به ليس من
مقدمات ضرورية، او بأن ذلك القياس الذي ظن انه منتج ليس بمنتج، أو بأن
تلك المقدمات مأخوذة من الشهرة والشهادة لا يقينية.
قال : ومن هنا تبيّن ان من جعل سبار المقدمات البرهانية ان تكون مشهورة
فهو في غاية البله والجهل، مثل ما ظن أفوطاغورش بهذه المقدمات انها برهان،
وذلك انه قال ان الذي يعلم عنده علم، ومن عنده علم فهو يعلم ما هو العلم، وذلك
كاذب وان كان مشهورًا. وذلك انه اذا كنا نقول انه لا يكتفي في مقدمات البرهان
ان تكون صادقة فقط بل وان تكون ضرورية ومناسبة واولية للجنس الذي توجد فيه،
فكم بالحري ان لا يكتفي بكونها مشهورة، فانه ليس كل مشهور صادقًا فضلاً عن
ان توجد فيه سائر الشرائط الاخر.

وقد يظهر ان البرهان يجب ان يكون من مقدمات ضرورية من قبل ان الذي
ليس يعلم الشيء انه ضروري بأمر ضروري فليس يعلم انه امر ضروري بعلّته، لان
علّة الغمر الضروري ضرورية ومن ليس يعلم الشيء بعلّته فليس عنده علم به الا
بطريق العرض. مثال ذلك ان من ظن انه قد علم ان ا موجودة لج‍ بالضرورة
بواسطة غير ضرورية وهو ب، فبيّن ان هذا لم يعلم وجود ا لج‍ بالضرورة من قبل
الحدّ الاوسط، وذلك ان الحدّ الاوسط الذي هو ب قد يمكن ان يرتفع ويكون عنده
ان ا موجودة لج‍ بالضرورة. واذا كان ذلك كذلك فب اذن الذي هو الحدّ الاوسط
لم يكن سبب علمنا ان ا موجودة لج‍ بالضرورة الا ان كان ذلك بالعرض. وايضًا
فان كان الانسان قد يعلم بوسط غير ضروري علمًا ضروريًا، فسيلزم على هذا
ان يكون في وقت ما القياس موجودًا، والقائس موجودًا، والنتيجة موجودة، والعلم
بها غير موجود. وذلك انه قد يمكن ان يرتفع الحدّ الاوسط فيكون المطلوب غير
معلوم والقياس موجودًا، فتكون حالنا في الجهل بذلك المطلوب ومعنا قياسه مثل حالنا
معه قبل ان يكون عندنا قياسه، وذلك اذا ارتفع الحدّ الاوسط؛ وان كان

[Page 390] الاوسط مرتفع فيجب ان تكون حالنا في العلم بالنتيجة حال من يرى ان العلم بها امر
ممكن ان يتغيّر لا امر ضروري، وذلك ان الحدّ الاوسط هو ممكن.

وليس يمتنع ان يقع علم بأن النتيجة ضرورية من قبل حدّ اوسط ليس بضروري
لكن بالعرض لا بالذات. مثل من يقيس فيقول: الانسان ماشٍ، والماشي
حيوان، فالانسان حيوان بالضرورة. كما انه ليس يمتنع ان تقع نتيجة صادقة عن
مقدمات كاذبة، وذلك ان الحال في استتباع ضرورة النتيجة لضرورة المقدمات
كالحال في استتباع صدقها لصدق المقدمات على ما تبيّن في ⟪كتاب القياس⟫
اعني انه متى كانت المقدمات ضرورية كانت النتيجة ضرورية، لانه ان لم تكن
ضرورية وكانت ممكنة كانت المقدمات ممكنة وقد فرضت ضرورية، وهذا خلف
لا يمكن. كما ان المقدمات ايضًا اذا كانت صادقة كانت النتيجة صادقة ضرورة،
وليس ينعكس هذا، اعني انه متى كانت النتيجة ضرورية كانت المقدمات ضرورية،
وكذلك الحال في صدق النتيجة مع صدق المقدمات لانه ليس يلزم عن وجود التالي
وجود المقدم على ما تبيّن في ⟪كتاب القياس⟫.

،والذي يعلم الشيء بوسط غير ضروري فهو لم يعلم ان الشيء المنتج عنه ضروري
ولا لَم كان ضروريًا؛ لكن الذي يعلم الشيء بوسط بهذه الصفة، اعني بوسط غير
ضروري، فهو بين احد امرين: اما ان يظن انه يعلم وهو لا يعلم، وذلك اذا ظن
في الوسط الذي ليس بضروري انه ضروري، واما ان يتحقق انه ليس يعلم، وذلك
اذا علم ان ذلك الوسط غير ضروري فانه ليس يكون عنده من علم ذلك الشيء الا
ان ذلك موجود في ذلك الوقت الذي علمه، وانه قد يمكن ان يتغيّر هو في نفسه او
يتغيّر الحدّ الاوسط في نفسه فيعلم بوسط آخر.
وقد يشك شاك فيقول: ان كانت النتيجة انما تكون ضرورية من مقدمات
ضرورية. فقد يجب الاّ يكون ها هنا قياس الا من مقدمات ضرورية، فكيف
يتأتى للجدلي ان ينتج عن المقدمات التي يتسلمها عن المجيب بالسؤال نتيجة
ضرورية، وحلّ هذا قريب مما تقدم. وذلك انه انما قيل في حدّ القياس انه قول
يلزم عنه شيء آخر باضطرار ولم يقل شيء آخر اضطراري، فالاضطرار في القياس
هو نفس لزوم النتيجة عن المقدمات لا في كون النتيجة اضطرارية.

[Page 391] واذ قد تبيّن ان مقدمات البراهين يجب ان تكون ضرورية، وان الضرورية يجب
ان تكون ذاتية وعلى الكل، فبيّن ان المطالب البرهانية يجب ان تكون ذاتية؛ فان
المطالب العرضية ليس يقع العلم بها من الاضطرار اذ كانت توجد ولا توجد. ولذلك
لم تكن المقدمات من الأمور العرضية.

[Page 392]

‑٧‑ [القول في ان البرهان يقوم على النتاﺋﺞ الثابتة]

ومن البيّن ان نتيجة البرهان هي كلية، والسبب في ذلك ان مقدمات البرهان
هي كلية؛ واذا كانت نتيجة البرهان كلية وذاتية، فبيّن انه لا يقوم على الاشياء
الفاسدة برهان الا على نحو من طريق العرض، اي في وقت ما. ولو كان البرهان
يمكن على الاشياء الفاسدة، اي الجزئية، للزم ان تكون المقدمات الصغر امورًا
جزئية فاسدة لان الموضوع فيها هو الموضوع في النتيجة، وتكون ايضًا غير كلية. والذي
يجب من ذلك في البرهان يجب في الحدّ بعينه، اعني ان الحدود ايضًا غير كائنة
ولا فاسدة اذا كانت الحدود انما هي: اما مبادئ برهان، او نتيجة برهان، او برهان
متغيّر في وضفه على ما سنبيّن بعد. والاشياء الجزئية التي تحدث مرة بعد اخرى بمنزلة
الكسوفات فان البرهان ليس يقوم عليها من حيث هي جزئية، وانما يقوم على الطبيعة
المشتركة الكلية لجميع الكسوفات لا لهذا الكسوف الجزئى، كما ليس يقوم برهان
على الشيء الجزﺋﻲ الذي يفسد ولا يعود، وسنبيّن هذا بعد بيانًا كافيًا.

قلت وقد طعن قوم فيما وضعه ارسطو ها هنا من ان كل ضرورية هي
ذاتية، وقالوا ان ها هنا مقاييس تكون الحدود الوسط فيها ضرورية لكنها
ليست بذاتية، وذلك اذا اتفق ان كان شيئان كل واحد منهما موجود لشيء ما
بالذات فاتفق ان اخذ احدهما في بيان صاحبه. مثل ان يبيّن مبيّن ان هذا العليل
به حرارة غريبة من قبل ان نبضه يختلف، فان هذين يتبعان بالذات للعفونة ويوجد
احدهما للآخر ضرورة. لكن ان قيل في امثال هذه ضرورية فهو مع الضرورية في
جوهرها مقول باشتراك الاسم، وهذه الضرورية بجوهرها هي التي يصحّ فيها ان
يقال ان كل ضرورية ذاتية، على ما يذهب اليه ارسطو.

[Page 393] قال : لا ولا يكتفي في الحدود الوسط في مقدمات البراهين المطلقة ان تكون
ذاتية فقط بل وان تكون مع هذا علة للنتيجة، فان ها هنا مقاييس ايضًا تنتج
والحدود الوسط فيها ذاتية ولكنها متأخرة عن النتيجة، وهي التي تسمى براهين لا
مطلقة. بمنزلة من يقيس على ان هذه المرأة حامل لانها ذات لبن، وذلك ان
الحمل هو سبب اللبن، واللبن امر متأخر عنه.

[Page 394]

‑٨‑ [القول في عدم امكان الانتقال من جنس الى آخر في البرهان]
القول في بيان وجوب مناسبة مقدمات البرهان يعني ان تكون من جنس واحد وبيان ان انتقال البرهان ليس يمكن

فاما ان مقدمات البراهين يجب ان تكون مناسبة فذلك يتبيّن من انه يجب ان
يكون الحدّ الاوسط موجودًا بالذات للاصغر، والاكبر موجودًا للاوسط بالذات.
واذا كان الامر كذلك فبيّن ان مقدمات البراهين هي من جنس واحد، وانه لذلك
ليس يمكن ان ينقل البرهان من جنس من المعلوم الى جنس آخر، فان المقدمات
الخاصة المناسبة هي محصورة في الجنس ضرورة غير مشتركة لجنسين متباينين،
ولذلك ليس يمكن المهندس ان يستعمل في بيان امر هندسي المقدمات التي
يستعملها العددي. وانما كان ذلك كذلك لان الاشياء التي منها تنبني طبيعة
البرهان و تتقوم في صناعة صناعة هي ثلاثة اشياء:
احدها المحمولات المطلوبة في تلك الصناعة، وهي التي يبيّن انها موجودة
للموضوع بالذات.
والثاني الامور المعلومة بالطبع في ذلك الجنس، وهذه هي المقدمات التي بها نبيّن
وجود المحمول للموضوع اما بايجاب واما بسلب.
والثالث الطبيعة الموضوعة التي تكوّن البراهين على الاغراض والتأثيرات الموجودة لها بذاتها
منسوبة اليها، وهي التي تسمى موضوع الصناعة.
فاما المقدمات التي منها يكون البرهان في جنس جنس وطبيعة طبيعة من طبائع
الصنائع البرهانية، فلما كانت من الامور الذاتية للجنس فقد يجب ان تكون

[Page 395] خاصة، وان كانت ها هنا مقدمات عامة لاكثر من جنس واحد فسنبيّن كيف
استعمال الصنائع الخاصة بها. وكذلك الامر في المطلوبات ايضًا، اعني انه يجب
فيها ان تكون خاصة بالطبيعة الموضوعة اذ كانت ذاتية لها. واذا كانت المقدمات
يجب ان تكون خاصة بجنس جنس، وكذلك المطلوبات، فبيّن انه ليس يمكن ان
ينقل البرهان من جنس الى جنس. والسبب في ذلك ان الطبائع الموضوعة للصنائع
مختلفة مثل مخالفة طبيعة العدد التي هي موضوعة لصناعة الارتماطيقى لطبيعة
المقدار التي هي موضوعة لصناعة الهندسة. ولذلك كان البرهان على مطلوب عددي
ليس يمكن ان ينقل الى غير العدد، والبرهان القائم على امر هندسي ليس يمكن ان
ينقل الى امر غير هندسي.
وانما يمكن ان ينقل البرهان من صناعة الى صناعة متى كان المطلوب في
الصناعتين واحدًا بعينه: اما على الاطلاق ان امكن ذلك، واما ان يكون واحدًا
بجهة ما، وذلك بأن تكون احدى الصناعتين تحت الصناعة الاخرى بمنزلة علم
المناظر الذي هو تحت علم الهندسة وبمنزلة علم الموسيقى الذي هو تحت علم العدد،
فان علم المناظر يستعمل امورًا هندسية، وعلم الموسيقى امورًا عددية. واما اذا كان
المطلوبان اثنين فليس يمكن ان يبرهن واحدًا منهما في غير الصناعة التي تخصه.
مثال ذلك انه ليس يمكن ان يبرهن صاحب علم الهندسة ان الضد انما له ضد
واحد، وان الضدين علمهما واحد، وانما ذلك للعلم الالهي، كما انه ليس للعلم
الالهي ان يبيّن ان المكعبين اذا ضوعف احدهما بالآخر كان منهما عدد مكعب،
وانما للعددي. وليس انما يمتنع ان يبيّن صاحب صناعة الامر الغير الموجود لموضوع
صناعته بل والأمر الذي هو موجود لموضوع صناعته، الا انه ليس من الامور الذاتية
له. ولذلك ليس للمهندس من ان يبيّن ان الخط المستدير او المستقيم هو افضل
الخطوط وان كان الافضل والاخس امورًا موجودة للعظم لكنها ليست موجودة
له بالذات.
وهذا مما يدل غاية الدلالة على انه ليس يمكن ان ينقل البرهان من صناعة الى
صناعة لان الامور المشتركة لاكثر من موضوع صناعة واحدة هي من الامور العرضية
لا من الامور الذاتية.

[Page 396]

‑٩‑ [القول في المبادئ الخاصة والغير المبرهنة في البرهان]

فقد تبيّن من هذا انه لا سبيل الى ان يقام البرهان على امر من الامور الا من
مبادئه المناسبة التي تخصّه، وانه لا يكتفي في البراهين ان تكون مقدماتها صادقة و غير
ذوات اوساط، اي معلومة بنفسها فقط، بل وان تكون مع ذلك خاصة بالموضوع
الذي ينظر فيه. ولذلك برهان ⟪بروسن⟫ الذي استعمله في استخراج المربع المساوي
للدائرة ليس قولاً برهانيًا وان كان استعمل فيه مقدمات صادقة لانها عامة مشتركة.
وذلك انه لما عمل مربعًا اعظم من كل شكل يقع في الدائرة واصغر من كل شكل
يقع خارج الدائرة، قال ان المربع الذي هذه صفته يجب ان يكون مساويًا للدائرة
لان الدائرة هي اعظم من كل شكل يقع فيها واصغر من كل شكل يقع خارجًا
عنها؛ والاشياء التي هي اصغر واعظم معًا من اشياء واحدة باعيانها هي متساوية،
وهذه القضية العامة الكلية وان كانت صادقة فليست خاصة بل مشتركة. قلت:
ولذلك ما صرّح ارسطوطاليس في ⟪كتاب السفسطة⟫ ان بيان ⟪بروسن⟫ هذا هو بيان
سوفسطائي وان لم يكن كاذبًا، لكن سمّاه سوفسطائيًا اي قياسًا مرائيًا اذ كان يظن به انه
برهان وليس ببرهان، ولذلك يمكن ان ينقل هذا النحو من البيان من صناعة الى صناعة
ويستعمل في بيان اشياء كثيرة.
ولما كان البرهان كما تبيّن انما يكون من الاشياء الذاتية الخاصة، فيجب ضرورة
،ان يكون الحدّ الاوسط في البراهين: اما من طبيعة الجنس الموضوع لتلك الصناعة
واما من طبيعة الجنس الاعلى المحيط بذلك الجنس، بمنزلة ما يكون البرهان كثيرًا
على الامور الموسيقية من المبادئ العددية، وذلك ان النغم داخلة تحت العدد،
وبمنزلة ما يبرهن على كثير من الامور التي في علم المناظر من المبادئ الهندسية. واذا

[Page 397] عرض لصناعتين مثل هذا من جهة ما ان احداهما تحت الاخرى، فان الصناعة
التي تنظر في الجنس العالي تبيّن من ذلك الشيء سببه، والصناعة التي هي دونها
تبيّن من ذلك الشيء وجوده. مثال ذلك ان صناعة الموسيقى تضع ان البعد الذي
بالاربعة متفق ويوقف على سبب هذا الاتفاق من صناعة العدد، وهي ان هذه
النغمة هي على نسبة الزائد جزءًا وان النغم التي على نسبة الضعف مثلاً او الزائد
جزءًا هي متفقة. ومثال ما يضع صاحب علم المناظر ان الاشياء اذا نظر اليها على
بعد ظهرت اصغر، ويعطي سبب ذلك من قبل صناعة الهندسة وهو ان الزاوية
الصغرى يوترها خط اصغر، وانما كان ذلك لان الوسط الذي في العلم الاعلى في
امثال هذه الاشياء يكون للمحمول المطلوب سببه في الصناعة السفلى علة قريبة.
واذ قد تبيّن ان البراهين المحققة انما تكون من المبادئ المتقدمة بالطبع التي هي
اعرف عندنا وعند الطبيعة، فمن البيّن انه ليس يمكن ان يبرهن صاحب صناعة
مبادئ صناعته الخاصة بالجنس الموضوع لها من قبل انه يحتاج في بيان تلك المبادئ
الى ان تكون مبادئ اخر خاصية بذلك الجنس متقدمة عليها. والمبادئ
الخاصية ليس لها مبادئ خاصّة بل ان كانت فعامّة. ولذلك ما وجب ان يكون
برهان جميع المبادئ لصناعة الحكمة العامة، اعني الفلسفة الاولى التي موضوعها
الموجود بما هو موجود.
فقد تبيّن من هذا القول ان البرهان يكون من المبادئ المناسبة الخاصة وهي
الاسباب القريبة للشيء، ويتبيّن مع هذا متى يمكن ان تنقل امثال هذه البراهين
من صناعة الى صناعة ومتى لا يمكن. ولكون البرهان المطلق الذي يعطي سبب
الشيء القريب هو البرهان الذي مقدماته موجودة بهذه الشروط التي تقدمت كلها،
عسر علينا ان نعرف طبيعة البرهان الذي هو برهان بالحقيقة لعسر معرفة هذه
الشروط علينا. ونظن كثيرًا انّا قد علمنا الشيء محققًا متى علمناه بمقدمات صادقة
غير ذوات اوساط، وليس الامر كذلك دون ان تكون فيها سائر الشروط التي ذكرنا من
المناسبة والتقدم بالطبع.

[Page 398]

‑١٠‑ [القول في مبادئ البرهان المختلفة]
القول في الاشياﺀ التي قوام البرهان بها

ولما كان كل برهان فأن التئامه وقوامه من ثلاثة اشياء واحدها الامور الموضوعة
في تلك الصناعة، والثاني المقدمات الواجب قبولها، والثالث المحمولات المطلوب في
تلك الصناعة وجودها لتلك الموضوعات، فبيّن ان الناظر في الصناعة يجب ان
تتقدم عنده في هذه الثلاثة الاجناس معارف اول اذ كان قد وضع ان كل علم
وتعلّم فيجب ان يكون عن معرفة متقدمة. اما الموضوع فيجب عليه ان يتقدم فيتسلّم
من امره انه موجود ولا يبحث عن وجوده اصلاً لانه ليس عنده مقدمات بما يبحث
عنه؛ واما المقدمات فيجب ان يتقدم فيعلم من امرها ايضًا على ماذا يدل اسمها
وانها موجودة؛ واما المحمولات المطلوب وجودها للموضوعات فانما يحتاج ان يعلم من
امرها على ماذا يدلّ اسمها فقط، ثم يطلب وجودها للموضوعات بالبراهين، مثل ما
يحتاج المهندس ان يعرف على ماذا يدلّ اسم المثلث والدائرة والمنطق والاصم،
والعددي على ماذا يدل اسم الفرد والزوج والاول وغير الاول. وربما لم يحتج في هذه
الثلاثة الى التقدم في التعريف بهذه الاشياء لظهور الامر فيها، وذلك ان كثيرًا من
الموضوعات لسنا نحتاج ان نتقدم فنخبر بأنه يجب على صاحب هذه الصناعة ان
يتسلّم وجودها اذ كان وجودها في الغاية من الظهور عند الحس، مثل وجود الحارّ
والبارد الذي هو موضوع العلم الطبيعي. وكثير منها يحتاج فيها الى ذلك مثل الحال
في العدد، فان الناظر فيه يجب ان يعرف اولاً انه انما يتسلم وجوده تسلمًا فان وجوده
خفي عند الحس؛ وكذلك الحال في المقدار والعظم وكثير من المقدمات. ومن
المحمولات المطلوبة ما ليس يحتاج فيها الى ان يتقدم فيعرف على ماذا يدل الاسم

[Page 399] منها، مثل المقدمة التي يقال فيها انه اذا نقص من المتساوية متساوية بقيت الباقية
متساوية.
والمقدمات التي تستعمل في الصنائع: منها خاصّية، وهي المناسبة الذاتية التي
ليس يمكن ان تستعمل في اكثر من جنس واحد، مثل ان الخط المستقيم هو الموضوع
على سمت النقط المتقابلة؛ ومنها عامة لاكثر من جنس واحد الا ان عمومها ليس
كعموم طبيعة واحدة بل كعموم نسبة، مثل قول القائل: اذا نقص من الاشياء
المتساوية اشياء متساوية بقيت الباقية متساوية. فان هذه القضية تصدق على الاعظام
والاعداد والزمان لكن ليس التساوي فيها معنى واحدًا بتواطؤ مثل عموم الحيوان
للانسان والفرس، ولا بتناسب بل باشتراك. وهذه المقدمات اذا استعملها صاحب
صناعة فقرّبها وادناها من موضوعه الخاص به، كانت قوتها قوة المقدمات الخاصة
المناسبة. مثل ان يقول المهندس بدل قولنا الاشياء المتساوية الاعظام المتساوية، وان
يقول العددي بدل ذلك الاعداد المتساوية. ولذلك ليس توقع امثال هذه
المقدمات الشك فيما قيل قبل من ان مقدمات البراهين ينبغي ان تكون خاصّية
ومناسبة، وانه يجب لذلك الاّ ينقل البرهان من صناعة الى صناعة، فان هذه
المقدمات العامة هي مقدمات كثيرة والمستعملة من ذلك في الهندسة غير المستعملة في
العدد.

القول في الفرق بين المقدمات المعروفة بالطبع والمصادرات والاصول الموضوعة والحدود

والمقدمات التي تنسب الى الصناعة انواع: منها مقدمات معروفة بالطبع
واجب قبولها، ومنها مصادرات، ومنها اصول موضوعة، ومنها حدود. فالمقدمات
المعروفة بالطبع تخالف المصادرة والاصل الموضوع من قبل ان المقدمات المعروفة بالطبع
يصدق بها بذاتها وليس يمكن احد ان يتصور فيها انها على غير ما هي عليه، ولا
يمكن ان يعاندها بنطقه الداخل بل ان كان فبنطقه الخارج، وهو اللفظ فقط
والبرهان، وهو بحسب النطق الداخل لا بحسب النطق الخارج. واما الاصل الموضوع
فهي المقدمة التي يتسلمها المتعلم من المعلم على انها من قبل المعلم لا على انها امر بيّن
عند المتعلم ولا عنده ايضًا علم بخلافها. واما المصادرة فهي التي يتسلّمها المتعلم من

[Page 400] المعلم لكن عنده علم بخلافها. وتخالف الحدود الاصول الموضوعة والمصادرات من
قبل ان الحدود ليس فيها حكم بأن شيئًا موجود او غير موجود، وانما الحدّ جزء
مقدمة والحدود تفهم ذات الشيء ومعناه؛ فاما الاصول الموضوعة فليست هي جزء
مقدمة، بل الاصول الموضوعة هي التي اذا تسلّمت تبعها وجود النتيجة. وليس
يستعمل المهندس في الهندسة مقدمات كاذبة كما ظن ذلك قوم حيث قالوا انه
يضع ان هذا الخط هو مقدار كذا وليس هو عند الحس ذلك المقدار، وان هذا
الخط مستقيم وليس الذي يتمثل به مستقيمًا؛ فان المهندس ليس يبرهن على الخط
الذي يتمثل به وانما يبرهن على الخط المعقول الذي في ذهنه والذي اخذ ذلك
الخط المحسوس مثالاً له وبدلاً منه. وفرق آخر بين الحدود و المصادرات والاصول
الموضوعة وهو ان الحدّ لا يكون الا كليًا، وتلك قد تكون كلية وجزئية.

[Page 401]

‑١١‑ [القول في ضرورة وجود المعنى الكلي لقيام البرهان]

والبرهان فليس يقوم على الاشياء الكثيرة بما هي كثيرة، بل انما يقوم على
الطبيعة الكلية السارية في تلك الاشياء الكثيرة المحكوم عليها بالحكم البرهاني. فانه
اذا لم تكن في الاشياء الكثيرة طبيعة بهذه الصفة لم يكن هنالك معنى كلي
موجود: واذا لم يكن هنالك معنى كلي لم يكن هنالك حدّ اوسط يحمل عليه من
طريق ما هو، واذا لم يكن هنالك حدّ اوسط فليس هنالك برهان أصلاً. ولذلك
ما يجب ان يكون في الاشياء التي تقوم عليها البراهين طبيعة بهذه اﻟﺼﻔﺔ تحمل على
الاشياء الكثيرة بتواطؤ لا باشتراك الاسم.

قال : والقضية العامة المشتركة التي يقال فيها ان جزﺋﻲ النقيض لا يمكن ان
يصدقا معًا بظهورها قد نأبى كثيرًا ان نصرّح بها في البراهين، وان نجعلها جزء
قضية من البرهان الا حيث نضطر اليها، وذلك في موضعين: احدهما اذا اردنا ان
نبرهن ان المحمول موجود للموضوع وان نقيضه غير موجود له، مثل ان نريد ان نبيّن
ان العالم متناهٍ وانه ليس غير متناه، واذا اردنا ذلك فينبغي ان نشترط هذا الشرط
في الحدّ الاكبر. مثال ذلك اذا اردنا ان نبيّن هذا المعنى للعالم بوساطة انه جسم،
فانّا نقول: العالم جسم، والجسم متناهٍ وليس غير متناه، فينتج لنا ان العالم متناهٍ
وليس غير متناه. وليس هذا الاشتراط ينتفع به في هذا المعنى في الحدّ الاوسط،
اعني في حمل الحدّ الاوسط على الاكبر وسلب نقيضه عنه. وكذلك في حمل
الحدّ الاصغر على الاوسط وسلب نقيضه عنه، وذلك ان حمل الاوسط على الاكبر
وسلب نقيضه عنه انما يصدق اذا كان الحدّ الاكبر مساويًا للاوسط؛ وكذلك الحال
في الاوسط مع الاصغر. واما اذا كان اعم منه فليس يصدق ذلك، مثل انتاجنا ان

[Page 402] الانسان جسم بوساطة انه حيوان. فانه لا يصحّ لنا عكس المقدمة الكبرى من هذا
الشكل وهي ان كل جسم حيوان وانه ليس بغير حيوان كما صحّ لنا ان كل حيوان
جسم وانه ليس بغير جسم. وايضًا المادة التي يصح لنا فيها هذا الاشتراط هو
اشتراط غير منتفع به في انتاج ما قصد له من ان الحدّ الاكبر موجود للاصغر ونقيضه
غير موجود له.
واما الموضع الثاني، اعني الذي تستعمل فيه هذه القضية العامة مصرّحًا بها
فهو اذا برهنًا على شيء ببرهان الخلف حين يقول: واذا كان هذا كاذبًا فنقيضه
صادق، لان النقيضين لا يجتمعان معًا على الكذب لكن ليس استعمالنا لها
في العلوم الجزئية اعني التي تختص بجنس جنس من الموجودات من جهة ما هي
عامة لها، لكن بأن ندنيها الى الموضوع بقدر ما يمكننا لتكون مناسبة كما سلف
ذلك من قولنا.
وهذا الجنس من القضايا، اعني العامة، تشترك في استعمالها جميع العلوم،

[Page 403]

‑١٢‑ [القول في شروط اﻟﺴﺆال في العلم البرهاني]

وصناعة الجدل قد تتكلّف نصرة هذه المقدمات وتثبيتها، وكذلك العلم المدعو
بالحكمة. الا ان الفرق بين العلمين ان صناعة الجدل ليس تقصد تبيين شيء
مخصوص بعينه ولا لها موضوع، ولذلك كانت المقدمات التي تستعملها صناعة
الجدل مأخوذة من السؤال، والمبرهن فليس يأخذ مقدماته من السؤال اذ كان ليس
قصده اثبات اي النقيضين اتفق او ابطاله، بل انما قصده اثبات شيء واحد
بعينه وابطال نقيضه.
والمطلوب والمقدمة والنتيجة هي اشياء واحدة بالموضوع وانما تختلف بالجهة،
ولذلك كان الشرط في المطالب البرهانية هو الشرط بعينه في المقدمات البرهانية،
ولذلك امكن ان تقلب المقدمات الخاصة بعلم علم فتجعل اﺳﺆلة في ذلك العلم.
واذا كانت شروط الاﺳﺆلة في علم علم هي بعينها شروط المقدمات، فظاهر انه ليس
يجب على المهندس ان يجيب عن اي ﻣﺴﺌﻠﺔ اتفق ولا على الطبيب عن اي ﻣﺴﺌﻠﺔ
اتفق. وبالجملة فليس على صاحب صناعة ان يجيب الا عن المسائل التي تخصّ
صناعته، او المسائل التي هي من الجنس الذي هو اعلى من صناعته. مثال ذلك
انه ليس يجب على صاحب علم المناظر ان يجيب الا عن المسائل التي تخصّ علمه
او عن المسائل الهندسية التي يستعملها مبادئ في صناعته، لكنه ليس يجيب عن
مبادئ تلك المسائل بما هو صاحب علم المناظر وانما يجيب عنها المهندس بما هو
مهندس. والمهندس ايضًا ان اجاب عن مسائل من علم المناظر فذلك عارض له من
جهة انها امور لا حقة لموضوعه و داخله تحته. وان كان ذلك كذلك فظاهر انه ليس
يمكن ان يتكلم صاحب صناعة مع من ليس هو من اهل تلك الصناعة، فانه لو
فعل الانسان ذلك لوقع له حيرة في الصناعة.
وقد ﻳَﺴﺌَﻞ سائل فيقول: هل يمكن ان تطرأ في علم علم من العلوم مسائل غير
منسوبة الى ذلك العلم، مثل ان يطرأ في علم الهندسة مسائل غير هندسية؟ وان
طرأت فهل هي منسوبة الى ذلك العلم ام الى علم آخر؟ وهل في كل صناعة
تعرض مسائل هي خطأ وان عرضت فهل الخطأ في ذلك عارض من قبل صورة
القياس او من قبل مادته؟

[Page 404] فنقول : ان قولنا ﻣﺴﺌﻠﺔ غير هندسية مثلاً او غير طبيعية يفهم على ضربين:
احدهما ما ليس له تعلق بالصناعة بوجه من الوجوه بمنزلة ما نقول في العادم الصوت
انه لا صوت له، والثاني على ما له تعلق بالصناعة لكن تعلق خطأ ورديء بمنزلة ما
نقول فيمن له صوت قبيح انه لا صوت له. وهذا العلم هو احد قسمي الجهل،
اعني الجهل المضاد للحق، وهو الاعتقاد الكاذب، لا الجهل الذي هو عدم الحق،
وذلك الاّ يكون عند اعتقاده في الشيء اصلاً لا كاذب ولا صادق. فاما ما قيل
فيه انه غير هندسي من قبل انه هندسة خطأ فتعلقه يكون بصناعة الهندسة، بمنزلة
ما ﻳَﺴﺌَﻞ المهندس: أليس الخطوط المتوازية اذا اخرجت تلتقي؟ فان هذه اﻟﻣﺴﺌﻠﺔ من
جهة انها خطأ غير هندسية، ومن جهة انها أمور ذاتية هندسية، وذلك ان التوازي
من الامور الذاتية للخطوط؛ واما ما قيل فيه انه غير هندسي، بمعنى انه قد عدم
الامور المنسوبة للهندسة، فهو من صناعة اخرى بمنزلة ما ﻳﺴﺌﻞ المهندس عن ﻣﺴﺌﻠﺔ
موسيقية.
واما الصنائع فقد يعرض فيها الغلط من قبل صورة القياس ومن قبل مادته،
وبخاصة من قبل اشتراك الاسم الواقع في الحدّ الاوسط. لكن التعاليم قلّ ما
يعرض فيها الغلط الذي يكون من قبل اشتراك الاسم من قبل ان الحدّ الاوسط فيها
ليس يظن به انه واحد وهو كثير، كما انه يعرض ذلك من قبل اشتراك الاسم في
غيرها من الصنائع؛ والسبب في ذلك ان الامور التي ينظر فيها التعاليم هي عند
الذهن كحال الاشياء المشار اليها عند الحس. وذلك ان المهندس اذا بيّن مثلاً ان
كل دائرة شكل، وقد كان تقدم فرسم الدائرة ما هي، فانه ليس يمكن ان يغلط ولا
ان يغلط بأن يعانده معاند بأن يقول له ليس كل دائرة شكلاً اذ كان القول
الموزون دائرة وليس شكلاً، فان الدائرة الهندسية التي فهمها عند رسم الدائرة
هي من الوضوح في الذهن بحيث لم تلتبس عليه الدائرة الهندسية مع الدائرة التي
هي القول الموزون، وله اذا عوند بمثل هذه المعاندة ان يستثني منها الدائرة التي هي
القول الموزون.

وليس ينبغي ان يكون العناد البرهاني جزئيًا ومأخوذًا من الاستقراء بل كليًّا، لان
الشروط بعينها التي تشترط في المقدمات البرهانية على الاطلاق هي التي تشترط في

[Page 405] المقدمات العنادية البرهانية، اذ كانت المعاندة البرهانية برهانًا متوجهًا نحو الابطال.
والغلط الذي يعرض من قبل صورة القياس هو مثل ان يبيّن مبيّن نتيجة ما
موجبة في الشكل الثاني بمقدمتين موجبتين، وذلك ان الموجبة ليس تنعكس كلية في
كل مادة. مثل ان يبيّن ان الكواكب نارية من قبل انها تضيء والنار تضيء. وانما
يمكن ان ينتج من موجبتين في الشكل الثاني في الامور المنعكسة، وهي الحدود
والخواصّ والرسوم، ولو كانت النتيجة انما تنتج ابدًا عن مقدمات صادقة. لقد كان
التحليل بالعكس عند استنباط الشيء المجهول من المعلوم سهلاً جدًا ولم يعرض فيه
غلط لانه كان يكون الامران متلازمين، اعني انه لو كان كما انه اذا كانت المقدمات
صادقة يلزم ضرورة ان تكون النتيجة صادقة، كذلك اذا كانت النتيجة صادقة
تكون المقدمات صادقة، لكان متى فرضنا النتيجة موجودة وجدنا اللازم عنها
الذي ينتجها، فكان يقلّ الغلط.
لذلك والتحليل بالعكس في التعاليم اسهل منه في الجدل من قبل ان النتيجة
انما تتبيّن من امور محصورة، وهي المقدمات الذاتية المناسبة، والنتيجة في الجدل
تكون من امور كثيرة متفنّنة اذ كانت تكون من الامور العرضية وغير العرضية. والامور
التعاليمية تخالف الجدلية من قبل ان المقدمات التعاليمية ليست تبيّن بمقدمات
تتبيّن بمتوسط، بل المقدمات التي في التعاليم: اما مقدمات بيّنة بغير
متوسط، واما مقدمات هي نتيجة عن مقدمات بيّنة بغير متوسط؛ واما المقدمات
فقد تكون مقدمات ليست بيّنة الا بتوسط، واتفق لها ان اخذت بالسؤال على انها
معروفة دون متوسط، فيعرض الغلط لاجل ذلك في الجدل كثيرًا.

[Page 406]

‑١٣‑ [القول في البرهان الانّي والبرهان اللّمي]

القول في الفرق بين برهان الانّ واللمّ

ولما كان البرهان الذي يفيد وجود الشيء قد يكون غير الذي يفيد سبب
وجوده، وكان قد يوجد هذان الصنفان اما في صناعة واحدة واما في صناعتين، فقد
ينبغي ان ننظر بماذا يخالف كل واحد منهما صاحبة اذا كانا في علم واحد واذا كانا
في علمين.
فنقول : اما مخالفة احدهما الآخر اذا كانا في علم واحد فمن وجهين: احدهما
ان البرهان الذي يفيد وجود الشيء فقط يكون من مقدمات ذوات اوساط وهي
المقدمات التي هي اسباب بعيدة، والبرهان الذي يفيد لَم ذلك الشيء يكون بالعلّة
القريبة له. والوجه الثاني هو ان البرهان الذي يفيد وجود الشيء فقط قد يكون من
مقدمات غير ذوات اوساط، لكن الحدود الوسط فيه امور معلولة ومسبّبة عن الطرف
الاكبر. وانما تكون امثال هذه البراهين اذا كانت الامور المتأخرة في الوجود وهي
المعلولات اعرف عندنا من الامور المتقدمة؛ والامور المتأخرة التي تؤخذ حدودًا
وسطى في امثال هذه البراهين صنفان: اما امور مساوية للطرف الاكبر الذي هو
العلّة ومنعكسة عليه، واما امور الطرف الاكبر اعم منها. فمثال التي هي معلولة
ومنعكسة قول من بيّن ان الكواكب المتحيّرة اقرب الينا من الكواكب الثابتة من قبل
انها لا ترى كأن شعاعها يضطرب، بأن قال: الكواكب المتحيّرة لا تضطرب، وما

[Page 407] لا يضطرب من الكواكب فهو قريب منا، فالكواكب المتحيّرة قريبة منا؛ وذلك ان
القرب الذي هو محمول المطلوب هو سبب رؤية الكواكب لا تضطرب، والاضطراب
الذي هو الحدّ الاوسط امر معلول عن القرب الا ان القرب عندنا مجهول. والمقدمة
القائلة ان ما لا يضطرب فهو قريب منا ظاهرة بالحس والاستقراء، وهي عندنا اعرف
من ان الكواكب المتحيّرة قريبة منا.

القول في بيان الموضع الذي يمكن تقليب البرهان الانّ الى البرهان اللمّ

ومثال من بيّن ان القمر كرّى بأن ضوءه ينمو قليلاً قليلاً بشكل هلالي بأن
قال: القمر ينمو ضوﺀه بشكل هلالي، وما هو بهذه الصفة فهو كرّي الشكل،
فالقمر كرّي الشكل؛ وذلك ان الكرّية التي في القمر هي السبب لنمو ضوئه قليلاً
قليلاً على ذلك الشكل، لكن النمو الذي بهذه الصفة اعرف عندنا من الكرّية.
وقد يمكن في مثل هذا الصنف من براهين الوجود، اعني التي الحدود الوسط فيها
معلولة ومنعكسة على الحدّ الاكبر الذي هو السبب، ان يجعل الحدّ الاوسط فيها
اكبر والاكبر اوسط، فيكون عند ذلك برهان على لَم كان ذلك الشيء موجودًا،
وذلك بعد ان يعلم وجود المتقدم بالمتأخر. مثال ذلك انه اذا عرفنا ان القمر كرّي
الشكل لكون ضوئه ينمو بشكل هلالي، امكننا ان نعكس المقدمة الكبرى،
فنعطي السبب في كون ضوئه بهذه الصفة من قبل انه كرّي، فيأتلف البرهان
هكذا: القمر كرّي الشكل، وما هو كرّي الشكل فضوﺀه يجب ان ينمي بهذه
الصفة، فالقمر اذن ينمي ضوﺀه بهذه الصفة لانه بهذا الشكل فنكون قد اتينا في
مثل هذا القول بالسبب الذي من اجله كان القمر يرى بهذه الصفة، وهذا هو الذي
يسمى ⟪برهان لَم⟫. واما البراهين التي الحدود الوسط فيها متأخرة عن الاكبر وليس
تنعكس فليس يتفق فيها الا برهان وجود فقط.
والبراهين التي تأتلف في الشكل الثاني من الاسباب البعيدة هي براهين وجود
وليست براهين لَم، كالحال في البراهين الموجبة التي تكون من الاسباب البعيدة، فان
في كليهما لم يؤت بالسبب القريب فيها. مثال ذلك من سأل فقال: لَم لا يتنفس

[Page 408] الحائط، فقيل لانه ليس بحيوان، وذلك انه ليس العلّة القريبة في انه لا يتنفّس انه
ليس بحيوان، لانه لو كان الامر كذلك لوجب ان تكون الحيوانية هي العلّة القريبة
للمتنفس، فكان يكون كل حيوان متنفسًا وليس الامر كذلك، فان كثيرًا من الحيوان
لا يتنفس. وانما كان ذلك كذلك لانه متى سلب شيء عن شيء من قبل سلب سبب
ذلك الشيء القريب عنه، فواجب ان يكون ذلك الشيء هو السبب القريب في وجود
ذلك الشيء. مثال ذلك من قال ان هذا الحيوان ليس بصحيح من قبل انه غير معتدل
الحرارة، فواجب ان يكون اعتدال الحرارة هو السبب في الصحة القريب. وكذلك
متى كانت العلة هي السبب القريب في وجود الشيء، فان سلبها هو السبب القريب في
سلب ذلك الشيء. وكون امثال هذه البراهين تأتلف في الشكل الثاني ظاهر فان الحدّ
الاوسط يكون في امثال هذه الاشياء محمولاً على الطرفين، فان الحيوانية محمولة على
المتنفس بايجاب وعلى الحائط بسلب. وانما يؤتى بأمثال هذه الاسباب البعيدة على جهة
التعمق والاستغراق في تبيين ذلك الشيء، مثل ما قال ⟪خروميس⟫ ان بلدان
الصقالبة ليس فيها موسيقى، والسبب في ذلك انه ليس عندهم كروم، فان وجود
الكروم سبب بعيد للموسيقى. وانما كانت امثال هذه تعطي الاستغراق لانه اذا سلب
شيء عن شيء من قبل سلب سببه البعيد عنه كان ذلك اخلق ان سلب عنه بسلب سببه
القريب عنه.
فهذا هو قدر ما يخالف به ⟪برهان لَم⟫ ⟪برهان الوجود⟫ في الصناعة الواحدة
بعينها.
واما الخلاف الذي بينهما اذا كان احدهما في علم والآخر في ثانٍ فهو غير هذا
الخلاف. وهذا الخلاف هي الجهة التي بها يكون احدهما انما يعطي في ذلك العلم
الواحد من الشيء انه موجود فقط، وليس يمكن فيه ان يعطي سببه في ذلك العلم
من جهة ما هو في ذلك العلم، والآخر يعطي في العلم الثاني سبب وجوده فقط،
وليس يمكن فيه ان يعطي في هذا العلم وجوده. واذا كانا في علم واحد لم يختلفا
بهذه الجهة اذ كانت الجهة التي يعطي السبب منها احدهما، والجهة التي منها يعطي
الوجود الآخر جهة واحدة، كأنك قلت اما من حيث كلاهما طبيعي او الاهي،
وانما يختلفان في الاشياء التي تقدمت. واذا كانا في علمين اختلفا بالجهة التي بها كان
احدهما يعطي السبب والآخر الوجود، كأنك قلت من جهة ما احدهما برهان هندسي

[Page 409] والآخر مناظري. ويعرض هذا لجميع العلوم التي تكون موضوعاتها بعضها داخلاً
تحت بعض بمنزلة ما موضوع علم المناظري داخل تحت موضوع الهندسة،
وذلك ان الابعاد الشعاعية داخلة تحت الابعاد الهندسية؛ وكذلك الحال في علم
الحيل مع مساحة المجسّمات، وعلم تأليف اللحون مع علم العدد، وعلم احكام
النجوم السلاحية، اعني التي تظهر وتغرب، عند علم احكام النجوم التعاليمية.
وانما عرض هذا لامثال هذه لتقاربها حتى يظنّ بها ان موضوعها متفق الاسم والحدّ
بمنزلة علم النجوم التعاليمي مع علم النجوم الملاحي، وبمنزلة علم اللحون التعاليمي
مع العملي. فالعلوم التي هي امثال هذه العلوم يكون العلم بأنّ الشيء موجود في العلم
الذي هو اقرب الى الامر المحسوس والامر الجزئي، والعلم بلمَ هو موجود في العلم
الذي موضوعه مجرد من الهيولي او اقرب الى التجريد، وهذا هو العلم التعليمي؛
فن اصٰحاب التعاليم عندهم الاسباب بوجود هذه الاشياء التي يبيّن وجودها في العلم
الذي هو اقرب الى الهيولي والمادة. ولذلك كثيرًا ما يعرض لاصحاب التعاليم انهم لا
يشعرون ان الشيء موجود، وانما يشعرون بسببه فقط لانهم انما يبحثون عن الاشياء
من حيث هي مجردة من الهيولى، والوجود للشيء انما هو مع الهيولى؛ ولذلك قد
نجد كثيرًا من اصحاب علم تأليف اللحون لا يشعرون بكثير من النغم الموجودة في
الموسيقى العملية. وقد نجد كثيرًا مما ينظر فيه صاحب العلم الطبيعي حاله من علم
المناظر حال ما في علم المناظر مع علم الهندسة، اعني ان العلم الطبيعي يعطي
فيه وجوده والعلم المناظري سببه، مثل الحال في قوس قزح والهالة، فان الطبيعي
يعطي فيه وجوده وعلم المناظر سببه. وقد يوجد علم حاله من علم آخر هذه الحال
وليس هو داخلاً تحته بمنزلة علم الطب عند علم الهندسة، فان كون الجرح المستدير
عسر البرء الطبيب يعطي وجوده والمهندس يعطي سبب ذلك.

[Page 410]

‑١٤‑ [القول في اولوية الشكل الاول في العلوم البرهان]

قال : واولى الاشكال واحقها ان يكون شكل البرهان هو الشكل الاول، فان
العلوم التعاليمية انما تستعمل هذا الشكل، وتكاد ان تكون جميع العلوم التي تعطي
سبب الشيء كما قلنا انما تأتلف براهينها في هذا الشكل لان العلم بسبب الشيء انما
هو العلم المحقق الذي يكون على طريق الايجاب وهذا يأتلف في الشكل الاول.
وايضًا فان الحدود لا تنتج الا في هذا الشكل من قبل ان الحدود موجبة للمحدود،
والشكل الثاني ليس ينتج موجبة، والشكل الثالث وان كان قد ينتج موجبة فهو لا
ينتج كلية، والحدود والنتائج البرهانية بالجملة فهي كلية. وايضًا فان الشكل الاول
هو غير محتاج الى الشكلين الآخرين في ان تبيّن مقدماته بمقدمات غير ذوات اوساط
اذا كانت مقدماته ذوات اوساط، والشكلان الآخران يحتاجان اليه في هذا المعنى.
وانما كان ذلك كذلك لان كل شكل ففيه مقدمة موجبة ومقدمة كلية، فاذا كانت
هاتان المقدمتان في شكل اي شكل كان محتاجة الى الوسط احتيج ان تبيّن
بمقدمات غير ذوات اوساط في شكل آخر، والموجبة ليس يمكن ان تنتج في الشكل
الثاني، والكلية ليس يمكن ان تنتج في الثالث؛ فمتى كانت الكلية هي الموجبة
وكانت ذات وسط، احتاجت في ان تبيّن بوسط الى الشكل الاول ضرورة، سواءً
كانت جزء قياس في الشكل الثاني او الثالث.
واذا كان الامر هكذا فبيّن من جميع هذه الوجوه ان الشكل الاول احق
،الاشكال ان يكون شكل البرهان المطلق، اعني الذي يفيد وجود الشيء وسببه معًا
او السبب اذا كان الوجود معلومًا.

[Page 411]

‑١٥‑ [القول في وجود قضايا سالبة غير ذوات اوساط]

وكما انه قد توجد مقدمات موجبات اول، اعني ان توجد محمولاتها لموضوعاتها
بغير وسط، مثل حملنا النطق على الانسان، كذلك قد توجد سوالب اول، اعني ان
تسلب محمولاتها عن موضوعاتها سلبًا اولاً بغير وسط، مثل سلبنا الانسانية عن
الحمار. وانما يكون المحمول مسلوبًا عن الموضوع سلبًا غير اول متى اتفق ان كان
المحمول او الموضوع داخلاً تحت طبيعة ما كلية والجزء الآخر مسلوبًا عنها، او كانا
كلاهما داخلين تحت طبيعة كلية، الا ان الطبيعتين متباينتان. فانه اذا كان ذلك
كذلك عرض ان يكون المحمول مسلوبًا عن الموضوع: اما من قبل سلب تلك
الطبيعة الكلية عنه ان كان الموضوع هو الداخل تحتها، واما من قبل سلب الطبيعة
المحيطة به عن الموضوع ان كان هو الداخل تحتها، واما من قبل سلب الطبيعتين
احداهما عن الاخرى ان كانا كلاهما داخلين تحت طبيعتين متباينتين، اعني مسلوبة
بالكلية احداهما عن الاخرى. فاذا كان سلب المحمول عن الموضوع من قبل سلب
الطبيعة المحيطة به عن الموضوع، ائتلف ذلك في الشكل الثاني؛ واذا كان من قبل
سلب الطبيعة بالموضوع عنه ائتلف ذلك في الشكل الاول والثاني، مثل ان نبيّن ان
شجرة التين ليست حيوانًا يتوسط النبات، فيأتلف القياس في الثاني هكذا: شجرة
التين نبات، والحيوان ليس بنبات، وفي الاول: شجرة التين نبات، والنبات ليس
بحيوان، فينتج من ذلك ان شجرة التين ليست بحيوان. وبيّن ان هذا السلب ليس
هو بأول لان سلب الشجرة عن الحيوان انما هو من قبل سلب جنسها الذي هو
النبات عن الحيوان. ومثال ذلك مما ليس ينتج في الشكل الاول وينتج في الثاني ان

[Page 412] نبيّن عكس هذا وهو ان الحيوان ليس بشجرة، فيأتلف القياس هكذا: الحيوان
ليس بنبات، والشجرة نبات، فينتج من ذلك في الضرب الثاني من الشكل
الثاني ان الحيوان ليس بشجرة.

واما مثال سلب المحمول عن الموضوع من قبل ان الطبيعة المحيطة بكل واحدة
منهما مسلوبة عن صاحبتها، فمثل سلبنا الحمار عن شجرة التين، فانه يمكننا
ان ننتج سلب احد هذين عن الآخر بتوسط كل واحدة من الطبيعتين المحيطتين
بهما، اعني بتوسط الحيوان او بتوسط النبات: اما بتوسط النبات فمثل قولنا:
شجرة التين نبات، والنبات ليس بحمار، فشجرة التين ليست بحمار؛ واما بيان
ذلك بتوسط الحيوان فمثل قولنا: شجرة التين ليست حيوانًا، والحمار حيوان، ينتج
في الشكل الثاني ان شجرة التين ليست بحمار لكون الصغرى سالبة. واذا كان هذا
هكذا فاذن المقدمات التي المحمولات فيها مسلوبة عن الموضوع سلبًا اوليًا هي
المقدمات التي ليس واحد من جزﺋﻴﻬﺎ منحصرًا تحت طبيعة كلية، ولا كلا الجزﺋﻴﻦ
بهذه الصفة.

فاما انه يجب اذ كان شيء مسلوبًا عن شيء ما ان يسلب كل واحد منهما
عمّا دخل تحت الآخر حتى يكون سلبه عما تحته بوساطة سلبه عنه نفسه، مثل
انه اذا كانت ا مسلوبة عن ب ، فانه يجب ان تكون ا مسلوبة عن كل ما هو
داخل تحت ب وتكون ب مسلوبة عن كل ما هو داخل تحت ا ، فذلك يبيّن
من انه اذا وضعنا صنفًا من الاصناف تحته طبائع متلازمة في الوجود، اي يلزم
الاعم منها عن الاخص، ووضعنا صنفًا ثانيًا تحت طبائع متلازمة ايضًا في الوجود،
ووضعنا انه ولا واحد من الصنفين يوجد لصاحبه، فانه من البيّن ان ايّ شيء
وجد لطبيعة واحدة من الطبائع التي في صنف واحد انه مسلوب عن كل واحد
من الطبائع التي في الصنف الثاني، والاّ وجد ذلك الصنفان المتباينان احدهما
للآخر. مثال ذلك أن نضع احد الصنفين المتباينين الحيوان، والطبيعتين المتلازمتين
البرّي والسيّار، والصنف الثاني النبات، والطبيعتين المتلازمتين الشجر والتين، فهو
بيّن ان اي شيء وصف بواحدة من هذه الطبائع التي في صنف واحد من الصنفين
المتباينين انه غير موصوف بطبيعة من الطبائع التي في الصنف الثاني. مثال ذلك

[Page 413] انه اذا وضعنا النخلة بأنها شجرة فبيّن انها ليست بحيوان برّي ولا سيّار والاّ كان
بعض هذه موصوفًا ببعض، اعني النبات والحيوان.
واذا تقرر هذا فقد توجد اشياء تسلب عن اشياء بذواتها، اي بغير واسطة واشياء
تسلب عن اشياء من قبل سلبها عن الاشياء المحيطة بها.

[Page 414]

‑١٦‑ [القول في الغلط والجهل في المقدمات التي هي غير ذوات وسط]
القول في بيان جهل البسيط والجهل المركب وكيفية عروض الجهل المركب

ولما كان الجهل صنفين: جهل على طريق السلب والعدم، وهو الجهل الذي
ليس معه اعتقاد شيء من الاشياء، وجهل على طريق الملكة والحال، وهو الاعتقاد
الكاذب، فان الجهل الذي على طريق الملكة قد يعرض بجهتين: احداهما
بقياس، والجهة الثانية بغير قياس بل بتوهم مجرد فقط، اعني ان يعتقد في الشيء
الموجود انه غير موجود او في غير الموجود انه موجود، وذلك في الاشياء التي وجودها او
لا وجودها اما بغير وسط واما بوسط. واما التوهم والغلط الذي يكون بغير قياس
فليس تكون له اسباب متفننة، وهو بسيط غير مركب كما ان سببه بسيط. واما
الغلط الذي يكون بقياس فان له اسبابًا كثيرة، وذلك ان هذا الغلط يكون فيما
ليس له وسط وفيما له وسط وفي كل واحد من هذين في الايجاب والسلب، اعني
ان نعتقد في السالب انه موجب وفي الموجب انه سالب.

فاما الغلط الموجب الكلي فانه لا يكون الا في الشكل الاول وذلك يعرض في
السالب الذي بغير وسط، اعني ان يعتقد فيه انه موجب: اما من قبل ان مقدمتي
القياس تكونان كاذبتين، واما من قبل ان الصغرى تكون كاذبة والكبرى صادقة.
مثال ذلك انه اذا كانت ا مسلوبة عن ب بغير وسط فاعتقد انسان ان ا موجودة لب
بطريق القياس، اعني بوسط هو ‍ ﺟ ، فانه قد يعرض هذا بجهتين: احداهما ان
تكون المقدمتان كاذبتين، وذلك انه قد يمكن ان تكون ا و ب كلاهما مسلوبتين

[Page 415] عن ‍ ﺟ سلبًا كليًا فيعتقد هو ان ا موجودة لجيم . وان ‍ ج موجودة لب . وان
ا لذلك موجودة لب ، فيكون قد اعتقد موجبًا كليًا كاذبًا في سالب صادق بغير
وسط من قبل مقدمتين كل واحدة منهما كاذبة وذلك غير ممتنع؛ فانه لما كان ا
مسلوبًا عن ب بغير وسط لم يمتنع ان يكون كل واحد منهما مسلوبًا عن ‍ ﺟ . والجهة
الثانية ان تكون الكبرى صادقة والصغرى كاذبة، فانه يمكن ان تكون ا ﺠ محيطة ﺑ
ومسلوبة عن ب سلبًا اولاً، فان ذلك ليس بممتنع وانما الممتنع ان تكون ‍ ﺟ محيطة
بب ، وتكون ا مسلوبة عن ب سلبًا اوليًا، فان ا تكون حينئذ ليست مسلوبة عن
ب سلبًا اولاً بل تكون مسلوبة عن ب من قبل سلبها عن ‍ ﺟ المحيطة بها، وذلك
خلاف ما وضع. فلذلك اذا كانت ا مسلوبة عن ب سلبًا بغير وسط فليس يمكن ان
يكون الغلط العارض في ذلك من قبل ان المقدمة الصغرى صادقة والكبرى كاذبة،
لانه ليس يوجد شيء يحيط بب حتى تكون ب جزءًا منه وهو مسلوب عن ا ، وتكون
ب مسلوبة عن ا سلبًا اوليًا.

فبهذين الوجهين فقط يكون الغلط الموجب الكلي في السالب الذي بغير وسط،
والغلط الموجب الكلي انما يكون في الشكل الاول كما قلنا.
واما الغلط الذي هو سالب كلي فيعرض في الشكل الاول والشكل الثاني اذ كان
كلاهما ينتج السالب الكلي. فلنخبر على كم وجه يعرض الغلط السالب في الموجب
الذي بغير وسط في الشكل الاول، اعني بأي حال تكون المقدمتان فيه من
الصدق والكذب.

فنقول : انه ممكن ان يعرض في هذا الشكل قياس تكون مقدماته كاذبتين
كلتاهما، وقد يمكن ان تكون احداهما صادقة والاخرى كاذبة، وتكون الصادقة
والكاذبة ايهما اتفق اما الصغرى واما الكبرى. فاما كيف يعرض ان تكونا كاذبتين
معًا فذلك اذا اتفق مثلاً ان تكون ا موجودة ‍ ﻟﺠ و لب بغير وسط، وتكون ‍ ﺟ مسلوبة
عن ب . فاذا جعل جاعل ‍ ﺟ وسطًا، واعتقد ان ا غير موجودة ‍ ﻟﺠ ، وان ‍ ﺟ موجودة
ل ب ، فقد وضع مقدمتين كاذبتين ينتج عنهما سالب كاذب وهو ان ا غير موجودة
لشيء من ب ، وانما يمكن ان تكون ‍ ﺟ على ب بايجاب كاذبًا، لانه ليس اذا وجد
شيء في شيئين لزم ان يوجد احدهما للآخر، فان الحيوان موجود للفرس والحمار وليس

[Page 416] الحمار بموجود للفرس. ومثال هذا من المواد ان نقول: كل انسان فرس، ولا فرس
واحد حيوان، فينتج لنا من ذلك سالب كاذب عن مقدمتين كاذبتين وهو ان كل
انسان ليس بحيوان، ووجود الحيوان للانسان بغير وسط. واما كيف يعرض ان تكون
احدى المقدمتين كاذبة والاخرى صادقة فمثل ان تكون ا مسلوبة عن ﺟ ،‍ وتكون ﺟ
مسلوبة عن ب ، وتكون ا موجودة وجودًا اولاً لب ، فان ذلك غير منتج. فاذا اخذنا
ا مسلوبة عن ﺟ ،‍ و ﺟ موجودة لب ، أنتج ان ا مسلوبة عن ب عن مقدمتين
كبراهما صادقة وصغراهما كاذبة. ومثال ذلك من المواد: كل انسان حجر، ولا
حجر واحد حيوان: فلا انسان واحد حيوان. واذا فرضنا المقدمة الكبرى صادقة
يكون كذب الصغرى واجبًا ضرورة من قبل انه غير ممكن ان تكون ا غير موجودة ﻟ ﺟ
وموجودة ل ب ، وان تكون ‍ ﺟ موجودة ل ب . وايضًا فلو كانتا صادقتين لوجب ان
تصدق النتيجة على ما سلف. وكذلك يمكن ان تكون الصغرى هي الصادقة
والكبرى هي الكاذبة، وذلك مثل ان تكون ا موجودة في كل ب ، و‍ ﺟ في كل
ب ، و ب في كل ‍ ﺟ ، اعني ان تكون الصغرى منعكسة فتكون ا ضرورة في ‍ ﺟ لانها
اذا كانت في كل ب ، و ب في كل ‍ ﺟ ، فواجب ان تكون ا في كل ‍ ﺟ الا انها في
ب بغير وسط وفي ‍ ﺟ بوسط. فاذا اخذ آخذ ان ا غير موجودة ﻟﺠ ،‍ وان ‍ ﺟ موجودة
ل ب ، فأنتج من ذلك ان ا غير موجودة لشيء من ب فقد انتج سالبًا كاذبًا كليًا
عن مقدمتين: صغراهما صادقة وكبراهما كاذبة.

فقد تبيّن ان في الشكل الاول يمكن ان ينتج سالب كاذب يكون نقيضه موجبًا
غير ذي وسط، وذلك: اما بأن تكون المقدمتان كاذبتين معًا، واما ان تكون
احداهما كاذبة ايتهما اتفق، بخلاف الامر في الموجب الكاذب فان هنالك ليس
يمكن ان تكون الصغرى صادقة.
واما في الشكل الثاني فليس يمكن ان ينتج فيه سالب كاذب عن مقدمتين
كلتاهما كاذبة بالكل. فانه ان كانت ا مثلاً موجودة لكل ب بغير وسط فانه ليس
يوجد شيء يكون محمولاً على جميع ب بايجاب ومسلوبًا عن جميع ا او بعكس
ذلك على ما قد يوجد عليه الامر عن ترتيب الحدّ الاوسط في الشكل الثاني من
الطرفين، حتى يكون الغالط اذا اخذ مكان السالب موجبًا او مكان الموجب سالبًا

[Page 417] فقد استعمل قضيتين كاذبتين بالكلية في الشكل الثاني. فاما اذا كانت المقدمتان
كاذبتين في البعض فقد يمكن ان تكونا كاذبتين؛ وذلك انه ليس يمنع مانع من
ان تكون ‍ ﺟ موجودة لبعض ا ولبعض ب ، فاذا اخذت ‍ ج موجودة لكل ب ومسلوبة
عن كل ا او بالعكس فأن المقدمتين تكونان كاذبتين بالجزء. مثال ذلك ان الحساس
يوجد للحيوان وجودًا اولاً، والمتخيّل يوجد في بعض الحيوان وفي بعض الحسّاس؛
فاذا اخذ آخذ ان كل حيوان متخيّل، وانه ولا حسّاس واحد متخيّل، انتج سالبًا
كليًا كاذبًا وهو انه ولا حيوان حسّاس من مقدمتين كاذبتين بالجزء. وقد يمكن في هذا
الشكل ان تكون احدى المقدمتين كاذبة ايّهما كانت والاخرى صادقة، فأن ما
هو موجود لكل ا هو موجود لكل ب من جهة وضعنا ان ا موجودة لب وجودًا اولاً.
فلنفرض ذلك الموجود لكليهما هو ﺟ ،‍ فأن اخذ ان ‍ ﺟ موجودة لكل ا وغير موجودة
لشيء من ب ، فان مقدمة ج‍ ا الكبرى تكون صادقة والصغرى كاذبة،
والنتيجة سالبة كاذبة. وكذلك يعرض متى تغيّر مكان الموجبة، وذلك ان تكون ﺟ
موجودة لكل ب وغير موجودة لكل ا ، فأن الصغرى تكون صادقة والكبرى كاذبة.
وكذلك ايضًا لما كان ما هو غير موجود لشيء من احدهما فانه ليس موجودًا لكل
الآخر من قبل انه ان كان موجودًا له كان موجودًا للشيء الذي وضع هو مسلوبًا
عنه، وذلك خلف لا يمكن. فاذا كان مثلاً ‍ ﺟ غير موجود لب وغير موجود لكل
ا ، فأخذ احد ان ‍ ﺟ غير موجود لب وموجود لكل ا ، امكن ايضًا بهذه
الجهة ان تكون احدى المقدمتين كاذبة والاخرى صادقة، مثل ان تكون ‍ ﺟ غير
موجودة لب ، فأن السالبة تكون صادقة وهي الصغرى والموجبة كاذبة. وكذلك
ايضًا يعرض اذا غيّر مكان السالبة، اعني ان تؤخذ ‍ ﺟ ولا في شيء من ا ، و‍ ﺟ في
كل ب ، فأن الكبرى تكون الصادقة والصغرى الكاذبة، وذلك ان الموجبة ابدًا هي
الكاذبة.

فقد تبيّن من هذا متى يمكن ان يقع الغلط والانخداع في القياس في المقدمات
التي هي غير ذوات وسط عند كون المقدمتين معًا كاذبتين، او كون احداهما فقط
ايتهما اتفق، او كون الصادقة والكاذبة منهما محدودة.

[Page 418]

‑١٧‑ [القول في الغلط والجهل في المقدمات التي هي ذوات وسط]

فاما المقدمات ذوات الاوساط فان الغلط فيها العارض عن القياس الكاذب
المقدمات لا يخلو ان يكون ايضًا اما سالبًا كليًا واما موجبًا كليًا. ثم القياس الذي
ينتج الكاذب لا يخلو ايضًا من ان ينتجه بحدّ اوسط مناسب للحق او غير مناسب؛
واعني بالمناسب للحق الحدّ الاوسط الذي يمكن به ان ينتج به الحق الذي هو ضد
النتيجة الكاذبة، وبغير المناسب الذي ليس يمكن ان ينتج الحق من جهة انه
ليس وضعه من الطرفين وضعًا يأتلف منه منتج اصلاً. فاما الغلط السالب فقد يكون
كما قيل في الشكل الاول، وقد يكون في الثاني.

فاما اذا كان في الشكل الاول وكان بوسط مناسب، فانه ليس يمكن أن تكون
المقدمتان كلتاهما كاذبتين لكن الكبرى منهما فقط تكون هي الكاذبة والصغرى هي
الصادقة. مثال ذلك ان تكون ا موجودة لب بوسط ‍ ﺟ ، اعني بأن تكون ا موجودة
لكل ‍ ﺟ ، و ﺟ موجودة لكل ب فانه يتبيّن ان مقدمة ‍، ب ﺟ وهي الصغرى ليس
يمكن ان يغلط فيها فتؤخذ على الضد، اعني ان تؤخذ سالبة كلية بعدما كانت
موجبة كلية، لانه ان غلط فيها واخذت سالبة، واخذت الكبرى صادقة او موجبة،
لم ينتج من ذلك شيء في الشكل الاول لانه لا ينتج فيه ما صغراه سالبة. وكذلك
ان اخذت كلتاهما كاذبتين، اعني ان تؤخذا سالبتين معًا اذ كان ما من سالبتين لا
ينتج في شيء من الاشكال. وكذلك ان كان الحدّ الاوسط قريبًا من السالب، اعني
قريبًا من ان ينتج الحق، مثل الموجبتين في الشكل الثاني؛ وذلك بأن تكون ‍ ﺟ مثلا
محمولة على كل ا ومحمولة على كل ب ، فانه متى رام احد ان ينتج سالبًا ﻟﺠ في
هذا الموضع في الشكل الاول فأن مقدمة ج‍ ب تكون صادقة ولا بدّ اذ كان من

[Page 419] شرطها ان تكون موجبة، والكبرى هي التي يمكن ان تؤخذ بالضد اعني سالبة. فقد
تبيّن ان الغلط انما يعرض في المقدمة الكبرى في الشكل الاول على السالب متى
كان الحدّ الاوسط مناسبًا للحق او قريبًا من المناسب. واما ان كان الحدّ الاوسط
الذي اخذ في القياس الكاذب غير مناسب للحق فأن الحد الاوسط الذي بهذه
الصفة لا يخلو ان يكون موجودًا للطرف الاعظم مسلوبًا عن الاصغر، أو يكون مسلوبًا
عن كليهما. واما ان يكون مسلوبًا عن الاعظم موجودًا للاصغر فأن ذلك لا
يمكن، لانه اذا وجد محمول لموضوع، اعني لكله، فليس يمكن ان يوجد شيء
يسلب عن كله المحمول ويوجب هو لكل الموضوع؛ واما ان يوجد شيء مسلوب
عن كليهما او يسلب عن الموضوع ويوجد له المحمول فقد يمكن؛ وبيّن ان الحد
الذي بهذه الصفة ليس يمكن ان يبيّن به ان شيئًا موجود في كل شيء، فهو
لذلك غير مناسب. فاذن ان كان الحد الاكبر موجودًا في كل الاوسط كما قلنا،
والاوسط مسلوبًا عن كل الاصغر فان ذلك ممكن. مثل ان تكون ا موجودة لكل
ﺟ ،‍ و‍ ﺟ غير موجودة لشيء من ب و ا موجودة لكل ب ، فمن الاضطرار ان،
تكون المقدمتان كلتاهما كاذبتين لانه لا يمكن من مثل هاتين المقدمتين ان ينتج نتيجة
كاذبة سالبة الا بأن تقلب المقدمتان الصادقتان جميعًا، اعني بأن تردّ الموجبة سالبة
والسالبة موجبة، لانه دون هذا لا يكون القياس منتجًا في الشكل الاول. مثل ان
يأخذ آخذ ا ولا على شيء من ‍ ﺟ ، و‍ ﺟ على كل ب ، فينتج له ان ا ولا على شيء
من ب وهو سالب كلي كاذب عن مقدمتين كلتاهما كاذبتان. واما متى كان الحد ّ
الاوسط مسلوبًا عنه الطرف الاعظم، والاعظم في الاصغر بمنزلة ما تكون ا مسلوبة
عن كل ‍ ﺟ ، فان مقدمة ‍ ا ﺟ السالبة تكون صادقة واما مقدمة ج‍ ب الموجبة فانها
تكون كاذبة من قبل انها تؤخذ موجبة وهي سالبة، لانه لو كانت صادقة من حيث
تؤخذ موجبة للزم ان تكون النتيجة سالبة صادقة وقد فرضناها موجبة. فلذلك ما
يجب اذا كان الحدّ الاوسط الغير مناسب مسلوبًا عن الطرف الاعظم ان يكون
مسلوبًا عن الطرف الاصغر كما قلنا.
فاما متى كان هذا الغلط في الشكل الثاني فانه غير ممكن ان تكون كلتا المقدمتين
كاذبتين بكلّتيهما من اجل انه اذا كانت ا موجودة لكل ب فغير ممكن ان يوجد حدّ

[Page 420] اوسط يكون موجبًا لكل احدهما ومسلوبًا عن جميع الآخر، لانه لو كان ذلك
كذلك لكان ا مسلوبًا عن كل ب كما قيل فيما تقدم. فاما ان تكون احدى
المقدمتين كاذبتين ايّتهما كانت فقد يمكن بمنزلة ما تكون ‍ ﺟ موجودة لكل ا ولكل
ب . فاذا اخذ احد ‍ ﺟ موجودة لكل ا ، وغير موجودة لشيء من ب ، اانتج ان ا
غير موجودة لشيء من ب بمقدمتين: احداهما كاذبة وهي السالبة، والثانية
صادقة وهي الموجبة. وكذلك يعرض ان اخذ الامر بالعكس، اعني ان اخذت ‍ ﺟ غير
موجودة لشيء من ا وموجودة لكل ب ، واما ان كان الكذب جزئيًا فقد يمكن ان
تكونا كاذبتين معًا، مثل ان تكون ا موجودة في بعض ‍ ﺟ ، و‍ ﺟ في بعض ب .
فقد بان كيف يعرض الغلط في السالب في الشكل الاول والثاني، وبأي احوال
من الصدق والكذب تكون عند ذلك المقدمات.
واما الغلط الذي يعرض في الايجاب الكلي فأنه يعرض ايضًا اذا كان الوسط
مناسبًا واذا كان ايضًا غير مناسب. اما اذا كان مناسبًا فأنه غير ممكن ان تكون كلتا
المقدمتين كاذبتين من قبل انه يلزم من الاضطرار ان تكون مقدمة ‍ ب ﺟ التي تنتج
الحق موجبة، ومقدمة ‍ ا ﺟ سالبة؛ فاذا حوّلت احداهما وتحفظ بأن يكون
القياس منتجًا فانما تحول السالبة فقط. وعلى هذا المثال يعرض الامر اذا كان الحدّ
الاوسط قريبًا من المناسب كما قيل في الغلط الذي يكون في السالب الكلي. وذلك
اذا اتفق ان كانت ا غير موجودة في شيء من ‍ ﺟ وموجودة في كل ب . فاما متى لم
يكن القياس بوسط مناسب فانه متى كانت ا موجودة لكل ‍ ج ، و‍ ﺟ غير موجودة
لشيء من ب ، فأن مقدمة ‍ ا ﺟ تكون صادقة، ومقدمة ج‍ ب كاذبة لانها هي التي
نقلب موجبة؛ واما متى كانت ا غير موجودة لشيء من ‍ ج ، و‍ ﺟ غير موجودة لشيء
من ب ، فان المقدمتين كلتيهما تحوّل من السلب الى الايجاب فتكون كلتاهما
كاذبتين تنتج موجبًا كاذبًا؛ واما ان كانت ا مسلوبة عن كل ‍ ﺟ ، و‍ ﺟ موجودة لكل
ب فهو وسط مناسب، والكاذبة فيه كما قلنا هي الكبرى اذ كانت هي التي تحوّل،
مثل ان يأخذ آخذ أن كل موسيقى علم، وان كل علم حيوان، فينتج له ان كل
موسيقى حيوان. واما مثال اذا كان الحدّ الاوسط مسلوبًا عن الطرفين فأخذه آخذ
موجبًا للطرفين من المواد، فمثل قول القائل: كل انسان حجر، وكل حجر ديك،

[Page 421] فكل انسان ديك.
فقد تبيّن من هذا القول كيف يقع الغلط بالقياس الصحيح الشكل في
المقدمات التي لا اوساط لها، وفي المقدمات ذوات الاوساط، وعلى كم ضرب
يقع، وبأي شروط وخواص يقع.

[Page 422]

‑١٨‑ [القول في ان فقدان معرفة حسيّة سلب للعلم]

قال: ويظهر ان من يفقد حسًّا من الحواس انه يفقد علمًا من العلوم من قبل
ان جميع ما يعلمه الانسان ليس يخلو من ان يكون علمه له: اما بالاستقراء واما
بالبرهان. فأما البرهان فأنه يكون من المقدمات الكلية؛ واما الاستقراء فانما يكون
من الامور الجزئية. والمقدمات الكلية لا طريق لها الى العلم بها الا بالاستقراء،
وذلك ان المقدمة الكلية المأخوذة في الذهن مجردة من المواد، اذا رام الانسان ان
يبّين صدقها فانما يبيّن صدقها بالاستقراء: اما بأن يبيّنها بيانًا مطلقًا اذا كانت مما
شأنها ان تؤخذ مجردة من المواد مثل المقدمات التعاليمية، واما بأن يقرّبها نحو مادة
ما اذا كانت مما شأنها ان توجد في مادة ما؛ وكان متى فقدنا حسًّا ما فلا طريق
الى استقراء محسوسات تلك الحاسّة، واذا لم يكن لنا سبيل الى الاستقراء لم يكن لنا
سبيل الى العلم بالمقدمات الكلية التي في ذلك الجنس، واذا لم يكن لنا سبيل الى
معرفة المقدمات الكلية لم يكن لنا سبيل الى البرهان على شيء في ذلك الجنس.
فاذن متى فقدنا حسًّا ما فقدنا علمًا ما.

[Page 423]

‑١٩‑ [القول في هل ان مبادﺊ البرهان محدودة العدم ام لا محدودة]

وكل قياس فانما تتقوم ذاته من ثلاثة حدود على ما تبيّن في ⟪كتاب القياس⟫.
فأن كان القياس موجبًا، اي ينتج الموجب، كانت الحدود الثلاثة محمولة بايجاب
بعضها لبعض، اعني الاول على الاوسط والاوسط، على الاخير؛ وان كان القياس
سالبًا، اي منتجًا للسالب، كان احد الحدّين محمولاً بايجاب والآخر محمولاً يسلب،
وهذا كله قد تبيّن في ⟪كتاب القياس⟫. واذا كان هذا هكذا فأن القياس الذي
يكون من المقدمات المشهورة وهو القياس الجدلي ليس يشترط في مقدماته الا ان
تكون مشهورة فقط سواءً وجدت فيها شروط المقدمات اليقينية او لم توجد. واما
القياس البرهاني فأنه ينبغي ان يشترط في مقدماته مع سائر ما ذكرنا الاّ يكون حمل
الحدود بعضها على بعض بطريق العرض، اي على غير المجرى الطبيعي، بمنزلة ما
يحمل الانسان على الابيض، اعني ان يجعل الابيض موضوعًا في القضية والانسان
محمولاً فنقول: كل ابيض فهو انسان؛ وذلك ان الابيض محمول بالطبع على
الانسان اذ كان موجودًا في الانسان، والانسان موضوع له بالطبع. واذا كان الامر
هكذا، اعني ان ها هنا اشياء موضوعة بالطبع ومحمولة بالطبع، فقد ينبغي ان ننظر
اذا وجدنا شيئًا هو موضوع فقط بالطبع لشيء وليس هو محمولاً على شيء آخر، مثل
شخص الجوهر، وكان الشيء المحمول عليه على المجرى الطبيعي واولاً موضوعًا لشيء
آخر، وذلك المحمول الثالث ايضًا موضوعًا لمحمول رابع، هل ينتهي هذا التزيّد
والامعان الى فوق في مثل هذا الحمل الذي يكون بالطبع وبالذات حتى نصل في
الترقي الى محمول اول ليس بموضوع لشيء آخر، ام ذلك يمرّ الى غير نهاية؟ وان
ننظر ايضا هل اذا وجدنا محمولاً اولاً ليس يحمل عليه بالطبع شيء البتة، وكان

[Page 424] موضوعه يحمل ايضًا على موضوع ثان، والثاني على ثالث، هل يمكن ايضًا في مثل
هذا الانحطاط ولامعان الى اسفل ان نصل الى موضوع اول، ام يمرّ ذلك الى غير
نهاية؟ والفرق بين المطلبين ان الاول طلبنا فيه هل يحمل على الموضوع الاول
محمولات لا نهاية لها بعضها على بعض، مثل ان يحمل على ب ﺟ وعلى ﺟ د
وعلى ‍ د ﻫ ، ام ذلك يقف؟ والثاني كان طلبنا فيه هل المحمول الاول توجد له
موضوعات لا نهاية لها بعضها موضوع لبعض، ام ينتهي الامر فيه الى موضوع اول،
اعني ليس يكون له موضوع آخر، مثل ان تكون ا محمولاً اولًا ليس يحمل عليها
شيء، وتحمل هي على ب ، و ب على ‍ ﺟ ، و‍ ج على د . وايضًا فقد ينبغي ان
نبحث ايضًا، ان تبيّن ان اطراف الحدود في البراهين متناهية، اعني انه يلزم ان
يوجد فيها محمول اول وموضع اول، هل الاوساط التي بينها متناهية ام غير
متناهية، اعني ان يوجد بين كل حدّين منهما حدّ أوسط، وبين ذلك الحدّ حدّ
آخر، ويمرّ ذلك الى غير نهاية؟ والبحث عن المطلبين الاولين يستفاد منه هل
المطلوبات متناهية ام غير متناهية؟ وهذا البحث الثالث يستفاد منه هل هنا مقدمات
غير ذوات اوساط اوائل لا تبيّن بغيرها، ام كل شيء فله وسط ويقوم عليه البرهان
على ما كان يرى ذلك من حكى عنه ذلك من القدماء.
والقول في المقدمات السالبة هو هذا القول بعينه، اعني ان كانت الحدود
التي بهذه الصفة بعضها يحمل بايجاب وبعضها بسلب، هل ينتهي الحمل الذي
يكون في امثال هذه الحدود من الطرفين ام ليس ينتهي؟ وان انتهى فهل يمكن ان
يكون بين الطرفين اوساط لا نهاية لها ام ليس يمكن ذلك؟ والمنفعة في الفحص عن
امثال هذه الاشياء وامثال هذه المقدمات، اعني التي تكون مؤلفة من
الايجاب والسلب، هي تلك المنفعه بعينها التي في الموجبات فقط، اعنى هل توجد
سوالب بغير ذات وسط وهل تكون العلوم على طريق السلب متناهية؟

القول في بيان ما هي الموضوعات والمحمولات، وبيان الموضوع بالطبع، وبيان ما هي الاقيسة وخصوصًا البرهان

وينبغي ان تعلم ان قوة هذين الطلبين في الحدود المنعكسة بعضها على بعض قوة
واحدة، اعني انه ان كانت المحمولات اما متناهية واما غير متناهية فأن الموضوعات

[Page 425] تكون بتلك الصفة، وذلك ان المحمولات فيها يمكن ان تكون موضوعات. فمتى
وجدنا لمحمول ما اول موضوعًا اخيرًا فقد وجدنا لموضوع ما اول
محمولاً اخيرًا وبالعكس، اذ يمكن ان يصير ذلك المحمول الاول موضوعًا
اول فنترقى منه الى محمول آخر وهو الموضوع الاخير، فمتى لم نجد
موضوعًا اخيرًا لم نجد محمولاً اخيرًا؛ وكذلك متى لم نجد محمولا اخيرًا لم نجد
موضوعًا اخيرًا، وسواءً كان انعكاسهما وحملهما كلاهما على المجرى الطبيعي ان
وجدت أشياءً بهذه الصفة، او كان الانعكاس يكون على غير المجرى الطبيعي مثل
الجوهر على العرض، الا انه ان كان حملها وانعكاسها طبيعيًا لم يلف هنالك
موضوع اول ولا محمول اول بالطبع.

[Page 426]

‑٢٠‑ [القول في تناهي الاوساط بتناهي الاطراف]

فلنبيّن اولاً ان الاطراف اذا كانت متناهية ان الاوساط يجب ضرورة ان تكون
متناهية. فنقول انه لو كان يمكن اذا كانت الاطراف متناهية، اي موجودة بالفعل،
ان تكون الاوساط بينها بالفعل غير متناهية لكان لا يمكن السلوك من طرف الى
طرف لان السلوك بينهما انما يكون على الاوساط، واذا كانت الاوساط غير متناهية
فالسلوك عليها سلوك غير منقض، واذا كان من احد الطرفين غير منقض فالطرف
الآخر غير موجود بالفعل، وقد كان فرض موجودًا بالفعل، هذا خلف لا يمكن.
وسواءً فرضنا الاوساط الغير متناهية، بين بعض الاوساط الموجودة بالفعل، بين
الطرفين الموجودين بالفعل او بين جميع الاوساط الموجودة بالفعل بين الطرفين، مثل
ان يكون الطرفان ا و ب والاوساط التي بينهما ‍ ﺟ و د ، فسواءً فرضنا هذه الاوساط
الغير متناهية بين ا و ‍ ﺟ ، وبين ‍ ﺟ و د ، وبين د و ب ، او فرضناها بين حدّين
منها فقط، وفرضنا الباقي ليس بينها وسط، مثل ان نفرض الاوساط الغير
المتناهية بين ا و‍ ﺟ فقط، والباقي ليس بينها وسط، اللازم في ذلك واحد.

[Page 427]

‑٢١‑ [القول في ان الاوساط متناهية في البراهين السالبة]

واللازم من هذا بعينه في البراهين التي تنتج السالب، اعني انه ان كانت
الاطراف فيها محدودة فأن الاوساط محدودة متناهية. وذلك انه كما تبيّن انه اذا
وضعنا الاوساط المحمولة بايجاب غير متناهية بين طرفين موجودين بالفعل، احدهما
محمول على الآخر بايجاب من قبل حمله على تلك الاوساط الغير متناهية لم يمكن
ان يكون ذلك الطرفان احدهما محمول على الآخر بايجاب. كذلك يلزم الامر في
الطرفين اللذين احدهما محمول على الآخر على طريق السلب من قبل حدود سالبة
وسط لا نهاية لها، وذلك ان كل شيء يسلب عن شيء بوسط. فهنالك مقدمتان
احداهما موجبة والاخرى سالبة، فأن كان يجب ان تكون مقدمات موجبة غير
ذوات اوساط، والاّ يمرّ الامر في الموجبات الى غير نهاية، فقد يجب ان يكون الامر
في المقدمات السالبة كذلك. مثال ذلك ان نفرض ا انما سلبت عن ب من قبل
سلبها عن ‍ ﺟ ووجود ‍ ﺟ لب وانما سلبت عن ‍، ﺟ من قبل سلبها عن ‍ ﻫ ووجود ه ‍
ﻟﺠ ،‍ وكذلك الى غير نهاية. فانه اذا كان الامر كذلك لم تلف ا مسلوبة عن ب في
وقت الاوقات الاّ لو امكن وجود مقدمات موجبة لا نهاية لها بين طرفين محدودين.
وسواءً كان البرهان السالب الذي بهذه الصفة مؤتلفًا في الشكل الاول او الشكل
الثاني او الثالث، اللازم في ذلك واحد اذ كل قياس قد تبيّن انه لا بدّ فيه من
مقدمة موجبة و مقدمة كلية. وكذلك ان كان البرهان الذي بهذه الصفة مؤلفًا من اكثر من
شكل واحد فأن المؤلف من المتناهي هو متناهٍ ضرورة.

[Page 428]

‑٢٢‑ [القول في أن عدد الحدود متناهٍِ في البراهين الموجبة]

واذا تقرّر ان الاطراف اذا كانت متناهية فأن الاوساط متناهية، فلنبيّن ان الاطراف
متناهية واولاً في القياسات العامة الصادقة التي تأتلف من المحمولات الغير الذاتية، ثم
نبيّن ذلك في القياسات الخاصة المناسبة وهي التي تأتلف من المحمولات الذاتية.
فنقول : ان المحمولات التي تكون في القياسات العامة لا تخلو ان تكون اعراضًا
للموضوعات التي هي بالحقيقة موضوعات وهي الجواهر او حدود او اجزاء حدود،
اعني اجناسًا وفصولاً. فاما ان كانت حدودًا فبيّن انها متناهية من جهة الحمل؛
وكذلك ان كانت اجزاء حدود، لانه ان كانت لاجزاء الحدود حدود ومرّ الامر الى
غير نهاية لم يمكن ان نقف على الاشياء التي تقوّمت منها تلك الاشياء وذلك محال،
فأن كنا نقف على الاشياء من قبل حدودها فقد يجب ان تكون اجزاء الحدّ متناهية.
ولا ايضًا الموضوع للحدود او اجزاء الحدود يمكن ان يكون له موضوع، اعني
المحدودات، ويمرّ ذلك الى غير نهاية؛ فأنّ الموضوع اما ان يكون جنسًا او نوعًا،
فأن كان جنسًا فلا بدّ ان يكون له نوع اخير، والنوع الاخير ينتهي حمله الى
الاشخاص، وان كان نوعًا فانما يحمل على الشخص فقط، والشخص ليس يحمل
على شىء على المجرى الطبيعي.
فهذه هي حال المحمولات الجوهرية اذا كانت حدودًا او اجزاء حدود، اعني
اجناسًا او فصولاً. واما اذا كانت المحمولات اعراضًا للموضوعات فانه تجنب ايضًا
في هذا النحو من الحمل الحمل الذي يكون بطريق العرض كما يتجنب الحمل على
غير المجرى الطبيعي، وهو بالجملة حمل العرض على العرض من جهة حمل كليهما
بالطبع على الجوهر الذي هو موضوع العرض، مثل حملنا على هذا الابيض انه ذو

[Page 429] ذراعين، وعلى ذي الذراعين انه مضاف، او غير ذلك من سائر المقولات، فأنّ ذا
الذراعين انما حمل على الابيض من جهة انه عرض له ان كان محمولاً على الشىء
الذي يحمل عليه الابيض وهو الجوهر الموضوع لهما، كأنك قلت انسان او خشبة،
واستعمل في ذلك الحمل الحقيقي وان لم يكن ذاتيًا وهو حمل العرض على الجوهر
مثل حمل الشيﺀ على الانسان.

فقد تبيّن ايضًا ان مثل هذه المحمولات ايضًا متناهية وموضوعاتها متناهية،
وذلك ان كل عرض يحمل فهو ضرورة اما محمول على الجوهر من جهة انه كيف او
كم، وبالجملة واحد من المقولات التسع. وما هو بهذه الصفة فهو متناهٍِ ضرورة من
جهة تناهي المحمولات الجوهرية الموضوعة له، هذا اذا اخذ المحمول محمولاً بالطبع
والموضوع موضوعًا بالطبع لا بالعرض، مثل ان تحمل منزلة عرض على مقولة عرض آخر
من قبل حملهما جميعًا على الجوهر.

فالجواهر بالجملة انما يحمل عليها احد امرين، اعني الحمل الحقيقي، اما
اشياء تعرّف ماهياتها، واما اشياء هي واحد من المقولات التسع. وكل واحد من
الاجناس والانواع الموجودة في مقولة مقولة متناهية بتناهي اجناس مقولة الجوهر
وانواعها الموضوعة لتلك، فأنه ليس توجد الامور الكلية الاّ في الامور المشار اليها.
ولذلك لا غناء ها هنا لوضع الصور التي يقول بها افلاطون لو كانت موجودة
لان البراهين انما هي لهذه الاشياء المشار اليها لا لتلك الصور المفارقة.

واذا تقرر هذا فبيّن ان الامعان الى فوق في الحمل ليس يمكن ان يمرّ الى غير
نهاية في مقولة من المقولات، وكذلك الانحطاط والى اسفل. واذا كان الامر هكذا
فبيّن ان كل حمل حقيقي فهو متناهٍِ من الجهتين جميعًا، اعني المحمول والموضوع.
فهذا الوجه هو احد الوجوه التي يبيّن منه ان كل قياس منطقي فأن الحمل فيه
ينتهي الى مقدمات غير ذوات اوساط من قبل ان الطرفين فيه يجب ان يكونا
محدودين. واما الوجه الآخر فهو انه ان كان البرهان انما يقوم من المقدمات الكلية
المحيطة بالنتيجة، اعني التي هي اعلى منها، وكانت الاشياء التي تعلم بالبرهان،
فغير ممكن ان تعلم بشيء آخر سوى البرهان، ولا بشيء هو افضل من البرهان. فقد
يجب ان كانت كل مقدمة مأخوذة في البرهان تحتاج الى مقدمة اعلى منها الاّ

[Page 430] نجد لشىء من الاشياء العلم بالبرهان من قبل ان وجود ما لا نهاية له غير ممكن ان
يخرج الى الفعل، اللّهم الاّ ان يضع واضع ان البرهان قد يكون من المقدمات
المصطلح عليها الموضوعة وضعًا من غير ان يتبيّن في علم من العلوم، وذلك شنيع.
فقد تبيّن انه لا يمكن ان يوجد قياس منطقي من مقدمات غير متناهية، واعني
بالمنطقي القياس الذي مقدماته كلية وصادقة الاّ انها غير مناسبة.

فاما امر القياس البرهاني المناسب، وهو الذي قصد البحث عنه ها هنا، فقد
تبيّن انه يجب ايضًا فيه ان ينتهي الى مقدمات غير ذات وسط من قبل انه محدود
الطرفين من هذا القول، وذلك ان البرهان انما يكون من المقدمات الذاتية كما
سلف.

القول في اقسام المقدمات الذاتية وبيان حقاﺋﻘﻬﻤﺎ

والمقدمات الذاتية ضربان: احدهما ان تكون المحمولات هي التي منها تتقوم
طبيعة الموضوعات، وهذه المحمولات هي اما حدود للموضوعات واما اجزاء حدود؛
والضرب الثاني المحمولات المأخوذة موضوعاتها في حدودها على انها جزء من
حدودها بمنزلة الفرد المحمول على العدد الذي ليس بزوج، فأن العدد يؤخذ في حدّ
العدد الفرد والعدد الزوج. واذا كان الامر هكذا فبيّن انه ولا واحد من صنفي هذا
الحمل يمكن الامعان فيه الى غير نهاية، وذلك انه اذا وجد للفرد شيء يتنزل منه
منزلة الفرد من العدد، فان العدد ايضًا يكون مأخوذًا في حدّ ذلك الشيء مع
الفرد، فأن وجدت محمولات بهذه الصفة بغير نهاية امكن ان يوجد في الجنس
الواحد بعينه اشياء غير متناهية بالفعل وذلك مستحيل. والذي يوجد فيه امثال هذه
المحمولات ليس هو ان يمرّ الى غير نهاية بل انما يوجد فيها انها تنعكس، اعني ان
يحمل الأعم على الاخص، وذلك ان الثاني منها اخصّ من الاول. مثال ذلك ان
الفرد هو اخصّ من العدد، فأن كان شيء آخر يتنزل من الفرد منزلة الفرد من العدد
فهذا اخص ايضًا من الفرد. ولذلك يظهر ايضًا من هذه الجهة انه ليس يمكن
الامعان فيها الى غير نهاية بل ينتهي الامر الى محمول لا يوجد اخصّ منه. ولا
ايضًا المحمولات التي تؤخذ في حدود الموضوعات يمكن ان يمرّ الامر فيها الى غير
نهاية، فأنه لو كان الامر كذلك لما كان لنا سبيل الى معرفة حدود الأشياء. فاذا

[Page 431] كانت المحمولات في البرهان هي هذان الصنفان من المحمولات، وكان قد تبيّن في
هذه انها تنقطع في الامعان الى فوق، اعني في الحمل، ففي الامعان ايضًا الى
اسفل تنقطع، اعني في وضع بعضها لبعض.

واذا كان الامر هكذا، وكانت الحدود التي هي محصورة بين حدّين قد تبيّن
قبل انها متناهية، فبيّن انه يجب عن ذلك ان تكون للبراهين مقدمات اوائل ليس
لها برهان اذ ليس لها حدّ اوسط، ولا يكون البرهان واقعًا على كل شيء، وهو الذي
حكينا ان قومٌا يعتقدون ذلك. فقد تبيّن ان في كلى القياسين المنطقي والبرهاني يجب
ان تكون مقدمات غير ذوات اوساط معلومة بأنفسها لا بغيرها.

[Page 432]

‑٢٣‑ [لوازم]

ويظهر انه اذا كان شيء واحد بعينه يحمل على شيئين من قبل حمله على شيء
عام لهما ان ذلك لا يمر الى غير نهاية، اعني ان يحمل على ذلك العام من قبل
عام آخر موجود له، بل يقف ذلك، مثل انه ان حمل على المثلث المختلف
الاضلاع والمستوى الاضلاع ان زواياه مساوية لقائمتين من قبل ان كليهما مثلث، فانه
ليس ان حملت مساواة الزوايا لقاﺋﻤﺘﻴﻦ على المثلث من قبل امر عام ايضًا موجودة
له يمرّ ذلك الى غير نهاية، أي يوجد حملها ايضًا لذلك العام من قبل عام آخر ويمرّ
ذلك الى غير نهاية. فانه لو كان ذلك كذلك لتعدّت المقدمات الطبيعية الموضوعة
في تلك الصناعة طبيعة الجنس، ووجدت اعم منها باضعاف لا نهاية لها، وقد
تبيّن ان المقدمات لا يجب ان تتعدّى طبيعة الجنس الموضوع سواءً كانت خاصة او
عامة، على ما تبيّن فيما تقدم، ولذلك ليس يمكن ان ينقل البرهان من صناعة الى
صناعة.
فلذلك يجب ان تكون المقدمات المستعملة في البراهين صنفين: صنف ليس
لها اوساط، وهي التي ليس من شأنها ان تتبيّن بغيرها، وصنف لها اوساط وهي
التي شأنها ان تتبيّن بغيرها. وهذان الصنفان من المقدمات موجودان في الموجبات
والسوالب كما تبيّن.
والمقدمات الغير ذوات اوساط هي التي تتنزل من البرهان منزلة الاسطقسات،
وذلك اما كلها واما الكبرى منها. والمقدمة الغير ذات وسط هي المقدمة الواحدة
باطلاق البسيطة، واما المقدمة التي لها وسط فهي مركبة. وكما ان في سائر الأشياء

[Page 433] المركبة قد ينتهي الامر فيها الى مبادئ بسيطة في غاية البساطة، مثل انتهاء النغم الى
النغمة التي هي ربع طنيني، ومثل انتهاء الاشياء المكيلة والموزونة لى مثاقيل
واكيال لا يوجد اصغر منها في الحسّ، كذلك الامر في مبادئ القياس. فاسطقسات
القياس هي المقدمات الغير ذات وسط.
والوسط يقع في المقدمات ذوات الاوساط: اما في الموجبات فبين الطرفين
وذلك اذا كانت نتائج الكلية الموجبة انما تنتج في الشكل الاول فقط؛ واما
الوسط في المقدمات السالبة فقد يقع بين الطرفين، وذلك اذا كان السالب الكلي
المنتج في الشكل الاول لان المقدمة الصغرى تكون فيه موجبة فهي توجب ضرورة
كون الحد الاوسط موجودًا بين الطرفين. واما الشكل الثاني فان الحدّ الاوسط يقع
فيه خارجًا عن الطرف الاكبر. واما الشكل الثالث فليس يقع الوسط فيه خارجًا
عن الطرف الاعظم.

[Page 434]

‑٢٤‑ [القول في افضلية البرهان الكلي]

قال : ولما كان البرهان منه كلي ومنه جزئي، ومنه موجب ومنه سالب، ومنه مستقيم
ومنه خلف، فقد ينبغي ان ننظر ايّ افضل: البرهان الكلي الموجب او الجزئي، والبرهان
الموجب او السالب، و المستقيم او الخلف.

ولنبدأ من ذلك بالنظر في امر البرهان الكلي والجزئي فنقول: ان قومًا ظنوا ان البرهان
الجزئي افضل من الكلي.

اما اولاً فمن قبل انهم اعتقدوا ان الذي يعلم ان هذا موسيقار يعلم ذلك بنفسه وبغير
واسطة وهو العلم الجزئي، والذي يعلم انه موسيقار من قبل علمه ان الانسان موسيقار فهو
يعلمه من قبل غيره وهو العلم الكلي. والعلم الذي يكون للشيء بذاته و بنفسه افضل من
الذي يكون للشيء من قبل غيره. فالعلم الجزئي افضل من العلم الكلي. قالوا: وكذلك
الحال فيمن يعلم بالبرهان ان المثلث المتساوي الساقين مساوية زواياه لقائمتين بغير وساطة
انه مثلث هو افضل ممن يعلم ذلك منه من قبل انه مثلث.

قالوا : وايضًا لما كان الكلي ليس هو شيئًا خارجًا عن الاشخاص، وكان البرهان على
الامر الكلي اذا كان هو الموضوع يوهمنا انه شيء موجود بذاته منحاز عن الاشخاص
والبرهان على الامر الجزئي لا يوهمنا مثل هذا الوهم الكاذب، فالبرهان على الشيء
الذي لا يكون ﺷﻴﺌًﺎ للغلط افضل من الذي يكون على الشيء الذي هو سبب للغلط. قالوا:
وايضًا فأن الجزئي احرى بالوجود خارج النفس من الكلي، والبرهان على الشيء الذي هو
احرى بالوجود هو افضل من البرهان على الشىء الذي هو اقل في باب الوجود. وقد يدل
على أن الجزئي احرى بالوجود من الكلي ان الذين يثبتون وجوده انما يثبتونه بوجوده في الجزئي.

[Page 435] قال : و هذه الحجج كلها واهية.

اما الحجة الاولى فنحن احق بها منهم، وذلك انه يظهر ان الذي يعلم ان كذا هو
كذا من قبل انه مشار اليه فهو انما يعلمه بطريق العرض لا من جهة ما هو. مثال ذلك ان
الذي يعلم ان وجود الزوايا المساوية لقائمتين للمثلث المتساوى الساقين لا للمثلث
المطلق، فانما علم ذلك لا بما هو، والذي علم ذلك للمثلث فهو الذي علم الشيء بما هو.
واذا كان هذا هكذا فالعلم بالامر الكلي افضل من العلم بالجزئي.

وايضًا اذا كان الكلي معنى واحدًا ولم يكن اسمًا مشتركًا فليس معنى وجوده خارج
الذهن اقل من وجود الاشخاص لكن يزيد عليها زيادة في الوجود، وذلك أنه غير فاسد
ولا كائن والأشخاص كائنة فاسدة. وليس يجب اذا كان اسم الكلي يدل على
معنى واحد مفرد ان يظن به لذلك انه شيء موجود مفارق للاشخاص. وذلك انه كما
انه ليس يظن ذلك في كليات مقولات العرض مثل كلي البياض والسواد، كذلك
ليس ينبغي ان يظن ذلك في كليات الجوهر. وايضًا الذي يظن بالكلى فالنقص انما
هو من قبله لا من قبل وجود الكلي في نفسه.

القول في ان البرهان الكلي افضل من البرهان الجزﺋﻲ

قال : فهذا هو بيان فساد ما احتجوا به، وقد تبيّن ان البرهان على المعنى الكلي
افضل منه على المعنى الجزئي، من حجج.

احداها ان الشيء الذي يعلم بالشيء الذي هو احق في السببية هو افضل من
الشيء الذي يعلم بالشيء الذي ليس هو احق باعطاء السبب؛ والكلي هو احق
بالسببية اذ كان هو الذي يحمل عليه الشيء بذاته، وكان هو الذي عنده يقف السؤال
بلَم على انه السبب الحقيقي. مثال ذلك انّا اذا سألنا مثلاً: لَم كان هذا المثلث زواياه
الخارجة مساوية لاربع قوائم؟ فقيل من قبل انه متساوي الساقين، كان المعطى في ذلك
سببًا ناقصًا اذ كان عرضيًا، وكذلك ان قيل من قبل انه مثلث. فاذا قيل من قبل انه
شكل مستقيم الخطوط، وهو الشيء الذي من قبله وجدت زواياه الخارجة بهذه الصفة،
فقد اعطي السبب الحقيقي التام المفيد للعلم التام.

[Page 436] وايضًا فان الامور الجزئية هي غير متناهية، والامور الغير متناهية غير محاط بها ولا
محصورة؛ واما الكليات فمحيطة بالجزئيات وحاصرة لها. فيكون البرهان على الامور
الكلية افضل من البرهان على الامور الجزئية، من قبل ان البرهان على الاشياء التي
معلومها اكثر هو افضل من البرهان الذي يكون على الاشياء التي معلومها اقل، اعني
الامور الجزئية.

وايضًا البرهان الذي يعلم به شيئان افضل من البرهان الذي يعلم به شيء واحد،
والذي يعلم الكلي فعنده علم الجزئي من قبل الكلي بالقوة القريبة، واما الذي يعلم
الجزئي فليس عنده من قبله علم الكلي لا بالقوة القريبة ولا البعيدة.
وايضًا فأنّ الحدّ الاوسط الذي يكون من السبب الكلي الاعلى هو البرهان الذي
عنده ينتهي الفحص عن اسباب ذلك الشيء ويكفّ التسوق الطبيعي. واذ كان
البرهان الذي هو اكثر كلية افضل مما هو اقل كلية في باب معرفة العلّة، فاذن البرهان
الذي يكون على الكلي افضل من الذي يكون على الجزئي، وذلك ان كان البرهان
الافضل المقدمة الكبرى فيه اتم كلية، فالنتيجة التي بهذه الصفة قد يجب ان تكون
افضل.

قال : فهذه هي الاقاويل التي يمكن ان نبيّن بها ان العلم على الكلي افضل منه
على الجزئي. غير ان في هذه الاقاويل التي احتججنا بها ما يجري مجرى الاقاويل
المنطقية، يريد الجدلية، فانه احد ما يعني بالمنطقية. وانما ينبغي ان يعتمد منها على
ان الكلي اكثر في باب العلم من الجزئي، من قبل ان الذي عنده العلم بالامر الكلي فعنده
العلم بالامر الجزئي بالقوة، والذي عنده العلم بالامر الجزئي فليس عنده العلم بالكلي اصلاً
ولا بنحو من الانحاء، اعني لا بالقوة ولا بالفعل.

فهذا جملة ما قاله من ان البرهان الكلي افضل من الجزئي.

[Page 437]

‑٢٥‑ [القول في افضلية البرهان الموجب]
القول في ان البرهان الموجب المستقيم افضل من البرهان السالب المستقيم

فاما ان البرهان الموجب افضل من السالب فهو يبيّنه ايضًا من وجوه. احدها ان
البرهان الذي ينبني على مقدمات اقل في باب الكمية او في باب الكيفية. اعني
الأبسط، فهو افضل من البرهان الذي ينبني على مقدمات اكثر في البابين جميعًا او في
احدهما. والبرهان الموجب والسالب يتفقان جميعًا في انهما يأتلفان من ثلاثة حدود، الا
ان الموجب يأتلف من مقدمتين هي من نوع واحد، اعني من موجبتين، والسالب يأتلف
من مقدمتين من نوعين، اعني احداهما موجبة والاخرى سالبة. فاذن البرهان الموجب
افضل من السالب.

فاما ان البرهان الذي يأتلف من مقدمات اقل في باب الكمية او الكيفية افضل،
فذلك يتبيّن من ان البرهان الذي يأتلف من مقدمات اكثر فالمعرفة بنتيجته ابعد من
المعارف الاول بالطبع. وكذلك يشبه ان يكون الامر في الذي يأتلف من مقدمات متنوعة
في المعرفة، اعني ان تكون احداهما اعرف من الثانية، مثل الموجبة والسالبة، فأن الموجبة
اعرف من السالبة. فلما كان البرهان السالب يأتلف من مقدمتين احداهما اقل معرفة
من الاخرى، والموجب يأتلف من مقدمتين احداهما مساوية للمقدمة الواحدة من
البرهان السالب في المعرفة، والاخرى اعرف منها، لزم ان يكون البرهان الموجب اعرف
من البرهان السالب. ويشبه ان يكون البرهان البسيط بالجملة افضل من المركب، فاذا
اجتمع في البرهان البساطة من قبل الكيفية والكمية كان افضل من البرهان الذي انما هو
بسيط من جانب الكمية فقط، وذلك ان البرهان البسيط من باب الكمية انما هو من
ثلاثة حدود فقط. فيشبه ان يكون هذا هو الذي قصده ارسطو بهذا القول.

[Page 438] وايضًا فأن النتائج الموجبة تبيّن من مقدمتين موجبتين فقط، واما السالبة فانها
تبيّن من مقدمتين احداهما سالبة والاخرى موجبة، والموجبات افضل. وايضًا فأن
القياس السالب اذا انمي بأن يزاد فيه حدّ اوسط بين حدّين حتى يصير ذا حدود
كثيرة، فقد يلزم فيه ان تتكثر الموجبات فيه، فاما السوالب فليس تكون فيه منها الاّ
سالبة واحدة. مثال ذلك ان تكون ا غير موجودة لشيء من ب ، و ب موجودة لكل
ج‍؛ فاذا احتيج الى نتيجة المقدمتين كلتيهما فانه يجب ان يجعل بين ا و ب حدًا وسطًا،
وبين ب و‍ ﺟ كذلك. فليكن الحدّ الاوسط الذي بين ا و ب ﻫ ،‍ وبين ب و ج‍ ز ، فمن
البيّن انه يكون في هذا القياس ثلاث موجبات وسالبة واحدة، وذلك انه يكون ا ولا
على شيء من ‍ ﻫ ، و‍ ﻫ على كل ب ، و ب على كل ز ، و ز على كل ﺟ ؛ وكذلك
كلما تكررت الاوساط زادت الموجبات وبقيت السالبة واحدة فقط. واذا كان هذا
هكذا فالموجبات هي السبب في ان كانت السالبة منت: ة. فاذن الموجبة ليست هي
محتاجة في ان تنتج الى السالبة، والسالبة محتاجة الى الموجبة، بل اذا كان القياس
مركبًا فيحتاج الى اكثر من موجبة واحدة، وكل ما يحتاج في ان يبيّن به شيء الى غيره
فذلك الغير اعرف. فالموجبة بالجملة اعرف من السالبة؛ والبرهان الذي نتيجته ومقدماته
اعرف فهو اعرف والاعرف افضل. وقد تبيّن ان الموجبة اعرف من السالبة من ان السالبة
انما تفهم بالاضافة الى الموجبة، والموجبة ليس تفهم بالاضافة الى السالبة اذ كان
هذا حال العدم مع الوجود.

وايضًا فان الموجبة تدل على الوجود، والسالبة على العدم، والوجود اقدم من العدم
وافضل، فالبرهان الذي مبادئه اقدم وافضل فهو افضل واقدم. وايضًا فان البرهان
الموجب كأنه متقدم بالطبع على السالب من قبل ان الموجبة متقدمة بالطبع على
السالبة لانه حيث ترتفع المقدمة الموجبة فليس هنالك نتيجة سالبة، واذا وجدت المقدمة
الموجبة فليس يلزم ان توجد نتيجة سالبة. والبرهان المؤتلف من المقدمات المتقدمة بالطبع
اشرف من البرهان الذي يأتلف من مقدمات متأخرة بالطبع.

[Page 439]

‑٢٦‑ [القول في افضلية البرهان المستقيم على البرهان الساﺋﻖ الى الخلف]

ولانه قد تبيّن ان البرهان الموجب المستقيم افضل من البرهان السالب المستقيم، فمن
البيّن انه اذا تبيّن ان البرهان السالب المستقيم افضل من البرهان السائق الى الخلف
الموجب، انه يتبيّن ان البرهان المستقيم افضل بالجملة من السائق الى الخلف.
القول في ان البرهان السالب المستقيم افضل من البرهان الخلف الموجب

فلنفرض اولاً ان القياس المستقيم السالب صورته هذه الصورة، وهو ان تكون ا مثلاً
غير موجودة لشيء من ب ، و ب موجودة لكل ‍ ﺟ ، فيلزم من ذلك ان تكون ا غير موجودة
لشيء من ‍ ﺟ . فاذا اردنا ان نبيّن هذه النتيجة بقياس خلف فانّا نحتاج ان نأخذ نقيض
النتيجة او ضدها، وهو ان ا موجودة لكل ‍ ﺟ ، ونضيف اليها مقدمة لا يشك في
صدقها، وهو مثلاً ان ب موجودة لكل ‍ ﺟ . فلنضع انه انتج لنا منهما محال، وهو ان ا
موجودة في بعض ب ، فاذن غير ممكن ان توجد ا لكل ﺟ ،‍ فهي غير موجودة لها.
القول في ان النتيجة في قياس الخلف اعرف صدقًا من الكبرى وفي المستقيم عكس ذلك

فالحدود في كلا البرهانين تكون واحدة كما سلف. لكن الفرق بينهما ان السالبة
الكبرى الكلية اذا كانت عندنا اعرف من النتيجة الّفنا القياس مستقيمًا، مثل ان

[Page 440] يكون عندنا قولنا: ا ولا في شيء من ب ، اعرف من قولنا: ا ولا في شيء من ‍ ﺟ . واما اذا
كانت السالبة المنتجة هي عندنا أعرف من الكبرى السالبة، فانّا نؤلف القياس على طريق
الخلف بأن نضع نقيضها، ونضيف اليها صادقًا، فيلزم عن ذلك كذب بين الكذب.
فقياس الخلف ليس يمكن حتى تكون النتيجة اعرف عندنا من المقدمة الكبرى التي
تنتجها بالطبع، اعني المقدمات المحيطة بالنتائج. واذا كان هذا هكذا فالقياس المستقيم
ينتج الاخفي بالطبع من الأعرف بالطبع، وقياس الخلف ينتج من الاعرف عندنا لا
من الاعرف بالطبع، وما ينتج من الاعرف بالطبع فهو افضل. وايضًا فان النتيجة انما
تكون بالطبع واولاً عن مقدمتين نسبة احداهما الى الاخرى كنسبة الكل الى الجزء على
ما تبيّن في ⟪كتاب القياس⟫، وذلك هو القياس المستقيم. وقياس الخلف ليست حال
مقدماته هذه الحال اذ كان مركبًا من حملي وشرطي على ما تبيّن. فاذن القياس المستقيم
هو الذي يكون بالطبع وبغير طريق صناعي، واما القياس السائق الى الخلف فعل ما
تفعله الفكرة بالطبع وانما تفعله بالصناعة.

فاذن البرهان الذي يكون من تأليف طبيعي و مقدمات اعرف بالطبع من النتيجة هو
افضل. واذا كان البرهان السالب المستقيم افضل من برهان الخلف الموجب فهو افضل
من الخلف السالب. واذا كان البرهان الموجب المستقيم افضل من السالب المستقيم فهو
افضل من الخلف باطلاق.

[Page 441]

‑٢٧‑ [القول في شروط العلم الفاضل]

قال : والعلوم يفضل بعضها بعضًا في باب استقصاء المعرفة واليقين بالشيء حتى
يكون علم اوثق من علم لاسباب.

احدها ان العلم الذي يبيّن وجود الشيء بعلّته اوثق من العلم الذي يبيّن وجود الشيء
بأمر متأخر عنه.

والثاني ان العلم الذي يكون موضوعه اشد تبرّيًا من المادة فهو اوثق علمًا اذ كانت
المادة هي سبب ما بالعرض المغلّط في العلوم. ولذلك كان علم العدد اوثق براهينا من
علم الالحان.

والثالث ان العلم الذي مبادئ موضوعاته ابسط، براهينه اوثق من العلم الذي مبادئ
موضوعاته مركبة من ذلك المعنى الابسط ومعنى زائد اليه. مثال ذلك حال علم العدد
مع علم الهندسة، فأن مبدأ العدد هو الواحد، ومبدأ الاعظام هي النقطة، والوحدة
هي ذات غير منقسمة لا وضع لها، والنقطة ذات غير منقسمة لها وضع. فاذن النقطة
اقل في البساطة من الوحدة.

[Page 442]

‑٢٨‑ [القول في وحدة العلوم وتنوّعها]

قال : والعلوم المختلفة هي التي مبادئها الاول مختلفة وموضوعاتها مختلفة. ويظهر ان
العلوم المختلفة يجب ان تكون مبادئها مختلفة، من انه متى حللت المبادئ المستعملة في
علم علم الى المبادئ الاول الغير المبرهنة في ذلك العلم وجدتها مختلفة، اذ كانت
المبادئ الاول في كل برهان يجب ان تكون خاصة بالطبيعة الموضوعة لذلك العلم نفسه
من قبل ان مقدمات البرهان يجب ان تكون ذاتية مناسبة على ما سلف.

[Page 443]

‑٢٩‑ [القول في تعدّد البراهين للمطلوب الواحد]

قال : وقد يمكن ان يبرهن المطلوب الواحد بعينه في الصناعة الواحدة بعينها ببراهين
كثيرة، اي بحدود وسط مختلفة. وليس يتفق ذلك بأن تكون الحدود الوسط بعضها
داخلاً تحت بعض، بل ومن غير ان يكون بعضها داخلاً تحت بعض. مثل من يبرهن
ان كل قابل للذة فهو متغيّر بواسطة المتحرك وبواسطة القابل للسكون، فيأتلف البرهان
الواحد هكذا: كل قابل للذة فهو متحرّك، وكل متحرّك فهو متغيّر، فكل قابل للذة فهو
متغيّر. ويأتلف البرهان الثاني هكذا: كل قابل للذة قابل للسكون، وكل قابل للسكون
قابل للتغيّر، فكلّ قابل للذة قابل للتغييّر؛ فيكون التغيّر الذي هو شيء واحد بعينه قد تبيّن
لشيء واحد بعينه في صناعة واحدة بحدّين اوسطين ليس احدهما داخلاً تحت الآخر. فاما
اذا كان احد الحدّين الاوسطين محمولاً على الآخر، فانه بيّّن انه يكون منهما برهان على
شيء واحد اذ كانا جميعًا يوجدان لموضوع واحد، مثل ان يبيّن ان الانسان متغذ
بواسطة انه حيوان وبواسطة انه ناطق.

[Page 444]

‑٣٠‑ [القول في ان الاشياﺀ التي تحدث بالاتفاق لا برهان عليها]

قال : والاشياء التي تحدث بالاتفاق وعلى الاقل فليس يكون عليها برهان، اذ كان
ما يحدث بالاتفاق ليس هو من الاشياء التي توجد بالضرورة، ولا من الاشياء التي توجد
على الاكثر. والبرهان انما يكون في هاتين الطبيعتين، اعني الضرورية والممكنة على
الاكثر، اذ كان كل برهان: فاما ان تكون مقدماته ضرورية كما سلف، واما جارية على
الاكثر. والنتيجة اللازمة عن المقدمات الضرورية تكون ضرورية، واللازمة عن المقدمات
التي على الاكثر تكون على الاكثر.

[Page 445]

‑٣١‑ [القول في عدم حصول البرهان بطريق الحسّ]

قال : ولا سبيل ايضًا الى حصول العلم بالبرهان عن الحسّ، وذلك ان الحسّ انما
يدرك الاشخاص المحدودة الوجود بالزمان والمكان. واما العلم بالبرهان فانما يكون على
الامر الكلي وبالامر الكلي، والامر الكلي هو في كل شخص وفي كل زمان. ولمكان هذا لو
احسسنا مثلاً من هذا المثلث أن زواياه مساوية لقائمتين لما كان هذا الاحساس هو الذي
يفيدنا ان زوايا كل مثلث مساوية لقائمتين، اذ كان الاحساس انما كان لهذا المثلث المشار
اليه الجزئي، والعلم يكون للمثلث الكلي. ولهذا السبب بعينه لو اتفق ان كنا فوق موضع
القمر حتى نشاهد كسوفه بقيام الارض بينه وبين الشمس لما كان يحصل لنا من هذه
المشاهدة العلم بالسبب في كسوفه، وذلك ان العلم بالسبب انما يحصل من جهة الامر
الكلي والحس لا يدرك الكلي، وهو ان كل كسوف قمري فسببه قيام الارض بينه وبين
الشمس، بل انما يدرك الحسّ ان هذا الكسوف سببه قيام الارض بينه وبين الشمس.
لكن الحس وان كان لا يدرك الامر الكلي، فأن الكلي انما يدركه العقل من قبل تكرار
الشخص على الحسّ دفعات كثيرة حتى يجتمع من ذلك التكرار في النفس الامر
الكلي.

ويتبيّن من ذلك ان الكلي اشرف من الجزئي من اجل انه هو السبب القريب في وقوع
العلم لنا، وهو ايضًا افضل من التصورات المفردة، اعني العريّة عن اسبابها، لكن ليس
كل تصور عار عن السبب هو انقص الا فيما كان له سبب، فاما الاوائل التي لا اسباب
لها فالامر فيها بخلاف هذا. فقد تبيّن من هذا انه ليس المعنى الذي ندركه بالحس والمعنى
الذي ندركه بالبرهان معنًى واحدًا، اللهم الا ان يحب انسان ان يسمي العلم بالبرهان
احساسًا. لكن لما كان الحسّ مبدأ للامر الكلي عرض لنا ان نجهل اشياء كثيرة لفقدنا

[Page 446] الاحساس بها، ولو كنا احسسناها لكانت معلومة لنا بعلم اول ولم نحتج ان نقيم عليها برهانًا
ولا ان نختلف فيها. مثال ذلك انه لو كنا نحسّ ان في الزجاج مسامًا ينفذ منها الشعاع،
لقد كنا نعتقد ان الاستنارة تكون بهذا الوجه على ما زعم قوم، ولو شاهدناه لكان ذلك
عندنا معلومًا بنفسه، وكان العقل ينتزع من ذلك الاحساس السبب الكلي في ذلك،
ولذلك قلنا ان من فقد حاسة ما فقد فقد جنسًا من العلم.

[Page 447]

‑٣٢‑ [القول بتعدد المبادئ في المقاييس]

قال : وليس يمكن ان تكون مقدمات جميع اصناف المقاييس مقدمات واحدة
باعيانها: اما اولاً فاذا جعلنا نظرنا في ذلك على طريق المنطق والامر العام، واما ثانيًا فاذا
جعلنا نظرنا في ذلك نظرًا خاصًّا. اما الذي على طريق المنطق فبيّن ان كل قياس فاما ان
ينتج نتيجة صادقة واما كاذبة، وان النتيجة الصادقة انما تكون بالذات عن مقدمات
صادقة، والكاذبة عن مقدمات كاذبة. واذا كان كل قياس فان مقدماته اما ان تكون
صادقة واما كاذبة، فبيّن انه ليس يمكن ان تكون المقدمات الصادقة هي باعيانها
الكاذبة. فاذن ليس كل قياس مقدماته واحدة. وقد تبيّن ان المقاييس التي مقدماتها
كاذبة انه ليس يمكن ان تكون مقدماتها واحدة، اذ كانت النتائج الكاذبة قد تكون
اضدادًا، والاضداد ليس يمكن ان تنتج الا عن مقدمات هي اضداد والاّ امكن ان
يوجد الضدّان لشيء واحد، وغير ممكن ان يوجد قياس واحد بعينه ينتج ان الانسان فرس
وان الانسان ثور، او ينتج ان المساوي اكبر واصغر. فانه يجب ضرورة ان تختلف المقاييس
المنتجة لامثال هذه المقدمات، واذا اختلفت المقاييس فمبادئها مختلفة.
وقد تبيّن ان مبادئ القياس الصادقة ليست واحدة باعيانها من الامور الذاتية لها،
وهو البيان الخاص المقصود على هذا الوجه. وذلك ان المبادئ التي توجد لاجناس
مختلفة بالطبع غير مطابق بعضها لبعض، فقد يجب ضرورة ان تكون هي ايضًا في
نفسها مختلفة. ومثال ذلك ان الوحدات لما كانت مخالفة بالطبيعة للنقط، اذ كانت
الوحدات ليس لها وضع والنقط لها وضع، فقد يجب ضرورة ان تكون البراهين على احد
هذين الجنسين مخالفة للبراهين التي تقام على الجنس الآخر. وذلك انها ان اتفقت فلا
يخلو ان تتفق بأن يكون ما منها في العلم الواحد بعينه يوضع في العلم الثاني: اما حدًّا

[Page 448] وسطًا بين طرفين، واما موضوعًا لشيء، واما محمولاً على شيء مما في ذلك العلم الآخر،
اعني اما طرفًا اكبر واما اصغر، وذلك بأن يتفق وضعه في العلمين جميعًا؛ واما بأن
تختلف مثل ان تكون في احدهما حدًّا اوسط، وفي الآخر طرفًا اكبر وبالعكس. وهو
بيّن ان النقطة لا تكون حدًّا اوسط في قياس عدد، ولا طرفًا اكبر ولا اصغر، لا على
جهة الاتفاق ولا على جهة الاختلاف، مثل ان تكون حدًّا اوسط في العلم العددي
والهندسي معًا، او تكون حدًّا اصغر في احدهما واوسط في الآخر، بل تختص بأحد
القياسين فقط. وهذا الذي يجب في المقدمات الخاصّية يجب بعينه في المقدمات
العامّية، اعني ان تكون بجهة ما مختلفة لامرين: احدهما ان المقدمات العامّية انما
تستعمل في علم علم مقرونة بالمقدمات الخاصّية بذلك العلم. مثال ذلك ان المقدمة القائلة
ان الاشياء المساوية لشيء واحد فهي متساوية انما يستعملها العددي مضافة الى ان هذا
العدد يساوي هذا العدد، والمهندس الى ان هذا الخط يساوي هذا الخط. والامر الثاني
ان كل واحد منهما يدنيها ويقربها من موضوعه، فصاحب علم العدد يقول:
والاعداد المساوية لعدد واحد هي متساوية، وصاحب الهندسة يقول: والخطوط
المساوية لخط واحد فهي متساوية، وكذلك الحال في سائر المقدمات العامة.

فهذا حد ما يظهر منه ان المقدمات التي في العلوم المختلفة يجب ان تكون مختلفة.

وقد يظهر ايضًا من ان المقدمات يجب ان تكون قريبة العدد من النتائج، وذلك انها
انما تزيد عليها بحدّ واحد وهو الحدّ الاوسط، وهو الموضوع: اما بين الطرفين، واما
خارجًا عنهما. ولما كانت النتائج تكاد ان تكون غير متناهية، فقد يجب ان تكون
المقدمات غير متناهية.

ولو كانت مقدمات العلوم واحدة باعيانها، لقد كان يجب ان تكون محصورة العدد
متناهية، فان الاشياء التي تشترك فيها اشياء كثيرة يجب ان تكون بهذه الصفة، اعني
محصورة العدد بمنزلة حروف المعجم من الخط المكتوب. وبالجملة من قال ان المبادئ
واحدة بأعيانها لجميع العلوم وبخاصة غير العامة، وكانت العلوم للموجودات، فقد يجب
ان تكون الموجودات واحدة باعيانها، وان تكون الصناعة البرهانية صناعة واحدة وان
يتبيّن اي مطلوب اتفق في اي صناعة اتفقت، وذلك شنيع ومستحيل. وليس لقائل
ان يقول ها هنا مبادئ عامة غير ذات اوساط تشترك في جنس واحد، ومبادئ

[Page 449] خاصة تختص بنوع نوع مما تحت ذلك الجنس هي تحت هذه المبادئ العامة، فانه لو كان
الامر كذلك لكانت جميع الصنائع النظرية اجزاء لصناعة واحدة. وليس الامر كذلك
بل الصنائع مختلفة بالاجناس الاول اختلافًا ليس يترقى به الى جنس عال يعمّها حتى
ينقسم بها ذلك الجنس انقسام الجنس العالي الى انواعه الداخلة تحته. فقد بان ان
الاشياء التي اجناسها مختلفة فاجناس مبادئها يجب ان تكون مختلفة؛ وذلك ان
المبادئ تقال على ضربين: احدهما العامة وهي التي تتبيّن بها مطالب كثيرة في صنائع
شتى، لكن لا على انها موجودة لجنس يعمّ تلك الصنائع، لكن على انها اسطقسات
المبادئ بمنزلة المقدمة القائلة ان الايجاب والسلب يقتسمان الصدق والكذب في جميع
الاشياء؛ والضرب الثاني المبادئ الخاصة، وهذه ليس يوجد فيها شركة بوجه من
الوجوه لاكثر من صناعة واحدة. فالمبادئ العامة يقول ارسطو فيها ان منها يكون البرهان
في صناعة صناعة اذ كانت ليس هي انفسها تستعمل في صناعة صناعة وانما تستعمل
قوتها، والمبادئ الخاصة يقول فيها ان فيها يكون البرهان نفسه اذ كانت هي اجزاء البراهين
انفسها.

[Page 450]

‑٣٣‑ [القول في الفرق بين العلم والظن]

قال : والعلم يخالف الظن الصادق من قبل ان العلم يكون في الامر الكلي الضروري
وبحدود وسط ضرورية، والضروري هو الشيء الذي هو على حالة ما وغير ممكن ان يكون
بخلاف تلك الحال. واما الظن الصادق فانه يكون اولاً وبالذات للامور الممكنة، وذلك
انه لما كانت ها هنا اشياء صادقة وموجودة، غير انه يمكن ان تكون على خلاف ما هي
عليه، فبيّن انه ليس يمكن ان يكون في هذه علم، لان العلم هو ان يعتقد في الشيء
الموجود انه لا يمكن ان يكون بخلاف ما هو عليه؛ فلو كان في هذه علم لكان الشيء الذي
هو ممكن ان يكون بخلاف ما هو عليه غير ممكن ان يكون بخلاف ما هو عليه. واذا كان
هذا هكذا، وكانت الاشياء التي يصدّق بها العقل والعلم والظن، والظن منه صادق ومنه
كاذب، وكان الصدق في هذه الطبيعة ليس يمكن ان يحصل لنا من قبل العقل، اعني
بالعقل القوة التي تدرك بها المقدمات الاول الضرورية، ولا من قبل العلم اذ كان
موضوعهما كلاهما هو الموجود الضروري؛ وكان ايضًا ليس يمكن ان يحصل لنا الحكم
الصادق من قبل الظن الكاذب، فقد بقي ان يكون الحكم على هذه الموجودات هو
للظن الصادق، اعني التي هي موجودة بالفعل. ويمكن ان توجد على خلاف ما هو
عليه، وذلك هو اعتقاد حدود وسط بهذه الصفة، ونتيجة لازمة عنها بهذه الصفة،
اعني غير ضرورية. وحدّ الظن هو موافق لهذه الطبيعة، وذلك ان الظن ان كان هو ان
يعتقد في الشيء انه كذا او ليس كذا، مع انّا نعتقد فيه انه يمكن ان يكون بخلاف
ذلك؛ وذلك ان الانسان لا يمكن ان يعتقد فيما يعتقد فيه انه لا يمكن ان يكون بخلاف
ما هو عليه، وان هذا الاعتقاد ظن بل علم، فقد يجب ان تكون الاشياء التي هي في
وجودها بهذه الضفة، اعني الامور الممكنة هي موضوع الظن اولاً وبالذات، الا انه قد
نجد ايضًا انه يقع لنا ظن صادق بامور ضرورية.

[Page 451] ولذلك لقائل ان يقول ان الظن والعلم شيء واحد اذ كانا لمدرك واحد، وذلك ان كل
ما يقع به لانسان ما علم فقد يمكن ان يقع به لآخر ظن وسواءً كان ذلك العلم الواقع
معروفًا بنفسه او بوسط، وسواءً كان الحاصل بوسط من باب ⟪لمَ الشيء⟫ او من باب ⟪انّ
الشيء⟫. فنقول : ان كان المعتقد اعتقاده في الامور الضرورية الوجود على هذه الصفة،
وهو ان يعتقد فيها انها موجودة، وانها لا يمكن ان تكون بخلاف ما هي عليه، فذلك
الاعتقاد علم في ذلك الشيء لا ظن، وذلك يكون اذا علم مع ان تلك الاشياء الموجودة
الصادقة انها ذاتية وجوهرية. واما متى اعتقد في تلك الاشياء الضرورية انها صادقة
فقط، وذلك يكون اذا لم يعلم من امرها انها ذاتية وضرورية، فانما عنده فيها ظن صادق
فقط. وسواءً كان المعنى المعروف بهذه الجهة معروفًا بوسط او بغير وسط، اذا كان الموضوع
للظن والعلم واحدًا، فبهذه الجهة يفترقان.
وليس يلزم من كون الظن والعلم قد يكونان
لشيء واحد ان يكونا شيئًا واحدًا؛ فاما الظن الصادق والكاذب قد يكونان في شيء
واحد، واحدهما مخالف للآخر بالماهية. وكذلك الحال في العلم والظن الصادق، فان
الواحد بعينه يقال على وجوه كثيرة، فالظن الصادق والعلم يكونان واحدًا بمعنى واحد من
المعاني التي يقال عليها اسم الواحد، ولا يكونان واحدًا بمعنى آخر، وذلك انهما قد
يكونان واحدًا بالموضوع لا بالاعتقاد، كما ان الظن الصادق والكاذب قد يكونان واحدًا
بالموضوع ولا يكونان واحدًا من جهة الاعتقاد. ومثال ذلك ان من اعتقد ان القطر مشارك
للضلع فقد ظن ظنًّا كاذبًا، ومن اعتقد انه غير مشارك للضلع من قبل امور ممكنة فقد
اعتقد ظنًّا صادقًا، ومن اعتقد انه غير مشارك من قبل امور ضرورية فقد اعتقد علمًا يقينيًا.
واذا كان العلم والظن انما يمكن ان يكونا واحدًا من جهة الموضوع لا الاعتقاد، فظاهر
انه لا يمكن ان يكون لانسان واحد في شيء واحد علم وظن معًا؛ وذلك انه لا يمكن ان
يكون لانسان واحد في شيء واحد اعتقاد انه لا يمكن ان يكون بخلاف ما هو عليه واعتقاد
انه يمكن ان يكون بخلاف ما هو عليه، فان ذلك مستحيل. فاما ان يكون لانسانين في
شيء واحد فأن ذلك ممكن، اعني ان يكون لاحدهما فيه ظن صادق وللآخر علم.

فقد تبيّن من هذا الفرق بين العلم والظن. واما النظر في باقي قوى النفس الناطقة التي
هي الذهن والعقل والصناعة والفهم والحكمة، فأن بعضها ينظر فيها صاحب العلم
الطبيعي، وبعضها صاحب العلم العملي وهو المعروف بالخلقي.

[Page 452]

‑٣٤‑ [القول في الذكاﺀ]

واما الذكاء وجودة الحدس الظني فهو الوقوع على الحدّ الاوسط، اي التنبّه له في زمان
يسير. مثال ذلك انه ان رأى الانسان ان ما يلي الشمس من القمر هو المضيء دائمًا،
فهم بسرعة للسبب في اضاءته وهو ان يستنير من الشمس؛ وكذلك ان رأى المرء انسانًا
يخاطب انسانًا، واحدهما غني والآخر فقير، حدس انه انما يخاطبه ليستقرض منه شيئا،
وان كان كلاهما عدوًا لانسان واحد حدس انهما اصدقاء.

انقضت المقالة الاولى من تلخيص البرهان بجمد اللّه

[Page 455]

بسم اللّه الرحمٰن الرحيم صلى اللّه على محمد وآله المقالة الثانية من تلخيص كتاب البرهان
‑١‑ [القول في انواع المطالب المختلفة]

قال: الاشياء المطلوبة عددها هو بعينه عدد الاشياء المعلومة، وذلك انّا انما نعلم
بآخرة الاشياء المطلوبة. والمطلوبات عددها بالجملة اربع: اثنان مركبان واثنان بسيطان.
فالاول من المركبة هو ان نطلب هل هذا موجود لهذا، مثل ان نطلب: هل الشمس
منكسفة غدًا ام لا؟ وهو مطلب ⟪هل المركّب⟫. والمطلب الثاني مطلب لمَ كان الشيء
موجودًا لهذا، مثل ان ﻧَﺴﺌَﻞ: لمَ كانت الشمس منكسفة؟ وهذا المطلب الثاني انما
يكون بعد الاول، اعني انه انما يطلب في الموضوع لمَ وجد له هذا المحمول بعد ان يتبيّن
عندنا وجود ذلك المحمول له. فهذان هما المطلبان المركبان. فاما المطلوبان المفردان
فاحدهما هو طلب الشيء على الاطلاق لا بحال ما، ووجوده المطلوب المفرد، مثل ان
نطلب هل الخلاء موجود او غير موجود؛ والمطلب الثاني هو الذي نلتمسه بعد معرفة هذا
المطلب فيه، وهو طلب ما هو هذا الشيء الذي تبيّن وجوده.

[Page 456]

‑٢‑ [القول في ان كل طلب يدور حول الحدّ الاوسط]

فجميع المطالب التي هي باعيانها النتائج اليقينية هي بالجنس اربعة. وقد يدل على
انها مطلوبة لنا بالطبع انّا اذا وقعنا عليها كففنا عن الطلب، وانّا لا نطلبها اذا كانت
عندنا معلومة بانفسها.

ويظهر انه اذا طلبنا هل هذا المحمول موجود لهذا الموضوع، وهو مطلب ⟪هل
المركّب⟫، وانّا انما نلتمس وجود الحدّ الاوسط الذي هو علّة في كون ذلك المحمول
موجودًا لذلك الموضوع او غير موجود. وكذلك متى طلبنا هل الشيء موجود باطلاق فانّا
نلتمس وجود الحدّ الاوسط الذي انما هو علة وجود ذلك الشيء على الاطلاق او نفيه.
وظاهر انه اذا صحّ عندنا ان هذا الشيء موجود لهذا، او انه موجود على الاطلاق
بوجودنا حدًّا اوسط يبين لنا فيه ذلك المعنى الذي طلبنا انه ان لم يكن ذلك
الحدّ الاوسط سببًا من اسباب وجود المحمول في الموضوع، وذلك في المطلوب المركّب، او
سببًا من اسباب وجود الشيء مطلقًا، وذلك في المطلوب المفرد؛ انّا بعد ذلك نطلب
في المطلوب المركب لمَ هو وفي المفرد ما هو، لان بوقوفنا على وجوده وقفنا على ان له
سببًا. و بيّن ان هذا الطلب ليس هو شيئًا غير طلب معرفة الحدّ الاوسط، الذي هو
العلّة، ما هو، وذلك في الموضعين جميعًا، اعني في المطلوب المركّب والمفرد. مثال
ذلك انّا اذا طلبنا: هل القمر ينكسف ام لا؟ فانما نطلب حدًّا اوسط هو علّة وجود
الانكساف له، فاذا صحّ عندنا وجود الانكساف له بوجود الحدّ الاوسط، وكان الحدّ
الاوسط ليس بعلة للانكساف، طلبنا بعد ذلك لمَ ينكسف، وذلك ليس هو شيئًا
اكثر من طلب معرفة ما هو الحدّ الاوسط بالطبع الذي هو سبب وجود الانكساف.
وكذلك الحال في المطلوب المفرد، مثل ان نطلب: هل الحيوان موجود؟ فان هذا الطلب

[Page 457] يقتضي طلب وجود حدّ اوسط هو علّة وجود الحيوان، فاذا تبيّن وجوده تبيّن ان
له علّة وسببًا، واذا تبيّن ذلك طلبنا بعد ذلك فيه ما هو، وليس ذلك اكثر من طلب
معرفة الحدّ الاوسط الذي هو سبب في وجوده على الاطلاق.

فاذن يجب في جميع المطالب ان ننظر في الحدّ الاوسط الذي هو علّة هذين
النظرين، اعني انه موجود وما هو،

[Page 458]

‑٣‑ [القول في الفرق بين الحدّ والبرهان]

وقد تبيّن ان هذين المعنيين مطلوبان في الحدود الوسط
من انه متى ظهر للحسّ الحدّ الاوسط، وعرف من امره هذان الشيئان، اعني وجوده
وما هو اي انه علة، انّا لسنا نلتمس في ذلك الشيء معرفة اصلاً. مثال ذلك انّا لو كنا
نحسّ بالسبب في كسوف القمر، اعني انه يقع في مخروط الظل لما كنّا نطلب فيه هل هو
منكسف ولا لمَ هو منكسف، ولست اعني ان بالحسّ كان يحصل لنا الكلي من هذا
السبب، بل انما اعني ان من الحسّ كنا نتصيّد الامر الكلي لا من قياس.

ومطلب ما هو ولمَ هو يظهر من امره ان قوتهما قوة مطلب واحد وان العلم بهما هو علم
بشيء واحد في كثير من المواضع وذلك انّا اذا طلبنا: ما هو الكسوف الموجود للقمر؟
فقيل انه هو عدم الضوء الحاصل له من الشمس من قبل قيام الارض بينه وبين الشمس؛
واذا طلبنا: لمَ ينكسف؟ قيل لان ضوءه ينقطع عندما تقوم الارض بينه وبين الشمس،
وقوة هذين الجوابين في المعنى قوة واحدة، وكلا الطلبين يحتاجان ان يتقدمهما
معرفة الوجود كما قيل.

فقد تبيّن من هذا القول ان المطالب منها مفردة ومنها مركبة، وتبيّن ايضًا انّا نحتاج
في جميع المطالب الى ان نلتمس في الحدّ الاوسط، الذي هو العلّة، شيئين، اعني انه
موجود ومعرفة ما هو. وظهر ايضًا ان العلم بما هو وبلمَ هو قد يكونان لشيء واحد بعينه.

واذ قيل في السبيل التي بها نصل الى الوقوف على وجود الشي ببرهان وعلى سبب
وجوده، فلنقل في السبيل التي بها يتهيأ لنا الوقوف على ماهية الشيءﺀ وهو الحدّ، وفي
تعريف ما هو الحدّ ولايّ الاشياء تكون الحدود. وقبل ذلك فيجب ان نفحص عما
يجري مجرى المقدمة لما نريد ان نقوله في ذلك وهو: اترى كل شيء يعلم بالبرهان فهو
بعينه يعلم بالحدّ حتى يكون معلومًا بهما معًا من جهة واحدة؟ وان لم يكن كل شيء بهذه
الصفة، فهل يمكن ان يوجد شيء يعلم بالبرهان والحدّ معًا من جهة واحدة، ام ليس
يوجد شيء بهذه الصفة؟ فاما انه ليس يمكن ان يعلم كل شيء بالبرهان وبالحدّ من جهة
واحدة، فذلك تبيّن من انه ليس كل ما عليه برهان فله حدّ، ولا كل ما له حدّ فله
برهان. فاما انه ليس كل ما له برهان فله حدّ، فذلك يظهر من ان البراهين قد تنتج
موجبات وسوالب والحدّ لا يعرّف شيئًا سالبًا وانما يعرّف الذوات؛ وايضًا البراهين قد تفيد
العلم الجزئي وذلك فيما يأتلف منها في الشكل الثالث والحدّ هو كلي. واما ان كل ما له
حدّ فليس له برهان فذلك يبيّن من ان مبادئ البراهين قد تبيّن من قبل الحدّ
وليس تبيّن من قبل البرهان، فانه لو احتاجت مبادئ البرهان الى برهان لما كان يوجد
البرهان اصلاً على ما تقدم.

فقد تبيّن من هذا انه ليس كل ما له برهان فله حدّ، ولا كل ما له حدّ فله برهان.
فاذن ليس كل شيء يمكن ان يعرف بالبرهان يمكن ان يعرف بالحدّ من جهة واحدة.
فاما
انه ليس يمكن ان يوجد ولا شيء بهذه الصفة، اعني ان يعلم بالحدّ والبرهان معًا من جهة
واحدة، فذلك بيّن من اوجه:
احدها ان من المعروف بنفسه ان ما شأنه ان يتبيّن ببرهان فليس يمكن فيه ان

[Page 459] يبيّن بغير البرهان؛ فلو كان شيء ما يتبيّن بالحدّ والبرهان، لقد كان يوجد شيء ما
شأنه ان يتبيّن بالبرهان يتبيّن بغير البرهان، وذلك شنيع. وقد تبيّن ذلك بطريق
الاستقراء، وذلك انّا اذا تصفحنا الاشياء التي علمناها بالبرهان لم نجد شيئًا منها بان لنا
بطريق الحدّ، سواءً كانت تلك الاشياء من الامور الذاتية او العرضية.
وايضًا فأن الحدّ انما يعرّفنا جوهر الشيء، والبراهين فقد تعرّفنا امورًا خارجة عن
جوهر الشيء وهي الاعراض الذاتية.

وايضًا فأن الصنائع تضع الحدود وضعًا وتتسلم وجودها للمحدود، وليس تتعاطى
ان يبيّن وجودها للمحدود، بمنزلة ما يضع صاحب علم العدد حدّ الوحدة وحدّ الفرد.

وأيضًا فأن البراهين تركيبها على جهة الحمل، والحدود تركيبها على جهة الاشتراط
والتقييد، فأن قولنا في الانسان حيوان مشاء ذو رجلين منتصب القامة ليس يحمل واحد
من اجزاء هذا القول على صاحبه، واما اجزاء البراهين فهي محمولة بعضها على بعض.
وليس الحدّ مغايرًا للبرهان على جهة ما يغاير الكلي المعنى الداخل تحته، اعني الاخصّ
منه، فانه قد يغاير برهان برهانًا بهذه الصفة. مثال ذلك ان البرهان الذي تقدم على
ان المثلث المتساوي الساقين زواياه مساوية لقائمتين هو منحصر وداخل تحت البرهان الكلي
الذي يبرهن هذا المعنى للمثلث المطلق، فانه لو كان الحدّ يغاير البرهان بهذا النوع
لكانت الاشياء الموضوعة لهما بعضها داخلاً تحت بعض، فكان يصير الشيء
الواحد بعينه بعضه اعم من بعض، وذلك محال.

فلذلك البرهان والحدّ ليس يغاير احدهما الآخر بأن احدهما منحصر تحت
الآخر، ولا العلم الحاصل عنهما هو علم واحد لشيء واحد من جهة واحدة.

[Page 460]

‑٤‑ [القول في ان لا برهان على الماهية]

واذ قد تبيّن ان البرهان غير المحدود، وان العلم الحاصل عن احدهما غير الحاصل
على الآخر، فلننظر في الطريق التي منها يتهيأ لنا استنباط الحدّ.

فنقول : ان حدّ الشيء يظهر انه محال ان يبيّن بالبرهان من قبل ان البرهان هو
قياس، والقياس انما يكون بوسط، وحدّ الشيء منعكس على الشيء ومحمول عليه من
طريق ما هو، فيلزم في الحدّ الاوسط الذي يريد به الانسان ان ينتج ان الطرف الاكبر
حدّ للاصغر ان يكون الحدّ الاوسط منعكسًا ايضًا على المحدود، وان يكون محمولاً عليه
من طريق ما هو، حتى يكون الاوسط محمولاً على الاصغر من طريق ما هو ومساويًا،
والاكبر محمولاً على الاوسط من طريق ما هو ومساويًا ايضًا. فانه متى لم يشترط هذان
الشرطان في حمل الاكبر على الاوسط، والاوسط على الاصغر، لم يلزم عن ذلك ان
يكون الحدّ الاكبر حدًّا للاصغر، بل انما يلزم عن ذلك اذا لم يشترط في كلتى المقدمتين
او في احداهما هذان الشرطان ان يكون الطرف الاكبر موجودًا للاصغر فقط؛ الا ان
فاعل ذلك يلزمه ان يصادر على المطلوب الاول، اعني اذا اشترط في الحدّ الاوسط ان
يكون محمولاً على الطرف الاصغر من طريق ما هو ومساويًا. وكذلك الاكبر من طريق
ما هو ومساويًا اي حدّ. مثال ذلك ان يبيّن انسان ان حدّ النفس هو عدد محرك
لذاته، على ما كان يرى افلاطون، من قبل ان النفس هي علّة الحياة بذاتها، وذلك
ان كلى الحدين اللذين بهذه الصفة ان كان يؤخذ كل واحد منهما في جواب ما هو بدل
صاحبه، وماهية الشيء واحدة، فهما حدّ واحد اختلفت عبارتهما. فاذن الذي
يضع احدهما في بيان الآخر فقد صادر على المطلوب الاول.

[Page 461]

‑٥‑ [القول في ان الماهية لا يمكن ان يبرهن عليها بالقسمة]

قال : ولا ايضًا طريق القسمة نافع في ان يقاس منه، اعني في ان يستنبط عنه شيء
مجهول من شيء معلوم، كما تبيّن في ⟪كتاب القياس،⟫ من قبل ان النتيجة ليس ينبغي
ان توضع في القياس من طريق انها متسلمة بل من طريق انها تلزم عن الاشياء التي تؤخذ
في القياس متسلمة. واما القسمة فأن الذى يجتمع منها هو والاشياء التي توضع فيها على
وتيرة واحدة، اعني انها ان لم تسلم وتوضع لم يقع الاقرار بها. مثال ذلك انه اذا رمنا ان
نبيّن من القسمة ان كل انسان حيوان مشاء ذو رجلين على طريق التسلّم لاجراء هذا
القول، ﻓﻨَﺴﺌَﻞ: اليس كل انسان حيوانًا؟ فاذا سلّم لنا هذا وضعناه، ثم ﻧَﺴﺌَﻞ بعد
ذلك: اهو مشاء او سابح؟ فاذا سلّم لنا انه مشاء سألنا بعد: هل هو ذو رجلين او ذو
ارجل كثيرة؟ فاذا سلّم لنا انه ذو رجلين جمعنا جميع ما سلّم لنا وقلنا: انه حيوان مشاء
ذو رجلين، وذلك ليس شيئًا غير الاشياء التي تسلّم وجودها، واما النتيجة فهي غير
الاشياء التي تسلّم وجودها.

الا ان طريق القسمة وان كان ليس بقياس فهو نافع جدًا في القياس، وذلك ان بها
يمكننا ان نقف على جميع الاشياء التي يمكن ان توجد للشيء بطريق القياس او لا توجد.
مثال ذلك انّا نقول ان الانسان لا يخلو ان يكون حيوانًا او غير حيوان، ثم ان كان حيوانًا
لم يخل ان يكون مشاء او غير مشاء، ثم ان كان مشاء لم يخل ان يكون ذا رجلين او ذا
ارجل كثيرة؛ فأن بينّا بحد اوسط انه حيوان لا غير حيوان بينّا ايضًا بحد اوسط آخر انه
مشاء لا غير مشاء، واذا بينّا ايضًا بحدّ اوسط انه مشاء ذو رجلين، فيجتمع لنا من نتائج
هذه المقاييس حدّ الانسان وهو ان الانسان حيوان مشاء ذو رجلين.

[Page 462] ولذلك ليس يمنع مانع من ان تحمل جملة ما يستنبط بالقسمة على الانسان مثلاً او
على غيره من طريق ما هو، سوى انه لا يمكن ذلك فيها دائمًا، وانما يفعل ذلك حيث
تكون الاجناس المقسومة معروفة للشيء الذي تحمل عليه، وتكون قسمتها الى الفصول
التي تنقسم اليها قسمة لا يقع فيها خطأ من ان يزاد في المقسومات ما ليس فيها، او
ينقص منها ما هو فيها، او يتخطى القاسم من الفصول الاول الى غير الاول، مثل ان
يتخطى قسمة الحيوان الى المشاء والسابح بأن يقسمه الى ذي الرجلين والارجل الكثيرة.
واما اذا تسلّم ان الجنس المقسوم موجود للشيء الذي يطلب تحديده، ولم يقع فيها شيء
من الخطأ والتجاوز حتى ينتهي بذلك الى النوع الذي يقصد تحديده، فقد يستخرج الحدّ
بطريق القسمة من الاضطرار. سوى ان العلم الحاصل عنها بهذا الوجه ليس هو عن
قياس، ولا من نوع العلم الحاصل عن قياس، لكن حصوله له بطريق آخر غير
طريق القياس، وهو في نفسه علم غير العلم الحاصل عن القياس؛ كما ان العلم الحاصل
عن الاستقراء ليس هو علمًا حاصلاً عن قياس، ولا هو من نوع العلم الحاصل عن
القياس. لكن وجه الشبه بينهما ان الانسان كما انه قد يحتج لوجود النتيجة التي
يضعها وضعًا من غير حدّ اوسط ولا سبب بوجود السبب والحدّ الاوسط لها، اذا
سئل عن ذلك كذلك، قد يحتج المستعمل للقسمة للقول المجتمع منها اذا وضعه من غير
قسمة بأن يأتي في ذلك بالقسمة اذا سئل ايضًا عن سبب ذلك. مثل ان يضع واضع ان
الانسان حيوان ناطق مائت، فيقال له: ولمَ كان حيوانًا ناطقًا مائتًا؟ فيقول: لان كل
حيوان لا يخلو ان يكون ناطقًا او غير ناطق، والانسان ليس هو غير ناطق، فهو ناطق؛
وكل ناطق فلا يخلو ان يكون: اما مائتًا او غير مائت، والانسان ليس بغير مائت، فهو
مائت. فهذا هو طريق الاحتجاج للقسمة، والجواب عن السؤال، والشبه الذي بينهما
وبين القياس.

فقد بان من هذا القول ان الحدّ قد يمكن استنباطه بطريق القسمة، وانه لا يمكن
استنباطه بطريق البرهان المطلق أصلاً.

[Page 463]

‑٦‑ [القول في ان الماهية لا يمكن ان يبرهن عليها بالقياس الشرطي]

قال : وليس يوقف على الحدّ بأن يؤخذ رسمه الذي هو مثلاً قول وجيز منبئ عن
ذات الشيء وماهيته، ويجعل مقدمة كبرى في القياس مثل ان يقال الانسان حيوان
ناطق مائت، وهذا قول وجيز منبئ عن ذات الانسان وماهيته، فهذا القول هو حدّ
للانسان. وذلك ان من يفعل هذا فقد صادر على حمل الحدّ على الانسان، وذلك ان
الحدّ الاوسط هو الحدّ، والاصغر هو المحدود فهو حدّ للمحدود، فان لم يكن هذا الحدّ
بيّنا بنفسه وجوده للانسان لم ينتفع بهذا القياس.

وكما ان حدّ القياس لا يؤخذ في تبيين ان هذا القول قياس بأن يقال فيه ان نسبة
احدى مقدمتيه الى الثانية هي نسبة الكل الى الجزء، كذلك لا يؤخذ حدّ الحدّ في تبيين
ان هذا القول حدّ، وانما يجب ان يكون حدّهما عندنا عتيدين لمعاندة من يدّعي مثلاً في
هذا القول الذي هو قياس انه ليس بقياس، وفي هذا القول الذي هو حدّ انه ليس بحدّ،
فيعرف انه قياس من قبل ان حدّ القياس منطبق عليه، وكذلك يعرف انه حدّ من قبل
ان حدّ الحدّ منطبق عليه.

وليس يمكن ايضًا استنباط الحدّ بالمقاييس التي تكون على طريق القياس الشرطي،
وذلك في الامور المتضادة. مثل ان يقال: ان كانت ماهية الشرّ وحدّه انه امر منقسم
في ذاته ومختلف، فقد يجب ان يكون حدّ الخير انه شيء غير منقسم في ذاته ولا
مختلف، وذلك ان الاضداد ينبغي ان تكون حدودها اضدادًا، فأن من يسلك ايضًا
في استنباط الحدّ هذا المسلك فهو ايضًا مصادر على الحدّ. وذلك انه قد نرى ان العلم
بحدود الضدين والجهل بهما هو على وتيرة واحدة، فأن كان حدّ احد الضدين مجهولاً

[Page 464] فالآخر مجهول، وان كان معلومًا فمعلوم. وايضًا ان سلّمنا انه قد يكون حدّ احد الضدّين
اعرف فليس يعرض هذا في كل موضع؛ ولذلك من يضع ان من قبل الحدّ يستنبط الحدّ
دائمًا وفي كل موضع، فقد يلزمه ان يصادر على الحدّ. وليس يعرض من المصادرة على
الحدّ في البرهان ما يعرض من المصادرة على الحدّ في استنباط الحدّ، فأن اللازم عن
البرهان ليس هو حدّا وانما هو ان شيئًا موجود لشيء. فلذلك لا شناعة في ان يصادر في
القياس على الحدود، اعني ان توضع مقدماته حدودًا: اما بعضها واما كلها.

وقد يعرض شك في الطريقين جميعًا، اعني في تبيين الحد بطريق القسمة وفي تبيينه
في القياس الشرطي. اما في القياس الشرطي فمما قيل، واما في طريق القسمة فمن قبل
انه ليس يلزم اذا حمل على الانسان انه حيوان حملاً مفردًا، وانه مشّاء مفردًا، وانه ذو
رجلين مفردًا، ان تصدق هذه مجموعة، على ما سلف في ⟪كتاب باري ارميناس⟫.
وذلك ان الانسان يصدق عليه انه موسيقار، ويصدق عليه انه جيّد، وليس يصدق عليه
انه موسيقار جيّد دائمًا.

[Page 465]

‑٧‑ [القول في ان الحدّ لا يمكن ان يبرهن الماهية]

واذا كان الامر على هذا، فعلى اي وجه يمكن ان يبيّن الحدّ ان كان ليس يمكن ان
يكون بيانه من جنس بيان الاشياء الخفيّة بالاشياء الظاهرة بأن تكون الاشياء الخفيّة تلزم
من الاضطرار من الاشياء الظاهرة، اذ كان البيان الذي بهذه الصفة هو البيان الذي
يكون بالبرهان؟ وقد تبيّن ان الحدّ لا يتبيّن بالبرهان، ولا ايضًا يمكن ان يتبيّن الحدّ
بالاستقراء من قبل ان الاستقراء انما هو بيان الامر الكلي من جميع جزئياته، والحدود
ليست للامور الجزئية، فضلاً عن ان يبيّن بالامور الجزئية. وايضًا فأن الاستقراء انما يتبين
به ان شيئًا موجود لشيء، اعني قولاً حمليًا، والحدّ هو قول منبئ عن ذات الشيء. واذا
لم بين الحدّ لا بالقياس ولا بالاستقراء، ولا بالقسمة، فقد يظن انه لم يبق ها هنا وجه
يتبيّن به الحدّ اذ كان ليس هو من الاشياء المحسوسة فيبيّن بالاشارة اليه.

قال : فهذا احد ما يشكّكنا في الطريق التي بها نقف على الحدود. وايضًا فان في
ذلك شكًًّا آخر ليس بدون هذا. وذلك ان الذي يروم ان يبيّن حدّ امر من الامور يلزمه
ان يعلم قبل ذلك ان ذلك الامر موجود، لانه ليس يمكن احدًا ان يقول في شيء لا يعلم
وجوده ما هو، الا ان يقول ذلك عن طريق شرح دلالة الاسم، مثل ما نقول في عنزايل
ان هذا اللفظ يدل على حيوان مركب من ⟪عنز⟫ و⟪ايل⟫. فامثال هذه الأقاويل في
الاشياء المجهولة الوجود هي اقاويل شارحة وليست بحدود، فأن كان من شرط الحدّ ان
يكون موجودا للمحدود، وذلك بأن يكون المحدود موجودًا، لزم ان يكون العلم بالحدّ
الذي هو علم واحد يتضمن شيئين مختلفين: احدهما ماهية الشيء، والثاني انه
موجود، وذلك شنيع.

[Page 466] وقد تبيّن ان معرفة ماهية الشيء ومعرفة وجوده شيئان مختلفان اذا تؤمل كيف حال
استعمال هذين العلمين في العلوم. وذلك انها يبيّن بالبرهان ان الشيء موجود، فاما حدّ
الشيء فهي تضعه وضعًا ثم تتكلف بالبرهان بيانه. مثال ذلك ان صناعة الهندسة تضع
حدّ المثلث اولاً والدائرة، ثم تتكلف بالبرهان بيان وجودهما في صناعة اخرى. وقد يظهر
هذا من معنى الحدودانفسها، وذلك لن معنى حدّ الشيء ومعنى انه موجود شيئان
مختلفان.

واذا كان ذلك كذلك فليس يتضمن مفهوم بيان الحدّ انه موجود للمحدود. مثال
ذلك انه اذا بيّن الانسان ان الدائرة هي شكل مسطح في داخلة نقطة كل الخطوط
الخارجة منها الى المحيط متساوية، فانه لم يبيّن قط بهذا الحدّ ان الدائرة موجودة اذ قد
يمكن ان ينطبق هذا الحدّ على النحاس والحجر. لكن ان فرضنا الامر في الحدود على هذا
لزمنا امر شنيع، وذلك انه اذا كانت الحدود لا تتضمن انها موجودة لمحدوداتها فدلالتها
دلالة الاسماء بعينها، وذلك شنيع من جهتين: اما الجهة الواحدة فأن تكون الحدود لما
ليس بموجود، فأن هذه حال الاسماء، اعني انها قد تكون لاشياء غير موجودة؛ والجهة
الثانية من الشناعة انه يلزم ان يكون جميع الكلام المركب كله حدودًا، وذلك ان دلالة
جميع الكلام المركّب مساوية بالقوة لدلالة الاسماء، فتكون على هذا اقاويل الشعراء
والخطباء كلها حدودًا اذ كانت قوتها قوة الاسماء المفردة. وكما ان البراهين لا تقوم على ان
الاسم دال او غير دال، كذلك يلزم ان يكون الامر في الحدود.

ولموضع هذه الشكوك قد ينبغي ان نبتدئ ابتداءً آخر ونتأمل الاقاويل في ذلك، وايّها
جرى على الصواب او على غير الصواب. الا ان الذي تبيّن فيما سلف مما ليس فيه شك
هو ان الحدّ والقياس ليس هما معنى واحدًا بعينه، وانه لا يكون لشيء واحد قياس واحد،
وان الحدّ ليس يبيّن ان الشيء موجود، ولا انه حدّ لذلك الشيء الذي يطلب هل هو حدّ
له.

[Page 467]

‑٨‑ [القول في الصلة بين الحدّ والبرهان]

والذي بقي هو ان ننظر هل نجد برهانًا يعطي ماهية الشيء وسبب ماهيته، كما قد
تبيّن انه نجد برهانًا يعطي وجود الشيء وسبب وجوده؟

فنقول : انه ان كان الحدّ الوسط هو ماهية الشيء، فقد قلنا انه ليس يعطي ماهية
الشيء، وان ذلك مصادرة. واما اذا كان الحدّ الاوسط شيئًا خارجًا عن ماهية الشيء
فقد يمكن ان يعطي ماهية الشيء ووجوده معًا. فلننظر متى يكون ذلك. فنقول: اذا كان
الحدّ الاوسط غير علّة الطرف الاكبر فليس يمكن ان يبيّن به وجود الاكبر وماهيته معًا.
واما اذا كان الحدّ الاوسط هو علّة الاكبر فقد يمكن ان يبيّن به ماهية الطرف الاكبر
ووجوده معًا او الماهية فقط اذا كان الوجود معلومًا، فانه ليس يمكن ان يبيّن ماهية شيء
هو مجهول. فمثال الاول هو ان يبيّّن وجود الكسوف للقمر بأنه لا يوجد في ذلك الوقت
للمقايس ظل، فأن امثال هذه الاوساط التي هي اعراض ليس يمكن ان يصار منها الى
معرفة ماهيات الاشياء التي هي لها اعراض الا بالعرض. واما اذا كان الاوسط سببًا
متقدمًا على الشيء وخارجًا عنه فقد يمكن ان يصار منه الى معرفة ماهيته ووجوده معًا، او
الى الماهية فقط ان كان الوجود معلومًا. مثال ذلك ان يبيّن مبيّن وجود الكسوف للقمر
بقيام الارض بينه وبين الشمس. فانه اذا بيّنا وجود الكسوف للقمر بمثل هذا الحدّ فقد
بيّنا وجود الكسوف وماهيته معًا وذلك ان علّة ماهية الكسوف الذي هو ذهاب ضوء القمر
هو قيام الارض بينه وبين الشمس. وكذلك ايضًا ان بيّن مبيّن ان صوتًا موجودًا في
السحاب من قبل ان فيه ريحًا تتموج مثل ان نقول: السحاب فيه ريح تتموج، وما فيه
ريح تتموج ففيه صوت، فقد بيّن ماهية الرعد بعلّته.
فقد تبيّن من هذا القول ايّ البراهين يعطي ماهية الشيء ووجوده معًا، او ماهيته ان
كان الوجود معلومًا، وايّ البراهين ليس يعطي ذلك.

[Page 468]

‑٩‑ [القول في ان لا برهان على وجود المبادئ وماهيتها]

وتبيّن مع ذلك ان البراهين التي تعطي ماهية الشيء ووجوده معًا ليس يمكن ان تكون
في الجواهر الاول لان هذه ليس لها اسباب خارجة عنها تعطي وجودها وماهيتها. ولذلك
لا نعلم الانواع المجهولة: ولا في الامور البسيطة لأن هذه ليس لها اسباب اصلاً، ولا في
الامور التي وجودها معلوم بنفسه، مثل حدّ المثلث، وحدّ الدائرة، وحدّ الوحدة، لان
هذه ايضًا ليس لها اسباب خارجة عنها، وان هذه البراهين انما تكون في المطالب المركبة
وهي مطالب الاعراض.

[Page 469]

‑١٠‑ [القول في انواع الحدّ المختلفة]

والحدّ يقال على ضروب شتى:

احدها القول الشارح للاسم والنائب عنه دون ان يدل على ان ذلك الشيء موجود او
غير موجود.

والثاني هو الحدّ بالحقيقة وهو الذي يكون مفهمّا للذات الموجودة بعلّتها، ويجب ان
يتقدم العلم بها العلم بوجود ذلك الشيء الذي يطلب فيه ما هو ولمَ هو؛ وهذا الحدّ الذي
هو بالحقيقة حدّ هو الذي يسمى برهانًا متغيّرًا في الوضع. ولا فرق بين الحدّ والبرهان الذي
يعطي لمَ الشيء الا في الترتيب فقط، وتبديل اسم الشيء المحدود بقول شارحة. وذلك
ان الجواب عندما ﻳَﺴﺌَﻞ الانسان لمَ الرعد موجود، يكون ترتيبه بأن يقال: من قبل ان
النار التي في السحاب تنطفئ فيه. ويكون ترتيبه اذا سئل ما هو الرعد، بأن يقدّم في
الجواب ما أخّر هنالك في الجواب، ويؤتى بشرح اسم الرعد بدل اسمه فيقال: صوت في
السحاب لانطفاء النار فيه.

ومن الحدود ما هي معروفة بنفسها، وهي مبادئ العلوم التي لا برهان عليها ولا
تستنبط من البرهان.

ومن الحدود قسيم ثالث وهو الحدّ الذي هو نتيجة برهان مثل النتيجة القائلة: ان
الرعد هو صوت في السحاب، اعني اذا برهن وجود الصوت في السحاب من قبل وجود
تموج الريح فيه.

فقد تبيّن مما قيل متى يكون البرهان على الحدود ومتى لا يكون، ومتى تستنبط

[Page 470] الحدود ومتى لا تستنبط وايّ الاشياء يكون عليها البرهان الذي يستنبط منه الحدّ وايّ
الاشياء ليس يكون عليها هذا النوع من البرهان. وبالجملة فتبيّن من ذلك الاشياء التي
يمكن ان يكون لها حدود تامة والتي لا يمكن ان يكون لها حدود تامة، وهي التي لا تعلم
من قبل اسبابها لأن كل ما لم يعلم من قبل سببه فلم يعلم وجوده بالحقيقة، وتبيّن على كم
وجه تقال الحدود، وما هي الحدود. وبالجملة فتبيّن كيف نسبة الحدّ الى البرهان،
وكيف يمكن ان يكونا لشيء واحد وكيف لا يمكن.

[Page 471]

‑١١‑ [القول في العلل المختلفة المأخوذة اوساطًا]
القول في بيان وقوع كل واحد من العلل الاربع حدودًا وسطى في البراهين

قال : ولما كنا نرى انّا قد علمنا الشيء متى علمناه بالعلّة والسبب، وكانت الاسباب
اربعة: احدها السبب الذي على طريق الصورة، والثاني السبب على طريق الهيولى،
وهو الذي ﻳﺆخذ من اجل الصورة، والثالث السبب الذي على طريق المحرّك القريب
والفاعل، والرابع السبب الذي على طريق الغاية؛ فجميع هذه الاسباب تؤخذ حدودًا
وسطى في البراهين، وذلك ان الحدّ الاوسط هو بمنزلة الهيولى للقياس، وهو مشترك
للطرفين ولذلك كان القياس اقل ذلك من مقدمتين تشتركان في حدّ اوسط.

اما اخذ السبب الذي على طريق الصورة حدًا اوسط فمثل ما يقال: لمَ صارت
زاوية المثلث المعمول على القطر في نصف الدائرة قائمة؟ فيقال: لانها نصف الزاوية التي
على المركز، والزاوية التي على المركز اذا كان المثلث بهذه الصفة فهي مساوية لقائمتين.

ومثال اخذ السبب الذي على طريق الهيولى حدًّا اوسط ان يقال: لمَ يفسد
الحيوان؟ فيقال: لانه مركّب من اضداد.

ومثال اخذ السبب على طريق المحرّك حدًّا اوسط ان يقال: لمَ حارب اهل الجمل
عليّا؟ فيقال: لمكان قتل عثمان.

ومثال اخذ السبب الذي على طريق الغاية حدًّا اوسط ان يقال: لمَ يختار الاطباء
المشي قبل الغذاء؟ فيقال لمكان الصحة؛ ولمَ يتخذ البيت؟ فيقال: لمكان الحفظ
للأثاث؛ ولمَ يمشي الانسان بعد العشاء؟ فيقال: لينزل الطعام عن فم المعدة. وحال

[Page 472] العلل التي على طريق الغاية من معلولاتها بالعكس من حال العلل التي على طريق
الفاعل، وذلك ان العلل التي على طريق الفاعل هي الامور المتقدمة على المعلولات في
الوجود بالزمان، ولذلك تكون الاوساط فيها امورًا متقدمة الوجود بالزمان على النتائج.
واما السبب الذي على طريق الغاية فهو متأخر بالزمان في الوجود عن النتيجة، وذلك ان
الصحة انما توجد بعد المشي.

وليس يمتنع ان يجتمع في الشيء الواحد بعينه السبب الذي على طريق الغاية والذي
من الاضطرار، اعني من قبل الهيولى، مثل ما يقال: لمَ صار الضوء ينفذ في
الاجسام المتخلخلة فيقال: لسعة منافذها, ولطاقته، ولمكان سلامتها من التغيّر؛
فأن قولنا: لسعة منافذها ولطاقته هو امر من ضرورة المادة، وقولنا: لمكان سلامتها من
التغيّر فهو امر على طريق الغاية. والطباع كثيرًا ما تستعمل الامور الضرورية في منفعة ما اذا
امكنه ذلك. مثال ذلك ان شعر الاشعار هو لمكان ضرورة الجزء الدخاني الذي يتولّد
هنالك، وصحب ذلك منفعة سترها للعين؛ ومثل ان الرعد شيء موجود بالضرورة
لانطفاء النار في السحاب، فيه منفعة ما ان كان، كما قال ⟪انكساغورش⟫، ليخوّف
به اهل الجحيم. وبالجملة فكثيرًا ما توجد في الاشياء الطبيعية مع الامر الضروري منفعة
ما، وذلك ان الطبيعة تقصد بفعلها غاية، وسبب تلك الغاية شىء لزم من الضرورة.
والضرورة تقال على ضربين: احدهما الضرورة الطبيعية التي هي من قبل صورة
الموجود، مثل حركة الحجر الى اسفل وصعود النار الى فوق؛ والضرب الثاني الذي من
قبل الهيولى، مثل ان الكائن لزمه بالضرورة ان كان فاسدًا والهيولى ايضًا هي نفسها
بالضرورة من قبل الصورة، اعني ان الصورة الطبيعية لا يمكن ان تكون الا في
هيولى. وهذا ملخّص في العلم الطبيعي والامور التي تحدث بالرويّة والفكر، وكذلك
الحادثة عن الطبيعة: بعضها بالاتفاق والبخت، وبعضها ليس بالاتفاق.

القول في ان الغايات الاتفاقية لا تكون حدودًا وسطى في البراهين

فاما التي لا تحدث بالاتفاق فهي الانواع، مثل البيت في الامور الصناعية والانسان
في الامور الطبيعية، وهي التي تحدث لمكان شيء من الاشياء. واما التي تحدث بالاتفاق

[Page 473] فهي الاشياء التي سببها الصناعة او الطبيعة اذا لم يكن حدوثها مقصودًا عنها بل
بالعرض، بمنزلة الصحة التي تحدث بالاتفاق عن قطع عرق في حرب او ما اشبه
ذلك، وبمنزلة الاصبع السادسة في الامور الطبيعية. ولذلك الشيء الذي يسمى اتفاقًا
وبختًا، متى حدث عن الصناعة او عن الطبيعة، فهو الشيء الذي لم تقصده الصناعة
ولا الطبيعة؛ فان الصناعة والطبيعة كليهما انما يفعلان لمكان شىء من الاشياء وهو الخير
الذي تؤمه الصناعة او الطبيعة. فاما البخت والاتفاق فليس ما يحدثه هو لمكان غاية من
الغايات، ولا لشيء من الاشياء، ولذلك كان حدوثه اقليًا، ولم يكن هذا السبب
معدودًا في الاسباب المطلوبة، ولا استعمل حدًّا اوسط في البراهين.

[Page 474]

‑١٢‑ [القول في وجود العلة والمعلول معًا]
القول في ان علل الامور الزمانية تكون معها في الزمان وتجعل حدودًا وسطى في البراهين التي للامور الزمانية

قال : وعلل الاشياء الموجودة مع الاشياء هي في الاشياء الكائنة في الزمان الماضي
والكائنة في المستقبل واحدة بعينها، اعني انها بعينها هي سبب للامور الموجودة في الزمان
الماضي والامور الموجودة في الزمان المستقبل، وهي التي تجعل حدودًا وسطى في البراهين.
وهذه العلل هي موجودة مع الامور الموجودة وكائنة مع الاشياء الكائنة، فأن كانت الكائنة
كائنة في الماضي فهي كائنة في الماضي، وان كانت في المستقبل فهي كائنة في المستقبل.
مثال ذلك ان علّة الجمود في الماء هو نقصان الحرارة التي تجعل حدًّا اوسط في وجود
الجمود للماء، فأن كانت هذه العلّة موجودة بالفعل فأن الجمود موجود بالفعل، وان
كانت موجودة بالقوة وفي الزمان المستأنف فأن الجمود موجود بالقوة وفي الزمان المستقبل.

وكذلك حال المعلول مع هذه العلة، اعني انه ايضًا متى وجد المعلول وجدت العلة: ان
كان في الزمان الماضي ففي الماضي، وان كان في المستقبل ففي المستقبل. فاما العلل التي
ليس توجد مع معلولاتها، وهي الفاعل والهيولى، فليست هذه حالها مع معلولاتها،
اعني ان كانت موجودة فمعلولاتها موجودة، وان كانت مزمعة ان توجد فمعلولاتها
مزمعة ان توجد. لكن انما يوجد لها ان معلولاتها ان كانت موجودة فعللها موجودة،
وذلك انه ان كان بيت فقد كانت حيطان واساس، وان كانت المعلولات ايضًا مزمعة
ان توجد فأن العلل مزمعة ان توجد؛ فهنا اذا وجد الآخر وجد الاول وليس اذا وجد
الاول يلزم ان يوجد الآخر.

[Page 475] وقد يشك في هذا فيقال: كيف اذا كان الاخير لا يتبع الاول يكون الكون سرمدًا
ومتصلاً؟ وذلك انه قد كان يجب الاّ يتبع للكائن، اي الذي قد فرغ من الكون،
الذي يتكوّن، فلا يكون الكون متصلاً، لكن ان كان يتبعه فقد يجب ان يكون الاول
اذا وجد وجد الاخير؟ فنقول: ان الكائن ليس يتبعه المتكوّن بالذات، ولا الكون
متصل بالذات على ما عليه الحركة الواحدة متصلة بالذات. فانه لو كان الامر كذلك
لأمكن ان تكون نهاية الكائن متصلة بمبدأ المتكوّن، والنهاية والمبدأ فليس يمكن
ان يتصل احدهما بالآخر من قبل ان كل واحد منهما غير منقسم الاّ لو ائتلف الخط من
نقط، وذلك مما تبيّن امتناعه في العلم الطبيعي. ولا يمكن ايضًا ان نقول ان مبدأ
المتكون يماس نهاية الكائن، وذلك ان المتكوّن منقسم وليس يمكن ان يشار الى مبدئه،
ونهاية الكون غير منقسمة؛ وليس يقال فيما ينقسم انه يماس ما لا ينقسم، كما لا
يقال ان الخط يتلو النقطة. والكلام في هذا في غير هذا العلم.

فالكون انما هو متتالٍ لا متصل. ولو كان الكون متصلاً للزم ان تؤخذ بين العلل
المتقدمة بالزمان والمعلولات المتأخرة عنها اوساط بلا نهاية، اعني العلّة والمعلول القريب
منها. وهو بيّن انه ليس بين العلّة المتقدمة بالزمان والمعلول المتأخر، اعني القريب،
وسط. فأنه ان كان بيت فقد كان حائط، وان كان حائط فقد كان اساس، وان كان
اساس فقد كانت حجارة، ومعلوم انه ليس بين البيت والحائط وسط هو علّة، ولا
بين الحائط والاساس ولا بين الاساس والحجارة. ولو كان الكون متصلاً لوجب ان
يكون بين البيت والحائط متوسط هو متأخر عن الحائط ومتقدم على البيت، وذلك
كان يلزم ان يكون بين العلّة القريبة ومعلولها وسط، اعني بين العلّة المتقدمة بالزمان على
معلولها الاخير، فتتصل العلّة القريبة بمعلولها فلا تكون معرفة منها بالزمان. ولو كان
ذلك لكان يلزم ان يكون بين هذا الوسط وعلّته وسط آخر ويمرّ ذلك الى غير نهاية،
فتكون اسباب الاشياء المتكوّنة غير متناهية. ولزوم هذا في الاشياء التي قد كانت مثل
لزومه في الاشياء التي هي مزمعة ان تكون.

ولما كان ها هنا اشياء ينعكس بعضها على بعض، اعني بأن تكون العلّة معلولة
والمعلول علّة، وجب ان يكون البرهان في هذه الاشياء يجري دورًا، وان يكون الاول فيها
وسطًا والوسط اولاً. مثال ذلك انه ان كانت الارض مبتلّة فيكون عنها بخار، وان كان

[Page 476] بخار فسيكون سحاب، وان كان سحاب فسيكون مطر، وان كان مطر فقد تبتلّ
الارض، فقد يجب ان كانت الارض مبتلّة ان تكون الارض مبتلّة، وان كان بخار ان
يكون بخار. وكذلك في كل واحد من هذه.

وبعض الامور تكون موجودة على طريق الكل ودائمًا، وهذه اما ان تكون موجودة
دائمًا، واما ان تكون متكوّنة دائمًا ولا بدّ، وفي هذه يكون الامر دورًا. وقد
توجد امور ليس وجودها سرمدًا لكن على الاكثر، مثل نبات اللحية لكل ذكر من
الناس. والحدود الوسط في هذه تكون على الاكثر، وكذلك المقدمات، وكذلك
النتيجة. وذلك انه ان كانت ا محمولة على كل ب في اكثر الموضوع او اكثر الزمان،
وكانت ب محمولة على كل ‍ ﺟ في اكثر الموضوع او اكثر الزمان، فانه يلزم ان تكون ا
محمولة على ‍ ﺟ في اكثر الامر، وليس يوجد الامر في هذه دورًا.

[Page 477]

‑١٣‑ [القول في استنباط الحدّ بطريق التركيب والقسمة]

قال : ولما كان قد تبيّن كيف يستنبط الحدّ من البرهان، وعلى اي وجه يمكن وعلى
اي وجه لا يمكن، فقد ينبغي ان ننظر في الطريق التي منها تتصيّد الحدود وتستنبط.
القول في طريق اكتساب الحدّ

فنقول : ان الاشياء المحمولة على الشيء دائمًا ومن طريق ما هو، منها ما يحمل عليه
وهو اعم من الشيء: اما عمومًا يتجاوز به طبيعة الجنس الذي يوجد فيه ذلك الشيء،
واما عمومًا لا يتجاوز به طبيعة جنس ذلك الشيء. مثال ذلك انّا قد نحمل على الثلاثة
من طريق ما هي انها موجودة، وانها عدد فرد، الا ان حملنا عليها انها موجودة هو شيء
يتعدّى طبيعة الجنس الذي فيه الثلاثة وهو العدد، اذ كان معنى الموجود اعم من
العدد؛ واما معنى الفرد فانه وان كان يفضل على الثلاثة، اذ قد يوجد للخمسة والسبعة
وغيرها من الاعداد، فانه لا يتجاوز جنسها الذي هو العدد. واذا كان ذلك كذلك
فالوجه في تصيّد الحدود بهذه الطريق ان نتخيّر المحمولات على الشيء من طريق ما هو،
التي لا تتعدى جنس ذلك الشيء ولا تتجاوزه إلى ما فوقه، ونجمعها الى ان نجد منها
اول جملة يكون كل واحد منها اعم من الشيء، ويكون جميعها مساويًا للشيء المقصود
تحديده، فانه اذا اجتمع لنا منها ما صفته هذه كان ذلك هو حدّ تام للشيء. ومثال
ذلك انّا نجد الثلاثة يحمل عليها من طريق ما هي انها عدد فرد، وانها عدد اول بالمعنيين
اللذين يقال بهما في العدد انه اول، اعني الذي لا يتركب من عدد والذي لا يعدّه الا
الواحد فقط، اذ كان الاول في العدد يقال على هذين المعنيين، فنجد هذه المحمولات

[Page 478] كل واحد منها اعمّ من الثلاثة وجميعها مساوٍ للثلاثة. وذلك ان الفردية يوجد لها
ولغيرها، والاول الذي ليس هو مركبًا من عدد يوجد لها وللاثنين، وكذلك الاول بالمعنى
الثاني يوجد لها ولجميع الافراد؛ واما هذه المحمولات الثلاثة فليس توجد لغيرها، فحدّ
الثلاثة ضرورة التي اثبتت منها ذاتها نها عدد فرد اول. وذلك انه اذا حملت
اشياء اكثر من واحد على الشيء من طريق ما هو: فاما ان تكون قوتها قوة الجنس ان لم
يكن لها اسم واحد، او تكون جنسًا ان كان لها اسم واحد؛ لكن ان كانت جنسًا، او
قوتها قوة الجنس، كانت اعم ولم تكن مساوية، فيلزم اذا كانت هذه المحمولات على
الثلاثة ليست جنسًا، اذ كانت ليست اعم، ان تكون حدًّا.
فهذه السبيل هي التي يسلكها في استنباط حدود الانواع الاخيرة. واما ان كان المقصود
تحديده جنسًا ومتوسطًا بين الانواع الاخيرة والجنس المنظور فيه، والسبيل في
ذلك ان نأخذ حدّ تلك الانواع الاخيرة التي ينقسم بها ذلك الجنس بتلك السبيل التي
وصفنا، فاذا وجدنا حدّ كل واحد من النوعين القسيمين اسقطنا من ذلك ما يخصّ
واحدًا واحدًا منها، واخذنا المشترك واضفنا اليه جنس ذلك الشيء: اما كمية، واما
كيفية، واما غير ذلك من الاجناس المحيطة بذلك الشيء العالية، فيكون المجتمع من
ذلك هو حدّ الجنس المقصود تحديده. مثال ذلك انّا اذا اردنا ان نحدّ الخطّ فانّا نعمد
الى انواعه الاخيرة وهو الخط المستقيم والمستدير والمنحني، ثم نأخذ حدّ كل واحد من هذه
الانواع الثلاثة بتلك الطريق. فلننزل انّا وجدنا حدّ الخط المستقيم انه طول بلا عرض،
لا يستر وسطه اطرافه عند النظر اليه على استقامة، ووجدنا حدّ الخط المستدير انه طول
بلا عرض، في داخله نقطة كل الخطوط الخارجة منها متساوية، ووجدنا حدّ الخط
المنحني انه ايضًا طول بلا عرض مضافًا اليه خاصة اخرى، فنطلب المشترك لهذه الحدود
الثلاثة فنجده فيها قولنا: طول بلا عرض، فنضيف اليه جنس الخطوط وهو
الكم، فيكون حدّ الخط المطلق انه كم له طول بلا عرض. ومسيرنا الى حدود الاجناس
من حدود الانواع هو شيء يجري مجرى الطبع، وذلك ان الاجناس مركبة والانواع
بسيطة، وما يوجد للمركّب انما يوجد له من قبل وجوده للبسيط، فقد ينبغي ان كان الحدّ
يوجد للانواع والاجناس ان يكون وجوده للاجناس من قبل وجوده للانواع.
قلت : وهذه الطريق انما ذكرها ارسطو لانه يرى انه اسهل في استنباط

[Page 479] حدود الانواع من طريق القسمة، وهي التي تعرف بطريق التركيب، الا انه يرى ان هذه
الطريق كافية في استنباط الحدود كما قد ظن ذلك قوم، فانه لا بدّ في استنباط
الحدود من المواضع المذكورة في ⟪كتاب طوبيقى⟫، اعني مواضع الاثبات والابطال،
ومواضع الجنس والفصل، وسائر المواضع التي عددت هنالك فانها انما عددت من اجل
الحدّ وعددت هنالك مشهورة لتلتقط منها البرهانية.
قال: فاما استخراج الحدّ بطريق القسمة فانه قد ينتج بها في التحديد هذا النوع من
الانتفاع على النحو الذي تبيّن فيما سلف، اعني ان طريق القسمة انما ينفع في الحدود
الغير مجهولة الوجود للمحدود، وانه متى ريم بها استنباط الحدود المجهولة فالسالك في
ذلك يستعمل طريق المصادرة. وانما ينتفع بها في النوع من الحدود الذي لا يبلغ الخفاء
فيها ان تبيّن بحدّ اوسط اذا تحفظ بالقسمة فيها. فانه فرق كبير في القسمة بين ان يجعل
الفصل الاول في مرتبه والفصل الاخير في مرتبه وبين ان يجري الامر فيها بخلاف
ذلك، اعني بأن نجعل الاخير في مرتبة الاول، بمنزلة من يقسم الحيوان الى ما له
رجلان والى ما ليس له رجلان، فأن هذا النوع من القسمة ليس يعطي حدّ نوع من
الانواع اذ كانت حدود الانواع انما تأتلف من امرين: احدهما الجنس القريب والآخر
الفصل الذي بعده، أعني الذي يتلوه من غير وسط، بمنزلة الانسان الذي معناه
مؤتلف من الحيوان والناطق. وامثال هذه الاقاويل التي يعطيها هذا النوع المختل من
القسمة انما هي مؤلفة من الاجناس البعيدة والفصول الاخيرة، فأن ذا الرجلين هو فصل
اخير للحيوان وبينهما فصول كثيرة. ولاجل هذا ينبغي ﻟﻠﻤﻘﺴﱢﻢ اذا قصد الى تصيّد
الحد بالقسمة الا يتخطى الفصل الاعم الذاتي الى الفصل الاخص، اعني الاّ يقسم
الجنس الا على بفصول الجنس الذي تحته بل بالفصول الحاضرة للجنس الذي ينقسم بها
قسمة لا يخرج شيء من الجنس عنها، بمنزلة من يقسم الحيوان الى المشاء والطائر
والسابح، ثم يقسم كل واحد من هذه الى الفصول الحاضرة لها، مثل ان يقسم الطائر
الى ما هو مفترق الاجنحة او متصلها؛ واما ان قسّم الحيوان اولاً الى ما هو مفترق
الاجنحة او متصلها فقد تخطى الجنس الاول ولم يحصر جميع الحيوان في قسمته.

واذا كان هذا هكذا فينبغي عندنا نروم استنباط الحدّ بالقسمة ان نكون
مستعملين لشروط ثلاثة: احدها ان نأخذ الاشياء التي تحمل على الشيء من

[Page 480] طريق ما هو؛ والثاني ان يكون ترتيبها على ما ذكرنا، فنجعل الفصل الاول اولاً والثاني
ثانيًا والثالث ثالثًا وكذلك على الولاء؛ والشرط الثالث ان نقف بالتقسيم عند جملة تكون
مساوية للمحدود.
فاما الشرط الاول فانما يكون حاصلاً في الاشياء المجهولة الحمل على الشيء من
طريق ما هو اذا بيّنا بقياس انها موجودة له بهذه الصفة اذ كان القياس قد تبيّن به ان
هذا جوهري لهذا، مثل ان يبيّن انه جنس لهذا او ان هذا عرض لهذا، فأن كل قياس
فانما يبيّن به احد هذين الامرين على ما تبيّن في ⟪كتاب طوبيقى⟫، اعني ان
المطلوب يكون اما جوهريًا واما عرضيًا.

واما الشرط الثاني وهو ان تكون اجزاء الحدّ مرتّبة الترتيب الذي ينبغي، فأن ذلك
يكون متى رتّبنا الفصل الاعمّ فالاعمّ حتى تنتهي الى الفصل الاخير من غير ان يخلّ
بينها بفصل او يردف الفصل منها بفصل مساوٍ له. فاذا جرى القاسم على هذا فمن
الاضطرار ان يكون كل فصل منها عامًا لما تحته وموجودًا للشيء الذي ينقسم به وجودًا
اولاً، فأن كان بين الاول منها والاخير بون بعيد فالفصول المتوسطة التي بينها هي التي
تصل الاول بالاخير وصلة ذاتية.

واما الشرط الثالث وهو ان تكون الجملة مساوية للمحدود فانما يتأتى ذلك لنا ويظهر
ظهورًا بيّنًا متى قسّمنا الجنس العالي اولاً الى فضيلة المتقابلين. ثم ننظر ذلك الشيء
المقصود تحديده تحت اي الفصلين المتقابلين هو داخل منهما، فاذا وجدناه تحت احدهما
نظرنا هل مجموع الفصل والجنس هو مساوٍ لذلك المحدود او هو اعم منه؛ فأن كان اعم
منه قسمنا ذلك الفصل ايضًا الى فصلين متقابلين ثم ننظر تحت ايهما هو ذلك المحدود،
فاذا وجدناه داخلاً تحت احدهما نظرنا الى الجملة المجتمعة من الجنس الاول التي بعده:
فأن كانت مساوية للنوع او الجنس المقصود تحديده فقد وجدنا حدّه، وان كانت اعمّ
فعلنا في ذلك مثل فعلنا قبل، اعني ان يقسم الفصل الاخير منها الى فصلين متقابلين،
ثم نعتبر تحت ايهما هو المحدود داخل، وهل الجملة مساوية له او غير مساوية؛ واذا
وجدناها مساوية فبيّن ان ذلك الحدّ ليس ينقصه فصل من الفصول التي انبنت منها
ذات الشيء المحدود، اي تقدمت، ولا يوجد فيها فصل من قبل ان الناقص اما ان
يكون جنسًا او فصلاً. والجنس الاول قد وضع فيه وقرنت اليه جميع الفصول الموجودة في

[Page 481] تلك الطبيعة، فأن فرض انه قد نقصها فصل فأن ذلك الفصل يكون مخالفًا في الطبيعة
لتلك الفصول، والفصول التي تقرن بالجنس ليكون منها الحدّ هي من طبيعة واحدة.

قال : والمقسّم فليس به حاجة عند تبنّيه الحدّ بالقسمة ان يقسّم جميع فصول
الموجودات حتى يكون استنباط الحدّ بالقسمة شيئًا ممتنعًا اذ كان لا يمكن ان تحصى جميع
الفصول، كما ظن ذلك بعض القدماء، فأن ما ظن من ذلك غير صحيح.

اما اولاً فانه ليس يضطر القاسم الى ان يقسم الجنس الى جميع الفصول الموجودة
فيه اذ كانت هذه منها جوهرية ومنها غير جوهرية، وانما يضطر في قسمته الى الفصول
الجوهرية وهي التي تحدث انواعًا تحت ذلك الجنس.

وأما ثانيًا فأن الطبائع العامة تنقسم الى فصول متقابلة محصورة، والشيء المقصود
تحديده انما يكون داخلاً تحت احد المقابلات وليس يحتاج من امره الى اكثر من ان
يعلم المقابل الذي هو داخل تحته ذلك الشيء. فاما المقابل الآخر او المتقابلات فليست
به حاجة الى ان يعلم الفصول التي تنقسم اليها اذ كانت غير الشيء المقصود تحديده. مثال
ذلك انّا اذا قصدنا الى تحديد الانسان فقسمنا الحيوان الى الناطق وغير الناطق، فوجدنا
الانسان داخلاً تحت الناطق، فليست بنا حاجة الى ان نقسم غير الناطق الى جميع
فصوله الاخيرة. وسواءً كانت تلك الفصول معلومة لنا او غير معلومة، فاذا سلكنا هذه
السبيل صرنا ولا بدّ الى جملة مساوية للمحدود؛ وكون الشيء المحدود داخلاً ولا بدّ
تحت احد الاقسام المتقابلة التي قسم اليها جنسه فليس يجري مجرى المصادرة اذ كانت
الفصول التي ينقسم الجنس اليها على جهة الحصر ليس يمكن ان يدخل بينها متوسط.
واذا كان هذا امرًا بيّنًا بنفسه في القسمة فيلزم من ذلك ان يكون الذي يطلب تحديده اذا
عرف ان ذلك جنسه داخلاً تحت احدهما ولا بدّ.

فقال : وواجب علينا عندما نقصد تحديد امر ما بتخيّر المحمولة الموجودة له
من طريق ما هو بأن يتصفح في الاشخاص التي هي غير مختلفة ذلك المعنى الذي
يقصد تحديده: فأن وجدناه واحدًا في جميعها تبيّن لنا من ذلك ان تلك الطبيعة التي
نروم تحديدها طبيعة واحدة، وان لها حدًّا واحدًا؛ وان وجدنا ذلك المعنى في جملة من
تلك الاشخاص غيره في جملة اخرى علمنا ان الذي نقصد تحديده ليس بمعنى واحد بل

[Page 482] هو معنيان او اكثر من ذلك. مثال ذلك انّا اذا اردنا ان نحدّ ما هو كبر النفس فنتأمل هذا
المعنى في الاشخاص الذين نصفهم بكبر النفس فنجد بعضهم قتل نفسه، ونجد
بعضهم انتقل من دين الى دين، وبعضهم حارب من لا تجب محاربته؛ فاذا تأملنا معنى
كبر النفس في هؤلاء وجدناه قلّة احتمال الضيم، واذا تأملنا كبر النفس الموجود في
ديوجانس وسقراط وغيرهم ممن استخفّ بجودة البخت والاتفاق لمكان الواجب من
الحق قلنا: ان كبر النفس فيهم هو الاستخفاف بجودة البخت. فاذا نظرنا
الاستخفاف بجودة البخت وقلّة احتمال الضيم لم نجد شيئًا يجمعهما ولا طبيعة
واحدة تعمّ فيهما كبر النفس، فقلنا: ان كبر النفس ليس به حدّ واحد وانه اسم
مشترك. فأن الحدّ انما يكون واحدًا للطبيعة الواحدة الكلية لا للطبيعة الجزئية،
ولذلك ليس يعطي الطبيب شفاء هذه العين المشار اليها وانما يعطي شفاء العين
باطلاق، وذلك يكون بأن تفصل المعاني التي يقال عليها اسم العين، ويحدد النوع
الذي يقصد تحديده من ذلك وتحديد النوع لهذا المعنى اسهل من تحديد الجنس من قبل
ان اشتراك الاسم يظهر في الانواع اكثر منه في الاجناس، ولذلك ينبغي ان نتوصل الى
تحديد الاعمّ من تحديد الاخص اذ كان الاخص اعرف عند الحسّ. وكما ان البراهين
ينبغي ان يكون معنى القياس فيها امرًا واضحًا صحيحًا، اعني انها اقيسة صحيحة
الشكل، كذلك ينبغي ان تكون المعاني التي يقصد تحديدها واضحة بيّنة ظاهرة في
الحدود، وهذا انما يكون اذا توصلنا الى تحديد الاشياء العامة من الاشياء الخاصة التي
وضوح المعنى الذي نقصد تحديده لائح ظاهر فيها. مثال ذلك انّا اذا اردنا ان نحدّ طبيعة
اللون جعلنا مبدأ النظر في ذلك من المعنى الموجود في لون لون، لا من اللون العام الذي
هو جنس لجميع الالوان؛ وكذلك اذا اردنا ان نحدّ امر الصوت جعلنا النظر من الاصوات
النوعية لا من الصوت العام. فأن بهذا الفعل يقع الاحتراس من الاسم المشترك، وذلك
انه وان كنا قد نتحفظ في الجدل من الاسم المشترك فكم بالحري يجب ان نتحفظ
منه في الحدود، واستعمال الاسم المشترك يعرض اضطرارًا في الجدل.

[Page 483]

‑١٤‑ [القول في تحديد الجنس]

قال : وواجب على من اراد ان يسهل عليه الجواب بلمَ في الاعراض التي توجد
لصنف صنف الموجودات المحسوسة ان يكون قد وقف بطريق القسمة على اجناسها
وانواعها، وبطريق التشريح على جميع اعضائها، فانه اذا كان عالمًا بذلك امكنه اذا
سئل عن وجود عرض ما لنوع من الانواع او لجنس من الاجناس ان يجيب بالطبيعة
العامة التي هي السبب في وجود ذلك العرض لذلك النوع او الجنس. مثال ذلك ان
الانسان اذا تقدم فعلم بطريق القسمة ان المغتذي منه حسّاس ومنه غير حساس، ثم
سُئِل: لمَ كان الحيوان ينمي؟ اجاب: بالطبيعة الكلية التي هي السبب في وجود النمو
للحيوان، فقال لانه متغذٍ ولم يقل لانه حيوان، وكذلك يعرض له اذا سُئِل عن
لاحق ما لنوع من الانواع وكان عارفًا بالطبيعة الكلية التي هي السبب في وجود ذلك
اللاحق لذلك النوع من قبل التقسيم. مثل أن ﻳﺴﺌﻞ: لمَ صار الديك متفرق الجناح،
فيقال: لانه طائر، او: لمَ صار الانسان متنفسًا؟ فيقال: لانه حيوان سيّار ذو دم.

وربما لم تظهر لنا الطبيعة الكلية التي هي السبب في ذلك العرض اﻟﻤﺴﺆول عنه بطريق
التقسيم، لكن يكون قد ظهر لنا من قبل التشريح عرض عام ينبئنا عن تلك الطبيعة
فنقيمه مقام تلك الطبيعة. مثال ذلك انّا قد وقفنا بالتشريح على ان ما كان من الحيوان له
قرون فله كرش وليس له اسنان في الفك الاعلى، فاذا سئلنا مثلاً: لمَ كان الايل له
قرون؟ قلنا: لان له كرشًا وليس له اسنان في الفك الاعلى؛ وكذلك لما وقفنا بالتشريح
على ان كل حيوان طويل العمر صغير المرارة بالاضافة الى جسمه، فاذا سئلنا مثلاً: لمَ
صار الانسان طويل العمر؟ قلنا: لانه صغير المرارة.

وربما كانت الطبيعة والجنس الذي وقفنا عليه من التقسيم ليست واحدًا الا
بالتناسب، مثل مناسبة العظام للشكوك وللخزف في الحيوان الخزفي.

[Page 484]

‑١٥‑ [القول في ان المساﺋﻞ تكون واحدة مع وحدة الحدّ الاوسط]

قال : وتكون المسائل واحدة متى كان السبب المأخوذ فيها حدًّا اوسط واحدًا
فربما كان واحدًا بالنوع، وربما كان واحدًا بالجنس. مثل ان يسأل سائل: لمَ يحدث
الصدى؟ ولمَ يحدث قوس قزح، ولمَ يرى الانسان صورته في الجسم الصقيل؟ فأن
السبب في هذه المسائل واحد بالجنس وهو الانعكاس، لكن سبب الصدى هو انعكاس
الهواء، وسبب قوس قزح هو انعكاس الضوء، وسبب الرؤية في المرآة الصقيلة انعكاس
البصر.

قال : وقد تكون ﻣﺴﺌﻠﺔ واحدة تبيّن باوساط كثيرة اذا كان بعضها سببًا لبعض،
وكان المتقدم منها يعطي ابدًا في جواب السؤال بلمَ عن المتأخر الى ان يترقى السؤال الى
السبب الاول فيها الذي هو علّة لجميعها. مثال ذلك ان يقال: لمَ صار النيل يكثر جريه
في آخر الشهر؟ فيقال في جواب ذلك: لان هذا الوقت شبيه بوقت الشتاء، فيقال:
ولمَ صار هذا الوقت شبيهًا بوقت الشتاء؟ فيقال: لا محاق ضوء القمر فيه، فيقال: ولمَ
يمحق ضوؤه؟ فيقال: لاجتماعه مع الشمس؟ فأن اجتماعه مع الشمس هي العلّة
الاولى لهذه العلل، وجرية النيل في آخر الشهر هو المعلول الاخير، وما بينهما معلول وعلّة.

[Page 485]

‑١٦‑

قال : وقد يتشكك الانسان في العلّة المأخوذة حدًّا اوسط، وفي المعلول الذي هو
الطرف الاكبر، ويقول: هل كما يمكننا ان نبيّن الشيء من قبل علّته، كذلك يمكننا ان
نبيّن وجود العلّة من قبل المعلول، وذلك بأن يكون كل واحد منهما يلزم صاحبه ويوجد
بوجوده؟ مثال ذلك: هل كما انه اذا وجدنا جمود اللبن للشجر وجدنا انتثار الورق له؟
كذلك ايضًا اذا وجدنا انتثار الورق وجدنا جمود اللبن؟ وكما انه اذا وجدنا قيام الارض
بين الشمس والقمر وجدنا الكسوف؟ كذلك اذا وجدنا الكسوف وجدنا قيام الارض بينه
وبين الشمس؟

فنقول : اما انه ان لم يكن للشيء الواحد اكثر من علّة واحدة، وكان الشيء لا
يمكن ان يوجد من دون علّته، فقد يبيّن كل واحد منهما بصاحبه؛ لكن اذا بيّن
المعلول بالعلّة كان ذلك برهانًا يعطي السبب والوجود، واذا بيّن العلّة بالمعلول كان ذلك
برهانًا يعطي الوجود فقط، بمنزلة ما يبيّن انتشار الورق من قبل جمود اللبن، وجمود اللبن
من قبل انتشار الورق.

واما ان كان للشيء الواحد اكثر من علّة واحدة فليس يلزم ان يبيّن وجود العلّة من
قبل وجود المعلول. مثال ذلك انه ان بيّن مبيّن ان ا موجودة ‍ لج بوسط اكثر من واحد اعني
د و ﻫ ،‍ فهو بيّن انه متى وجدت واحدة من د و ‍ ه وجدت ا ، وانه ليس يلزم متى
وجدت ا ان توجد د او ﻫ لان ا اعم من كل واحدة منهما، واذا وجد الاعم لم
يلزم ان يوجد الاخص؛ لكن يبيّن الامر في هذا مما تقدم، وذلك انه قد قيل ان من
شرط البراهين ان تكون المقدمات المأخوذة كلية ومحمولة من طريق ما هو. واذا كان ذلك

[Page 486] كذلك وجب ان يكون الحدّ الاوسط خاصًا بالموضوع او مساويًا له، وكذلك الاعظم مع
الاوسط، فتنعكس العلّة والمعلول ضرورة في امثال هذه البراهين. والعلّة التي بهذه الصفة
فليس يمكن ان تكون الا علّة واحدة لانها حدّ للشيء، والحدّ ليس يمكن فيه ان يكون
اكثر من واحد اذ كان هو المنبئ عن ذات واحدة، والمنبئ عن ذات الشيء الواحد
يجب ان يكون واحدًا، مثل قيام الارض في الوسط بين الشمس والقمر الذي هو حدّ
الكسوف، ومثل جمود اللبن للشجر الذي هو حدّ انتشار الورق.

[Page 487]

‑١٧‑ [القول في امكانية انتاج علل مختلفة معلولاً واحدًا]

فأن لم يكن الوسط علة ذاتية، فقد يمكن ان يكون للشيء اكثر من علّة واحدة، وان
يوجد المعلول ولا توجد العلّة. مثال ذلك ان العلّة الذاتية فيما هو طويل العمر انما هو صغر
المرارة، واما الحرارة والرطوبة فلعلّة اخرى موجودة للحيوان وغير الحيوان. لكن ينبغي ان
تتوقّى امثال هذه الاوساط في البراهين فانها ليست عللاً محققة، ولا البراهين المؤلفة من
هذه الاشياء هي براهين محققة بل مظنون انها براهين من غير ان تكون كذلك، اذ كان قد
يوجد المعلول ولا توجد العلّة. ولكون الحدّ الاوسط في امثال هذه البراهين المحققة من
جهة انه ذاتي هو من طبيعة الجنس الذي تنظر فيه تلك البراهين، لزم ان كان ذلك
الجنس مقولاً بتناسب ان يكون الحدّ الاوسط فيه مقولاً بتناسب؛ وكذلك ان كان الجنس
بتواطؤ كان الحدّ الاوسط بتواطؤ. فمثال الاشياء المقولة بتناسب ان يقال: لمَ صارت
الاشياء المتناسبة اذا بدّلت تكون متناسبة؟ فيقال: لان اضعافها توجد بالشرط المفروض
في الاشياء المتناسبة. وليس الشبيه الذي يقال على الالوان وعلى الاشكال بواحد بالنسبة
بل انما هو واحد باللفظ فقط، فأن التشابه في الالوان هو ان يكون تحريكها البصر بقدر
واحد، وفي الاشكال هو ان تكون الاضلاع متناسبة والزوايا متساوية. وهذا هو الفرق بين
الشيء المقول باشتراك والمقول بتناسب، اعني ان المقولة باشتراك توجد حدودها مختلفة
غير متحدة، والمقولة بتناسب توجد حدودها واحدة بالتناسب.

وبالجملة فينبغي ان تؤخذ الحدود الثلاثة في البرهان متساوية بعضها لبعض،
اعني العلّة والمعلول والشيء الذي له العلّة وهو الموضوع، فأن اخذ الموضوع اخصّ من الحدّ
الاوسط، والحدّ الاوسط اخص من الاكبر، لم يكن الحمل على طريق الكل الذي
اشترط في اول هذا الكتاب. ومعلوم ان هذا البرهان هو البرهان الذي هو حدّ تام
بالقوة.

[Page 488]

‑١٨‑ [القول في ان العلّة القريبة هي العلّة الحقيقة]

ومعلوم ان هذا البرهان انما يكون بالسبب القريب، فأن كانت للشيء اسباب كثيرة
وبعضها اقرب من بعض، فالسبب القريب منها هو القريب من المحمول في المطلوب لا
من الموضوع، اذ كان الحدّ الاوسط انما هو حدّ للطرف الاعظم الذي هو المحمول في
المطلوب او جزء حدّ.

قلت: وتبيّن من هذا ان ارسطو يرى ان من شرط البرهان المطلق ان يكون الحدّ
الاوسط فيه للطرف الاكبر ولا بدّ، وانه ضروري فيه. فاعلم ذلك وهو الذي لا يصحّ
غيره.

[Page 489]

‑١٩‑ [القول في ادراك مبادئ البرهان]

قال : فقد تكلمنا في القياس والبرهان، ما كل واحد منهما، وبأي شروط وخواص
يتم كل واحد منهما، ومن البيّن ان العلم بأحدهما متعلق بالعلم الآخر، وانهما يجريان
مجرى شيء واحد.

قال : فاما من اين يقع لنا العلم بمبادئ البرهان التي هي المقدمات الاول، وكيف
يقع، وبأي قوة تدرك هذه المقدمات، فذلك يظهر اذا تقدمنا فوضعنا ان العلم بالبرهان لا
يمكن ان يحصل الا بأن تعلم مبادئه التي هي المقدمات الغير ذوات اوساط، وذلك ايضًا
بعد ان تقدم في ذلك ما يجب من التشكيك.

فنقول : اترى القوة التي بها يعلم الشيء بالبرهان هي القوة بعينها التي بها تعلم مبادئ
البرهان ام هي غيرها؟ واترى مبادئ البرهان والاشياء التي تعلم بالبرهان كلاهما يعلمان
بالبرهان ام احدهما يعلم بالبرهان والآخر له قوة اخرى يعلم بها؟ ومبدأ النظر ان نفحص
اولاً: هل هذه المعقولات الاول التي هي لنا صور وملكات هي حاصلة لنا من اول
وجودنا لكنّا كأنّا ناسون لها وغير ذاكرين؟ ام هي حادثة فينا بعد ان لم تكن؟ لكن
كونها حاصلة لنا من اول الامر ونحن ناسون لها يلحقه امر شنيع، وهو ان نكون مقتنين
لعلوم اشد تحصيلاً واوثق من علوم البرهان ونحن ناسون لها؛ لكن ان وضعنا
استفادتنا اياها انما يكون بآخرة، فكيف يصحّ هذا الوضع مع وضعنا ان كل ما
نعلمه ونتعلمه انما يكون بمعرفة متقدمة؟ فيلزم على هذا ان تكون مبادئ البرهان تبيّن
ببرهان وذلك مستحيل.
فنقول : ان هذه المبادئ انما تحصل لنا عن قوة واستعداد موجود فينا، شأن تلك

[Page 490] القوة وذلك الاستعداد ان تحصل عنه تلك المبادئ وهذه القوة في الشرف دون الشيء
الحاصل لها بالفعل التي هي المبادئ. وهذه القوة هي موجودة في جميع الحيوان وذلك
ان في كل حيوان قوة الحسّ، لكن الحيوان الذي فيه قوة الحس ينقسم قسمين: فمنه
ما يثبت له الشيء الذي يحسّه بعد انقضاء الحس وهذا هو الحيوان المتخيّل، ومنه ما لا
يثبت له وهو الغير متخيّل. والذي يثبت له: منه ما يثبت له ثباتًا تامًا، ومنه ما
ليس يثبت له ثباتًا تامًا؛ والذي يثبت له ثباتًا تامًا يعرض له عندما تتكرر الصور عليه
ينتزع منها التشابه الذي يكون بينها، ومن هذا التشابه يحصل المعقول الكلي للنفس.
وهذا التشابه انما تقتنيه القوة الذاكرة من المتخيّلة اذ كانت هذه القوة هي التي تقتني معنى
الشيء المحسوس مجرّدًا من الشبح، وذلك عند تكرار المعنى عليها دفعات كثيرة في
اشخاص كثيرة. ولما كانت قوة التخيّل والذكر انما تقتني المعنى من الحسّ كان استعداد
هاتين القوتين في الانسان من قوة الحسّ. فأن كان الكلي الحاصل مأخوذًا من الامور
الارادية كانت المعقولات الحاصلة منه مبدأ للامور العملية، وان كان مأخوذًا من
الامور الموجودة كان مبدأ للعلوم النظرية.

واذا كان الامر هكذا فليست هذه الكلمات من المعقولات حاصلة لنا من اول
الامر، ولا نحن مستفيدون لها من ملكات هي اشرف، ولا من علوم اثبت منها،
لكن انما تحدث لنا عن تكرار الحسّ مرة بعد مرة في اشخاص كثيرة. مثل ما يعرض في
الجهاد عندما ينحزم الصف بانهزام المجاهدين ان يعود واحد فيقف ثم ثانٍ، ثم
ثالث حتى يكمل الصف. وهكذا حال حدوث الكلي عن الحسّ، فأنه اذا اقترن الى
هذا الاحساس احساس ثان والى الثاني ثالث حدث الامر الكلي، ولذلك كان حدوثه
على وجه الاستقراء للجزئيات. فعلى هذا الوجه هو حدوث الكلي عن الحواس.

قال : والقوى الذهنية التي بها نصدّق تنقسم: فمنها ما تصدق تارة ويكذب تارة
بمنزلة قوى الظن والفكر، ومنها ما يصدق دائمًا بمنزلة العلم الحاصل عن البرهان
والعقل الذي هو المقدمات الاول. وليس جنس آخر من المدركات احق بالصدق من
العلم الا العلم الحاصل عن المقدمات الحاصلة عن العقل، ولذلك كانت مبادئ البرهان
اكثر في باب التصديق من العلم الحاصل بالبرهان؛ فاما المبادئ فلا تعلم بالبرهان
ولكنها تعلم بالعقل اذ كان ليس ها هنا شيء يدرك به ما هو اكثر تحقيقًا من البرهان

[Page 491] الا العقل، ولذلك كان العقل مبدأ المبادئ. وجميع هذه القوى عندما تحصّل
الشيء الذي هي قوية عليه هي على مثال واحد، اعني قوة العلم للمعلوم وقوة العقل
للمبادئ.

وهنا انقضى تلخيص هذه المقالة الثانية من معاني
⟪كتاب البرهان⟫ لارسطوطاليس، وتمّ بتمامها البرهان.

والحمد للّه على ذلك كثيرًا كما هو اهله.