[Back to Page][Download]

DARE.fulltext: FT109

Averroes, Talḫīṣ kitāb al-samāʾ wa-l-ʿālam (تلخيص كتاب السماء والعالم).

[Page 71]

[بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على النبي وعلى آله]
المقالة الأولى

[1ظ]
غرضه في هذا الكتاب التكلم في العالم وأجراﺋﻪ البساﺋط اﻷول، وفي جميع ما
يلحق العالم وأجزاﺋﻪ اﻷول. وما يقوله في هذه المقالة منحصر في عشر
جمال:
أ - في تحديد موضوعات هذه الصناعة.
ب - في تحديد الجسم الطبيعي، وأنه من بين المقادر تام..
ﺟ - في بيان أن العالم تام.
د - في بيان أن هاهنا جسما بسيطا مستديرا مباينا بطبيعته لكل واحد من
الأجسام البسيطة المتحركة حركة استقامة.

[Page 72]
ﻫ - في بيان ان هذا الجرم ليس بثقيل ولا خفيف.
و - في بيان أنه لا يقبل الكون ولا الفساد، ولا واحدا من أصناف التغايير
ماعدا الحركة في المكان، وان عدد البساﺋط خمسة.
ز - في أن الكل متناه بالعظم.
ﺣ - في بيان أن العالم واحد بالعدد لا أكثر من واحد.
ﻁ - في أنه ليس خارج العالم لاخلاﺀ ولا ملاﺀ.
ي - في بيان ان العالم غير مكون ولا فاسد، وانه ليس فيه قوة على
الفساد، وأنه ليس يمكن أن يكون شيﺀ مُكون غير فاسد، ولا يمكن أن يكون
شيﺀ غير مكون فاسدا.

[الجملة] الأولى

ولما كان هذا الكتاب هو أول جزﺀ شرع فيه أن يتكلم في شيﺀ شيﺀ من الأمور
المحسوسة الطبيعية الخاصة، إذ كان في الكتاب الذي قبله انما تكلم في الأمور
العامية، ابتدأ أوّلا يُعدّد هاهنا موضوعات هذه الصناعة فقال: إن جل
المعرفة بالأمور الطبيعية والعلم بها يكون في الأجسام، وفي الاعظام، وفي

[Page 73]
الكيفية الموجودة لها، وفي حركاتها، وفي مبادئ هذه الأشياﺀ الطبيعية
وأسبابها. وانما كان ذلك كذلك لأن ⎤الأجسام⎡ الطبيعية بالضرورة اما أن
تكون أجساما بسيطة، واما أن تكون ذوات أجسام بسيطة، وهي المركبة من
البسيطة، كالحيوان والنبات. ولكل واحد من هذين الصنفين أمور متقدمة عليها
وهي مبادﺋها، وأمور متأخرة عنها، وهذه توجد ثلاثة أصناف: اما اعظاما،
واما كيفيات استحالية، واما حركات. وانما جعل الاعظاخ جنسا آخر غير الأجسام
لأن العظم أعم من الجسم، إذ كان العظم منه مكان ومنه خط ومنه سطح ومنه
جسم.

[الجملة] الثانية

ولما عدّد موضوعات هذا العلم، شرع في تحديد الجسم الطبيعي، ولما كان
المتصل كالجنس للجسم، إذ كان يشتمل على الزمان والمكان والخط والسطح،
وكان وضع حده ضروريا في بيان حد الجسم، وذلك أنه إذا لم بيبن ان كل متصل

[Page 74]
منقسم، لم يبن ان كل جسم منقسم، ولذلك ابتدأ بحده أولا، ثم أتى بحد الجسم
فقال: ان المتصل هو المنقسم إلى أشياﺀ تقبل الانقسام داﺋما، ووضع هذا من
أمر المتصل هاهنا على أنه شيﺀ قد تبين في الكتاب المتقدم.
قال:
وأما الجسم فهو المنقسم إلى كل الابعاد. ويعني هاهنا بكل الابعاد الابعاد
الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، وذلك ان ما كان من الأعظام ذا بعد
واحد فهو الخط، وما كان ذا بعدين فهو السطح. وما كان ذا ثلاثة أبعاد فهو
الجسم. ولما كان لا يوجد هاهنا بعد رابع، إذ كان لا يوجد عظم رابع، استعمل
قوله: كل الابعاد، مكان الثلاثة الابعاد. وذلك ان الاعظام كلها ثلاثة، وتنفض
في ثلاثة، ولذلك اسم الكل والجميع والتام ينطلق على هذا العدد.
قال:
وقد شهد لذلك آل فوثاغورش، وذلك انهم كانوا يقولون: [2 و] ان الأشياﺀ
كلها محصورة في ثلاثة حدود، وتحد بثلاثة، إذ كان الكل والجميع له مبدأ ووسط
ومنتهَى، وهذا هو أول ولاحق للثلاثة، أعني أن الثلاثة أول الأعداد التي لها مبدأ
ومنتهَى ووسط.
قال:
ولكون طبيعة التثليث موجودة في الأشياﺀ بالطبع، ألزمنا أنفسنا تعظيم الاله بهذا

[Page 75]
العدد، وجعلناه شبه شريعة ⎤شبه⎡ لنا اقتداﺀ بفعل الطبيعة وذلك في التسابيح
والقرابين.
وقد يدل على ان اسم الكل والجميع لا ينطلق على ما دون الثلاثة، انا نقول
في الاثنين: كلاهما، ولا نقول: كلهم. واما في الثلاثة فنقول: كلهم وجميعهم.
واذا كان عدد الثلاثة يقال عليه اسم الكل والجميع، وكان هذان يقالان على
التام، فعدد الثلاثة عدد تام.
فقد تبين من هذا ان اسم الكل والجميع والتام ينطلِق على معنَى واحد
بالصورة. وانما تختلف هذه الأشياﺀ من قبل العنصر، وذلك انه متَى كان الموضوع
لذلك كمية منفصلة، كان أخص باسم الجميع، ومتَى كان كمية متصلة، كان
اخص به اسم الكل. ومتَى كان الموضوع لهذا المعنَى الصورة أو الكيفية، وبالجملة
ساﺋر المقولات، كان أخص باسم التمام.
وإذا وضع من أمر الجسم انه المنقسم فقط إلى ثلاثة أبعاد، وان ساﺋر الأعظام
منها ما ينقسم إلى بعد واحد فقط، ومنها ما ينقسم إلى بعدين، وانه لا يوجد
الانقسام إلى ثلاثة أبعاد الا للجسم فقط، ولا يوٴخذ عدد الثلاثة إلا في حده فقط
فبين من هذا ان الجسم وحده هو التام بين الأعظام، وان الخط والسطح ناقص،
إذ كان يوجد في حدّه هذا العدد الذي هو عدد تام، أعني الثلاثة. وأما الخط
والسطح فلما كان اﻟﻤﺄخوذ في حدهما عدد ناقص كانا ناقصين.
الا أنه لما كان هذا البيان ﻣﺄخوذا من حد الجسم، كان هذا الحد لا يبين
وجوده للجسم الا إذا تبين ان كل متصل منقسم، إذ كان كثير من الناس يرون أن
هاهنا أجساما وأعظاما غير منقسمة، وكان ذلك غير بين هاهنا بنفسه، وان كان قد
تبين ذلك في الكتاب المتقدم، أخذ يبين هذا المعنَى هاهنا للجسم، أعني أنه تام،
من أمر معروف بنفسه هاهنا لهذه الأعظام، فقال: انه ظاهر من أمر الجسم أنه لا
يمكن فيه الانتقال الى جنس آخر من الأعظام بزيادة بعد عليه، كما أمكن في الخط

[Page 76]
أن ينتقل إلى السطح بزيادة بعد عليه، وأمكن في السطح أن ينتفل إلى الجسم
بزيادة بعد عليه أيضا. وإذا كان ذلك كذلك فبين أن مالا يمكن فيه
الانتقال، فلا يمكن فيه الزيادة، وما لا تمكن فيه الزيادة فهو تام. وإذا كان
ذلك كذلك فالجسم من بين الأعظام هو التام، واما السطح والخط فناقصان.

الجملة الثالثة

ولما تقرر له أن الجسم هو العظم التام، أخذ يبين أن العالم بأسره يوجد له التمام
بجهتين:
احداهما من حيث هو جسم واحد. والجهة الثانية من حيث انه محيط بجميع
أجزاﺋﻪ، وانه ليس يحيط به شيﺀ، إذ كان هذا ﺷﺄن الكل. فالعالم اذن تام من
حيث ليس هو جزﺀا لشيﺀ، ومن حيث هو جسم، وأجراﺀ العالم تامة، ومن
حيث هي أجسام ناقصة، من حيث هي أجزاﺀ. فان الكل كالتمام والصورة
للجزﺀ، وسواﺀ كان الكل متناهيا أو غير متناه في وجود هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ له، أعني أنه
ليس من شرط وجود هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ للكل أن يكون متناهيا أو غير متناه،
وسنفحص عن ذلك بعد.

[Page 77]
فهذه جملة ما صدر به كتابه هذا.

الجملة الرابعة

ثم إنه بعد هذا شرع في الفحص عن أجزاﺀ العالم البسيطة، وابتدأ من ذلك
ﺑﺄشرفها وهو الجرم السماوي المتحرك دورا. وغرضه في هذا الفحص أن يبين أن
هاهنا جرما مستديرا بسيطا مباينا بطبيعته لطباﺋﻊ الاجرام البسيطة المتحرك [2 ظ]
حرك استقامة. وهو يقدم لبيان ذلك مقدمات: احداها أن لكل جسم طبيعي
بالذات حركة موضعية تخصه، وانما كانت الحركة ذاتية للجسم الطبيعي، لأن
الجسم الطبيعي انما كان طبيعيا بالطبيعة الموجودة فيه. وقد قيل في حد الطبيعة:
انها مبدأ الحركة، ولذلك كانت الحركة من الأمور الذاتية الخاصة بالجسم الطبيعي.
وثانيا أن كل حركة تكون في موضع فاما أن تكون مستقيمة واما أن تكون حركة
مستديرة واما أن تكون من هاتين الحركتين. واذا كان ذلك كذلك فالحركة البسيطة
هي نوعان فقط المستديرة والمستقيمة. والسبب في ذلك أن الاجرام المبسوطة هما
هذان الجرمان أعني المستقيم والمستدير، وذلك انه واجب أن تكون أنواع الحركات
على عدد أنواع الأبعاد.
ولما كانت الحركة المستديرة الطبيعية هي الحركة حول الوسط، والحركة المستقيمة
الطبيعية هي الحركة اما الى فوق واما إلى أسفل، أعني الحركة التي تكون من
الوسط والحركة التي تكون إلى الوسط، وقد كان تبين ان الحركات البسيطة هي
هذه، فواجب أن تكون الحركات البسيطة الطبيعية ثلاثة: اما مستديرة، واما من
الوسط، واما إلى الوسط. وهذا موافق لما قيل قبل من أن الجرم ركب من ثلاثة
أقدار، ولذلك كانت حركات الجرم أيضا ثلاثة.

[Page 78]
ولما تبين له عدد أنواع الحركات البسيطة الموجودة للاجسام الطبيعية، أمكنه أن
يبين من ذلك عدد الأجسام البسيطة الموجودة فإنه واجب أن يكون عدد الأجسام
البسيطة علـى عدَد الحركات البسيطة، وذلك أنه لما كان كل جسم اما بسيطا واما
مركبا من البسيط، وأعني بالبسيط ما فيه مبدأ حركة طبيعية في المكان، شبه
الأرض والماﺀ، لا حركة اختيار، شبه حركة الحيوان، كان واجبا ضرورة أن تكون
كل حركة طبيعية اما مبسوطة واما مركبة، وذلك أنه واجب أن يكون للجسم
البسيط حركة بسيطة، والا وجد للجسم البسيط أكثر من مبدأ واحد، فكان يكون
البسيط مركبا، وذلك خلف لا يمكن. واما الجسم المركب فواجب أن تكون حركته
مركبة. لكن ان كانت في جرم مركب على جهة الاختلاط والمزاج التام، فواجب
أن تكون حركته بحسب الجرم البسيط الغالب عليه. وان كانت على جهة
التجاور كانت حركة التفاف شبه ما يظهر في الزوابع. وإذا كان ذلك كذلك
فالحركة المبسوطة ضرورة تكون الجرم مبسوط، لأنها ان وجدت لجسم مركب، فانما
تكون له بحسب الجرم المبسوط الغالب عليه.
ولما تقرر له عدد الحركات البسيطة الطبيعية، وانه واجب أن يكون لكل حركة
بسيطة جرم بسيط، أنتج عن ذلك أنه واجب أن يكون للحركة المستديرة البسيطة
جرم مستدير يخصها، مباين بطبيعته لطباﺋﻊ الأجسام المتحركة حركة استقامة.
وذلك بأن وضع هذه الأشياﺀ التي بينت هاهنا بمنزلة المقدم، والنتيجة بمنزلة
التالي. وذلك انه إذا وضع أن الحركات البسيطة موجودة، وان المستديرة

[Page 79]
بسيطة وموجودة، وانه واجب أن يكون لكل حركة بسيطة جسم ما بسيط يتحرك
بها، فظاهر أنه يلزم عن ذلك أن يكون هاهنا جسم بسيط مستدير يتحرك بهذه
الحركة المستديرة ضرورة. لكل المقدم موجود، فالتالي موجود. وليس لقاﺋﻞ أن
يقول: انه ليس يلزم عن وجود الحركة المستديرة الا جسم يتحرك على استدارة، لا
جسم مستدير، شبه النار والهواﺀ اللذين يطهر من أمرهما أنهما يتحركان على
الاستدارة. وذلك أن الحركة المستديرة ليس يمكن أن توجد بالطبع الا لجسم
مستدير، وهو الكرة، فاما بالعرض فيمكن أن توجد لجسم غير مستدير، شبه
وجودها للنار والهواﺀ، والذي وضع في القول انما هو حركة مستديرة بالطبع، لا
حركة مستديرة باطلاق. فلذلك لزم أن يكون المتحرك بها جرما كريا ومستديرا،
والا يكون واحدا من المتحركات بالطبع حركة استقامة.
فهذا هو أحد البيانات التي استعملها أرسطو في بيان أن [3 و] هاهنا جسما
متحركا بطبيعته حركة استدارة.
وبيان ثان وهو أن هذه الحركة إذا أنزلناها طبيعية للجرم المتحوك بها، فلا يخلو
المتحرك بها أن يكون اما واحدا من الأجسام الأربعة البسيطة المتحركة حركة
استقامة، أو يكون جسما خامسا، وليس يمكن المتحرك بها ان يكون واحدا من
الأجسام الأربعة المتحركة حركة استقامة، فالمتحرك بها هو جسم خامس
ضرورة.

[Page 80]
فاما انه ليس يمكن أن يكون المتحرك بها بالطبع واحدا من الأجسام الأربعة.
فهو يبين ذلك بمقدمتين:
احدهما: أن الحركة الطبيعية ضد للحركة الخارجة عن الطبع.
والمقدمة الثانية: ان الواحد يضاد الواحد، وانه ليس يمكن أن يوجد للواحد
أكثر من ضد واحد. وهذه المقدمة يتسلم ⎤وجودها⎡ صاحب هذا العلم من صاحب
الفلسفة الأولى.
وإذا تقررت هاتان المقدمتان، وأنزلنا أن المتحرك بالطبع على استدارة هو نار أو
هواﺀ أو ما جانس هذه الاسطقسات المتحركة حركة استقامة، لزم ضرورة أن يكون
للحركة الواحدة أكثر من ضد واحد، وذلك أن لكل واحد من هذه الأجسام
الأربعة حركة طبيعية، وحركة مضادة لها خارجة عن الطبيعة، غير الحركة
المستديرة، مثل النار فإن لها الحركة الى فوق بالطبع، والحركة إلى أسفل خارجة
عن الطبع، وهي تضاد الحركة إلى فوق، فإن ألفيت لها بالطبع الحركة المستديرة
كانت هي الطبيعية، وكانت لها الحركة إلى فوق والى أسفل خارجة عن الطبع،
والخارجة عن الطبع مضادة للطبيعية، فتكون حركتان متضادتين لحركة واحدة،
وقد قبل ان الواحد يضاد الواحد، هذا خلف لا يمكن. وأيضا لو كانت هذه
الحركة المستديرة طبيعية لواحد من الأسطقسات الأربعة لكان للجسم الواحد حركتان
طبيعيتان، وذلك غير ممكن. وإذا كانت عرضية لكل واحد من هذه الأربعة،
فهي ضرورة طبيعية لجرم خامس. وليس لقاﺋﻞ ان يقول ان هذا الجسم المتحرك
حول الوسط، هو جسم خامس، ولكن هذه الحركة الدورية موجودة له بالعرض.
وذلك انه لو كانت له بالعرض لوجب أن تكون له حركة ما بسيطة بالطبع، وليس
هاهنا الا الحركة إلى الوسط، والحركة من الوسط. ولو كان له بالطبع واحدة من
هاتين الحركتين لكان واحدﴽ من هذه الأربعة، ولم تكن له طبيعة خامسة، فواجب
ﻣﺘَﻰ أنزلنا له طبيعة خامسة، أن تكون هذه الحركة له بالطبع. وﻣﺘَﻰ أنزلنا أن هذه
الحركة له بالطبع، وجب أن تكون له طبيعة خامسة.

[Page 81]
وبيان ثالث أيضا وذلك أن الحركة المستديرة متقدمة بالطبع على الحركة
المستقيمة، لأن الحركة المستديرة تامة، إذ كان لا يمكن فيها زيادة ولا نقصان.
والحركة المستقيمة ناقصة، إذ كان يمكن فيها الزيادة والنقصان. والعلة في كون
الحركة المستديرة تامة ⎤هو أن الداﺋﺮة تامة⎡ وذلك أنها متناهية بذاتها لا تمكن فيها
الزيادة والنقصان. والعلة في كون الحركة المستقيمة ناقصة، هو كون الخط المستقيم
ناقصا، وذلك انه ان وجد غير متناه كان ناقصا، لأن التام هو الذي له نهاية.
وان وجد متناهيا، فانما يوجد له التناهي من جهة غيره، أعني الذي يحيط به،
ولذلك يلزم ضرورة أن يتناهى الخط المستقيم إلى دَاﺋﺮة.
وإذا تقرر أن الحركة المستديرة أقدم من الحركة المستقيمة، فواجب أن يكون
المتحرك بهذه جسما أقدم من الجسم البسيط المتحرك الحركة المستقيمة. والأقدام
من البسيط بسيط ضرورة وطبيعي، وذلك أنه ان تحرك بها جسم مركب فانما
يتحرك بحسب الجسم الغالب عليه كما قلنا.
وبرهان رابع وهو أن كل حركة اما أن تكون عرضية أو طبيعية، وان كل حركة
تكون عرضية لجسم ما فانها تكون لآخر طبيعية. وهذه المقدمة تصح بالاستقراﺀ.

[Page 82]
وذلك أن الحركة إلى فوق، إن كانت قسرية للأرض [1 و: ﻋ]،
وعرضية، فهي طبيعية للنار، وكذلك ان كانت الحركة الى أسفل عرضية للنار،
فهي طبيعية للأرض. وإذا تقررت هاتان المقدمتان قلنا ان الحركة المستديرة [3 ظ]
إذا كانت عرضية لهذه الاجرام المتحركة حركة استقامة، على ما يظهر من امرها،
وجب ضرورة أن تكون طبيعية لجرم آخر.
وبرهان خامس وهو أن هذه الحركة المستديرة حول الوسط لا يخلو أن تكون
لهذا الجرم طبيعية أو عرضية. ومحال أن تكون عرضية، لأن الحركة العرضية لا
يمكن أن تكون داﺋﻤﺔ لافناﺀ لها، وذلك أن وضع هذا خارج عن كل قياس، لانا
نرى الأشياﺀ العرضية تفني وتبور. وقد بين في الكتاب الأول أن هذه الحركة
متصلة. وإذا لم تكن لهذا الجرم عرضية فهي له ضرورة طبيعية. وإذا كانت طبيعية
فلها ضرورة جرم طبيعي يخصها، كما يخص واحدة (واحدة) من الحركات
الطبيعية جرم (جرم) من الاجرام، شبه حركة الفوق التي تخص النار، وحركة
الأسفل التي تخص الأرض. ولو كان هذا الجرم المتحرك حول الوسط نارا، كما
زعم ذلك بعض الناس، لقد كانت تكون له هذه الحركة عرضية، لأن
الحركة الطبيعية للنار هي من الوسط، ولو كانت عرضية لفسدت على طول
الزمان.

[Page 83]
فمن هذه البراهين يبين، كما يقول أرسطو، انه واجب أن يكون هاهنا جرم آخر
غير هذه الاجرام التي تلينا وهو الجرم المحيط بها، وان تكون طبيعته أكرم منها
وأشرف. وبالجملة فيجب أن يكون بعد طبيعته من طباﺋﻊ هذه في الكرم كبعده منها
في الجهة والمكان.

الجملة الخامسة

قال:
ويستبين مما وصفنا من هذه المقاييس والبراهين ان هذا الجرم الأول الكريم
المتحرك حركة استدارة لا ثقل له ولا خفة. وأعني بقولي لا ثقل له ولا خفة،
لا العدم المطلق. بل القول الذي قوته قوة الايجاب، كما نقول في الحجر انه لا
صامت ولا ناطق، على ما تبين في باري أرمنياس. وانما يبين هذا إذا تبين ما هو
الثقيل والخفيف. (وهو يضع هاهنا أولا ما هو الثقيل والخفيف) ويرجىﺀ
التكلم عليه، والبرهان على ما يضعه هاهنا من أمره، إلى المقالة الرابعة.
فلنضع هاهنا ان الثقيل هو السالك إلى الوسط، والخفيف هو الصاعد من
الوسط. ولنضع أيضا أن الثقيل والخفيف قسمان: مطلق ومضاف. فالثقيل
المطلق هو الراسب تحت الأشياﺀ كلها المتحركة إلى أسفل، والخفيف المطلق هو
الطافي فوق جميع المتحركة من الوسط. وأما الخفيف والثقيل المضاف فهما
اللذان يوجد لهما ثقل وخفة لكن من جهتين وفي مكانين، كالحال في الهواﺀ

[Page 84]
والماﺀ، فان كل واحد منهما ثقيل بالإضافة إلى ما فوقه، خفيف بالاضافة إلى ما
تحته. وإذا وضع هذا من رسم الثقيل والخفيف، وكان الجسم المستدير قد تبين من
أمره أنه لا يمكن أن يتحرك إلى الوسط ولا من الوسط حركة طبيعية ولا عرضية.
فبين أن الجرم السماوي لا ثقيل ولا خفيف، فاما أنه لا يمكن أن يتحرك من الوسط
ولا إلى الوسط حركة طبيعية، فذلك ظاهر مما تقدم، وذلك انه لو تحرك واحدة من
هاتين الحركتين لكان من الأجسام الأربعة، ولم تكن له الحركة المستديرة بالطبع.
ولا يمكن أيضا فيه أن يتحرك واحدة من هاتين الحركتين بالعرض، وذلك أنه لو
تحرك من الوسط بالعرض لكانت له الحركة الى الوسط بالطبع، فكان يكون اما
أرضا واما ماﺀ. ولو تحرك بالعرض إلى الوسط لكان يتحرك بالطبع من الوسط فكان
يكون هواﺀ أو نارا ولم تكن له الحركة المستديرة بالطبع، أو يسلم ان له حركتين
بالطبع، فيلزم أن تكون حركة واحدة، وهى غير الطبيعية، تضاد فيه الحركتين
الطبيعيتين، وقد وضعنا ان الواحد يضاد الواحد. وأيضا فقد وضعنا أنه ﻣﺘَﻰ
كان للشيﺀ حركتان، وكانت احداهما طبيعية، كانت الأخرى عرضية، والعرضية
ضد للطبيعية، وسيبين أن الحركة المستديرة ليس لها ضد ولا للجرم المستدير.
وبيان ثان (أيضا) وهو أن من الأشياﺀالمعروفة بنفسها ان مكان الجزﺀ في
[1 ظ: ﻋ] الحركة المستقيمة هو مكان الكل، وذلك انه حيث تتحرك المدرة
الواحدة بعينها هنالك تتحرك [4 و] جميع أجزاﺀ الأرض. وكذلك حيث تتحرك
الشرارة الواحدة بعينها هنالك تتحرك النار بأسرها. وان هذا ينعكس، أعني أنه
حيث شأن الكل ان يتحرك إليه فشأن الأجزاﺀ أن تتحرك إليه. فلو كان هذا الجرم
ثقيلا أو خفيفا لكان من شأن أجزاﺋﻪ أن تتحرك إلى فوق أو إلى أسفل، ولو كان
ذلك لاحست في الزمان غير المتناهي. ولو كان ذلك كذلك لأمكن أن يفسد
وكانت حركته الدورية تكون قسرا.
فقد تبين من هذا القول أن الجرم المستدير لا ثقيل ولا خفيف.

[Page 85]

الجملة السادسة

ولما فرغ هذا أخذ يبين أن هذا الجرم الكريم غير كاﺋﻦ ولا فاسد، ولا يقبل
النمو ولا النقصان ولا الاستحالة الانفعالية، ولا بالجملة ما كان من الكيفيات
تابعا للاستحالة الانفعالية، مثل الصحة والمرض والشباب والهرم. وهو يبرهن
ذلك أولا بمقدمتين:
احداهما ان كل كاﺋﻦ وفاسد فاما أن يكون من ضده ويفسد إلى ضده، وأنه
واجب ان يكون لهما شيﺀ مشترك موضوع للضدين.
والمقدمة الثانية أن الجسم المستدير ليس له ضد.
فيلزم عن هاتين المقدمتين ان الجرم المستدير ليس بكاﺋﻦ ولا فاسد.
فاما المقدمة الأولى فظاهرة بنفسها وبالاستقراﺀ. وأما (ان) الجسم المتحرك
دورا ليس له ضد فهو أيضا يستعمل في ذلك مقدﻤَﺘﻴﻦ:
احداهما أن الأجسام البسيطة المتضادة يلزم ضرورة أن تكون حركتها متضادة،
إذ كانت الأجسام انما توصف بالتضاد من جهة صورها التي هي مبادﺉ الحركات،
ولذلك وجب أن تكون حركات المتضادة متضادة.
والمقدمة الثانية ان الجرم المستدير ليس لحركته ضد فيلزم عن ذلك ان الجسم
المستدير ليس له ضد. فأما ان الأجسام المتضادة يجب أن تكون حركاتها
متضادة فبينة بنفسها. واما ان الحركة المستديرة ليس لها ضد فهو يبين هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ في

[Page 86]
آخر هذا القول.
قال:
فقد وفقت الطبيعة الالهية إذ كان قصدها ان تصيّر هذا الجرم غير مكون ولا
فاسد بأن باعدته عن الأضداد. فان الكون والفساد يكون في الأضداد لا
محالة. وكذلك يبين (أيضا) أنه غير قابل للنمو ولا للنقصان. وذلك ان النامي
انما ينمو بالغذاﺀ الشبيه الوارد عليه، وذلك إذا انحل إلى المادة القريبة من جوهر
المغتذى والنامي ثم صار جزﺀا من جوهر النامي والمغتذى. مثال ذلك الخبز، فانما
يغذو إذا انحل الى صُورة الدم ثم صار جزﺀا من الحيوان. وبالجملة فالنمو هو
كون في أجزاﺀ النامي، والنقصان فساد فيها. وإذا امتنع فيه الكون والفساد
باطلاق، امتنع فيه النمو والنقصان. وكذلك تمتنع فيه الاستحالة الانفعالية،
لأن كل منفعل بهذه الاستحالة كاﺋﻦ فاسد ضرورة، إذ كان من شرط هذه
الاستحالة وجود الضد والموضوع، ولذلك يمتنع عليه أيضا ساﺋﺮ الكيفيات التي
الاستحالة الانفعالية شرط في وجودها، مثل الصحة والمرض والشباب والهرم.
وأعني هاهنا بالاستحالة الانفعالية، التي في الكيفيات المحسوسة، وبخاصة الكيفيات
الأربع التي هي أسباب الكون والفساد، أعني الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة.

[Page 87]
فاما ما كان من ساﺋﺮ الكيفيات ليست هذه الكيفية شرطا في وجودها فليس
يمتنع وجودها فيه مثل وجود الشكل والاضاﺀة.
قال:
فمن وقف على ما نسقناه من المقدمات والبراهين، وتبينها بيانا واضحا، تبين له
من أمر هذا الجرم الكريم أنه لا يقبل ﺷﻴﺌﺎ من هذه التغايير.
( قلت:
إذا تبين من أمر هذا انه ليس له ضد ولا موضوع فهو بسيط غير مركب من
هيولي وصورة، وهو كالعنصر بالفعل للصور المفارقة، وهو أشبه بالعنصر منه
بالصورة، وإن كان فيه شبه من كليهما، لأنه يشبهه من قبل أنه محسوس ومشار
إليه، وان فيه قوة في الأين، وانه جسم، ويشبه الصورة من جهة ما هو بالفعل،
وليس جوهره بالقوة).
قال:
والعيان يشهد لهذه البراهين والبراهين تشهد للعيان. يعني انه ليس يظهر
للحس في هذا الجسم شيﺀ من أنواع [4 ظ] التغير.
قال:
وقد يدل من جهة الاقناع أنه كذلك، ان جميع الأولين الذين اقروا بالله
والمالاﺋﻜﺔ قد اتفقوا على أن هذا الجرم هو موضع الروحانيين والملاﺋﻜﺔ الذين لا
يلحقهم كون ولا فساد. وانما اتفقوا على ذلك لأنه واجب أن يكون موضع [2
و: ﻋ] الأشياﺀ التي لا تقبل الكون رلا الفساد غير كاﺋﻦ ولا فاسد. وأيضا فقد
اتفقوا على أنه موجد الكون والفساد والتغيير ومخلقه، وواجب أن يكون مخلق التغيير

[Page 88]
غير متغير.
قال:
وقد يقنع أنه غير متغير ولا وستحيل، انه لم يزل في الدهور السالفة والاحقاب
الماضية بهذه الحال، وانه لم ينقل عنه أحد قط أنه تغير لا في كليته ولا في
جزﺋﻴﺘﻪ، ويستحيل أن يكون من شأنه أن يقبل (التغيير)، ولم يظهر ذلك فيه
بعد في هذا الزمان الطويل الذي نقلت الينا (فيه) حوادثه.
قال:
و(قد) يدل على أن ريتنا فيه ليس هو بدعا ان الأولين كانوا يرون
فيه مثل هذا الرأي، يعني الكلدانيين الذين كانت فيهم الحكمة موجودة قديما ثم
بادت. وذلك أنهم كنوا يعتقدون في هذا الجرم الأول أنه غير الأرض وغير النار
وغير الماﺀ و(غير) الهواﺀ، وانه داﺋﻢ الحركة سريعها. وعلى هذا المعنَى منه
كانوا يدلون عليه باسم الأثير، ولذلك سموه به، (لا) على ما ذهب إليه
انكساغورش فإنه كان يرى ان اسم الأثير انما يدل به على النار.
قال:

[Page 89]
فأﻣّﺎ ان عدد الأجسام البسيطة خمسة، فذلك يبين بما وضعنا ان عدد
الأجسام البساﺋﻂ على عدد الحركات البساﺋﻂ، وان الحركة البسيطة اثنتان فقط
مستقيمة ومستديرة، وان المستقيمة تنقسم إلى أربع حركات متضادة. وأما انها
ليست أكثر من خمسة فذلك يبين إذا تبين أن الحركة المستديرة ليس تنقسم إلى
حركات متضادة، كانقسام الحركات المستقيمة، فتكون هنالك أجسام مستديرات
متضادة كما هاهنا أجسام مستقيمة متضادة.
فأما ان الحركة المستديرة ليس لها ضد، وهو الذي وضعناه قبيل وضعا،
فأرسطو يبين ذلك على هذه الجهة التي أقول: وذلك انه ان كان للحركة المستديرة
حركة متضادة، فالحركة المستقيمة أحرى وأولى أن تكون لها ضدا من ساﺋﺮ
الحركات. لكن إذا كانت الحركة المستديرة ليست مضادة للحركة المستقيمة فليس
يوجد للحركة المستديرة ضد ألبته، وذلك انه إذا وجد ما هو أحرى وأوﻟَﻰ أن
يكون مضادا غير مضاد، كان ما هو أقل في ذلك أبعد من أن يكون مضادا.
فأما ان الحركة المستقيمة أحرى الحركات أن يظن انها ضد للحركة المستديرة،
فذلك يظهر من أن الحركة المستديرة تخالف الحركة المستقيمة بجزﺋﯿﻬﺎ اللذين تركبت
منهما. وذلك أن حركة المستديرة ﻣﺆلفة من حركة المحدب وحركة المقعر، وكلاهما
مخالف للحركة المستقيمة. وذلك أن المستدير يخالف المستقيم بمحدبه وَمقعره. ولما
كانت الحركة المستديرة تخالف الحركة المستقيمة بهاتين الحركتين، مع أن كل واحدة
منهما مضادة لصاحبتها، أعني حركة المحدب والمقعر، كانت المستقيمة أحرى
الحركات بأن تكون مضادة لها. وبالجملة فإن المستقيمة يظهر أنها أشد خلافا
للمستديرة من المستديرة للمستديرة.
وأما أن الحركة المستقيمة ليست ضدا للحركة المستديرة، فذلك يبين من أن

[Page 90]
الحركة المستقيمة تضاد الحركة المستقيمة. فلو كانت الحركة المستقيمة تضاد المستديرة
لكان للضد الواحد أكثر من ضد واحد. وأيضا فإن الحركة المستقيمة انما تضاد
الحركة المستقيمة من جهة تضاد الأماكن التي تتحرك إليها، ولسنا نجد تضادا بين
مكان المستدير ومكان المستقيم. وذلك ان الحركات انما تتضاد بما منه وما إليه.
أعني بما منه (الحركة) وبما إليه الحركة. واما الحركات المستديرة فلما كان فيها ما
منه [5 و] وما إليه واحدا بعينه، لم يمكن أن يكون بينهما تضاد. ولذلك يقول
أرسطو إن من زعم انه يوجد تضاد فيما منه الحركة المستديرة وما إليه، ،
شبه ما يوجد ذلك في المستقيمة، فقد أخطا، مثال ذلك (أنه) ان
توهم متوهم ﻣﺘَﻰ فرضنا متحركين تحركا على قوس أ ب احدهما من طرف
<من> أ إلى ب والآخر من ب إلى أ أن الحركة التي من أ إلى ب على قوس أ
ب، <ليست> تضاد الحركة من ب إلى ا. كما أن الحركة من أ إلى ب على
خط مستقيم، تضاد الحركة من ب إلى أ على ذلك الخط بعينه، وذلك أن الحركة
من أ إلى ب ليست حركة بين ﺷﻴﺌﻴﻦ هما في غاية البعد (من ب أو أ) من جهة
ما هي حركة على قوس، إذ كان يمكن أن يفرض بين نقطة ألف [2 ظ: ﻋ]
ونقطة ب ﻗﺴﱠﻰ لا نهاية لها. وقد قيل في حد الأضداد انهما اللذان البعد بينهما غاية

[Page 91]
البعد، أعني انه لا يوجد بينهما بعد أعظم منه، إذ كل بعد يقع بين نقطتين
على طريق الاستدارة يوجد بعد أعظم منه.
وإذا كان ذلك كذلك فالحركة من ا إلى ب انما تضاد الحركة من ب إلى ا من
جهة ما هي على بعد مستقيم. فان قيل انه إذا فرضنا قوس أ ب نصف داﺋﺮة
لم يمكن أن يقع بين أ و ب نصف داﺋﺮة غير ذلك النصف المفروض، فيكون
البعد الذي بين ا و ب على نصف الداﺋﺮة واحدا، ولا يمكن أن يكون هنالك بعد
أعظم منه من جهة ما هو نصف داﺋﺮة، فيكون (بعد) أ من ب على نصف
الداﺋﺮة في غاية البعد، إذ كان ليس يقع بين أ و ب نصف داﺋﺮة غير النصف
المفروض، قيل انه ليس يظهر بين نصف الداﺋﺮة والقسي التي تقع بين طرفي
القطر مقايسة، إذ ليس ينطبق جزﺀ نت نصف الداﺋﺮ على جزﺀ من تلك
القسي ولا يساوي جزﺀ منها جزﺀا، لأن المقايسة إنما تكون بين المنطبقة
المتساوية. ولذلك يظهر ان المستقيم هو المأخوذ في حدود المتضادة.
وذلك أن الخط المستقيم هو الذي يقدر به (أبعد) البعد، والمقدر يجب
ضرورة أن يكون من نوع المقدر فالبعد الذي هو نهاية البعد بين المتضادين هو
مستقيم ضرورة. وانما كان الخط المستقيم هو الذي يقدر به أبعد البعد بين اﻟﺸﻴﺌﻴﻦ
لأنه أصغر الخطوط الواصلة بين نقطتين، ولذلك قيل فيه انه مكيال، وانه أقصر
الخطوط.

[Picture]

[Page 92]
وإذا كان الأمر هكذا فالمضادة التي بين الحركة من أ والحركة من ب، ان
وجدت بينهما مضادة، فانما توجد من جهة ما هي على بعد مستقيم. وأيضا لو
سلمنا ان الحركة على نصف الداﺋﺮة من أ إلى ب مضادة للحركة التي (عليها)
من ب إلى أ، لم يمكن أن يتصور ذلك فيهما إلا من حيث يتحركان نصف
الداﺋﺮة فقط ولا يتممانها، لا من خيث يتحركان (في) الداﺋﺮة كلها. لأن
(حركة) الداﺋﺮة لهما واحدة بعينها، إذ كان ليس عليها نقطة بالطبع هي مبدأ
ولا ﻣﻨﺘﻬَﻰ بالطبع، أعني على المحيط.
وإذا كان ذلك كذلك فالمبدأ اﻟﻣﻨﺘﻬَﻰ لهما واحد بالطبع، وقد قلنا ان الحركات
المتضادة هي التي تكون من وبادﺉ متضادة وإلى نهايات متضادة. أعني من نقط
متضادة وإلى نقط متضادة. مثل: الحركة من فوق الى أسفل، ومن اليمين إلى
الشمال. وأيضا فإن أرسطو يقول انه لو كانت الحركة المستديرة تضاد الحركة
المستديرة، لكان وجود أحد الضدين باطلا. وذلك انه يزعم انه يلزم عن ذلك اما
الا توجد حركة مستديرة، أو يكون وجود أحد الضدين باطلا. فاما كيف يلزم
ذلك ﻓﻌﻠَﻰ ما أقوله: وذلك انه لما كان ظاهرا من أمر الحركة المستديرة انها واحدة

[Page 93]
بالنوع، فقط يلزم ضرورة. متى وضع أن حركة مستديرة تضاد حركة
مستديرة، ان يكون التضاد منها يوجد في النوع الواحد. وإذا فرضنا تضادا موجودا
في نوع من الأنواع لم يمكن أن يتوهم الا في أجزاﺀ شخص (شخص) من
أشخاص ذلك النوع، وذلك ان اﻟﻤُﺘﻀﺎدين لما كانا هما اللذان البعد بينهما في
الجوهر غاية البعد لم يمكن أن يتوهم ذلك في الأشخاص التي هي واحدة بالنوع،
أعني أن يضاد شخص منه شخصا (بكليته). وإذا كان ذلك كذلك فلم يبق
إلا أن يكون الشخص فيه أجزاﺀ [5 ظ] متضادة. ﻓﻤﺘَﻰ أنزلنا حركة ما مستدبرة
ﻣُﻀﺎدة ففي الحركة المشار إليها أجزاﺀ متضادة، فان تمانعت تلك الأجزاﺀ لم
تحدث هنالك حركة أصلا. فان غلب أحد الضدين كان وجود الضد الآخر
باطلا، وليس يلزم من وجودنا الحركات السماوية مختلفة الحركات في
الجهات، أعني أن بعضها يتحرك من المشرق إلى المغرب وبعضها بالعكس،
أن نقول أن هذه الحركات متضادة. فإنه ليس كل خلاف ضدا، وإنما الضد
الذي في غاية الخلاف. ولو كانت هذه المخالفة بينهما في الغاية لما كانت الحركة
المستديرة واحدة بالنوع، كما ان العربي لو كان يخالف الرومي مخالفة تامة لما كان
الانسان واحدا بالنوع. فالخلاف الذي يوجد للحركة المستديرة في هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ ليس
هو خلافا يوجب أن يكون بينهما تضاد، (والا لم تكم الحركة المستديرة واحدة
بالنوع، كما أن الخلاف الذي بين الرومي والبربري ليس خلافا بوجب أن يكون
بينهما تضاد) إذ كام من شرط المتضادة على الاطلاق ألا تكون واحدة [3 و:
ﻋ] بالنوع. ولو سلمنا أن الحركات المستديرة المختلفة الجهات، كثيرة بالنوع، لما
لزم عن ذلك أن تكون متضادة باطلاق. فإنه ليس يجب أن يكون كل ماهو غير

[Page 94]
<واحد> بالنوع أن يكون مضادا باطلاق <فانه ليس يجب> كما يلزم
فيما كانا متضادين باطلاق أن يكونا غيرين بالنوع.
(فقد تبين من هذا أن الحركات المستديرة ليس فيها تضاد.
وإذا كان ذلك كذلك فالجسم المستدير طبيعة واحدة وليس بكاﺋﻦ ولا
فاسد). وقد يظهر أن الجسم المستدير ليس فيه تضاد، وذلك أن علة التضاد
هو الفوق والأسفل، وعلة الفوق الأسفل هو الجسم المستدير، فالجسم المستدير هو
علة التضاد فليس فيه تضاد.
وهذا البرهان صحيح وان لم يذكره أرسطو.

الجملة السابعة

ولما فرغ من هذا أخذ يفحص أولا هاهنا عن العالم هل هو متناه أم غير متناه.
وإن كان متناهيا فهل هو واحد أم كثير. وجعل مبدأ الفحص عن ذلك بأن

[Page 95]
نظرهل يمكن أن يوجد جسم غير متناه باطلاق، أم ليس يمكن وجوده. وهو
يعرف أولا مقدار الوقوف على الحق والاصابة في هذه المطالب التي تتنزل منزلة
المبادﺉ لأشياﺀ كثيرة، ويقول: ان الوقوف على الحق فيها هو السبب في الوقوف
على الحق في أشياﺀ كثيرة، كما أن الخطأ الواقع فيها هو السبب للخطأ الواقع في
أشياﺀ كثيرة، مثل: الخطأ الواقع في القول بالجزﺀ الذي لا يتجزأ، فإنه يفضي
بصاحبه إلى أن يجحد كثيرا من علوم التعليم، وكثيرا من الأمور المحسوسة. ولذلك
من آثر الفحص عن هذا المطلب فقد آثر الفحص عن أمر ليس
⎤بيسير⎡، ولذلك لا تزال المناظرة في هذا المطلب بين الناس فيما سلف وفيما
يأتي إلى غابر الدهر.
وإنما كان ذلك لأن اﻟﻤَﺒﺎدىﺀ هي بالقوة جميع الأشياﺀ التي هي مبادىﺀ لها،
وأرسطو يشبه الخطا الواقع في هذه الأشياﺀ بالخطأ الذي يقع في أول الطريق، فكما
أن الخطأ الواقع في أول الطريقيفضي بالانسان الى خطأ كبير لأنه كلما بعد عن مبدإ
الطريق ازداد خطأ، ﺣﺘﱠﻰ انه يصير متوجها إلى ضد الجهة التي قصد السلوك إليها،
كذلك الأمر في الخطأ الواقع في الأشياﺀ التي هي مبادﺉ لأشياﺀ كثيرة. وكلما كان
المبدأ أعظم قوة، كان الخطأ الواقع فيه ﺗﺆول إلى خطأ أكثر وأعظم. وهكذا الأمر
في هذين المطلبين من أمر العالم، أعني أنه متناه أو غير متناه، وان كان متناهيا فهل
هو واحد أو كثير. فإن سبب اختلاف الناسِ فيما مضي وفيما يستقيل في كثير
من أمر الموجودات ليس ﺷﻴﺌا أكثر من اختلافهم في هذين المطلبين من أمر
العالم.

[Page 96]
قال:
ولذلك يحق علينا أن نفحص أولا هل يمكن أن يكون جسم غير متناه أو لا
يمكن، ثم نفحص بعد ذلك عن هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ في العالم. وهو يبين هاهنا انه ليس
يمكن أن يوجد جسم غير متناه بالفعل، ويستعمل في بيان ذلك بالجملة ثلاثة
براهيم اثنان منها مناسبان والثالث منطقي عام.

1 - البرهان الاول

قال:
لما كان كل جرم اما ان يكون [6 و] بسيطا واما مركبا، فالجرم غير المتناه
ضرورة ان كان موجودا فهو اﻣﱠﺎ بسيط واما مركب. لكن لما كان حال المركب في
ذلك تابعا لحال البسيط، وذلك انه ان كانت البساﺋﻂ متناهية في العظم والعدد
فواجب أن يكون المركب متناهيا، وان كانت البساﺋﻂ غير متناهية في أحد هذين أو
في كليهما فواجب أن يكون المركب غير متناه، رأى أن الواجب في ذلك أن يجعل
ابتداﺀ الفحص عن الأجسام البساﺋﻂ، وابتدأ منها بالجسم المستدير فبين من
أمره أنه متناه، وأتي في ذلك بستة براهين:
ا - البرهان الأول:
وهذا البرهان مبناه على مقدمات:
احدها ان كل جرم مستدير غير متناه يجب ضرورة أن تكون الخطوط الخارجة
من مركزه لا نهاية لها.
والثانية: انه إذا كانت الخطوط الخارجة نت المركز غير متناهية فانه يلزم ضرورة
أن تكون الأبعاد (التي بينها) غير متناهية، لأنه ان كان كلما كانت الخطوط
الخارجة من المركز أطول، كان البعد بينهما أعظم، أعني بين أطرافهما.

[Page 97]
فواجب ان كانت اﻟﺨُﻄﻮط غير متناهية أن تكون [3 ظ: ﻋ] الأبعاد بينها غير
متناهية، لأنه ﻣﺘَﯽ فرضنا أن البعد فما بينها يتزيد بتزيد الخطوط، وكان التزيد فيها
غير متناه، فواجب أن تكون الابعاد التي بينها غير متناهية.
والمقدمة الثالثة: انه لا يمكن أن يقطع المتحرك مسافة غير متناهية.
والمقدمة الرابعة: ان الجسم المستدير إذا أخرج من مركزه أكثر من خط
واحد، أمكن أن تتحرك تلك الخطوط ﺣﺘﱠﯽ تعود إلى الموضع الذي توهمت متحركة
منه، وان توهمنا واحدا منها ساكنا والآخر متحركا أمكن أن يتحرك المتحرك ﺣﺘﱠﯽ
ينطبق على الساكن.
ولما تقررت له هذه المقدمات قال:
ان الجرم المستدير ان كان غير متناه لزم الا توجد له حركة مستديرة، وذلك ان
المستدير، ان كان غير متناه، لم يمكن فيه أن يعرض ما فرضنا أنه واجب أن
يعرض للجسم المستدير، أعني أن تكون الخطوط الخارجة من مركزه تتحرك ﺣﺘﱠﯽ
تعود إلى الموضع الذي تحرك منه، وان تكون إذا توهم واحد منها ساكنا والآخر
متحركا أن يتحرك ﺣﺘﱠﯽ ينطبق المتحرك على الساكن. وإذا لم يمكن أن يعرض فيه
مثل هذا فليس توجد له حركة مستديرة، (والسماﺀ ظاهر من أمرها أن لها حركة
مستديرة). وانما كان الجرم المستدير غير المتناهي لا يمكن أن يعرض فيه ذلك
لما وصفنا من أن الابعادالتي بين الخطوط الخارجة من مركزه غير متناهية، وانه
ليس يمكن أن يفرغ المتحرك من قطع مسافة غير متناهية.

[Page 98]
مثال ذلك أنه ﻣﺘَٓٓٓﻰ فرضنا مستدير أ ب غير متناه، ومركزه ﺣ، والخطين

[Picture]

غير المتناهين الخارجين من مركزه خط ا ﺣ المخرج إلى غير نهاية وخط ﺣ
ب المخرج أيضا إلى غير نهاية، وتوهما (خط) ﺣ ب ساكنا، وخط أﺣ
متحركا، لم يمكن فيه أن ينطبق على خط ﺣ ب، إذ كان بعد ما بينهما غير
متناه، والمسافة غير المتناهية لا يمكن ان يقطعها متجرك أصلا. وإذا كان
ذلك كذلك فجرم أ ب ليس بمتحرك حركة استدارة لانا قد كنا وضعنا ان انطباق
خط أ ﺣ على (خط) ﺣ ب إذا توهمنا أحدهما ساكنا رالآخر متحركا من
خواص المستدير. فاذن ما وضع (خطا) مستديرا ليس بمستدير، وكل وضع
يعود باطلا فهو محال، فهذا هو البرهان (الأول).
ب - البرهان كل متحرك يتحرك في زمان متناه فإنه يتحرك حركة متناهية وفي
مسافة متناهية. وذلك شيﺀ قد تبين في السماع الطبيعي.
والثانية: ان كل ماهو متناه فلم مبدأ وطرف.
والثالثة: انه ان اخد من الزمان المتناهي زمان متناهي فالباقي متناه.
والرابعة: ان الجسم المستدير يتم زورته في زمان متناه.
والخامسة: ان الجسم المستدير غير المتناه إذا أجرخ من مركزه خط وانفد فيه مر

[Page 99]
إلى غير نهية، وكذلك إذا أخرج فيه وترمرّ أيضا إلى غير نهاية من طريفية.
ولما تقررت له هذه المقدمات وضع المستدير عليه أ ﺣ ب ووضع
الخط غير المتناهي الخارج من مركزه خط ﻫ ﺣ، والوتر غير المتناه من [6 ظ]
طريفة خط أ ب وقال:
لما كان من وضعنا ان الجسم المستدير يتم زورته في زمان متناه، فخط ﻫ ﺣ
إذا تحرك بحركة المستدير إلى أن يعود إلى موضعه تكون حركته ضرورة في زمان
متناه. وبين ان هذا الزمان ينقسم إلى زمانيين: زمان يكون فيه خط ﻫ ﺣ غير
مقاطع لخط ا ب غير المتناه من طرفيه، وزمان يكون فيه مقاطعا لخط أ ب سواﺀ
فرضنا خط أ ب متحركا إلى ضد الخهة التي تحرك إليها خط ﻫ ﺣ، أو توهمته
ساكنا. وإذا نقص من زمان الدورة التامة الزمان الذي كان فيه خط ﻫ ﺣ غير
مقاطع لخط ا ب بقي الزمان الذي يقاطعه فيه متناهيا وإذا كان الزمان الذي يقاطعه
فيه متناهيا فالحركة متناهية والمسافة متناهية.[4 و: ﻋ] وقد كان غير متناه، هذا

[Picture]

خلف لا يمكن وأيضا فكل متناه فلم مبدأ. وإذا كان ذلك كذلك فلقطع خط ﻫ
ﺣ أ ب مبدأ، وهي أول نقطة يلتقي عليها الخطال ويتصل احدهما بالآخر. لكن
إذا فرضنا الخطين غير متناهيين لم يمكن أن يوجد لهما أول نقطة يتقاطعان عليها،
وذلك أن الخطين اللذين يلتقيان بحسب الحركة على هذا الموضع، لما كان ليس
يمكن فيهما أن يلتقيا باحدى النقط التي في الوسط، فمن البين انه يجب أن يتصل
أحدهما بالآخر بالنقطة التي في طرفه أو كلاهما، والخط غير المتناه ليس له طرف،
فليس يتصل به (شيﺀ) ولا يوجد له مبدأ التقاطع، وقد أخذ موجودا له،
هذا خلف لا يمكن، لأنه قد تبين من أمر الجرم المستدير الذي بهذه الصفة أنه

[Page 100]
يوجد فيه مبدأ التقاطع لهذين الخطين، إذ كان يوجد لزمان التقاطع مبدأ.
فقد تبين من هذا القول أنه لا يمكن أن يكون الجرم المستدير لمتحرك حول
الوسط غير متناه.
ﺟ - البرهان الثالث: وهذا البرهان يقدم له مقدمتين:
احداهما: انه ﻣﺘَٓٓٓﻰ كان جسماان متناهيان احداهما مواز للآخر وموضوع إلى
جنبه، وتحرك كل واحد منهما في الجهة المفابلة لحركة صاحبه، أو تحرك أحدهما
والآخر ساكن، فان كل واحد منهما يقطع صاحبه في زمان متناه، ويفارقه، ولا
فرق بينهما في ذلك، إلا أنه إذا تحرك كل واحد منهما مقابل حركة صاحبه كانت
المفارقة أسرع.
والمقدمة الثانية: أنه ﻣﺘَٓٓٓﻰ كان عظمان على هذه الصفة، أعني أن أحدهما
موضوع إلى جنب الآخر ومواز له، وكان أحدهما غير متناه أو كلاهما غير
متناه، وتحرك أحدهما وسكن الآخر وتحركا معا على التقابل، فإنه ان سلمنا انه
يفارقه ويقطعه، لزم من ذلك أن يكون قطعه له في زمان غير متناه، وذلك انه قد
تبين أن المسافة غير المتناهية، ان قطعت، فانها تقطع بحركة غير متناهية في زمان
غير متناه، على ما تبين في السادسة من السمماع.
وإذا تقررت هاتان المقدمتان، وأنزلنا ان الجرم السماوي غير متناه، لزم أن

[Page 101]
يقطع المسافة المتناهية في زمان غير متناه. (فانا) نحس الفلك يقطع بأسره
الغلوة من الأرض في زمان متناه، فان فرضناه غير متناه لزم أن يقطع عظمان
أحدهما غير متناه والآخر متناه كل واحد منهما صاحبه في زمان متناه، وذلك خلف
لا يمكن.
د - البرهان الرابع: وهذا البرهان يقرر له أولا مقدمات ثلاث:
احداها: أن كل شكل متناه.
والثانية: (انه) ان وجد جرم غير متناه متحرك على استدارة فواجب ان
تكون حركته المستديرة غير متنهية.
والثالثة انه ان وجدت حركة مستديرة غير متناهية فواجب أن يوجد شكل
مستدير غير متناه.
فأما المقدمة الأولى فتظهر من رسم الشكل، وذلك انه لما كان الشكل هو
الذي يقول المهندسون في رسمه (انه) الذي يحيط به حد (واحد) أو
حدود، كان ظاهرا ان الذي يحيط به الحد، من جهة ما يحيط به الحد، متناه.
وأنت تتبين ذلك من الخط والسطح، فان الخط انما أمكن فيه تصور عدم التناهي
من جهة الطول فقط، لا من جهة فصله الخاص [7 و] الذي هو به ما هو، وهو
عدم العرض، إذ كان حده انه طول بلا عرض. وكذلك السطح انما يتخيل
فيه عدم التناهي من جهة الطول والعرض، لا من جهة العمق الذي هو فصله

[Page 102]
الذي به يحد. وبالجملة التناهي انما يوجد للشيﺀ من جهة الصورة، وعدم
التناهي من جهة المادة، ولما كان الشكل هو الصورة لم يمكن فيه تخيل مالا
نهاية له، ولذلك لا يمكن أن يوجد مثلث لا نهاية له، ولا مربع لا نهاية له، كما
(أنه) لا يمكن أن يتخيل شكل في قدم لا نهاية له.
وأما المقدمة الثانية وهي ان الجرم المستدير غير المتناه واجب أن تكون حركته
المستديرة غير متناهية (فهي ظاهرة مما تبين في السادسة من أن الجسم غير المتناهي
واجب أن تكون حركته غير متناهية. واما الثالثة) فبينة مما تقدم. وذلك أنه
ان كان قد تبين أنه ان وجدت حركة [4 ظ: ﻋ] مستديرة فواجب ان يوجد جسم
نستدير الشكل، فبين انه ان كانت الحركة المستديرة غير متناهية الدورة، أن
الشكل المستدير الوجود لها يكون غير متناه.
ولما تقررت له هذه المقدمات أخرجها مخرج قياس شرطي مركب فقال: ان كان
الجرم السماوي غير متناه لزم أن تكون حركته المستديرة غير متناهية، وان كانت
حركته المستديرة غير متناهية لزم أن يكون شكله المستدير غير متناه (ثم) استثني
>مقدم< نقيض التالي من القياس الشرطيالثاني، وهي المقدمة الأولى، فأنتج
نقيض المقدم من القياس الشرطي الأول، وهو أن الجرم السماوي لا يمكن أن
يكون غير متناه.
ﻫ - البرهان الخامس: وهذا البرهان يبين فيه أيضا أن المتحرك غير المتناهي
العظم لا يمكن فيه أن يتحرك على استدارة على هذه الصفة: فلننزل أن للجسم غير
المتناه المستدير مركزا، ولتكن عليه نقطة ﺣ، ونجيز على نقطة ﺣ خطا مستقيما
غير متناه من طرفيه وهو خط أ ب، ولنعلم على أ ب نقطة على غير المركز

[Page 103]
وهي نقطة ﻫ، ونخرج منها خطا على زاوية قاﺋﻤﺔ على خط أ ب، ونجعل هذا
الخط أيضا غير متناه من طرفيه أيضا وهو خط ﻫ ن، ونخرج من نقطة ﺣ خطا
غير متناه يقطع خط ﻫ ن وهو خط ﺣ ﺀ، ونتوهم خطي أ ب ه ن غير المتناهيين
ساكنيين، وخط ﺣ ﺀ متحركا بحركة المستدير، فمن البين أن خط ﺣ ﺀ ليس يمكن

[Picture]


فيه أن يقطع خط ﻫ ن لأنه غير متناه من طرفيه، وإذا لم يمكن فيه أن
يقطعه لم يمكن فيه أن يتحرك ﺣﺘﱠﻰ يعود في الجهة المقابلة له، وإذا لم يمكن فيه
ذلك لم يمكن فيه أن يتحرك على استدارة، لكنه متحرك على استدترة،
هذا خلف لا يمكن.
و - واما البرهان السادس فيقرر له أن الجسم السماوي المتحرك دورا يظهر من
أمره أن النقطة الواحدة منه، أي نقطة فرضت، تعود إلى الموضع الذي
كانت فيه في زمان متناه. فان انزلنا أن الجسم السماوي المتحرك دورا غير
متناه، ، لزم أن يكون البعد الذي هو فيه غير متناه، وان تكون النقطة
الواحدة، إذا عادت إلى الموضع الذي فارقته، قد قطع الجسم غير المتناه مسافة غير
متناهية في زمان متناه ودلك خلف لا يمكن على ما تبين في السماع الطبيعي.
وقد يمكن أن ﻳﺆتي بهذا البرهان على طريق الاستقامة هكذا: الجسم السماوي
المستدير يقطع البعد الذي هو فيه في زمان متناه، وما يقطع في زمان متناه فهو
متناه، وإذا كان الجسم السماوي في بعد متناه فهو متناه.

[Page 104]
فقد تبين من هذا القول أن الجسم السماوي متناه، وأنه لا يمكن أن يكون
غير متناه.
ولما تبين له هذا من أمر الجسم السماوي أخذ بعد ذلك يفحص عن هذا
اﻟﻤﻌﻨَﻰ في ساﺋﺭ الأجسام الأربعة، أعني هل يمكن أن يوجد واحد منها غير متناه أو
أكثر من واحد، فبين انها كلها متناهية ببيانين:
أحدهما على هذه الصفة: الأجسام الاربعة منها ما يتحرك إلى الفوق باطلاق
وهي النار، [7 ظ] ومنها ما يتحرك إلى أسفل باطلاق وهي الأرض، ومنها ما
يتحرك إلى فوق باضافة وإلى أسفل باضافة وهو الهواﺀ والماﺀ، فان الماﺀ يتحرك إلى
أسفل بالإضافة إلى الهواﺀ وإلى فوق بالإضافة إلى الأرض، وكذلك الهواﺀ يتحرك
إلى فوق بالإضافة إلى الماﺀ وإلى أسفل بالاضافة إلى النار. ولما كانت حركتا
الجسمين اللذين يتحرك أحدهما إلى فوق باطلاق والآخر إلى أسفل باطلاق
متضادتين، وجب أن يكون موضعاهما متضادين باطلاق، وهو الفوق
والأسفل باطلاق. فان كان أحد هذين الموضعين محدودا، فواجب أن يكون
الموضع الثاني محدودا من حهة ماهو ضد. وذلك انه يلزم أن يكون كل واحد
منهما من صاحبه في الغاية من البعد، وأن يكون تباعدهما تباعدا واحدا.
[5 و: ﻋ] وإذا كان هذا التلازم ﺑﻴّﻨﺎ من أمر هذين الموضعين، من جهة ماهما

[Page 105]
أضداد، وكان يظهر من أمر الموضع الأسفل انه محدود. فواجب ضرورة أن يكون
الموضع الأعلى محدودا. فاما الموضع الأصفل فبين انه محدود من أن الأشياﺀ
الثقيلة تتحرك من جميع نواحي العالم إلى الوسط، ولو كان الوسط غير محدود لما
تحركت الأشياﺀ الثقيلة الا من جهة واحدة فقط، وهي الجهة التي هي خارجة عن
المكان الذي إليه الحركة. وهذا أمر بين بنفسه.
وإذا كان هذان الموضعان محدودين فواجب أن يكون الجسمان اللذين في هذين
الموضعين محدودين، والجسمان اللذان في هذين الموضعين هما الأرض والنار،
فالأرض والنار محدودان متناهيانضرورة.
وإذا تبين أن هذين الطرفين محدودان. أعني العلو والسفل. تبين أيضا أن
الوسط بينهما محدود. فإنه من الأمور المعروفة بنفسها أن الأطراف إذا كانت محدودة
ان الأوساط محدودة، ولو كانت الاوساط غير محدودةوالأطراف محدودة، لكانت
حركات الأجسام التي تتحرك من الأطراف وإلى االأطراف غير متناهية، وما هو غير
متناه فلا يمكن أن يقطع، فكان يجب ألا تصل هذه الأجسام في وقت من
الأوقات إلى مواضعنا الطبيعية، أعني المتحركة من طرف إلى طرف. وبالجملة فقد
تبين في السماع الطبيعي انه لا يمكن أن توجد نقلة مستقيمة لا نهاية لها. وإذا
كانت المواضع التي في الوسط محدودة فالأجسام التي فيها محدودة، والجسام التي
في فيها هي الماﺀ والهواﺀ، فالماﺀ والهواﺀ محدودان متناهيان ضرورة.
فهذا هو أحد البيانين الذي يبين به ان الاسطقسات الأربعة متناهية
البيان الثاني: وهذا البرهان مخرجه هكذا:

[Page 106]
لما كان كل واحد من (هذه) الأجسام الأربعة، اما ثقيلا واما خفيفا،
فأقول: انه ان كان واحد منها غير ﻣُﺘِﻨﺎه، فواجب ضرورة أن يوجد ثقل غير متناه
أو خفة غير متناهية، لكن ليس يمكن أن يوجد ثقل ولا خفة غير متناهيين،
فواجب الا يوجد واحد منهما غير متناه. .أما صحة اللزوم المأخوذ هاهنا بين
المقدم والتالي، أعني أنه ان وجد واحد من الاسطقسات الأربعة غير متناه
فإنه يلزم أن يوجد ثقل غير متناه أو خفة غير متناهية، فإنه يبرهن على هذه
الجهة: ان لم يكن ثقل الجسم غير المتناهي غير متناه، فليكن متناهيا، وليكن هذا
الجسم غير المتناهي عليه خط ا ب، وثقله المتناهي عليه حرف ﺣ، ونفصل
من الجسم غير المتناهي المرسوم عليه أ ب جزﺀا متناهيا وليكن ب ﺀ، ولنفرض
ثقل هذا الجزﺀ عليه حرف ﻫ [ولنفرض ثقلا آخر أعظم منه عليه حرف ﺣ].

[Picture]

[Page 107]
فمن البين ان ثقل ﻫ أقل من ثقل ﺣ، وإلا كان ثقل الكل والجزﺀ واحدا.
ولنضعف ثقل ﻫ الأضغر بتضعيف جسمه الذي هو ب ﺀ إلى أن يكون
مساويا لثقل ﺣ الأعظم، وليكن العظم الذي له هذا الثقل المساوي لثقل ﺟ عظم
ﺣ ز، فتكون نسبة ثقل ﻫ الأصغر الى ثقل ﺟ الأكبر، هي نسبة عظم ب
ﺀ الأصغر، إلى عظم ب ز الأكبر. وإذا بدلنا تانسبة، على ما تبين في
الخامسة من أوقليدس، كانت نسبة ثقل ﻫ الأصغر إلى عظم ب ﺀ الأصغر،
هي نسبة (ثقل) ﺣ الأكبر إلى عظم ب ز الأكبر، ولبكن ثقل ﺣ [8 و]
(قد) كنا وضعناه لجسم ب ا غير المتناه، فيكون ثقل واحد موجودا لجسم
متناه وغير متناه معا. هذا خلف لا يمكن، فان ثقل الجسم الأعظم أعظم
ضرورة.
وأشنع من هذا أنه يلزم (من) هذا الوضع أن يكون ثقل عظم متناه
أعظم من ثقل جسم غير متناه. وذلك بأن نفرض عظما أعظم من ب ز وهو مثلا
عظم ب ﺣ. وإذ قد تقررت صحة الاتصال في هذا القياس الشرطي،
فالذي بقي تصحيح اﻟﻤﺴﺘﺜﻨَﻰ الذي هو مقابل التالي، وهو أنه لا يوجد ثقل غبر متناه
ولا خفة غير متناهية، وذلك يبين بان نقدم له ثلاث مقدمات:

[Page 108]
احداها: انه ﻣﺘَﻰ كان ثقل ما يتحرك مسافة (ما) في زمان ما، فان
(ما) كان أكثر ثقلا منه فانه يتحرك تلك المسافة في زمان أقل وذلك داﺋﻤﺎ.
والمقدمة الثانية: ان نسبة الزمانين أحدهما إلى الآخر هي نسبة الثقل إلى الثقل.
(والمقدمة) الثالثة [5 ظ: ﻋ] ان كل عظم متناه فهو يتحرك المسافة
المتناهية في زمان متناه على ما تبين في السادسة.
وإذا تقررت هذه المقدمات فأقول: انه إن وجد ثقل لا نهاية له، لزم ضرورة
أحد أمرين: أما ان يتحرك في الآن، واما ان يتحرك في زمان واحد بعينه
مسافة واحدة بعينها ثقل متناه وغير متناه، وكلا الأمرين ممتنع. وذلك انه لما كان
ماهو أكثر ثقلا فهو يقطع المسافة بعينها في زمان أقل، وكانت نسبة الزمان الى
الزمان هي نسبة الثقل الى الثقل، أعني الأصغر إلى الأعظم، فإذا أنزلنا ثقلا لا
نهاية له وثقلا له نهاية قد نحركا معا مسافة واحدة بعينها، لزم ضرورة أن تكرن نسبة
الزمان إلى الزمان، (هي) نسبة الثقل إلى الثقل، وليس بين ما يتناهى وبين
مالا يتناهى نسبة الا نسبة النقطة إلى الخط والآن إلى الزمان.
وإذا كان ذلك كذلك، فواجب أن يتحرك الثقل غير المتناهي تلك المسافة في
الآن، وذلك غير ممكن، على ما تبين في السماع الطبيعي. فإن انزلنا أنه
يتحرك في جزﺀ من الزمان هو في نهاية القلة، أمكن أن نجد ثقلا متناهيا آخر
تكون نسبة إلى الثقل الأصغر نسبة الزمان إلى الزمان، فيكون في زمان واحد بعينه

[Page 109]
يتحرك مسافة واحدة بعينها ثقل متناه وغير متناه.
وأشنع من ذلك أنه قد يمكننا أن نأخذ (زمانا) أصغر من ذلك الزمان
الذي تحرك فيه غير المتناه، ونأخذ قفلا تكون نسبة إلى الثقل الأصغر نسبة الزمان
إلى الزمان، فيكون هذا الثقل الأعظم المتناهي المأخوذ يتحرك تلك المسافة في زمان
أصغر من الزمان الذي يتحركها فيه غير المتناه، وذلك ممتنع مستحيل.
وبالجملة ﻣﺘَﻰ فرضنا ثقلا غير متناه متحركا لزم ألا يتحرك، وذلك نقيض ما
وضع.
فقد استبان من هذا القول أنه لا ﻳﻤْﻜﻦ أن يكون ثقل لا نهاية له ولا خفة لا
نهاية لها. وإذا كان ذلك كذلك، فقد تبين ما قصدنا انتاجه وهو أنه لا
يوجد جرم بسيط من الاجرام الأربعة غير متناه.

[Page 110]
وإذا تقرر انه لا يوجد جسم بسيط لا نهاية له لا يتحرك حركة استقامة ولا
يتحرك دورا، وكانت الأجسام البساﺋﻄ منحصرة في هذه القسمة، فأقول: انه لا
يوجد جسم مركب لا نهاية له، برهان ذلك: انه ان كان غير متناه، فاما أن
يكون مركبا من أشياﺀ غير متناهية في الصورة أو في العظم أو في العدد. ومحال أن
تكون هاهنا أجسام بسيط غير متناهية في الصورة، لأنه قد تبين أن صور البساﺋﻂ
ناتلهية، لأن الحركات البساﺋﻄ متناهية، ولكل جرم بسيط حركة بسيط. وأيضا
لو كانت الأجسام البساﺋﻂ بلا نهاية في الصورة لكانت المواضع لا نهاية لها.
وبالجملة فقد تبين من القول المتقدم ان الأجسام البساﺋﻂ خمسة. وأقول أيضا:
(أنه) ان كانت غير متناهية بالعدد، لزم أن يوجد منها جسم واحد غير متناه
بالعظم، مثل أن تكون أجزاﺀ موجودة للنار لا نهاية لها، وكل واحد منها متناه،
فإنه يلزم أن توجد نار لا نهاية لها بالعقل، إذا تماست تلك الأجزاﺀ وانضم بعضها
إلى بعض. وقد نبين استحالة وجود واحد [8 ظ] من الأجسام البسيطة غير متناه
في العظم. وإذا تبين أنه لا يمكن أن يكون مركبا من أشياﺀ غير متناهية في العظم
ولا في الصورة ولا في العدد، فليس يمكن أن يوجد جسم بالفعل لا نهاية له.
فهذا هو البيان الأول في أنه لا يوجد جسم غير متناه بالفعل لا مركب ولا
بسيط.

2 - البيان الثاني:

وهذا البيان يبني على مقدمتين:

[Page 111]
احدهما ظاهرا بالاستقراﺀ، والأخرى يبرهن عليها. أما المقدمة الظاهرة
بالاستقراﺀ فهي ان كل جسم محسوس فهو اما >محسوس< فاعل فقط
كالاجرام السماوية، واما منفعل وفاعل كالاجرالململموسة.
واما المقدمة المبرهنة فهي ان الجسم غير المتناه لا يمكن أن يكون فاعلا ولا
منفعلا. وأعني بالفاعل هاهنا [6 و: ﻋ] والمنفعل ما انقضت حركته وتم
فعله وانفعاله، لا ماهو في حركة داﺋﻤﺔ. فإنه قد تبين أنه ﻳﻠﻔَﻰ تغير داﺋﻢ الا
في البعد في المكان. وهو يقدم لبيان هذه المقدمة ثلاث مقدمات:
احداهن: ان منفعلين المتساويين ينفعلان عن الفاعل الواحد في زمان واحد
بعينه انفعالا سواﺀ، وان المنفعل الأصغر ينفعل عنه في زمان أصغر، والمنفعل
الأكبر في زمان أكبر.

[Page 112]
والمقدمة الثانية: انه إذا فعل فاعلان مختلفان في زمان سواﺀ، وتم فعلهما، فان
نسبة الفاعل إلى الفاعل نسبة المنفعل إلى المنفعل.
(والمقدمة) الثالثة: ان كل فاعل فانه يفعل في المنفعل في زمان متناه،
أعني تنقضي فعله. فإنه لا يمكن أن يكون فعل متناه في زمان غير متناه على ما
تبين.
ولما تقرر له هذا أخذ يبين هاهنا منها ثلاثة أمور:
أحدها: انه لا يمكن أن يفعل متناه في غير متناه فعلا منقضيا.
والثاني: انه لا يمكن أن يفعل غير متناه في متناه، وهو عكس الأول.
والثالث: أنه لا يمكن أن يفعل غير متناه في غير متناه.
فلنبين أولا انه لا يفعل متناه في غير متناه، ولنضع غير المتناهي المنفعل
عليه (خط) ا، والمتناهي الفاعل خط ب ثم ننزل ان ب يفعل في أ في زمان
متناه، وليكن عليه ﺣ، ولنأخذ جسما أصغر من ب المتناهي وهو مثلا ﺀ يفعل
أيضا في جسم آخر وليكن عليه ﻫ فعلا منقضيا في زمان ﺣ بعينه فتكون نسبة ﺀ
الفاعل الأصغر إلى ب الفاعل الأكبر، كنسبة ﻫ المنفعل المتناه إلى جزﺀ من المتناه
ضرورة وليكون عظم أ ز، فإذا بدلنا النسبة كانت نسبة الفاعل الأولى إلى المنفعل
الثالث، نسبة الفاعل الثني إلى المنفعل الرابع، أعني تكون نسبة ﺀ إلى ﻫ هي نسبة
ب أ إلى ز، فتكون ب في زمان واحد، وهو رمان ﺣو تفعل فعلا منقضيا في
متناه وغير متناه معا، أعني في أ ز وفي أ بأسره غير المتناه. وذلك محال.

[Page 113]
وبمثل ذلك يبين أنه لا يحرك ما لا نهاية له ماله نهاية

[Picture]


فليكن الذي لا نهاية له الفاعل أ، والمتناهي المنفعل ب، ولننزل
ان غير المتناهي وهو أ يفعل في ب المتناهي في زمان ﺣ، ونضع
جسما متناهيا وهو ﺀ يفعل في جزﺀ من ب، وهو ب ز، في زمان ﺣ بعينه،
فتكون نسبة ب ز المنفعل، إلى ب بأسره المنفعل، هي نسبة ﺀ الفاعل إلى فاعل
آخر متناه وهو ﻫ. فإذا أبدلنا النسبة كانت نسبة ﺀ الفاعل إلى ب ز المنفعل هي
نسبة ﻫ الفاعل أيضا إلى ب بأسره، فيجب أن يكون ب تتحرك عن ﻫ في الزمان
الذي يتحرك فيه ب ز عن ﺀ وهو زمان ﺣ. وفي هذا الزمان بعينه تتحرك ب عن أ
غير المتناه، هذا خلف لا يمكن. وهذا المحال انما يلزم عن تسليمنا ان عير المتناهي
يفعل في زمان متناه، وقد كان يجب أن يكون فعله في غير زمان، لأنه لا نسبة بين
الفاعل المتناهي وغير المتناهي الا نسبة الخط إلى النقطة، والآن إلى الزمان. فانا
ﻣﺘَﻰ وضعنا بالجملة فاعلين مختلفين يفعلان في مفعول واحدا فعلا واحدا

[Page 114]
كان ضرورة فعلاهما في زمانين مختلفين، وكانت نسبة الزمان [9 و] إلى الزمان، هي
نسبة الفاعل إلى الفاعل. فان فرضنا فاعلين أحدهما متناه والآخر غير متناه يفعلان
في مفعول واحد فعلا واحدا، لزم ضرورة أحد أمرين:
اما أن نضع فعل الفاعل غير المتناه في الآن. واما أن نضع فعل الفاعل المتناهي
في زمان غير متناه. وكلا الأمرين محال.
وكذلك يبين أيضا أن الجرم الذي [6 ظ: ﻋ] لا نهاية له لا يمكن أن يفعل
فما لا نهاية له لأنه لما امتنع ان يوجد فعل غير منقض ولا انفعال غير
منقض، على ما تبين في السماع، كان إذا تبين أنه لا يفعل غير المتناهي فعلا
منقضيا في غير المتناهي، تبين أنه لا يفعل الغير المتناهي في الغير المتناهي باطلاق.
فاما كيف يبين ذلك فعلى هذه الجهة:
فلننزل هاهنا ﺷﻴﺌﻴﻦ غير متناهيين وهما أ و ب، وننزل ان احدهما، وهو
ب، ينفعل من أ في زمان ﺟ المتناهي، لأن الفعل المتناهي انما يكون في زمان
متناه ضرورة، على ما تبين في السماع، ونضع جزﺀا من المنفعل وهو ب ﺀ ينفعل
من أ ومن البين أن ذلك يكون في زمان أقل من زمان ﺣ، فليكن هذا الزمان

[Picture]

[Page 115]
زمان ز، فتكون نسبة زمان ز إلى زمان ﺣ، هي نسبة (زمان) ب ﺀ الذي
هو جزﺀ المنفعل غير المتناه، إلى جزﺀ آخر منه أعني من ب غير المتناه أعظم
من جزﺀ ب ﺀ، وهو جزﺀ ب ﺀ ﻫ، فيكون ب ﺀ ﻫ ينفعل من أ غير المتناه في
زمان ﺣ، وقد كان في هذا الزمان بعينه ينفعل منه ب بأشره غير المتناه، هذا
خلف لا يمكن، أعني أن يكون منفعلان أحدهما متناه والآخر غير متناه
ينفعلان عن فاعل واحد فعلا واحدا في زمان واحد، سواﺀ كان ذلك الفاعل
الواحد غير متناه، كما فرضناه (أولا) في هذا الوضع، أو متناهيا. والجملة
لو أمكن في غير المتناهي أن ينفعل عن غير المتناهي، لكان هنالك انفعال غير متناه
في زمان غير متناه، وقد تبين أن ذلك كله محال.
وإذا كان لا يمكن أن ينفعل غير المتناهي ﻋَﻦ غير المتناهي، لا في زمان متناه
ولا في غير متناه. فغير المتناهي لا يمكن أن ينفعل عن غير المتناهي باطلاق.
وإذا تقرر لك غير المتناهي لا يمكن أن يفعل، وتقرر لك ان كل
جسم محسوس فهو اما فاعل واما منفعل، فهو ظاهر لك ان كنت فد قرأت
انا لوطيقي الأول أن هاتين المقدمتين تنتج في الشكل الثاني انه ولا جسم واحد
محسوس غير متناه.
وإذا تبين أنه لا يوجد جسم بسيط ولا مركب غير متناه في العظم، فمن البين
أن العالم متناه في العظم، إذ كان مركبا من بساﺋﻂ متناهية في العدد والصورة
والعظم. وليس لقاﺋﻞ أن يقول انه يمكن أن يوجد خارج العالم جسم لا نهاية

[Page 116]
له، فإن الخارج والداخل يدلان على مكان، وكل جسم هو في مكان فهو
محسوس، وكل محسوس فهو متناه، فليس هارج العالم جسم لا نهاية له. وإذا
تبين أنه ليس خارج (العالم) مكان، وكل جسم في مكان، تبين أنه ليس
خارج العالم جسم أصلا. لا متناه ولا غير متناه. وإذا لم يوجد خارج العالم
جسم وكانت أجزاؤه البساﺋﻂ متناهية في العظم والعدد، فالعالم متناه ضرورة.
فهذان البيانان هما الذاتيان اللذان استعملهما أرسطو في بيان هذا المطلب.

3 - واما البيان الثالث

فهو من جنس البيانان التي تعرف بالمنطقية
وهي تأتلف من المقدمات العامة الصادقة التي ليست بخاصة بالجنس المنظور فيه.
وهذا هو الفرق بينها وبين المقدمات الذاتية. فان المقدمات الذاتية خاصة بالجنس
المنظور فيه ومناسبة له. والفرق أيضا بين هذه المقدمات المنطقية وبين المقدمات
الجدلية، ان هذه صادقة بالكل بالذات، والجدلية كاذبة بالجزﺀ وليست صادقة
بالكل الا بالعرض. وهو يستعمل هاهنا من هذا الجنس من البرهان، أعني الذي
يأتلف من المقدمات العامة الصادقة براهين:
أحدها: انه إن وجد هاهنا جسم بسيط لا نهاية [9 ظ] فلا يخلو أن يكون

[Page 117]
متصلا أو منفصلا متفرقا كما يعتقدة ديمقراطيس ولو قيش في الأجزاﺀ التي لا
تتجزأ. فإن كان متصلا فلا تخلو حركته ان تكون مستديرة أو مستقيمة، فان
كانت مستديرة كان لها ضرورة وسط، لأن الجسم المستدير هو الذي يدور حول
الوسط. وماﻟُﻪ وسط [7 و: ﻋ] فله أطراف، وماله أطراف فهو متناه. وأما الجسم
غير المتناه فليس له وسط، إذ ليس له أطراف، فإن الوسط انما يقال بالاضافة إلى
الأطراف. فالجسم غير المتناه، ان وجد، لم يمكن أن تكون حركته مستديرة، فقد
بقي أن تكون (خركته) مستقيمة. لكن ان كانت حركته مستقيمة،
احتاج ضرورة إلى موضعين كل واحد منهما غير متناه أحدهما ما منه يتحرك، وهو
الموضع القسري، والآخر (ما) إليه يتحرك، وهو الموضع الطبيعي الذي فيه
يسكن. وإذا مانت المواضع اثنين، فواجب أن يكون كل واحد منهما متناهيا،
وان يكون الجسم الحال فيهما متناهيا، فإن غير المتناهي ليس يمكن فيه أن
يوجد في موضعين اثنين بالعدد. وأيضا إذا كان له مكانان وجب أن يتحرك في

[Page 118]
أحدهما قسرا، وفي الآخر طبعا فان وجدت له الحركة التي بالقسر، وجب أن
يوجد جسمان غير متناهيين. وذلك أن المتحرك قسرا يجب ضرورة أن تكون له قوة
غير متناهية، ويكون غير متناه ضرورة. وإذا كان هنالك جسمان غير متناهيين
فهنالك مكانان غير متناهيين، وذلك مستحيل، فإن المكان محدود. إذ قد
تبين من أمره انه النهاية المحيطة.
وبيان آخر أيضا: وهو أنه ان كان يوجد جسم غير متناه فهو اما يتحرك بذاته
ومن تلقاﺋﻪ واما يتحرك من غيره. لكن ان تحرك من ذاته كان حيوانا،
وكل حيوان حساس، وكل حساس فله محسوسات من خارج تحيط به، وما هو
بهذه الصفة فهو متناه. وان كان المحرك له من خارج، كان جسما غير متناه،
فيكون الجسمان غير المتناهيين اثنين، وذلك محال. لأن مجموعهما يكون أعظم من
كل واحد منهما، فيكون مالا نهاية له أعظم مما لا نهاية له.

[Page 119]
وبيتن ثالث أيضا: وهو ان الجسم غير المتناه، ان كان متحركا حركة استقامة
فاما أن يكون ثقيلا أو خفيفا. فان كان خفيفا، كان في أفق الكل. وان كان ثقيلا
كان في ،سطه. وما كان غير متناه فليس له أفق ولا وسط، وما ليس له أفق ولا
رسط فليس له موضع محدود، وما ليس له موضع محدود فهو غير متحرك، وكل
جرم طبيعي فهو ضرورة متحرك، اما حركة طبيعية واما عرضية، ولذلك هي
باضطرار في مواضع محدودة.
وبيان رابع وهو: ان الحرم غير المتناه ان كان موجودا كانت له طبيعة واحدة،
لأنه يجب أن يكون غير متناه من جميع جهاته. وإذا كانت له طبيعة واحدة، كان
الموجود جسما واحدا فقط، اما ثقيلا فقط واما خفيفا فقط. لكن بعض
الأجسام ثقيل وبعضها خفيف، فالجسم غير المتناه غير موجود. واما ان كان
الجسم غير المتناه منفصلا ومفترقا في المكان، على ما يقول أصحاب هذا الرأي،
فإنه يلزمهم أن تكون له طبيعة الأجسام المتحركة بطبيعة واحدة، أعني أن تكون
كلها اما ثقيلة واما خفيفة، وذلك ان أصحاب هذا القول يسلمون ان طبيعة هذه
الأجزاﺀ غير المتناهية طبيعة واحدة، ﻓﻴﺆدي القول إلى المحال المتقدم.
فقد تبين من هذه الأقاوبل التي نسقناها ان لجرم الكل نهاية، وانه لا
يمكن أن يكون غير متناه.

[Page 120]

الجملة الثامنة

قال:
وقد ينبغي أن نفحص الآن هل يمكن أن تكون عوالم كثيرة أو العالم
واحد. وما يقوله في هذه الجملة فيه فصول ثمانية:
الأول: فيه تعديد المقدمات التي يبين بها هذا المطلب.
الثاني: يقيم فيه البرهان على أن العالم واحد.
الثالث: يحل فيه شكوكا توهم ان العوالم كثيرة.
الرابع: يبين فيه بعض المقدمات التي أنتج منها ان العالم واحد.
الخامس: يأتي فيه ببرهان من الفلسفة الأولى.
[7 ظ: ﻋ] السادس: يأتي فيه ببرهان ثالث طبيعي قريب القوة من البرهان
الأول.

[Page 121]
السابع: يأتي فيه بشك يمكن أن (يقال) من أجله أن العوالم كثيرة
ويحله.
(10و) [21 و] الثامن: يأتي فيه بالسبب الذي كان العالم من أجله واحدا ولم
يكن كثيرا.

الفصل الأول

- فأما المقدمات التي يقررها فمنها: ان كل جسم
طبيعي فاما أن يكون ساكنا، واما أن يكون متحركا. وان كان متحركا فاما أن
يكون متخركا حركة طبيعية، واما قسرية. وان كان أيضا ساكنا فاما أن يكون
سكونة قسرا أو بالطبع. مثال ذلك: الأرض، فانها ان كانت متحرك الى

[Page 122]
فوق، كانت حركتها قسرية. وان كانت إلى أسفل، كانت طبيعية، وكذلك
سكونها ان كان فوق كان قسريا، وان كان أسفل كان طبيعيا.
ومنها ايضا: ان الموضع الذي يسكن فيه الجرم سكونا طبيعيا فاليه ستحرك
حركة طبيعية، والذي اليه يتحرك حركة طبيعية فيه يسكن سكونا طبيعيا. وعكس
هذا أيضا، أعني أن المكان الذي يتحرك إليه الجسم قسرا ففيه يسكن قسرا،
والذي يسكن فيه قسرا اليه يتحرك قسرا. مثال ذلك: ان الأرض لما كان سكونها
فوق قسرا كانت حركتها إلى فوق قسرا، ولما كان سكونها أسفل طبيعيا كانت حركتها
إلى أسفل طبيعية.
ومنها أن الحركة المضادة للحركة التي تكون للجسم المشار إليه قسرا هي له
طبيعية.

(الفصل الثاني): البرهان الأول:


وإذا تقررت هذه المقدمات فأقول: انه ليس يمكن أن يوجد عالم آخر خارج
عن هذا العالم، برهان ذلك: انه ان كان ذلك ممكنا وجب في الارض
التي في ذلك العالم أن تتحرك إلى وسط هذا العالم، وفي الأرض التي في هذا العالم
ان تتحرك إلى وسط ذلك العالم، وكذلك يلزم بعينه في المتحرك من الوسط، أعني
النار، ان تكون تتحرك إلى أفقين معا: إلي أفق هذا العالم وإلى أفق ذلك
العالم الخارج. وإذا وضعنا هذا لزم عنه محالات شنيعة.
أحدها: انه ان كانت حركة الأرض من هذا العالم إلى وسط ذلك العالم

[Page 123]
طبيعية (كانت حركتها من ذلك العالم إلى وسط هذا قسرية، فإذا كانت إلى ذلك
العالم قسرا كان سكونها فيه قسريا لا طبيعيا. وكذلك إن كانت حركتها إلى ذلك
العالم طبيعية كانت حركتها إلى هذا قسرا، فكان سكونها فيه قسرا). وهذا
محال، أعني أن يوجد عالم ﻣﺆلف من أجزاﺀ موجودة فيه بالقسر.
ومحال ثان وهو: ان الأرض إذا تحركت من وسط ذلك (العالم) إلى
وسط عذا ومن هذا إلى ذلك، لزمنا أن تكون أولا تمر بأفق ذلك العالم الذي منه
تتحرك، فتكون لها بالطبع حركة إلى فوق، وحركة إلى أسفل، أعني المتضادين
معا. وكذلك يلزم بعينه في النار فلا تكون هاهنا حركة طبيعية خص جسما
ما، ﺣﺘﱠﻰ تكون طبيعة النار هي بعينها طبيعة الأرض، ويكون الموجود من
الاسطقسات واحدا. وهذا كله شنيع وقبيح. وإذا ارتفع التالي ارتفع المقدم
ضرورة، فأما أن المقدم هاهنا صحيح الاتصال بالتالي، أعني أنه ان وجد هاهنا
عالم آخر انه يلزم عن ذلك أن تتحرك الاسطقسات من كل واحد من العالمين إلى
الآخر (حركات متشابهة) فذلك يبين مما أقوله:

[Page 124]
وذلك أنه واجب ان وجد هاهنا عالم آخر ان يكون مواﻃﺌﺎ بالاسم لهذا العالم،
أعني أن يكون ﻣﺆلفا من الأجزاﺀ الخمسة البسيطة التي تبين انها أجزاﺀ هذا العالم،
أعني الجرم الخامس والاسطقسات الأربعة، وذلك ان وضع الانسان عالما آخر
مباينا بذبيعته لهذا العالم وغير مواﻃﺊ له بالاسم أمر غير معقول، كما ان وضع
الانسان انسانا (آخر) غير مواﻃﺊ بالاسم للانسان أمر خارج عن
المعقول. وكذلك يظهر الأمر في موجود موجود ،بخاصة ﻣﺘَﻰ نصورت
الموجودات بالأسباب القريبة التي بها قوامها.
وإذا وضعنا ان ذاك العالم يجب أن يقال بتواﻃﺆ مع هذا العالم، فواجب أن
تكون أجزاﺅه البساﺋﻂ واحدة بالنوع مع أجزاﺀ هذا العالم، وكذلك يلزم أن تكون
حركات هذه البساﺋﻂ فيهما [8 و: ﻋ] واحدة بالنوع، ولا يكون هنالك كثرة الا
في الشخص فقط، ﺣﺘﱠﻰ تكون النار التي هي هاهنا انما تغاير النار التي هنالك بما
تغاير به الأجزاﺀ بعضها بعضا، وكذلك الأرض وساﺋﺮ الاسطقسات الأربعة.
(10ظ) [21 ظ] وهذا أمر بين بنفسه.
وإذا أضيف إلى هذه المقدمة مقدمة أخرى لا يشك أيضا في صدقها وهو: ان
موضع الأجزاﺀ من كل واحد من هذه الأجسام البسيطة هو موضع واحد بالعدد،
كما يظهر من أمرها، فإنه حيث تتحرك مدرة واحدة فهنالك تتحرك أجزاﺀ النار.
وإذا صح لنا أن مواضع الأجزاﺀ واحدة بالعدد، وان النار التي في هذا العالم وفي
ذلك العالم هي أجزاﺀ نار، وجب أن تتحرك النار إلى موضع واحد بالعدد. فإن
قرض لهما موضعان، على ما يلزم ذلك من يضح عالما آخر، وجب أن تتحرك إلى
الموضعين معا، أو لا تتحرك أصلا. لكن ان تحركت إلى الموضعين لزمت الشناعات
المتقدمة، وان سكنت لم تكن هنالك حركة أصلا. وأيضا لو تحركت (في
الأرض) لكانت الأرض التي في هذا العالم ستحس في وقت ما تتحرك الى
فوق، وهذا شيﺀ لم يحس بعد. ولو تكن في ذلك العالم أجسام متحركة حركة

[Page 125]
استقامة، لما كان هنالك جسم مستدير. وإذا لم يكن هنالك جسم مستدير لم يكن
هناك عالم آخر.
فهذا هو البرهان الذي يعتمده أرسطو في بيان ان العالم واحد
بالشخص. (وبالجملة فينبغي أن تعلم ان من يضع عوالم كثيرة انه يرفع أن
يكون هاهنا فوق وأسفل بالطبع وياطلاق. ومن يرفع هذين يرفع الحركات الطبيعية
البسيطة فاما من يضع العوالم كثيرة فانه يرفع الحركات الطبيعية، لكن الحركات
الطبيعية موجودة، فالعوالم واحد ضرورة. وقد يلزم القاﺋﻠﻴﻦ بعوالم كثيرة القول
بالخلاﺀ.)

(الفصل الثالث)

ثم إنه يأتي بعد ذلك بشكوك ثلاثة ثم يحلها:

[Page 126]
أحدها: انه لقاﺋﻞ ان يقول انه ليس يجب في الأرض التي في هذا العالم أن
تتحرك إلى الأرض التي في ذلك العالم (ولا في التي في ذلك العالم ان تتحرك
إلى التي في هذا العالم). وانما تتحرك الأرض في العالم الواحد بعينه إلى
الموضع الذي لها في ذلك العالم بعينه، لأن ذلك الموضع أقرب إليها من الموضع
الذي في العالم الثاني. وكذلك في النار وفي غيرها من ساﺋﺮ الاسطقسات.
لكن إذا ﺗﺆمل هذا القول ظهر أنه ليس ااقرب ولا للبعد تأثير في حركات
الأسطقسات إلى مواضعها الطبيعية، وذلك انها تتحرك على القربكما تتحرك على
البعد، إذ كان السبب في حركتها ليس ﺷﻴﺌﺎ أكثر من ضورها الطبيعية.
والشك الثاني أن يقول قاﺋﻞ امها تكون ساكنة في كل واحد من العالمين والذي
يسلم هذا يرفع جميع الحركات الطبيعية، (وذلك أن) هذا انما يسوغ القول به
بأن نفرض أن جميع الحركات المحسوسة لها هي قسر. وكيف ليت شعري يوجد
للشيﺀ حركة قسرية ان لم تكن له حركة طبيعية، أو كيف يوجد له الحركتان
المتضادتان معا ان لم تكن احداهما طبيعية والأخرى قسرية.

[Page 127]
واما الشك الثالث فهو هكذا (ان) لقاﺋﻞ أن يقول كما أن الأرض
واحدة بالصورة النوع كثيرة يالعدد، كذلك ليس يمتنع أن تكون المواضع واحدة
بتاصورة والنوع كثيرة بالعدد. وإذا كان ذلك كذلك، لم يمتنع أن تكون الأرض
التي في ذلك العالم تتحرك إلى موضعها فيه، والأرض التي في هذا العالمتتحرك إلى
موضعها فيه. وحل هذا الشك يكون بأن نقول: ان كانت حركاتها إلى
مواضع كثيرة بالعدد، في العوالم الكثيرة بالعدد، فلا يخلو أن يكون السبب في
ذلك اما كثرتها في الصورة، أعني كثرة ⎤الأسطقس⎡ الواحد بعينه، أو كثرتها
في العدد (في العوالم الكثيرة بالعدد) لكن ان فرضنا السبب في ذلك كونهما
مختلفين بالصورة، لزم أن تكون طبيعة الأرض التي في ذلك العالم غير طبيعية
الأرض التي في هذا العالم، ﺣﺘَﻰ تكون مختلفة بالنوع، وذلك مستحيل. وان
فرضنا السبب كثرتها بالعدد لزم ان تكون الأرض مثلا التي في العالم الواحد بعينه
تتحرك أجزاﺅها الى مواضع كثيرة بالعدد، فإنه لا فرق بين الكثرة التي لها في العالم
الواحد بعينه، او في العالمين معا، إذا وضعنا الأرض التي في ذلك العالم أو في
هذا واحدة بالصورة، كما هو اللازم (11و) [22 و] لأنه انما تغاير

[Page 128]
الأرض التي في هذا العالم للأرض التي في ذلك العالم بالعدد [8 ظ: ﻋ]
كما تغاير أجزاﺀ الأرض لبمحسوسة هاهنا بعضها بعضا. وقد تبين أنه يستحيل أن
تكون الأجزاﺀ المتغايرة بالعدد (من الاسطقسات تتحرك إلى مواضع متغايرة
بالعدد) ﻓﻤﺘَﻰ وضعنا ان الأرضين الكثيرة بالعدد تتحرك إلى موضع واحد
بالعدد، على ما هو المشاهد من أمرها، لم >يكن< يمكن أن يقرض
للاسطقسات مواضع كثيرة بالعدد.
قال:
فإن كان لا يمكن أحدا أن ينقض هذه المقدمات والمقاييس، كان الوسط
واحدا بالعدد، والأفق واحدا بالعدد، اضطرارا. وإذا كان الأفق واحدا والوسط
واحدا فالسماﺀ واحدة والعالم واحد ضرورة.

الفصل الرابع

- ولما كانت احدى المقدمات التي يستعملها في هذا البيان: ان
اجزاﺀ الجسم الواحد بعينه تتحرك إلى موضع واحد بالعدد، وكان قد يمكن أن
يعاندها بأن يقال ان موضع الاسطقسات أعني الفوق والأسفل غير محدودة،
شرع في أن يبين أن هذه المواضع محدودة. وقد كان سلف له القول في ذلك، الا

[Page 129]
أنه يكرره هاهنا على جهة الاسظهار. وهو يستعمل في تبيين هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ
برهانيين.
أحدهما: ان كل متغير فانما يتغير من شيﺀ والى شيﺀ، وما منه يتغير الشيﺀ
وما إليه يتغير الشيﺀ متقابلان. وذلك ظاهر بالاستقراﺀ في جميع أصناف المتغيرات.
مثال ذلك في الاستحالة: التغير من المرض إلى الصحة، ومن الصحة الى المرض.
وكذلك النامي المضمحل يتغير من عضم محدُود إلى عظم محدود. والمتحرك أيضا
في المكان حركة استقامة يتحرك من العلو إلى السفل، ومن السفل إلى العلو. وليس
تلفي الحركة إلى الجهات المتقابلة في النقلة التي تكون على استقامة (فقط)، بل
قد يلفي أيضا تقابل ما في أجزاﺀ الحركة المستديرة. وان كان ذلك غير موجود في
جملتها فانها ليس لها ضد كما تبين.
وإذا تقرر أن كل متحرك فانما ينتقل من مقابل إلى مقابل، وكانت
المتقابلات محدودة فكل متحرك انما يتحرك من شيﺀ محدود وإلى شيﺀ
محدود. والمتحرك في المكان متحرك إلى الفوق والأسفل، فالفوق والأسفل
محدود.

[Page 130]
والبيان الثاني نسقه هكذا: المتحرك في المكان كلما قرب مما إليه يتحرك كان
أسرع حركة، وسرعة الحركة الواحدة بعينها متناهية، فما إليه يتحرك المتحرك محدودة
متناه.
ولما تبين له هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ أخذ يبين أمرا آخر. فد كان استعمله قبل (هذا)
وهو: ان الحركة الطبيعية موجودة. وذلك ان لقاﺋﻞ أن يقول: ان كل حركة فهي
قسرية، وان هذه الأجسام البسيطة التي يظن أنها تتحرك بطبعها، انما هي متحركة
عن غيرها، وذلك عندما يضغط بعضها بعضا من حركة هذا الكل، وإذا كانت
حركتها قسرا لم يكن لها مواضع محدودة. فهو يرد هذاو ريقول: انه لو كان الأمر
كذلك، لكانت حركة النار العظيمة الى فوق، أبطأ من حركة النار اليسيرة.
وكذلك حركة الأرض العظيمة إلى أسفل أبطأ من حركة الأرض الصغيرة، وذلك
ان كل كا يتحرك قسرا فانما يتحرك عن غيره من خارج، وكل ما يتحرك قسرا عن
محرك من خارج، فكلما كان المتحرك أعظم كانت حركته أبطا للمقاومة التي توجد
هنالك بين المتحرك والمحرك، لكن ليس تاأمر في الاسطقسات كذلك، فواجب أن
تكون حركتها طبعا لا قسرا.

[Page 131]
ودليل آخر وهو: أنه لو كانت هذه الحركة قسرا لوجب أن تكون أبطا، إذا
قربت مما إليه الحركة. لأنه إذا قرب المتحرك قسرا مما إليه يتحرك بعد عن دافعه،
وإذا بعد عن دافعه أبطات حركته، .، كالحالفي الأشياﺀ التي تتحرك زمانا
(ما) عن الرامي والضاغط. لكن المشاهدة ضد ذلك، أعني: أنه كلما قربت
الأشياﺀ المحركة من مواضعها التي إليها تتحرك، اشتدت حركتها. فالأشياﺀ المتحركة
إلى فوق وإلى أسفل ليست تتحرك عن القسر والضغط. وذلك ما أردنا أن
نبين.
ووجود الحركات الطبيعية لهذه الأسطقسات أمر بين بنفسه، وانما يستعمل
أرسطو أمثال هذه البيانات على (11ظ) [22 ظ] جهة الاستظهار، مع من يمكن
أن يعاند ذلك أو يشكك فيه، اما لنقص في فطرته واما لعادة.
[9 و: ﻋ] قال:
وإذا كان الاقرار بهذه المقدمات واجبا، فالاقرار أيضا بأن العالم واحد
بالعددواجب.

الفصل الخامس

البرهان الثاني:
قال:
وقد يمكن أن ﻳُﺒﻴﻦ أن العالم واحد بأن يستعمل في ذلك أمور تبينت في الفلسفة

[Page 132]
الأولى وذلك انه قد تبين فيما سلف أن حركة الجرم السماوي ازلية، وان
الحركة الأزلية واجب أن يكون المحرك لها قوة متبرﺋﺔ عن المادة، لأن هذه القوة
يجب أن تكون غير متناهية، والقوى الهيولانية متناهية ضرورة. وتبين فيما بعد
الطبيعية ان الكثرة بالعدد في الموجودات انما تكون من قبل الهيولي لا من قبل
الصورة. فإن فرضنا عالما آخر، وجب أن يكون فيه ضرورة جسم مستديرة أزلي
مغاير بالعدد لهذا الجسم (المستدير الذي من هذا العالم. وإذا كان هاهنا جسم
مستدير مغاير بالعدد لهذا الجسم) فله محرك مغاير بالعدد ضرورة لهذا
المحرك، وما هو مغاير فهو ذو هيولي (فالمحرك اذن للجسم السماوي ذو
هيولي) وقد تبين أن هذا مستحيل. هذا خلف لا يمكن.

الفصل السادس

البرهان الثالث:
ويقول أيضا أنه لما كان قد تبين أن الأجسام البسيطة ثلاثة بالجنس:

[Page 133]
الجرم المستدير والجرم الثقيل والجرم الخفيف، وكانت حركات الأجزاﺀ من واحد
واحد من هذه الأجسام البسيطة إلى مواضع واحدة بالعدد، فواجب ضرورة أن
تكون المواضع ثلاثة بالعدد، أحدها: موضع الجرم الثقيل، والآخر: موضع
الجرم الخفيف، وثالث: موضع الجرم المتحرك على استدارة. وإذا كان العالم انما
توجد أجزاﺅه في هذه المواضع، وكانت هذه المواضع ليس يوجد
(من) واحد منها اثنان بالعدد، فواجب أن يكون العالم واحدا، والجرم
العالي هو المستدير، والخفيف هو الوسط، والأسفل هو الثقيل، ولذلك قد
يمكن أن يقال ان الابعاد التي تشغلها هذه الأجسام هد بهذه الصفة، وان اماكنها
هي بهذه الصفة، ان سمينا الابعاد أمكنة على جهة الاستعارة، والا في الخفيفة
فالجسم المستدير ليس له موضع الامحدت الجسم الذي يتحرك حواليه، واما الثقيل
والخفيف فلها نهايات محيطة بها.
فقدتبين من هذا القول ان العالم واحد، وتبين مع هذا طبيعة أجزاﺋﻪ
ومواضيعها وعددها.

الفصل السابع

ولما فرغ من هذا البرهان أتي بقول مقنع يوهم أنه يلزم عنه ان
تكون العوالم كثيرة، أو يمكن أن توجد عوالم كثيرة. وهذا القول مخرجه على

[Page 134]
هذه الصفة: لما كان كل موجود طبيعي أو ضناعي مركبا من مادة وضورة،
وكانت الصورة حالها إذا أخذت مجردة من الهيولي، غير حالها إذا أخذت مع
الهيولي، فانا ﻣﺘَﻰ أخذنا ﻣﻌﻨَﻰ الاستدارة، فانما أخذنا الصورة مجردة من الهيولي.
وإذا أخذنا الشيﺀ المستدير فقد أخذنا الصورة مع الهيولي أعني أنا قد أخذنا
الاستدارة في موضوع، كأنك قلت نحاس أو ذهب، وكان واجبا ﻣﺘَﻰ أخذت
الصورة مجردة من الهيولي أن تكون واحدة، وﻣﺘَﻰ أخذت من حيث هي في مادة
أن تكون كثيرة. وإذا كان ذلك كذلك، فغير ممتنع أن يعرض في السماﺀ مثل
ذلك. أعني أن تكون من حيث الصورة واحدة، ومن حيث المادة كثيرة. وكما أنه
ان كانت هاهنا صورة في غير مادة فواجب أن تكون واحدة، كذلك ان كانت
هاهنا صورة في مادة فواجب أن تكون كثيرة، ولذلك نجد هذا القول شديد اللزوم
للقاﺋﻞ بوجود صور الأشياﺀ المحسوسة مفارقة. على ما يقوله أفلاطون.
وذلك انه مانت صورة العالم لها وجودان: وجود مفارق وهو مثال الوجود
المحسوس، ووجود في الهيولي وهو الوجود المحسوس، وكانت إذا فارقت واحدة،
فواجب إذا وجدت مع الهيولي أن تكون كثيرة. وقد يظهر أن [9 ظ: ﻋ] هذا
القول نفسه مقنع عند من لا يقول بالصورة، فضلا عند من يقول بها،
وذلك انه يظهر من امر كل مركب من مادة وصورة ان له نظاﺋﺮ كثيرة

[Page 135]
فهذا هو القول الذي قد يظن به أن العوالم كثيرة أو يمكن أن توجد فيها
كثرة. وهو يحل هذا القول بأن يعرف المقدمات الصادقة في هذا القول من غير
الصادقة فنقول:
اما ما وضع في هذا (12ظ) [23 ظ] القوة من أن أخذ الصورة مع الهيولي غير
أخذها مجردة من الهيولي ونه مغاير له فواجب.
وأما ما وضع من أنه كما أنه إذا أخذت مجردة من الهيولي فواجب أن تكون
واحدة كذلك إذا أخذت مع الهيولي فواجب أن تكون كثيرة، فليس بصحيح فانه
انما يمكن أن يوجد منهما أكثر من واحدة، إذا فضل من مادة الشخص الموجود
منها جزﺀ يمكن أن يقبل صورة أخرى. واما إذا كانت جميع المادة قد انصرت في
ذلك الشخص، ولم يفضل منها فضلة، فليس يمكن أن يوجد إلا شخص واحد
من تلك الصورة. ومثال ذلك أن زيدا مثلا لو كان متكونا من جميع مادة
الانسان، لما أمكن أن يوجد من الانسان الا شخصه فقط.

[Page 136]
وإذا كان هذا بينا من أمر الصورة التي في المواد، أعني ﻣﺘَﻰ يمكن فيما الكثرة
وﻣﺘَﻰ لا يمكن، فالعالم ان كان وجد من جزﺀ من أجزاﺀ المادة التي منها
كون، أمكن أن تكون عوالم أخر. وان كان جميع المادة محضورة فيه لم يمكن أن
يوجد منه أكثر من واحد.

الفصل الثامن

ولما تبين له هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ، أخذ بعد ذلك يفحص عنه، ويبين ان
المادة التي تقوم منها العالم محصورة فيه. وهو يقدم بين يدي هذا الفحص على
كم وجه يقال اسم السماﺀ، ، ليدل من ذلك على اﻟﻤﻌﻨَﻰ الذي يقصده في
هذا الفحص، فيقول:
إن اسم السماﺀ كان القدماﺀ يستعملونه على ثلاث معان: أحدها على فلك
الكواكب الثابتة. والثاني على جميع الأفلاك. والثالث على جميع أجزاﺀ
العالم، وهو الذي يدل عليه اسم العالم عندنا، . وهذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ هو الذي
يقصده هاهنا، اعني أنه الذي يبين ان المادة التي تقوم منها محصورة فيه. وبيانه
لذلك علـي هذه الصفة.

[Page 137]
إن لم يكن خارج السماﺀ جرم من الجرام المحسوسة، فواجب الا تكون هنالك
مادة أصلا، لأن المادة ليس توجد خلوا من الجرم ذي المادة، وأن تكون
المادة محصورة فيه، فاما انه ليس يمكن أن يوجد خارج السماﺀ جرم محسوس
فذلك يظهر على هذا الواجه.
إن كان يمكن أن يكون خارج السماﺀ جسم فهو اما مركب واما
بسيط. فان كان بسيطا فاما أن يكون مستدير الحركة أو مستقيمها، فانه قد
تبين انه ليس توجد غير هاتين الطبيعتين للأجسام البسيطة، وان كان واحدا من
هاتين الطبيعتين فلا يخلو أن يكون هنالك موجودا اما بالطبع واما بالقسر، وذلك

[Page 138]
أن كل جسم موجود في مكان، وكل موجود في مكان فلا يخلو وجوده في المكان
من هاتين الحالتين، فان كان جسما مستديرا لم يمكن أن يكون ذلك الموضع له
طبيعيا، لأن موضعه الطبيعي هو الوسط الذي يتحرك حوله، وقد تبين أن الوسط
واحد بالعدد، ولا يمكن أن يوجد الجرم المستدير في مكان قسرا، فان الحركة
القسرية ممتنعة عليه، على ما تبين قبل. واما ان كان من البساﺋﻂ اﻟﻤُﺤﺮكة حركة
استقامة، فليس يمكن أيضا فيه أن يكون خارج العالم في موضع بالطبع، لأنه قد
تبين أنه ليس يلفي لواحد منها بالطبع أكثر من موضع واحد. وان كان فيه خارجا
عن الطبع وقسرا لزم أن يكون ذلك الموضع لجسم آخر بالطبع، فان الموضع
القسري لواحد من المتحركات على استقامة هو طبيعي للمضاد له، مثال ذلك
آن النار موضعها القسري هو الأسفل وهو طبيعي للأرض، وكذلك الأرض
موضعها القسري هو الطبيعي لغيرها، وقد تبين انه ليس يمكن أن يوجد هنالك
واحد من هذه الاستقسات ولا هاهنا طبيعة سادسة يمكن أن تكون هنالك.
وإذا كان هذا كذلك [10 و: ﻋ] فليس هنالك جسم بسيط أصلا.
وإذا لم يكن هنالك جسم بسيط فليس يمكن أن يكون جسم مركب، فإن المركب
انما يتركب عن البساﺋﻂ. فقد تبين أنه ليس هارج العالم جسم ولا يمكن أن يحدث
في المستقبل، لأنه يلزم عن حدوثه المحالات المذكورة.
وإذا تبين انه ليس يمكن أن يكون خارج العالم جسم من أجسام، فظاهر أن

[Page 139]
جميع المادة التي تقوم منها العالم محصورة فيه. وإذا كان ذلك كذلك، فالعالم
واحد ليس بكثير ولا يمكن أن يوجد منه أكثر من واحد، وهو تام كامل ليس له
شبيه ولا نظير (12ظ) [23 ظ]. فقد ظهر من هذا القول العلة التي من أجلها كان
العالم واحدا لا كثيرا.

الجملة التاسعة

وهو يبين بعد ذلك أنه ليس خارج العالم لا مكان ولا خلاﺀ ولا زمان
(أما المكان) فلأن المكان هو الذي فيه جسم من الأجسام بالفعل أو يمكن أن
يكون فيه جسم، وليس خارج العالم جسم ولا يمكن أن يحدث هنالك جسم.
وإذا لم يكن هنالك جسم ولا يمكن أن يكون فيه، فبيس هنالك مكان. وبهذا
بعينه يبين أيضا أنه ليس هنالك خلاﺀ، وذلك أن القدماﺀ كانوا يرسمون الخلاﺀ بأنه
مكان لا جسم فيه ويمكن أن يكون فيه. فأما الزمان فلما كان ليس ﺷﻴﺌﺎ أكثر من
عدد حركة الأشياﺀ الطبيعية وكان ليس هنالكأجسام، فليس هنالك حركة ولا
زمان.

[Page 140]
فقد تبين من هذا القول أنه ليس خارج السماﺀ مكان ولا خلاﺀ ولا زكان،
وان كان الوهم يأبي ذلك كما يأبي تصور أسياﺀ كثيرة مما تبرهن وجودها.
قال:
وإذا تبين أنه ليس هنالك زمان ولا مكان، فالأشياﺀ التي هنالك ليست في
مكان ولا يستطيع الزمان أن يهرمها ويشيخها. وذلك أن كل ما كان خارجا
عن أفق الأشياﺀ المتحركة فليس يمكن فيه أن يستحيل ولا يتغير، لكنه ثابت
لا يتغير حيّ لا يبيد، والحياة التي هنالك أفضل الحياة، لأنها حياة الموجودات التي
لا يحصرها الزمان ولا يفضل عليها من طرفيه كما يعرض للأشياﺀ الكاﺋﻨﺔ الفيسدة بل
هذه الحياة مساوقة للزمان لم تزل ولا تزال.
وعلى هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ من البقاﺀ الداﺋﻢ والوجود السرمدي كان القدماﺀ يدلون باسم
الدهر، فانهم كانوا يقولون ان الغاية والأفق المحيط بزمان كل واحد من
الأشياﺀ السرمدية الذي ليس قبله زمان يختص بوجود ذلك الشيﺀ ولا بعده زمان
هو دهر ذلك الشيﺀ وخوده. فعلى هذا دهر السماﺀ هو الغاية والأفق المحيط

[Page 141]
بالزمان المساوق لوجوده الذي لا يتناﻫَﻰ. وانما كان هذا الاسم لاﺋﻘﺎ بالسماﺀ لأن
فعلها لا يتناﻫَﻰ ولو كان متناهيا لكان الغاية والأفق المحيط بها هو الزمان، مثل ما
عرض من ذلك لجميع الأشياﺀ الكاﺋﻨﺔ الفاسدة.
قال:
وقد وضعنا في الفلسفة الخارجة التي وضعناها للعامة: انه يجب للشيﺀ
الروحاني الذي هو في نهاية الفضيلة الا يتغير ولا يبيد، لأنه العلة الأوﻟَﻰ، إذ كان
ليس له علة أخرى تحركه. لأنه لو كانت له علة أخرى تحركه لكانت أفضل منه،
ولا أفضل منه. وإذا لم تكن له علة تغيره، فليس يمكن أن يتغير من قبل نفسه.
ولو أنزلناه ﻣُﺘﻐﻴﺮا من قبل نفسه لكان اما أن يستحيل إلى الذي هو أفضل أو إلى
الذي هو أخس، ومحال أن يستحيل إلى الذي هو أخس، ولا يستحيل أيضا إلى
الذي هو أفضل، فإنه لا أفضل منه. وإذا لم يمكن أن يتغير من قبل نفسه ولا من
قبل غيره، فليس يمكن أن يتغير أضلا.
وهذا القول كله يمكن أن يطابق به العلة الأولى واﻟﻤَﺒﺎدﺉ المفارقة، ويمكن أن
يطابق به الجرم السماوي. لكن من جهة تصريحه فيها انها ليست في مكان هو أليق
بالأمور المفارقة، فإن الجرم السماوي قد يظن أنه في مكان بجهة ﻣّﺎ ومن جهة

[Page 142]
أن الكلام المتقدم والمتأخر هو في السماﺀ، فقد يظن به أنه انما قصد به أمر
السماﺀ، وذلك أنه يقول بعد هذا القول، ونقول، أيضا: انه لا يقبل ﺷﻴﺌا من
الآثار، أعني ذلك الشيﺀ [10 ظ: ﻋ] الروحاني، وحركته داﺋﻤَﺔ لا انقطاع لها.
وقد استحق أن تكون له الحركة الداﺋﻤﺔ لأن الأشياﺀ كلها تسكن حركاتها إذا انتهت
إلى مواضعها الطبيعية، وهو الأشياﺀ التي تتحرك من ضد إلى ضد. فاما هذا الجرم
المستدير، فلما كان ما منه يتحرك وما إليه يتحرك واحدا بعينه، صارت حركته داﺋﻤﺔ
البته. وهذا القول لا يليق الا بالجرم السماوي.

الجملة العشرة


وهذه الجملة فيها فصلان:

[Page 143]
الفصل الأول: يذكر فيه آراﺀ الأقدمين في كون العالم وفساده وحججهم في
ذلك ويبطلها.
الفصل الثاني: يفحص فيه فحصا مطلقا هل يمكن أن يكون شيﺀ ازلي يفسد
باخرة. أو كاﺋﻦ لا يفسد، كما يرى ذلك يعض الناس في العالم فإنه إذا تبين
له هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ بالفحص الكلي (13و) [24 و] تبين كيف الأمر في العالم.

الفصل الأول:

وهو أولا يبتدﺊفي هذا الفصل فيخبر بالمنفعة التي في ذكره أقاويل
المقدماﺀ المخالفين له في هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ وايراد حججهم، ويخبر مع هذا أيضا كيف ينبغي
أن يكون الطالب اللحق في مناظرة خصومه ومخالفته لهم فقال:
إنه يجب قبل فحصنا عن السماﺀ هل هي مكونة من شيﺀ أو غير مكونة من
شيﺀ، وهل تقع تحت الفساد أو ليس تفسد البتة ان نبدأ أولا فنذكر آراه الاقدمين

[Page 144]
المخالفين في ذلك ونورد حججهم، وذلك لمعنيين: احدهما ان حججهم هي
شكوك في البواهين التي نوردها نحن، ومن تمام البرهان حل الشكوك الواردة عليه.
واﻟﻤﻌﻨَﻰ الثاني أن قولنا يكون أتم تصديقا وأكثر قبولا عند محبي الحق، ولا سيما إذا
تقدمنا أولا فنسقنا حجج المخالفين لنا، ثم ابطلناها، لأنه لا يتطرق إلينا بهذا الفعل
تهمة في ارادة تقرير مذهبنا والاضراب عن مذهب الغير والازدراﺀ به، ولا سيما مع
كون الخصوم لنا غيبا في وقت المناظرة ولذلك ﻣﺘَﻰ أتينا برأينا وحجتنا دون حجج
المخالفين لنا وآراﺋﻬﻢ، كان قبول قولنا عند محبي الحق أضعف، وأصغاﺅهم إليه
أقل، وتهمتهم لنا أكثر.
قال:
ويحق على من أراد أن يقضي بالحق ألا يكون معاندا لمن خالفه ومبغضا له، بل
يجب أن يكون منصفا له ورفيقا به، وحد الانصاف أن يسلم من الأقاويل له ويجيز
منها ما يسلم لنفسه.
وهو يبتدﺊ بعد هذا فيقول:
إن جميع الأولين فد اتفقوا على أن السماﺀ مكونة، وﻫﺆلاﺀ انقسموا على ثلاثة
أقسام: ففرقة قالت انها مكونة ولكن لا نفسد الدهر كله، بل ﺗﺒﻘَﻰ في المستقبل
أزلية. وفرقة ثانية قالت: بل تكون وتفسد مرارا لا نهاية لها. وفرقة ثالثة قالت:
بل تكون مرة واحدة فقط، ثم تفسد أيضا فسادا لا تعود بعده أبدا.

[Page 145]
وهنا يعاند واحدا واحدا من هذه الآراﺀ الثلاثة، ويبتدﺊ من ذلك بالرأي
المنسوب إلى افلاطون، وهو: ان العالم متكون وانه لا يفسد، فيقول:
انه إذا استقرﺋﺖ الأشياﺀ الكاﺋﻨﺔ، ظهر من أمرها أن كل كاﺋﻦ فاسد. وقد
يظهر أن كل كاﺋﻦ فاسد من هذه الجهة: وذلك انه ان كان العالم تكون
من أشياﺀ متقدمة عليه، فلا تخلو تلك الأشياﺀ ان تكون ممكنة أن يتكون منها
العالم أو غير ممكنة. فان كانت غير ممكنة، لم يتكون عنها العالم في وقت من
الأوقات. وان كان ممكنة أن يتكون منها العالم ثم تكون منها، فيمكن أيضا
في العالم أن ينحل إلى تلك التي تكون منها، لأنها بمنزلة الاسطقسات له،
لأن الطبيعة القابلة لصورة العالم وضدها هي (طبيعة) واحدة يعينها، وامكانهما
في الموضوع القابل لهما يجب أن يكون على السواﺀ كالحال في الامكان الموجود في
المواد لقبول الصور المتضادة.

[Page 146]
واما الحجة التي احتج بها أصحاب هذه المقالة فانهم قالوا: كما ان الأشياﺀ التي
تتركب منها الأشكال في صناعة الهندسة متقدمة على الأشكال، والأشكال [11 و:
ﻋ] متقومة منها من غير أن تنحل الأشكال اليها في وقت من الأوقات، بمنزلة
الشكل الناري الذي يتركب من المثلثات والمكعب الذي يتركب من المربعات،
كذلك نقول نحن في العالم انه تكون من الأشياﺀ المتقدمة عليه، على أن وجودهما
معا، أعني العالم والأسباب التي منها تكون، بمنزلة ما توجد العلة مع المعلول،
والسبب مع السبب، لا ان أحدهما متقدم على صاحبه بالزمان، فان الزمان انما
يكونه أصحاب هذا القول مع تكوين هذا العالم. وإذا كانت هذه حال العالم في
الكون فليس يمكن فيما كان كونه يهذه الجهة ان يفسد.
وأزسطو يرد هذه الحجة من نفس ما تقوله هذه الفرقة في كون العالم، وذلك
انهم يقولون (انه) انما تكون يأن صار من عدم النظام إلى النظام. وعدم
النظام لما كان مقابلا للنظام، لم يمكن أن يكون النظام مركبا من الشيﺀ
>وعدمه< العادم للنظام، من جهة ماهو عادم للنظام، (13ظ) [24 ظ]
على جهة ما يوجد المثلث مركبا من الخطوط. أعني أن يوجد معا النظام والشيﺀ
العادم للنظام، بمنزلة ما يوجد المثلث والخطوط التي تركب معا. لأن النظام وعدم
النظام متقابلان، ولا يمكن اجتماعهما في موضوع واحد في وقت واحد. إذا كان
ذلك كذلك فالموجود الذي لحقه النظام، أو كانت صورته عدم النظام، متقدم
بالزمان ضرورة للنظام، وإذا كان ذلك كذلك، فالعالم كاﺋﻦ فاسد.
فبهذا يعاند في هذا الموضع هذا القول.

[Page 147]
واما الفرقة التي تقول بكون العالم تارة وفساده تارة، فانه إذا ﺗﺆمل قولهم
ظهر منه ان العالم على رأيهم أزلي. وذلك أنه ليس يستحيل عندهم من صورة إلى
صورة، بل انما يستحيل عندهم من حالة إلى حالة وطبيعته واحدة بعينها. مثل ما
نقول: ان الانسان يستحيل من الصبا إلى الاكتهال ومن الاكتهال إلى الشيخوخة
ومن الشيخوخة إلى الصبا، لو كان ذلك ممكنا. وانما كان ذلك لازما لهم، لأنهم
يرون أن الأسطقسات تجتمع أحيانا وتتفرق أحياﻧﴼ، وهي عندهم واحدة بعينها،
غير مختلفة بالحد والماهية. ولو ان ﻫﺆلاﺀ رأوا أن العالم يستحيل دورا إلى صور
متغايرة بالماهية والجوهر، لقد كان يلزمهم أن تكون هاهنا طباﺋﻊ أخر غير الطباﺋﻊ
الخمس، وذلك مستحيل أيضا، (ولذلك لا يقولون بهذا، وانما يزعمون أن هذه
الاستحالة في حالاته)، فلذلك لا يقولون بكون العالم وفساده مطلقا، بل في
عرض من أعراضه. وﻣَﺜﻞ هذا فهو استحالة في الكيف، لا كون وفساد في
الجوهر.
وأما الفرقة الثالثة وهم الذين قالوا ان العالم تكون ثم بفسد فسادا يتكون
بعده، فإنه يعاندهم بأن يقول لهم: انه ان كان العالم واحدا لم يمكن
أن يكون قولهم صدقا البتة. وذلك أن الشيﺀ الذي تكون منه العالم، يجب ضرورة
أن يكون قبل العالم وأن يكون ممكنا أن يتكون منه العالم. فإذا أنزلنا أن العالم تكون
منه، ثم أنزلنا انه فسد، فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: اما أن نقول انه يفسد

[Page 148]
إلى تلك الأشياﺀ التي تكون منها، مثل فساد المركب من الاسطقسات الى
الأسطقسات، فيكون ممكنا ان يتكون من تلك الأشياﺀ مرة ثانية. أو يقولون انه
إذا فسدت هذه الصورة ⎤التي له، تكونت له صورة أخرى، وتلك الصورة أيضا
إذا فسدت⎡ تكونت له صورة أخرى، وذلك إلى غير نهاية، فان بهذا الوجه
ﻳﻤْﻜﻦ أن يتصرو في هذا العالم انه إذا فسد لا يعود لكن ليس يقولون بهذا، فان
القاﺋﻞ بهذا يقول بعوالم لا ناية لها في الصورة، وذلك مستحيل. وإذا لم يقولوا
بهذا فيلزمهم أن يتكون العالم بعد فساده.

الفصل الثاني:

قال:
ولأن هاهنا قوما يقولون انه يمكن أن يكون شيﺀ من الأشياﺀ غير كاﺋﻦ ويفسد
بأخرة، وشيﺀ كاﺋﻦ غير واقع تحت الفساد، مثل ما قيل ذلك في الكتاب الذي
يدعي طيماوش، المنسوب الى افلاطون، فإنه قيل هنالك ان السماﺀ مكونة
وهي ثابتة لا فناﺀ لها. وﻫﺆلاﺀ يظهر من أمرهم، كما يقول، انهم ما وصفوا
السماﺀ بأمر طبيعي. فهو يريد أولا أن يفحص عن هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ فحصا كليا يعم
السماﺀ وغيرها، فإنه من المبادﺊ التي الغلط فيها، كما قيل، يفضي إلى غلط
كبير [11 ظ: ﻋ] في هذا العالم.

[Page 149]
وما يقوله منحصر في ثمانية أقسام:
(القسم الأول) - فيه احصاﺀ المعاني التي يقال عليها الكاﺋﻦ والفساد، وغير
الكاﺋﻦ وغير الفاسد. وتعريف السبب في وجوب احصاﺀ الأسماﺀ المشتركة عند
الفحص عن الأشياﺀ التي لها أسماﺀ مشتركة.
(القسم الثاني) - يشرح فيه اﻟﻤﻌﻨَﻰ الذي ندل عليه بقولنا (ان) في الشيﺀ
قوة أو انه ليس فيه قوة، وبماذا نحد القوى وعدم القوى في الأشياﺀ ذوات
القوى.
(القسم الثالث) - في البرهان على أنه ليس يمكن أن يكون أزلي فيه قوة
العدم.
(القسم الرابع) - في أن اللاذم عن ذلك انه لا يمكن في الشيﺀ الأزلي أن
يفسد، ولا في الكاﺋﻦ أن ﻳﺒﻘَﻰ أزليا.
(القسم الخامس) - في أي الموجودات يوجد الكون والفساد الذي اﻧﺘﻔَﻰ
كونها عن الموجودات الأزلية، وان طبيعة الموجودين متباينان، وان كل كاﺋﻦ

[Page 150]
وفاسد (14و) [25 و] غير أزلي.
(القسم السادس) - في بيان أن غير الكاﺋﻦ وغير الفاسد يصدق كل واحد منهما
بالانعكاس على الأزلي.
(القسم السابع) - في بيان ان الكاﺋﻦ والفاسد يرجع كل واحد منهما على
صاحبه بالتكاﻓﺆ.
(القسم الثامن) - في تقصي القول في ابطال رأى من يرى أن هاهنا ﺷﻴﺌﺎ أزليا
يفسد، أو كاﺋﻨﺎ لا يفسد أو فيه فوة على الفساد من غير أن يفسد. وهو يأتى
في ذلك براهين أربعة كلية مبناها على البرهان الأول الذي استعمله في ذلك، ثم
يأتي بحجة خامسة مأخوذة من الاستقراﺀ، ثم يختم هذه المقالة ببيان هذا المطلوب.

القسم الأول:

فنقول: انه انما وجب أن نجعل مبدأ الفحص عن هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ تقسيم
المعاني التي يقال عليها اسم الكاﺋﻦ وغير الكاﺋﻦ والفاسد وغير الفاسد، لأنه إذا كان
الاسم الواحد يعينه مقولا على معان كثيرة، ولم يفصل تلك المعاني الفاحص ولا
احصاها، وأخذ الاسم على أنه يدل على ﻣﻌﻨَﻰ واحد، كان ذلك سببا لحيرته
وغلطه. وإذا كان ذلك كذلك فأقول:

[Page 151]
إنه يقال غير كاﺋﻦ على ثلاثة معاني:
أحدها: على الشيﺀ الذي وجوده وكونه بغير طريق الكون والاستحالة. وهذه
هي جميع الأشياﺀ الحادثة في غير زمان، مثل حدوثالحس بالفعل ونهاية
الحركات وما أشبه ذلك.
والثاني: على الأشياﺀ التي لم تكن بعد الا أنها ممكن أن تكون وكونها، إذا
وجدت، بطريق الكون. وهذه هي جميع الأشياﺀ التي هي غير كاﺋﻨﺔ بالفعل كاﺋﻨﺔ
بالقوة. وأكثر ما يقال عليه من هذه غير كاﺋﻦ ما كان عسيرا كونه، مثل
ادارة سور على ألف ميل.
واﻟﻤﻌﻨَﻰ الثالث: يقال على الأشياﺀ التي هي غير كاﺋﻨﺔ ولا فيها امكان أن
تتكون، مثل قولنا: ان قطر اﻟﻤُﺮبع مشارك لضلعة.

[Page 152]
واما الكاﺋﻦ فإنه يقال على الأشياﺀ التي لم تكن موجودة أولا ثم
وجدت بأخرة. سواﺀ كان وجودها بغير استحالة ولا وجود أسباب الكون، مثل
حدوث الحس ونهاية الحركة، أو كان حدوثها على طريق الكوم (وسببه) مثل
حدوث البيت والحاﺋﻂ.
وقد يقال الكاﺋﻦ على ﻣﻌﻨَﻰ ثان وهي الأشياﺀ السهلة الكون، مثل ادارة سور
على ماﺋﺔ غلوة في عشرين يوما.
ويقال على ﻣﻌﻨَﻰ ثالث وهي الأمور الواجبة الكون، مثل حدوث الكسوفات
وطلوع الشمس.
وكل واحد من هذه المعاني الثلاثة مقابل لكل واحد من المعاني الثلاثة التي
يقال عليها غير الكاﺋﻦ.
واما الفاسد فانه يقال أيضا على ثلاثة معان:

[Page 153]
أحدها: على الأشياﺀ التي كانت أولا موجودة ثم هي أخرة غير موجودة،
سواﺀ كان عدمها بسبب من أسباب الفساد داخل عليها بمنزلة اﺣْﺘﺮاق الخشبة،
أو كان ليس بسبب من أسباب الفساد داخل عليها بمنزلة فساد الحس.
وقد يقال الفساد على ﻣﻌﻨَﻰ ثان وهي الأشياﺀ التي يمكن فيها ألا توجد،
ليس بسبب بطلان وعدم يدخل عليها، (بل بسبب حالة من الأحوال، مثل النهر
العظيم فانه قد يمكن أن يقال فيه انه غير موود ليس بسبب فساد وبطلان يدخل
عليه)، بل بسبب انتقاله، وذلك ان امكان النتقاله أكثر من امكان بطلانه.
وكأن لسم الفاسد على هذا (اﻟﻤﻌﻨَﻰ) انما يقال باستعارة، ولذلك قيل فيه انه
غير مألوف.
وقد يقال على ﻣﻌﻨَﻰ [12 و: ﻋ] ثالث وهي الأشياﺀ السهلة الفساد بمنزلة لهيب
النار وزهر النبات.
واما غير الفاسد فانه يقال على معان:

[Page 154]
أحدها: الشيﺀ الذي هو حينا موجود وحينا غير موجود، الا ان فساده بغير
أسباب الفساد، مثل فساد الحس ونهاية الحركة.
واﻟﻤﻌﻨَﻰ الثالني: (الشيﺀ) الذي هو موجود بالفعل ويمكن أن يعدم بأخرة
وفي المستقبل. وهذا ربما كان عدمه بسبب من أسباب الفساد، وربما لم يكن.
واﻟﻤﻌﻨَﻰ الثالث: ﻣﻤّﺎ يقال عليه غير الفساد بالحقيقة هو الموجود بالفعل
الذي ليس فيه قوة على الفساد ولا يمكن أن يعدم في المستقبل.
واﻟﻤﻌﻨَﻰ الرابع (14ظ) [25 ظ] على العسير الفساد بمنزلة حجر الطران.
وينبغي أن تعلم أن هذه الألفاظ الأربعة منها ما يقال ﺑﻤﻌﻨَﻰ واحد من
هذه المعاني بجهات ﺷﺘﱠﻰ، مثل حاسة اللمس، فانه يصدق عليها كاﺋﻨﺔ وغير كاﺋﻨﺔ
وفاسدة وغير فاسدة. أما كاﺋﻨﺔ فلوجودها بعد عدم، واما غير كاﺋﻨﺔ فلكونها موجودة
بغير أسباب الكون، وبهاتين الجهتين يصدق عليها فاسدة وغير فاسدة. ومنها ما يقال
أيضا على معان متقابلة، مثل ما يقال الفاسد وغير الفاسد على السهل الكون،
والعسير الكون. ولهذا غمض هذا اموضع على المفسرين.
فهذه (هي) جميع المعاني التي يقال عليها اسم الكاﺋﻦ وغير الكاﺋﻦ والفاسد
وغير الفاسد. وسنلخص الحقيقي منها من غير الحقيقي فيما بعد.

[Page 155]

القسم الثاني:


وإذ قد تبين على كم وجه تقال هذه الأساﺀ، فلنفحص أولا عن ﻤﻌﻨَﻰ قولنا
إن في الشيﺀ قوة على أن يفعل أو لا يفعل، فان اﻟﻤﻌﻨَﻰ الحقيقي من غير
الكاﺋﻦ وغير الفاسد هو الشيﺀ الذي ليس فيه قوة على الكون رلا على الفساد،
فنقول:
إنه من الظاهر أن القوى انما تحد من نهاية فعلها، وذلك أن الذي يقوى على
أن يحمل أربعة قناطير فقط يقوى على أن يحمل ما دون ذلك، فلذلك إذا
كانت نهاية مل يحمل أربعة قناطير، قلنا ان له قوة (على أن) يحمل بها أربعة
قناطير، فحددنا قوته من أﻗﺼَﻰ فعلها، لا بما دون الأربعة قناطير. وبهذا نحد قوة
موجود موجود، ﺣﺘﱠﻰ نقول مثلا ان لزيد قوة أن يحمل أربعة قناطير، ولعمرو ثلاثة
قناطير.
وإذا كان ذلك كذلك، فهو ﺑﻴّﻦ ان القوى انما تحد بنهاية أفعالها لا بما دون
النهاية.
وأما ضعفها وعدمها فيحد بأقل ما تعجز عنه، لا بأكثر (من) ذلك،

[Page 156]
ﺣﺘﱠﻰ نقول في زيد أنه ليس يقدر أن يحمل أربعة قناطير، وفي عمرو أنه ليس يقدر
أن يحمل ثلاثة قناطير. وقد يلحق في هذا سك ﻣّﺎ، وذلك انه لقاﺋﻞ ان
يقول: ان كان الأمر على هذا، وجب أن يكون من أبصر عظما ما على
غلوة، أن يبصر أصغر منه على تلك الغلوة (بعينها)، لانا قد قلنا ان القوة
الواحدة بعينها إذا قويت على الأعظم الذي به تحد فهي أقوى على الأصغر. وهذا
الشك ينحل بأن يعلم أن الأمر في القوة الباصرة بالعكس، أعني أن القوة فعلها انما
هو بادراك العظم الأصغر من المسافة الواحدة بعينها. مثال ذلك أن من أبصر شبح
طاﺋﺮ على ثلاثة قراسخ أحد بصرا ممن يبصر شبخ انسان على هذه المسافة، ولذلك
نقول ان من ادرك عظما على مسافة ما فهو يدرك عظما أعظم منه ضرورة (على تلك
المسافة بعينها، كما أن من حمل ثقلا ما فهو يحمل أقل منه ضرورة). فهذا هو
الشيﺀ الذي به نحد القوى وعدمها.

>القسم الثالث<

وإذ قد تلخص هذا من أمر القوى فأقول:
(انه) إن وجد في الشيﺀ الواحد بعينه قوة على أمر ﻣّﺎ وعلى مقابلة، مثل
قوة القيام والقعوم في زيد مثلا، فكما أنه من الواجب أن يكون فعل احدى
(القوتين) في زمان غير الزمان الذي فيه فعل القوة الأخرى فان الفعلين

[Page 157]
المتقابلين لا يمكن اجتماعهما في وقت واحد، كذلك زمان احدى (القوتين)
واجب أن يكون غير زمان القوة الثانية، وان يكون كل واحد من أزمنة الفوى
المتضادة محدودا وانما يمكن [12 ظ: ﻋ] هذا إذا كانت القوى محدودة، فإنه ان لم
تكن القوى محدودة، لم يوجد أعظم زمان توجد فيه القوة، فانه كما ان القوى
الفاعلة انما تحد بأكثر ما تفعله كذلك القوى المنفعلة انما تحد بأعظم زمان توجد
فيه. وذلك هو الذي تقع فيه نهاية الانفعال وتمامه. وهذا واجب في جميع
المقولات مثل الانسان في الجوهر فان فيه قوة على الا يوجد وان يوجد في أزمان
محدودة. هذا إذا توهمنا هذه القوة في موضوعها القريب الخاص لا في
الموضوع البعيد، فإن زيدا مثلا قد عدم بالعرض زمانا لا نهاية له، واما عدمه
الموجود في المني ودم الطمث اللذين تولد منهما فمتناهي الزمان، وكذلك الأمر
في الأيسض والأسود في الكيف، (15و) [26 و] والصغير الكبير في الكم، وفي
واحد واحد من جميع المقولات. وهذا ظاهر بالاستقراﺀ في جميع المقولات.

القسم الثالث:


(فأما) انه لا يمكن أن تلقي فوى على أشياﺀ متقابلة أزمنة غير متناهية ولا
محدودة، فهو يبين ذلك ببرهان كلي، بعد أن يقدم لذلك ما يجب تقديمه،
فيقول:
ان هاهنا أربعة أشياﺀ بالاسم والحد: محال وكذب وصدق وممكن. فأما
الممكن، فمثل قولنا: انه يمكن في المثلث أن تكون أضلاعه متساوية. واما
المحال: فمثل قولنا: ان القطر مشارك للضلع. وأما الكذب، فمثل قولنا في

[Page 158]
زيد المشار إليه: انه قاﺋﻢ إذا كان قاعدا (وأما الصدق فيقول على مقابل الكذب
والمحال) والفرق بين الكذب والمحال ان الكذب يمكن أن يعود صادقا والمحال
ليس يمكن ذلك فيه ولا في وقت من الأوقات. وذلك ان من قال في زيد القاﺋﻢ
انه قاعد فهو قال كذبا، (الا انه) لم يقل محالا، إذ كان القعود ممكنا
له. واما من قال في قطر المربع انه مشارك للضلع، فقد قال كذبا محالا لا
كذبا فقط، فإنه لا يمكن ذلك ولا في وقت من الأوقات. ولذلك كان الصادق،
كما قيل في كتاب البرهان، منه ضروري وهو المقابل للكاذب المستحيل، ومنه
غير ضروري وهو المقابل للكذب الممكن.
فهذا هو أحد الأصول الموضوعة لما يروم بيانه، أعني أن طبيعة الكذب
غير طبيعة المستحيل.
والأصل الثاني ما تبين في كتاب القياس من أن >كذب< المحال لا
يلزم عن الكاذب المستحيل، أعني أنه متى كانت نتيجة القياس مستحيل ﻓﻔِﻲ
المقدمات كذب مستحيل ضرورة لا كذب ممكن.

[Page 159]
وإذا تقرر هذان الأصلان فأقول:
إنه ليس يمكن أن يلفي في شيﺀ واحد بعينه قوى متقابلة كل واحدة منها
موجودة زمانا غير متناه ولا محدود، ﺣﺘﱠﻰ يكون في الشيﺀ الواحد بعينه قوة الوجود
غير متناهية وقوة العدم غير متناهية. برهان ذلك أنه ان أمكن لم يخل ذلك من
ثلاثة أحوال: اما ألا ننزل فعل واحدة من القوتين موجودا في وقت من
الأوات، وذلك مستحيل في المتقابلات التي ليس بينها وساﺋﻂ، مثل (فعل)
قوة الوجود والعدم. واما ان ننزل فعليهما معا في جميع الزمان، وذلك أيضا
مستحيل، فان الضدين لا يمكن وجودهما في زمان واحد. واما ان ننزل ان فعل
احدى الفوتين هو الموجود داﺋﻤﺎ وفعل الأخرى معدوم داﺋﻤﺎ، وهذا القسم هو الذي
يظن به أنه ﻣُﻤﻜﻦ. فلننزل مثلا أن العالم فيه قوة داﺋﻤﺎ ان يوجد وان يعدم،
ولننزل فعل قوة الوجود هي الموجودة داﺋﻤﺎ، وفعل قوة العدم غير موجودة أصلا ولا
خارجة إلى الفعل في وقت من الأوقاتو، كما يعتقد ذلك ناس فيه وفي كثير
من الأشياﺀ الأزلية الداﺋﻤﺔ الوجود. وإذا كان ذلك كذلك، ففعل القوة المعدومة
الفعل داﺋﻤﺎ لا يخلو وجوده وخروجه إلى الفعل أن يكون ممكنا أو ممتنعا، فان المعدوم

[Page 160]
بالفعل لا يخلو من هذين المتقابلين في المستقبل. فان أنزلنا حدوث فعل هذه القوة
(ممتنعا، لم تكن هذالك قوة أصلا، فان الامتناع نقيض الامكان، ونقيض القوة.
وان أنزلنا حدوث فعل هذه القوة)، أعني المعدوم فعلها داﺋﻤﺎ، ممكنا فبين أنا
ان أنزلنا ذلك موجودا [13 و: ﻋ] بالفعل كان كذبا، الا أنه كذب غير
مستحيل، لكن ﻣﺘَﻰ أنزلنا ذلك موجودا بالفعل، لزم عن ذلك مستحيل،
وهو ان يوجد الفعلان المتضادان معا، أعني الداﺋﻢ الوجود والموجود
بالعرض والوضع، والكذب المستحيل لا يلزم عن الكذب
الممكن، فما وضع من انه كذب ممكن هو كذب مستحيل.
وإذا كان ذلك كذلك، فليس في الداﺋﻢ الوجود قوة للعدم أصلا، ولا يمكن
أن يلفي شيﺀ فيه فعل احدى القوتين المتقابلتين (موجود) داﺋﻣﺎ رفعل الأخرى
معدُوم داﺋﻤﺎ، فان ما فرض من ذلك ممكنا يعود محالا، وإنما كان ذلك كذلك
لأنه ليس في هذا الموضع زمان محدود يختص بفعل احدى القوتين المتقابلتين،
بل نسبتهما إلى كل نقطة من الزمان (15ظ) [26 ظ] نسبة واحدة.
وإذا كان هذا كله واجبا، فبين أنه ليس يمكن أن يلفي في الشيﺀ قوى متقابلة
أزمنة غير متناهية، بل زمان القوى المتقابلة متناه ومحدود ضرورة. وذلك ما
قصدنا بيانه.

[Page 161]

القسم الرابع


وإذ قد تقرر هذا فأقول: انه لا يمكن أن يوجد شيﺀ ذاﺋﻢ الوجود في
الماضي وغير مكون أصلا، فاسدا في المستقبل. ولا يمكن أيضا في شيﺀ كاﺋﻦ
أن ﻳﺒﻘَﻰ داﺋﻢ الوجود المستقبل غير فاسد فيه، وهو الذي قصدنا بيانه أولا
برهان ذلك أن الفاسد هو الذي عدم بعد الوجود، والمكون هو الذي يوجد بعد
العدم، فان كان شيﺀ أزلي يفسد في المستقبل، فقد وجدت له قوة العدم زمانا لا
نهاية له، وذلك مستحيل، على ما تبين قبل. و(هذا) الشيﺀ
الداﺋﻢ الوُجود ليس مستحيلا لن توجد (فيه) قوة العدم زمانا غير متناه
فقط،، بل وزمان متناه (أيضا)، فان المحال اللازم عن ذلك واحد، أعني
أن الممكن المفروض من ذلك يعود مستحيلا بأن يلزم عنه مستحيل. وكذلك
ﻣﺘَﻰ فرضنا مكونا ﻳﺒﻘَﻰ أزليا، كانت فيه قوة العدم زمانا لا نهاية له، فإن المكون
هو الذي وجد بعد العدم، فهاهنا كما يقول أرسطو حدان، أحدهما: متقدم
بالطبع على الآخر، وهو القابل للعدم الكاﺋﻦ والفساد، فان القابل للعدم

[Page 162]
متقدم بالطبع على الكاﺋﻦ والفاسد تقدم الحيوان على الانسان وساﺋﺮ الأنواع الداخلة
تحته. وإذا ارتفع المتقدم بالطبع ارتفع المتأخر، فانه إذا ارتفع الحيوان ارتفع
الانسان. وكذلك الحال في القابل للعدم مع الكاﺋﻦ والفاسد فنرجع ونعمل قياسا،
فنقول:
ان كان الشيﺀ الأزلي غير قابل للعدم، فهو غير مكون ولا فاسد، لكنه غير
قابل (للعدم)، على ما تبرهن هاهنا، فهو غير كاﺋﻦ ولا فاسد ضرورة.
فقد تبين من هذا القول انه ليس يمكن أن يكون (شيﺀ) أزلي يفسد
بأخرة، ولا شيﺀ مكون ﻳﺒﻘَﻰ أزﻟﻴَﺎ.

القسم الخامس:


وﻟﻤَﺎ تبين له أن الأزلي لا يمكن أن يكون فاسدا ولا كاﺋﻨﺎ، أخذ يبين لأي
أصناف الموجودات يوجد الكون والفساد، فان ذلك من تتميم القول في ذلك
ليظهر أن هاتين الطبيعتين متضادتان، فنقول:

[Page 163]
ان قولنا في الشيﺀ يمكن أن يوجد داﺋﻤﺎ >و<يضاده فولنا يمكن فيه ألا يوجد
داﺋﻤﺎ، ويناقض قولنا يمكن فيه الا يوجد داﺋﻤﺎ، قولنا ليس يمكن لا يوجد
داﺋﻤﺎ. والمتضادات ليس تقتسم الصدق والكذب في جميع الوجودات، بل
ان كان بينهما وسط، صدق سلب الطرفين عن ذلك الوسط، وان لم يمكن بينهما
وسط، أمكن أن يصدق سلب الطرفين عن طبيعة أخرى خارجة عن الجنس
الذي (لا) يوجد فيه التضاد. مثال ذلك في المتضادات التي بينها متوسط:
الأبيض والأسود اللذون بينهما ساﺋﺮ الألوان، مثل الأدكن وغيره، فانه يصدق عليه
انه لا أبيض ولا أسود. ومثال ذلك فيما ليس بينهما متوسط: الزوج والفرض، فإنه
يصدق سلبهما عن اللون الذي هو خارج عن [13 ظ: ﻋ] جنسهما، وذلك أن
قولنا اللون ليس بزوج ولا فرد صادق.
إذا كان ذلك كذلك، وكان الموجود داﺋﻤﺎ يضاده المعدوم داﺋﻤﺎ، فواجب أن
يكون الوسط الذي بينهما وهو الموجود في وقت المعدوم في وقت، يصدق
عليه سلب الطرفين ﺣﺘﱠﻰ تكون فيه قوة الوجود والعدم في زمانين مختلفين.
فلنبين بقول كلي أن الوسط بين كل متضادين يصدق عليه سلب
الطرفين بأن نضح الآن حرف أ وحرف ب ضدين لا يقعان على شيﺀ واحد معا،

[Page 164]
وليكن سالبة حرف أ حرف ﺣ، وسالبة خرف ب حرف ﺀ، وليكن الوسط بين
حرف أ وحرف ب حرف ﻫ. ولما كان حرف أ و ﺣ يقتسمان الصدق والكذب
على جميع الموجودات لأنهما متناقضان، وكان حرف أ ليس يصدق على حرف ﻫ
الذي هو وسط، فباضظرار أن يصدق عليه حرف ﺣ الذي هو سلب حرف أ.
(16و) [27 و] وكذلك يتبين أيضا أنه يصدق على ﻫ سلب حرف ب الذي هو
حرف ﺀ فإذا كان أ موجودا داﺋﻤﺎ وب معدوما داﺋﻤﺎ وجب ضرورة أن يكون ﻫ لا

[Picture]


موجودا داﺋﻤﺎ ولا معدوما داﺋﻤﺎ، وذلك بأن يوجد تارة ويعدم تارة وما هو بهذه
الصفة فواجب ن يكون كاﺋﻨﺎ فاسدا، إذ ليس يصدق عليه أنه ليس بكاﺋﻦ ولا
فاسد.
فقد تبين من هذا القول أن الوسط بين الموجود داﺋﻤﺎ والمعدوم داﺋﻤﺎ كاﺋﻦ
فاسد، وان طبيعة هذا الوسط مباينة لطبيعتي الطرفين جميعا. وكذلك يظهر يضا
هاهنا أن الكاﺋﻦ والفاسد غير الداﺋﻢ الوجود، كما ظهر قبل (أن) الداﺋﻢ الوجود
غير كاﺋﻦ ولا فاسد بذلك البيان بعينه، وذلك أنه ان أنزلنا الكاﺋﻦ والفاسد داﺋﻢ
الوجود، لزم أن يكون شيﺀ له قوة الوجود داﺋﻤﺎ والعدم داﺋﻤﺎ، وذلك مستحيل
على ما تبين قبل.

القسم السادس:


ولما تبين له الأزلي غير كاﺋﻦ ولا فاسد، وان الكاﺋﻦ والفاسد غير أزلي، وان
الطبيعتين متباينتان، (غاية التباين) أخذ أيضا يبين هاهنا أن كل ماهو غير

[Page 165]
كاﺋﻦ فهو أزلي، وكذلك ما كان غير فاسد فهو أزلي. وهو عكس ما (كان)
تبين أولا أن الأزلي غير كاﺋﻦ ولا فاسد. وهو يضع لذلك أصلين اثنين:
أحدهما يتسلمه أولا ثم يبينه بعد، وهو أن غير الفاسد وغير الكاﺋﻦ
ينعكس كل واحد منهما راجعا على صاحبه، أعني أن كل ماهو غير كاﺋﻦ فهو غير
فاسد، وكل ما هو غير فاسد فهو غير كاﺋﻦ.
والأصل الثاني: حد كل واحد منهما، أعني غير الكاﺋﻦ وغير الفاسد،
فنقول: ان غير الكاﺋﻦ بالحقيقة هو الشيﺀ الذي هو بالفعل موجود ولم يكن فيما
سلف غير موجود، وذلك أن ساﺋﺮ المعاني التي قيل عليها فيما قبل غير كاﺋﻦ هي
بنوع من الاستعارة. وحد غير الفاسد أنه الموجود بالفعل وليس يمكن فيه أن يكون
فيما يستقبل غير موجود. وإذ كنا قد وضعنا أن غير الكاﺋﻦ وغير الفاسد ينعكس

[Page 166]
كل واحد منهما راجعا على صاحبه، فحداهما ينعكس أيضا كل واحد منهما راجعا
على صاحبه. أعني أن كل ما كان موجودا بالفعل وليس غير موجود في الماضي فهو
ليس غير موجود في المستقبل.
وإذا كان (هذه) هكذا فأقول:
ان غير الكاﺋﻦ أزلي ضرورة، وذلك ان ماهو غير كاﺋﻦ فهو الموجود الآن وليس
غير موجود في الماضي، وما كان موجودا في الآن وهو ليس غير موجود في الماضي
فهو ليس غير موجود في المستقبل، على ما فرضنا قبل (من) ان هذين
الحدّين ينعكسان.
وإذا كان ذلك كذلك، فواجب أن يكون غير الكاﺋﻦ موجودا الآن وبالفعل
وليس غير موجود في الماضي ولا غير موجود في المستقبل، (وما هو ليس بغير
موجود في الماضي ولا غير موجود في المستقبل) فهو أزلي، لأن الأزلي مركب
(من) هذين الحدين، فغير الكاﺋﻦ أزلي ضرورة. وكذلك يبين بمثل هذا أن
غير الفاسد أزلي ضرورة.

القسم السابع:


ولما تبين له هذا أخذ يبين ما كان وضعه في هذا البيان وضعا وهو: أن غير
الفاسد وغير الكاﺋﻦ ينعكس كل واحد منهما رابعا على صاحبه. وهو يأخذ في بيان
ذلك أن الكاﺋﻦ والفاسد ينعكس كل واحد منهما رابعا على صاحبه. ولذلك

[Page 167]
يشرع أولا في بيان هذا على هذه الصفة: وذلك بأنيبتدﺉ أولا فيبين أن كل كاﺋﻦ
وفاسد فهو متوسط بين الموجود داﺋﻤﺎ، وذلك عكس ما تبين قبل من أن التوسط
بين الموجود داﺋﻤﺎ والمعدوم داﺋﻤﺎ كاﺋﻦ فاسد، وبيانه هكذا/:
بين الموجود داﺋﻤﺎ والمعدوم داﺋﻤﺎ وسط هو موجود في بعض الأوقات معدوم في
بعضها، وهو الذي له كون وفساد، على ما تبين قبل. فإذا كان هذا هكذا
فأقول: ان كل كاﺋﻦ وفاسد فهو وسط بين الموجود داﺋﻤﺎ والمعدوم داﺋﻤﺎ،
فليكن حرف الألف الشيﺀ الذي هو داﺋﻤﺎ معدوم، وليكن حرف الباﺀ الشيﺀ الذي
فيه داﺋﻤﺎ (16ظ) [27 ظ] موجود، وليكن حرف الجيم الشيﺀ الكاﺋﻦو فأقول:
انه وسط بين أ و ب. وليكن أيضا حرف ﺀ الشيﺀ الفاسد فأقول: انه وسط أيضا

[Picture]


بين حرف أ وحرف ب، وذلك أنه ليس لحرف أ غاية ولا نهاية في الزمان لأنه
معدوم داﺋﻤﺎ. ولا أيضا لحرف ب غاية ولا نهاية في الزمان لأنه موجود داﺋﻤﺎ، وأما
حرف ﺣ الذي هو الكاﺋﻦ فانه محدود الزمان، أعني زمان وجوده وزمان عدمه،
وذلك ان زمان عدم الشيﺀ المشار إليه في الموضوع الخاص به محدود مثل زمان

[Page 168]
وجوده. وإذا كان الكاﺋﻦ محدود زمان الوجود وزمان العدم فهو وسط بين غير
المحدود زمان العدم وزمان الوجود، وكذلك يبين أيضا بمثل هذا أن الفاسد وسط
بين الموجود داﺋﻤﺎ والمعدوم، ولما كان الوسط هو الذي له قوة الوجود وقوة العدم،
وكان كل واحد من هذين ينعكس راجعا على الوسط، وجب أن يكون كل واحد
منهما ينعكس راجعا على صاحبه، مثال ذلك أن نقول: الكاﺋﻦ هو ماله قوة
الوجود والعدم، وماله قوة الوجود والعدم فاسد، فيلزم عن ذلك أن يكون الكاﺋﻦ
فاسدا، ثم نعكس هذا القياس بأسره فيلزم عن ذلك أن كل فاسد كاﺋﻦ وهي
عكس نتيجة القياس الأول.
ولما تبين له أن الكاﺋﻦ والفاسد يرجع كل واحد منهما على صاحبه بالسواﺀ ﺑﻴّﻦ
بذلك أن غير الكاﺋﻦ وغير الفاسد يرجع كل واحد منهما على صاحبه بالسواﺀ،
وذلك انه قد تبين في كتاب القياس انه ﻣﺘَﻰ كان حدان متقابلان يقسمان
الصدق والكذب على جميع الموجودات، وحدان آخران بهذه الصفة، أعني
متقابلين، وكان أحد الحدين من أحد المتقابلين يصدق منعكسا على أحد الحدين
من المتقابلين الثاني، فانه واجب أن يلزم مثل ذلك في الحدين الاخرين من كل
واحد من المتقابلين. مثال ذلك أن الكاﺋﻦ وغير الكاﺋﻦ حدان متقابلان، والفاسد
وغير الفاسد حدان متقابلان، ﻓﻤﺘَﻰ تبين أن كل كاﺋﻦ فاسد وكل فاسد كاﺋﻦ تبين أن
كل غير كاﺋﻦ غير فاسد، وكل غير فاسد غير كاﺋﻦ، أو عكس هذا، أعني أنه ان
تبين ان كل غير فاسد غير كاﺋﻦ، تبين ان كل كاﺋﻦ فاسد وكل فاسد كاﺋﻦ.
فلنضع ان كل كاﺋﻦ فاسد وكل فاسد كاﺋﻦ على ما تبين، فأقول:

[Page 169]
إن كل غير كاﺋﻦ غير فاسد وكل غير فاسد غير كاﺋﻦ، على ما تبين في كتاب
القياس، وبيان ذلك يظهر على هذه الجهة: وذلك ان لم يكن غير الكاﺋﻦ غير
فاسد فهو فاسد ضرورة، فان كل شيﺀ اما ان يكون فاسدا واما غير فاسد، فان
كان غير الكاﺋﻦ فاسدا، وقد تبين أن كل فاسد كاﺋﻦ، كان غير الكاﺋﻦ كاﺋﻨﺎ، هذا
خلف لا يمكن، فغير الكاﺋﻦ هو غير فاسد ضرورة. وبمثل هذا يستبين أن غير
الفاسد غير كاﺋﻦ. وأرسطو يبين هذا بيانا عاما بالحروف ليرى صدق ذلك في جميع
المتقابلات، وذلك قريب لمن تأمله.
فجملة ما تبين من هذا القول:
اما أولا فتبين أن الموجود داﺋﻤﺎ ليس فيه قوة العدم.
وتبين ثانيا ببيان هذا أن الموجود داﺋﻤﺎ غير كاﺋﻦ ولا فاسد.
وتبين ثالثا أن المتوسط بين الموجود داﺋﻤﺎ والمعدوم داﺋﻤﺎ هو الكاﺋﻦ الفاسد وأن
الكاﺋﻦ والفاسد غير أزلي.
وتبين رابعا عكس البيان الثني وهو أن غير الكاﺋﻦ وغير الفاسد أزلي،
واستعمل في بيان ذلك أن غير الكاﺋﻦ وغير الفاسد ينعكس كل واحد منهما على
صاحبه بالتكاﻓؤ.

[Page 170]
وتبين خامسا عكس البيان الثالث وهو أن الكاﺋﻦ والفاسد متوسط بين المعدوم
داﺋﻤﺎ والموجود داﺋﻤﺎ.
وتبين سادسا من هذا أن الكاﺋﻦ والفاسد ينعكس كل واحد منهما راجعا
على صاحبه بالتكاﻓؤ.
وتبين سابعا أن غير الماﺋﻦ وغير الفاسد ينعكس كل واحد منهما راجعا على
صاحبه بالتكاﻓﺆ، وهي المقدمة التي استعملها (17و) [28 و] في البيان الرابع.
فهذه هي جميع الطالب التي تضمنها هذا الفصل. ثم انه بعد هذا يختم
هذا القول بأن يقول:
فان كان أحد يضع ﺷﻴﺌﺎ مكونا غير واقع تحت الفساد، أو ﺷﻴﺌﺎ ذاﺋﻤﺎ واقعا
تحت الفساد، فقد يجب عليه أن يبطل بعض هذه المقدمات والمقاييس التي
وضعناها، لكن ان كان ابطالها غير ممكن، فالوضع العاﺋﺪ بابطالها ممتنع
ضرورة.

القسم الثامن


ثم انه بعد ذلك يأتي ببراهين أربعة كلية على جهة الاستظهار، يبين بها أيضا

[Page 171]
أنه لا يمكن أن يكون شيﺀ أزلي كاﺋﻨﺎ ولا فاسدا ولا فيه قوة على ذلك، ويعتمد
في أكثرها على قوة البيان الأول الذي تقدم.

البرهان الأول:

فنقول:
ان كل شيﺀ فيه قوة على أن يفعل أو ينفعل، فان قوته انما تحد بغاية ما يمكن
فيها أن تفعل أو تنفعل، وبالشيﺀ الذي هو في النهاية من ذلك الفعل أو الانفعال،
وما كان بهذه الصفة، فقوته محدودة، على ما وضع قبل. وما هو بهذه الحال وفيه
قوة أن يقبل الكون والفساد، فالزمان الذي يقبل فيه الكون محدود، وكذلك
الزمان الذي يقبل فيه الفساد، ولذلك كانت قوى الأشياﺀ التي تقبل الكون والفساد
متناهية. وليس هاهنا في الوجود الا أحد أمرين: اما قوة متناهية، واما قوة
غير متناهية. فأما المتناهية فمحدودة، لأن لها مبدأ ونهاية. وأما غير المتناهية فغير
محدودة إلا أن يقول قاﺋﻞ انها أيضا محدودة، من جهة انه لا يوجد أعظم منها،
فان وجد شيﺀ أزلي كاﺋﻨﺎ، فقد وجدت قوة غير متناهية لها مبدأ. وكذلك ان وجد
شيﺀ أزلي فاسدﴽ، فقد وجدت قوة غير متناهية لها نهاية وما لا نهاية له لا يبعض

[Page 172]
ﺣﺘﱠﯽ تكون لبعض الأشياﺀ قوة لا نهاية لها في الماضي، ولبعضها قوة لا نهاية لها في
المستقبل، ولبعضها قوة لا نهاية لها في الأمرين جميعا، فإنه يلزم عن ذلك أمر
شنيع، وهو أن يكون مالا نهاية له أعظم مما لا نهاية له، لأنه لما كان مجموع
القوتين لا نهاية له، وكان كل واحد من القوتين أيضا لا نهاية له، كان واجبا أن
يكون مالا نهاية له جزﺀا لما لا نهاية له، وذلك شنيع مستحيل. فلذلك ما يجب أن
تكون القوي اما محدودة ذوات نهاية ومبدأ، واما غير محدودة بأن تكون غير ذوات
مبدأ ولا نهاية. لكن ان كان من البين بنفسه ان الآن الذي فيه يتكون المتكون هو
محدود بالطبع: وانه لا يصدق عليه في ذلك الآن انه غير متكرن، وان الآن الذي
يصدق فيه عليه أنه فاسد محدود بالطبع أيضا، فطبيعة الآنين مختلفة ضرورة. والآن
الذي هو مبدأ الكون أو فيه الكون هو نهاية فوة العدم الذي به تحد، والآن الذي
هو مبدأ الفساد هو نهاية قوة الوجود التي بها تحد. ولذلك كانت هذه الفوى
محدودة بالطبع ذوات مبدأ ونهاية في أنفسها وفي الأزمنة المساوقة لها. فان أنزلنا ﺷﻴﺌﺎ
لا يفسد، وأزﻟﻴﴼ يفسد، فمن البين أنه ليس يكون هنالك آن يختص بالطبع بوجود
الكون له أو الفساد دون ساﺋﺮ الآنات التي لا نهاية لها. وإذا لم يكن هنالك
آن يختص بكون الكاﺋﻦ وفساد الفاسد فليس هنالك قوة محدودة أصلا، وإذا لم
تكن هنالك قوة محدودة فلا كون هنالك ولا فساد.
فنرجع ونعمل من هذه المقدمات قياسا فنقول:
ان كل ما يكون ويفسد فله قوة محدودة، ولا شيﺀ مما يكون وﻳﺒﻘَﻰ أزليا، أو
شيﺀ أزلي يفسد، له قوة محدودة، فينتج عن ذلك في الشكل الثاني انه ولا شيﺀ
مما يكون ويفسد يوجد أزليا. فان قال قاﺋﻞ: انه قد يمكن أن يوجد في الكاﺋﻦ
والفاسد قوى غير متناهية، قلنا: انه يلزم عن ذلك المحال الذي فرغنا منه، وهو
أن يعود الممكن مستحيلا، أو يوجد الضدان معا. وذلك أنه [14 و: ﻋ] إذا
تشابهت الآنات في نسبتها إلى العدم والوجود، لزم أحد أمرين: اما أن ترتفع
المتقابلات معا، واما أن يوجدا >المتقابلان< معا، ولذلك من يضع أن

[Page 173]
(في) كل آن يفرض فيه الشيﺀ موجودا، يمكن أن يفرض فيه معدوما،
فيلزم عنه أن يكون الشيﺀ موجودا معدوما معا أو لا موجودا ولا معدوما، (17
ظ) [28 ظ] وذلك مستحيل.
وليس لقاﺋﻞ أن يقول ان الآنات المختصة بكون الكاﺋﻦ وفساده ليست متميزة
بأنفسها بالطبع، وانما يكون التمييز والتخصيص من قبل الفاعل، كما يمكن أن
يتوهم ذلك متوهم، فإنه لو كان ذلك كذلك، لم يكن هنالك امكان طبيعي
لوجود الكاﺋﻦ و>لا< فساده، لأنه كان يكون كل آن صالحا للوجود
والفساد، وذلك خلاف ما يعقل من أمر الموجودات. فإنه واجب أن يكون امكان
الموجودات المتضادة متضادا. وهذا كله بين لمن زاول هذا العلم الطباعي.

البرهان الثاني:


وأقول أيضا: ان وجد شيﺀ أزلي في الماضي فاسدا في المستقبل، فلا شك أن
قوة الفساد تتقدم فيه الفساد بالزمان، ولأنه موجود داﺋﻤﺎ في الزمان الماضي فهو
فاسد بالقوة في جميع هذا الزمان غير المتناه. وإذا كانت هذه القوة موجودة في
زمان غي متناه، فليس هنالك آن يختص بالطبع بفساده، بل نسبة فساده إلى
جميع الأنات التي لا نهاية لها في المستقبل واحدة، وإذا كان ذلك كذلك، ﻓﻤﺘَﻰ
وضعتاه فاسدا في جميع النقط التي في الزمان الماضي، كان ذلك ممكنا كاذبا
يعزضعنه محال رذلك مستحيل.

[Page 174]
وبمثل هذا يبين أنه لا يوجد شيﺀ كاﺋﻦ ﻳﺒﻘَﻰ أزليا في المستقل لأن الكاﺋﻦ
يلزم أن تكون قوة الكون متقدمة له في جميع الزمان الماضي غير المتناه، فيلذم
عن ذلك المحال المذكور.

البرهان الثالث:


وأقول أيضا: ان وجد شيﺀ أزلي فاسدا أو كاﺋﻦ أزليا، فإنه يلزم أن يكون
الفاسد لا فاسدا والموجود لا موجودا. وذلك انه إذا لم نضع زمان الكون متميزا
بالطبع من زمان الفساد، لزم أن يكون امكان فساده وتكونه في جميع الزمان
امكانا واحدا، فيلزم أن يكون كاﺋﻦ فاسد معا أو لا كاﺋﻦ ولا فاسد، وكل ذلك
مستحيل.
البرهان الرابع:


ونقول انه من المحال أن يكون شيﺀ كاﺋﻦ لا يفسد وشيﺀ غير كاﺋﻦ فاسدا.
وذلك أن الشيﺀ غير الكاﺋﻦ وغير الفاسد لا يمكن وجودهما بهذه الحال بالبخت ولا
من تلقاﺀ أنفسهما، بل من قبل طباﺋﻌﻬﻤﺎ، فان اختلاف طباﺋﻊ الموجودات هو السبب

[Page 175]
في ان كان بعضها يقبل الكون والفساد وبعضها يقبل الكون ولا الفساد
وذلك ان من الطباﺋﻊ ما شأنه أن يوجد داﺋﻤﺎ، ومنها ما شأنه أن يعدم داﺋﻤﺎ، ومنها
ما شأنه أن يقبل الأمرين جميعا. أعني الوجود تارة والعدم تارة في زمانين
مختلفين، فإن كانت هاهنا طبيعة تقبل الدوام، فليس يمكن فيها أن تفسد.
وكذلك ان كان هاهنا طبيعة تقبل الكون والفساد، فليس يمكن أن ﺗﺒﻘَﻰ أزلية،
الا لو أمكن أن تنقلب طبيعة الضروري الى طبيعة الممكن.
فإن قال قاﺋﻞ: يمكن أن تكون هاهنا طبيعة ازلية قابلة للعدم، لزمه المحال
المتقدم. وليس لقاﺋﻞ أن يقول: انما كان يلزم ذلك لو أنزلنا قوة العدم الذي
في المكون الباقي داﺋﻤﺎ بعد تمونه موجودة فيه بالاضافة إلى الزمان المستقبل، ﺣﺘﱠﻰ
تكون القوة مستصحبة مع الوجود الداﺋﻢ. واما إذا قلنا إن قوة العدم في الكاﺋﻦ
الأزلي انما هي بالاضافة الى الزمان الماضي، فليس يلزم شيﺀ من المحال المذكور.
وكذلك الأمر في الأزلي الفاسد.
وأرسطو يرد هذا القول ويقول:
انه من المعلوم بنفسه أن قولنا: في الشيﺀ قوة، ان ذلك انما هو بالاضافة إلى
الزمان المستقبل ولو كان مفهوم قولنا ان في شيﺀ قوة بالاضافة إلى الزمان
الماضي لكان الزمان الماضي والمستقبل واحدا وذلك شنيع ومستحيل. وإذا كانت
القوة انما تقال بالاضافة إلى المستقبل [14 ظ: ﻋ] فما وضع من المحال اللازم لا
يخل بصحته هذا الشك.
فهذه هي البراهين الكلية التي أتي بها هذا الرجل في ابطال ان يكون شيﺀ
مكون لا يفسد >أعني< الدهر كله، أو شيﺀ غير مكون يفسد بأخرة.
وينبغي أن تعلم أن هذه البراهين كلها تشترك في المقدمة الساﺋﻘﺔ إلى المحال وهو

[Page 176]
أن يكون الممكن / إذا وضع موجودا يلزم عنه محال، وتختلف باختلاف
المقدمات المقترنة في برهان برهان إلى المقدمة المشتركة.
فهذه هي البراهين الكلية التي كتبها أرسطو في هذا الطلب وهي
أربعة.
ثم انه بعد ذلك يختمخها بحجة خامسة مأخوذة من <البرهان>
الاستقراﺀ، وذلك انه يقول: انه يظهر بتصفح أشخاص الموجودات الكاﺋﻨﺔ
الفاسدة ان كل كاﺋﻦ فاسد وكل فاسد كاﺋﻦ، وذلك ظاهر في جميع أجناس التغايير
الأربعة. ويعني هذا الاستقراﺀ [أن] ما يظهر كم الكاﺋﻨﺔ الفاسدة انما هي
التي لها أضداد.

[Page 177]
قال:
الأزلي واجب ألا يكون له ضد.
وهنا انقضت معاني هذه المقالة.

مسألة:


ومما فيه موضع شك كبير أنه قد تبين هاهنا أنه ليس يوجد شيﺀ أزلي ممكنا ان
يفسد، وانه ليس فيه قوة على ذلك. وتبين مع هذا في هذه المقالة ان كل

[Page 178]
جرم فقوته متناهية، سواﺀ كان كستقيما أو مستديرا من قبل أنه متناهي
القدر. وإذا كان ذلك كذلك فالجرم السماوي متناهي القوة إذ هو متناهي القدر.
وإذا كان متناهي القوة فهو ممكن الفساد من ذاته غير فاسد من قبل القوة غير
المتناهية التي هي في غير هيولي، أعني المحركة له. وهذا قد صرح به الاسكندر
في بعض مقالالته وتبعه عليه ب س، فقال ان واجب الوجود قسمان:
قسم واجب الوجود بذاته، وقسم ممكنة الوجود بذاته واجب بغيره. وقد يظن أن
هذا يوافق مذهب أرسطو حين يقول في المقالة الثانية من السماﺀ: ولو كان في فلك
من الأفلاك المتحيرة كواكب كثيرة لكان الفلك الأقصى في تعب أن يحرك
الافلاك التي بعد [ه] بحركة مخالفة ويلويها وفي كل واحد منها كواكب
كثيرة. وقد قلنا مرارا كثيرة ان كل جرم له نهاية، ولهذه العلة صار في
كل فلك من الأفلاك المتحيرة كوكب واحد فقط، وهذا نص منه ان في الأفلاك
قوى متناهية. وإذا كان هذا هكذا ففي الأزلي قوة على الفساد، والقول كما
ترى نفي عنه أن تكون فيه قوة [على] الفساد، وهذا القول قد أوجبها له.
وقد شعر ﻳﺤﻴَﻰ النحوي بهذا الشك فأوجب منه أن يكون للعالم كون.

[Page 179]
فنقول نحن في حل هذا الشك:
ان الجسم يقال ان فيه قوة متناهية بمعنيين:
أحدهما وجود التناهي لحرك حركة في الشدة والسرعة.
واﻟﻤﻌﻨَﻰ الثاني تناهيها في الزمان، أعني عدم اتصالها وانقطاعها.
وإذا كان هذا هكذا وقد تبين أن كل متحرك من تلقاﺋﻪ ﻣﺆلف من
ﺷﻴﺌﻴﻦ: من محرك ومتحرك، وأن المتحرك فيه جسم والمحرك ليس بجسم،
بل هو صورة <في> المتحرك وكماله. وان المتحرك من تلقاﺋﻪ نوعان: نوع
يوجد المحرك فيه متقوما بالمتحرك على جهة ما تتقوم الصور الهيولانية بالهيولي، أعني
ليس يمكن وجودها من دون هيولي. والنوع الثاني يكون المحرك فيه ليس له قوام
بالمتحرك عنه، وهذا النوع هو محركات الأجرام السماوية. وإذا تقررت هذه
الأصول فأقول.
ان المتحركات من تلقاﺋﻬﺎ التي صورها المحركة متقومة بالمتحركات يصدق
عليها عدم غير التناهي بالمعنيين جميعا، أعني أنه ليس يمكن في حركاتها أن تقبل
سرعة يغيرنهاية وفعلا بغير نهاية ... ولا أن توجد حركاتها داﺋﻤﺔ. وهذا
ظاهر من البرهان الذي كتب <ذلك> في آخر الثامنة من السماع الطبيعي.

[Page 180]
والسبب في ذلك كما قيل أن القوى الجسمابية، أعني الفاعلة والمنفعلة، منقسمة
بانقسام الجسم. واما المتحركات من تلقاﺋﻬﺎ التي ليس لصورها قوام بالجرام
التي تتحرك عنها، وانما هي اجرام بسيطة مثل المواد التي بها تفعل وهي المواد
التي ليست فيها قوة لأن كل قوة لها نقيض، فقد [15 و: ﻋ] يظهر أنه يجب ألا
يوجد لها عدم التناهي الذي يكون من شدة الحركة وسرعتها، وذلك لأنه لو
وجدت غير متناهية من هذه الجهة لأمكن أن توجد حركة في الآن. وهذا التناهي
تقتضية طبيعة المتحرك بما هو جسم، لذلك قد يجب أن يعم هذا النوع من التناهي
كل متحرك من تلقاﺋﻪ شواﺀ كانت صورته التي يتحرك بها لها قوام بالأجسام أو
لا يكون لها. وذلك أن هذا اللاحق أعني تناهي الحركة في السرعة والشدة
هو شيﺀ لحق المتحرك من جهة ان كل متحرك جسم وكل جسم ذو نهاية في القدر.
وإذا كان هكذا فجميع الأجسام السماوية يوجد لها التناهي من هذه الجهة،
وبدلك اختلافت حركاتها في السرعة والبطﺀ واختلافت المتحركات عنها، أعني في
الكبر والعظم. ومن هذه الجهة قال أرسطو فيها أنه ليس يمكن في الاجرام السماوية
أن تحرك أي جسم اتفق من قبل انها ليست تتحرك بأي شدة اتفقت، بل كلها لها
نسب محدودة بين المحركات والمتحركات، وذلك [أنه] لو كانت المتحركات من
الاجرام السماوية أكثر مما هي للحقها الكلل، وبهذا النوع من عدم غير
التناهي الذي يوجد للجرم السماوي ﺑﻴّﻦ أرسطو على العموم ان كل جسم فهو متناه
القوة سواﺀ كان سماويا أو غير سماوي، من قبل ان كل جسم لا يخلو من [أن]
يكون فاعلا أو منفعلا، وكل فعل وانفعال فهو متناه في الشدة، وهو البرهان العام
الذي كتبه في الاولى من السماﺀ ... ان كل جسم متناه سواﺀ كان

[Page 181]
مستديرا أو مستقيما بعد أن أتي في بيان هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ للجرم المستدير بما يخصه وللمستقيم
بما يخصه.
وإذا تبين أن حركات الاجرام السماوية هي متناهية من هذا الوجه غير متناهية
من الوجه الثاني، أعني من اتصال الحركة، ﻓﺒﻴّﻦ أن سبب التناهيين مختلفان
أما سبب التناهي الموجود في الاتصال، أعني في اتصال الحركة ولجوق الكلال من
هذه الجهة للمتحرك، فهو أن المحرك لها وجوده بالمتحرك أعني أنه صورة قديمة به،
وانه جسم مركب من مادة وصورة، ولذلك لزم أن يكون محرك الجسم السماوي
ليس لوجوده تعلق بالمتحرك، أعني ليس هو صورة في مادة. إذ كان قد تبين أن
الحركة متصلة لا انقطاع لها على ما تبين ذلك في الثامنةو رتبين من ذلك
أنه كما أن المحرك له واحد بسيط كذلك الجرم الأزلي المتحرك عنه واحد
وبسيط. واما سبب النوع الثاني من التناهي فهو طبيعة الجسم بما هو جسم، سواﺀ
كان مركبا من مادة وصورة أو بسيطا ان الفي جسم بهذه الصفة. وإذا كان الأمر
هكذا ﻓﺒﻴّﻦ ان هذا النوع من عدم غير التناهي الذي يكون موجودا للأجسام من
قبل الصورة الهيولانية التي فيها هو الذي من قبله وجد للجسم الفساد أو امكان
الفساد، لا من قبل النوع الآخر من التناهي الموجود للأجسام بما هي أجسام
متناهية وهو التناهي الذي يكون من شدة التحرك وضعفه.
وإذا كان ذلك كذلك فلو كان الجرم السماوي المتحرك عن الصورة المحرك له
ﻣﺆلفا أيضا من صورة ومادة على ما يعتقده ب س لكان الشك لازما ولا بد،
وكان يجب أن يعتقد أنه يوجد شيﺀ أزلي فيه امكان الفساد من غير أن يفسد. لكن
لما كان قد تبرهن انه ليس يوجد شيﺀ أزلي فيه قوة على الفساد فواجب أن يكون
الجرم السماوي بسيطا لا مركبا، بل يكون ليس ﻣﺆلفا الا من ﺷﻴﺌﻴﻦ فقط: الجسم
المتحرك والصورة المحركة له غير الهيولانية. وقد يظهر هذا من قوة البيان المكتوب في
آخر الثامنة من السماع، وذلك أنه لما تبين أن حركة الجرم السماوي أزلية فقد

[Page 182]
يجب أن يكون المحرك لهذه الحركة بصفة تتأتي منه هذه الحركة الداﺋﻤﺔ، وكذلك
يجب أن يكون هذا المتحرك بصفة يتأتي منه هذا القبول الداﺋﻢ التحرك. فاما الصفة
التي من قبله وجب دوام هذا الفعل للمحرك فهو تبرﺅه من الهيولي، إذ كل
محرك هيولاني منقطع التحرك. وأما الصفة [15 ظ: ﻋ] التي وجب بها هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ
للمتحرك أعني القبول داﺋﻤﺎ فهو انه بسيط غير مركب، إذ كل مركب فهو لا يفعل
التحرك داﺋﻤﺎ ولا يقبل داﺋﻤﺎ. فإذا وجب أن يكون المحرك والمتحرك في هذا المتحرك
من تلقاﺋﻪ الأزلي مباينا للمحرك والمتحرك الذي يأتلف منهما المتحرك من تلقاﺋﻪ غير
الأزلي التحرك وأما فهذا أمر لاﺋﺢ كما ترى. فاذن ليس في الجرم السماوي
قوة امكان على الفساد أصلا ولا التناهي الذي أوجبه له أرسطو هو الذي يجب من
قبله امكان القساد فيه. ولو كانت توجد صورة هيولانية غير كاﺋﻨﺔ ولا فاسدة من
قبل غيرها لا من قبل ذاتها، لأمكن في الجوار الفاسدة أن تقبل الأزلية [و]
لكان الأزلية والفاسد واحدا بالجنس، وهذا كله مستحيل.
والتوهم الذي ﺻﻴّﺮ القوم الى هذا الظن هو أنهم ظنوا أن ما تبين في آخر
الأولى من السماع من ان كل جسم فهو مركب من مادة وصورة هو بيان عام.
وليس الأمر على ما ظنوا، لأن البرهان هنالك انما كان على الأجسام الكاﺋﻨﺔ الفاسدة
من جهة ما هي كاﺋﻨﺔ فاسدة، ومن قبل الكون والفساد تبين وجود الهيولي لها. وأما
الاجرام الأزلية فليست مركبة من مادة وصورة على هذه الجهة. نعم كل متحرك من
تلقاﺋﻪ بما هو متحرك فهو مركب من صورة وموضوع، وموضوع المتخركات السماوية
هي الأجسام البسيطة وصورها هي المحركات المفارقة، وموضوع المتحركات من
تلقاﺋﻬﺎ الفانية هي الأجسام المركبة. وقد يوهم التركيب في الجسم السماوي ما
قيل فيه في أول الأولى من السماﺀ من أنه جرم لا ثقيل ولا خفيف، وذلك أنه قد

[Page 183]
يظن أن هذا العدم يدل على صورة قاﺋﻤﺔ بهيولي، وليس الأمر كذلك، بل انما
يدل بذلك على صورة هذا الجسم المفارق لا على صورة فيه هي في موضوع
غير صورته التي ليست في موضوع، أو على الصورة المفارقة من حيث هي صورة
لموضوع غير منقسم إلى صورة ومادة، وذلك واجب لأنه إذا قلنا أن هذه الطبيعة
هي التي اقتضت له الأزلية بالذات، فقد يلزم ضرورة فيها الا تكون مركبة من
مادة وصورة، لأنه لو كانت مركبة من مادة وصورة لكانت أزلية بالعرض،
ووجود ما بالعرض في الأزليات مستحيل، أو لزم الا يعترف بأن كل مركب
من مادة وصورة كاﺋﻦ فاسد. ومن هذه الجهة، أعني من جهة كونه بسيطا،
صار هذا الجرم لا موضوع له ولا ضد، ولذلك ما يحتج أرسطو لهذا الجرم أنه غير
كاﺋﻦ ولا فاسد من قبل انه ليس له موضرع ولا ضد. وذلك نص منه في أول
هذه المقالة.
وبيس العجب من خفاﺀ هذا اﻟﻤﻌﻨَﻰ على ب س، بل من هلفاﺋﻪ على
الأسكندر، مع أنه يسلم أن الجرم السماوي بسيط غير مركب من مادة وصورة
وذلك ظاهر من قوله في شرح مقالة اللام.
واعلم أنه لا خلاف في ذلك بين المفسرين فانه ظاهر من كلام تامسطيوس في
شرحه للسماﺀ والعالم، أعني أن الجرم السماوي لا موضوع له، وكذلك قد صرح
أبو نصر بذلك أعني أنه مذهبة.
وإذا قال قاﺋﻞ: إذا قلتم في الجرم السماوي انه ليس فيه قوة وانه لذلك بسيط
وأزلي فما الذي ينمع أن يكون متحركا من ذاته من غير ادخول أزلي محرك مفاق؟
قلنا ان الذي قام البرهان عليه هو أن الجرم السماوي ليس فيه قوة في الجوهر،
ولذلك لا يقبل التغير الذي يسمى كونا وفسادا، لا لأنه ليس فيه قوة على

[Page 184]
الاطلاق، بل فيه قوة في الأين لا في غير ذلك، ولذلك احتيج الى ادخال محرك
من خارج ليس فيه قوة أصلا لا في الأين ولا في غير ذلك. ومن هذه الجهة يصح
أن يقال في الجرم السماوي أنه ممكن الوجود بذاته واجب بغيره، أعني في الأين
فقط لا في الجوهر، وان يقال ان فيه قوة متناهية، وأنه استفاد عدم التناهي
من غيره. ومن هذه الجهة يصح أيضا ان كل جسم ففيه قوة متناهية [16 و:
ﻋ]، والذي امتنع هاهنا أن يكون الأزلي فيه قوة في الجوهر لا في الأين.
وهذه اﻟﻤﺴﺄلة في في نهاية الجواب ولم يحصلها أحد ممن بلغنا قوله هذا
التحصيل.
كملت المقالة الأولى من كتاب السماﺀ والعالم بعون اﻟﻠﻪ وتوفيفه.

[Page 187]

المقالة الثانية


[16 و : ﻋ ]
وهذه المقالة تشتمل على أربع جمل
الجملة الأولى بمنزلة الصدر لها.
الجملة الثانية : في التكلم في الجرم المستدير.
الجملة الثالثة : في التكلم في الكواكب.
الجملة الرابعة : في التكلم في الأرض.
الجملة الاولى

وفي هذه الجملة ثلاثة فصول:
الفصل الأول يذكر فيه ما تبين من أمر السماء انها غير كائنة ولا فاسدة ويأتي
بالشهادات المشهورة والحجج المقنعة.
الفصل الثاني: بين من أمرها أنها لا يلحقها في حركتها النصب ولا التعب
ولذلك ليس تحتاج إلى شيء يحملها كما كان يزعم كثير من القدماء.
الفصل الثالث: يبين فيه أنه ليس السبب في دوام حركتها سرعة الحركة ولا
ثباتها ودوامها من أجل انها ذوات نفس كما كان يرى ذلك كثير من القدماء.

[Page 188]

الفصل الاول :

فنقول: انه قد تبين من الأقاويل السالفة كلها ان السماء ليست بكائنة ولا
فاسدة، ولا يمكن أن تفسد ، كما قال قوم ، لكنها دائمة لا مبدأ لها زمانيا
ولا منتهى بل هي علة الزمان والمحيطة به.
قال:
وقد يشهد لذلك وقد يقنع فيه ما تبين من ابطال آراء المخالفين لنا في ذلك
وذلك انه قد تبين، مع بيان انها غير كائنة ولا فاسدة ، ابطال الآراء والحجج التي
قيلت في كونها وفسادها ، وذلك مما يزيد القول وضوحا وتماما.
قال:
وقد يقنع أيضا في ذلك أقاويل الآراء السالفة في الاحقاب الداثرة، أحسب

[Page 189]
يشير به إلى الكلدانيين وذلك انهم قالوا ان في الوجود شيئا من الأشياء المتحركة
فاسد ومنقض وشيئا دائم الوجود غير فاسد ولا منقض. وهذه ليست لحركتها بدء
ولا نهاية، بل هي النهاية لكل ماله نهاية، والغاية لكل ما له غاية، والمحيطة بكل
محيط ، وهي تامة تحيط بكل [16 ظ : ﻋ] ناقص ليس بتام، وبكل ماله غاية
ومبدأ ونهاية وحركة وسكون. فأما هي فلا مبدأ لها ولا غاية لحركتها لكنها دائمة في
الزمان غير المتناهي ولا المنقضَى وأما سائر الحركات فمنها ما تكون هذه الحركة
الدائمة علة في ابتدائها ومنها ما تكون علة في انقضائها.
قال:
ومما يشهد لهذه أيضا أن جميع الأمم المتقدمة والفرق السالفة جعلوا السماء
موضعا لله عز وجل ، وذلك لاعتقادهم دوام وجودها وامتناع الفساد عليها من بين
سائر الموجودا .

الفصل الثاني

ويبين ، مما ذكرنا من المقاييس والبراهين على أنها غير كائنة ولا فاسدة ولا قابلة
للانفعال والاستحالة، انه لا يلحقها في هذه الحركة المحسوسة لها نصب ولا
تعب من أجل أنه ليس فيها مبدأ حركة مخالفة للحركة الطبيعية التي فيها ، بمنزلة
الحال في الحيوان، فانه ليس سبب النصب فيه شيء الا أن حركة النفس فيه
مخالفة لحركة جسمه الطبيعية . ولذلك ما يظهر أن هذا الجسم ليس هو محمولا ولا
له حامل إذ كان غير ثقيل ، كما زعم قوم من القدماء ان هاهنا شيء يحمل

[Page 190]
السماء ، وسموه باسم خاص، ولولا ذلك لسقطت. وانما ساقهم إلى ذلك
اعتقادهم في السماء انها ثقيلة.

الفصل الثالث

وكذلك يبين أيضا مما سلف انها ليست دائمة الحركة وثابتة في موضعها من أجل
سرعة حركتها ، كما كان يرى ذلك انبا دقليس ، ويحتج بما يظهر من أن سرعة
الحركة سبب لوقوف الشيء وثباته في مكانه ، فان الثبات والوقوف الذي بهذه
الصفة هو قسر، ومستحيل أن تكون الحركة القسرية دائمة الوجود كما تبين مرارا
كثيرة. وكذلك يظهرأيضا أنه ليس السبب في دوام حركتها انها ذات نفس، وان
النفس تضطرها إلى ذلك، لأن الحياة التي بهذه الصفة لا تكون الا بتعب وذلك
انها تحرك الجسم على غير حركته الطبيعية بل بالقسر. والحياة التي بهذه الصفة
ناقصة، وذلك انها في غاية الجهل والنصب إذ كانت تكون على هذا قد عدمت
الراحة التي توجد للحيوان الكائن المائت.

[Page 191]
قال:
وما قاله القدماء في أنه يوجد شيء يتحرك قسرا حركة لا نهاية لها فقول خارج
عن الاقناع وعن القبول، وذلك شبيه بقولهم <في> أن الالهة كثيرة.
قال:
وينبغي أن نرفض هذه الحركات ونرجع إلى تمام القول في هذا الجسم
الشريف.

الجملة الثانية


وهذه الجملة فيها خمسة مطالب:
المطلب الأول: في أن للسماء يمينا ويسارا وفوقا وأسفلا وأماما
وخلفا.
المطلب الثاني: في السبب الذي له صارت الحركات المستديرة كثيرة.
المطلب الثالث: في أن شكل السماء مستدير.

[Page 192]
المطلب الرابع: لم كانت حركات السماء من جهة دون جهة.
المطلب الخامس: في أن حركات الاجرام السماوية مستوية.

المطلب الأول:

قال:
ولأن قوما من القدماء قالوا أن للسماء [ 17 و : ﻋ] يمينا ويسارا وهم شيعة
فيثاغورش فينبغي أن نفحص عن ذلك. وإن كان يمين ويسار فقد كان تكون لها
الجهات الأخر، أعني الفوق والأسفل والأمام والخلف، على ما تبين في كتاب
حركة الحيوان، وما سنبين في هذا القول، فنقول :
إن هذه الجهات الست، أعني اليمين واليسار والأمام والخلف والفوق
والأسفل، متميزة بالطبع في الحيوان والنبات، وأعني بتميزها بالطبع في الحيوان
اختلافها في القوة وفي الشكل وفي كليهما، فاما النبات فليس إلا العلو والأسفل

[Page 193]
فقط، وأما الحيوان فله الست جهات. وذلك أنه واجب أن تكون هذه الجهات
الست للاجرام التامة وهي المتنفسة، وهذه الجهات توجد متميزة في الحيوان
والنبات بالطبع باختلاف القوَى الموجودة فيها في التحريك، فإن جهة الفوق هو
طرف الطول الذي فيه مبدأ حركة النمو في النبات والحيوان، وجهة اليمين هو طرف
العرض الذي منه ابتدأت الحركات في المكان، وجهة الأمام هو طرف العمق الذي
فيه الحواس، والخلف الذي هو الأين المضاف إلى هذه الجهة هو الموضوع الذي
إليه حركة الحيوان. وهذه الجهات انما توجد متميزة بالطبع في المتنفس، واما في
غير المتنفس فهي غير موجودة بالطبع ، فإنه ليس في النار ناحية يختص بها مبدأ
حركتها من النواحي الست بل انها تتحرك <النار> من كل جهة من جهاتها إلى
فوق ، وكذلك الأرض إلى أسفل. وانما يمكن أن يتخيل في هذه الأشياء هذه
الجهات على طريق التشبيه بالإضافة إلينا، مثل ما يفعله أصحاب الزجر ، فإنهم
يسمون ما جرَى عن ايماننا يمينا وما جرَى عن اليسار يسارا، ومثل ما نقول ان
للصنم يمينا وشمالا.
ولما تقرر أن كل متنفس فله الجهات الست المتميزة بالطبع، وكانت السماء
متنفسة ومتحركة من بعض الجهات دون بعض، أنتج عن ذلك أن السماء لها
جهات ست هي اليمين واليسار والأمام والخلف والفوق والأسفل، ثم أتَى بالشكوك
التي ⎤يمكن أن⎡يتشكك بها على هذا الرأي وهي ثلاثة :
أحدها أن أكثر هذه الجهات متميزة بالشكل في الحيوان مثل الأمام والفوق،

[Page 194]
والجرم السماوي شكل جميع جهاته واحدة إذ هو كَرى، وهذا هو الذي صيّر
أفلاطون أن يعتقد أن السماء بهذه الجهات.
والثاني أن حركة الجرم السماوي ليس لها مبدأ زماني وإذ لم يكن لها مبدأ
زماني فليس لها مبدأ في الموضع.
والثالث أن أجزاء الكرة لا تحفظ موضعا واحدا بل الجزء الذي يكون منها في
الاين الذي هو يمين يعود في الأين الذي هو اليسار، وكذلك الحال في الأمام
والخلف.

وهو يحل هذه الشكوك باعطاء جهة التصور التي بها يضع أن للسماء هذه
الجهات الست وذلك، كما يقول، بأن نتخيل انسانا قد أدار على نفسه فلكا وهو
يحركه من المشرق إلى المغرب ومن تحت الأرض، فإنه يجب أن يكون رأس هذا
الانسان مما يلي القطب الجنوبي، وقدماه مما يلي الشمالي، ويمينه في الأفق الشرقي،
وشماله في الجنوبي، ووجهه إلى وسط السماء ، ويكون مبدأ الحركة من هذه في
الأفق الشرقي ضرورة، ويكون تحريكه إلى وسط السما ، وذلك على ما تلفي عليه
الحركة اليومية، فإنه يظهر من أمرها أن الجزء الذي يصعد فوق الأرض هو

[Page 195]
المقصود أولا بالطبع، وأعني بالأرض ها هنا منها المسكون منها وأن الذي يهبط منها إنما
هو من أجل الذي يصعد، كالحال في حركة الحيوان المكانية ، فإن اليمين هو الذي
يحركه على القصد الأول واليسار إنما يحركه على جهة الاعتماد عليه لتعود حركة
اليمين ، وكذلك يظهر أن الأفق الشرقي هو موضع ابتداء حركة السماء وهو يمينها،
وأن الأفق الغربي إنما تتحرك فيه السماء لتعود الحركة في الأفق الشرقي.
وإذا كان ذلك كذلك فمبدأ التحريك هو ضرورة على القصد الأول في الأفق
[17 ظ : ﻋ] الشرقي، ولذلك يجب أن يكون هذا الموضع يمين السماء، وغاية
هذه الحركة هو وسط السماء الذي هو الأمام. فعلى هذا يمكن أن يتوهم لهذه
الحركة مبدأ ونهاية من قبل المحرك لها وأن كان يتحرك دورا وفي غير زمان، وكانت
جهات الفلك متشابهة فمعنَى اليمين الموجود للفلك أنه يلفَى له موضع محدود منه
ابتداء حركة المشرق على القصد الأول، ومعنَى الأمام أنه يلفي له موضع انتهاء
الحركة للمحرك له على القصد الأول، وليس هذا المبدأ منه في أجزاء محدودة،
فإن الجزء من الفلك الذي نتوهمه يمينا بكونه في الأفق الشرقي يعود يسارا بكونه في
الأفق الغربي، وكذلك الأمام أو الخلف، وإنما يظهر فعله في مواضع منه محدودة.

[Page 196]
وبحق كان ذلك كذلك لأن القوة المحركة له ليست منقسمة بانقسام الجسم
فيكون في جزء دون جزء منه. فمعنَى قول أرسطو أن للسماء يمينا وأماما أن مبدأ قوة
التحريك على القصد الأول يوجد في الأفق الشرقي آخذا إلى وسط السماء،
كما قال في آخر السماع أن المحرك هنالك يعني في أسرع الدائرة التي في الفلك وهي
أعظمها ، فكما أنه حيث وجدت سرعة الحركة نسب ذلك الموضع إلى وجود
المحرك ، كذلك حيث وجد مبدؤها ومنتهاها على القصد الأول سمى ذلك يمينا وأماما
وسميت مقابلتها يسارا وخلفا، وذلك على وجه الشبه باليمين واليسار والأمام والخلف
الموجود في الحيوان، فإنه لا فرق بينهما إلا أن هذه الجهات تتميز بالموضوع والقوة
المحركة وهذه تتميز بالقوة المحركة وبالموضع لا بالموضوع، وأما الفوق والأسفل في
الفلك على هذا فتميز بالموضع والموضوع، وذلك أنه إذا تميزت الحركة بالمبدأ
والنهاية تميز الفوق والأسفل، فعلى هذا ينبغي أن يتصور مذهب أرسطو في أن
للسماء يمينا ويسارا وأماما وخلفا وفوقا وأسفلا.
وبيّن أن هذا المعنَى الموجود للسماء من هذه الجهات هو مقول بتشكيك مع
الذي يوجد في الحيوان ، كما [أن] معنَى ذي النفس فيها يقال بتشكيك،
ولكن المقدمات المشهورة قد تستعمل بوجه مّا في البرهان، ولاسيما في الأمور التي لا
يمكن فيها غير ذلك، وهي الأشياء التي ليس بأيدينا فيها مبادئ إلا من هذا الجنس
وان لم يفهم مذهب أرسطو حسب هذا القول تلحق شكوك ليس يخلو منها كما
عرض لأبي نصر وغيره.
ولما فرغ من هذا جعل يعدل آل فيتاغورش في معنين اثنين:
أحدهما أنهم صيروا للسماء يمينا ويسارا لا غير ذلك من الجهات. ويقول أن

[Page 197]
وجود الفوق والأسفل والأمام والخلف في جميع ما له يمين ويسار أبين من وجود
اليمين واليسار، وذلك أن الفوق والأسفل والأمام والخلف يتميز في الحيوان
بالشكل والقوة، وأما اليمين واليسار فإنما يتميزان فيه بالقوة فقط. ويقول أنه
واجب أيضا إذا وجد اليمين واليسار ان يوجد الفوق والأسفل، فإن الفوق والأسفل
متقدمان بالطبع على سائر الجهات. وإذا وجد المتأخر وجد المتقدم بالطبع، فإن
المتقدم والمتأخر يقالان على أصناف كثيرة.

ومن الدليل على أن الفوق والأسفل متقدمان بالطبع على سائر الجهات انهما
انما يوجدان للنبات دون سائر الجهات، والنبات يتقدم بالطبع على الحيوان.
وأيضا فإن الفوق والأسفل طرفا الطول واليمين واليسار طرفا العرض. وإذا كان
الطول متقدما على العرض فواجب أن تكون أطرافه متقدمة على أطراف العرض،
وإذا كانت هذه الأطراف متقدمة بعضها على بعض فواجب أن تكون المبادئ التي
فيها بهذه الصفة. وأيضا فإن الفوق والأسفل هما ابتداء الحركة الطبيعية
التي هي حركة النشء والنمو، واليمين هو ابتداء الحركة في المكان، والحركة الطبيعية
متقدمة على الحركة في المكان.

وإذا كان هذا [18 و : ﻋ] كله كما وصفنا فالفوق والأسفل متقدمان بالطبع
على اليمين واليسار والأمام والخلف، وكذلك الأمام والخلف متقدمان بالطبع على
اليمين واليسار، فإنه ليس كل حيوان حساسا متحركا في المكان، وكل حيوان
حساس فله أمام وخلف. فهذا أحد المعنيين اللذين يلوم عليهما شيعة
فيتاغورش.

[Page 198]
والمعنَى الثاني تصييرهم اليمين واليسار لجميع الموجودات.
وكذلك يلوم من يقول أن أهل الربع الشمالي يسكنون في الجهة / (18 و)
[20 و] الفوقية من الفلك والجهة اليمنَى من العالم ، والأمر بعكس ذلك
على ما تبين، وإنما يمكن أن يكون سكانهم في الجهة الفوقية وفي جهة اليمين من
سائر الأفلاك التي تتحرك من المغرب إلى المشرق، فإنه واجب أن يكون اليمين
واليسار والفوق والأسفل والامام والخلف في هذه بخلافها في الحركة اليومية.

فقد تبين من هذا القول المعنَى الذي قصد أرسطو من أن للسماء يمينا ويسارا
وأماما وخلفا وفوقا وأسفلا، و(هذا) هو المعنَى الذي لا ينبغي أن يتوهم على
أرسطو غيره. فإنه محال أن يريد أن لها هذه الجهات بالوضع والنسبة إلينا
كحال تصورنا إياها في الجمادات، ومحال أن يريد أن هذه الجهات متميزة أيضا
باجراء محدودة في السماء كالحال في الحيوان فإنه يظهر أنها متبدلة في السماء وأما
الذي يمكن أن يتوهم أنه غير متبدّل منها فهو الفوق والأسفل فقط. وإذا كان
ذلك كذلك فلم يبق إلا الوجه الذي قلناه ، وذلك ما أردنا بيانه.

المطلب الثاني :

ولما كان قد تبين أن السبب في كثرة الحركات المستقيمة إنما هو التضاد الموجود
في الحركات المستقيمة، وكان قد تبين من امر الحركة المستديرة أنه ليس يوجد فيها
تضاد، أخذ يفحص هاهنا عن السبب الذي له صارت الحركات المستديرة
كثيرة، وهو أولا يعرف اعتياص الفحص عن مثل هذه الأشياء في الاجرام

[Page 199]
السماوية لبعدها عنا في المكان والطبيعة، ولذلك كان ما يدركه الحس من أمرها
ليس في كفاية، ولكن كما قال واجب أن نشرع في الفحص عن ذلك بحسب
الطاقة الانسانية، فنقول :
إنه لما كان كل شيء موجود فإنما هو من أجل فعله، وكان الشيء الالهي الأزلي
واجبا أن يكون الدوام والبقاء هو فعل جوهره وذاته، وهذه هي الحياة

[Page 200]
الأزلية، فإن كان هاهنا (حياة) أزلية فواجب أن يكون هاهنا حي أزلي متحرك
حركة أزلية، وواجب أن يكون هذا المتحرك جسما مستديرا على ما تبين. وإذا كان
هاهنا جسم مستدير متحرك حركة دائمة، فباضطرار أن يكون هاهنا شيء ثابت عليه
يتحرك، لأنه لابد لكل متحرك من شيء ساكن عليه يتحرك، والشيء الذي
بهذه الصفة هو الأرض، فواجب إذا كان هاهنا جسم متحرك دورا أن يكون هاهنا
جسم خفيف باطلاق وهو النار، لأنه إذا وجد أحد الضدين وجد الضد
الآخر ضرورة، والسبب في ذلك أن الضدين موضوعهما واحد، ونسبة الهيولي إليهما
نسبة واحدة، بل النار هي المتقدمة بوجه ما على وجود الأرض، على جهة ما
تتقدم الملكة العدم، فإن الثقل عدم الخفة، كما أن البرودة عدم الحرارة، والرطوبة
عدم اليبوسة، وإذا وجد العدم وجدت الملكة ضرورة، فإن العدم انما يقال
بالإضافة إلى الملكة. وإذا كان هاهنا أرض ونار، فباضطرار أن يكون بينهما
ماء وهواء، وذلك أن الماء يضاد النار بجميع كيفياته، والهواء يضاد الأرض بجميع

[Page 201]
كيفياتها، إذ كانت الأرض باردة يابسة والهواء حار رطب والنار حارة يابسة والماء
بارد رطب، فيجب من جهة التضاد الذي بين الماء والنار <واجب> أن
يوجد الهواء [18ظ : ﻋ] المتوسط إذا وجدت النار، ومن جهة التضاد الذي بين
الأرض والهواء أن يوجد الماء إذا وجدت الأرض، وسنبين هذا اللزوم فيما بعد بيانا
أكثر.
وإذا كان هذا هكذا ، فباضطرار كان وجود الأضداد عن حركة الجرم
المستدير، وإذا وجدت الأضداد فباضطرار أن يوجد كون وفساد. وذا كان الكون
والفساد فيها واجبا أن يجري على تعادل ونظام لتبقَى هذه الأجسام المتضادة
محفوظة بكليتها، إذ كان وجودها دائما من ضرورة وجود المتحرك المستدير دائم
الحركة، فواجب أن تكون الحركات المستديرة أكثر من حركة واحدة ليكون
التعادل والتساوي الموجود لها ، أعني للاسطقسات، في الكون والفساد ليس انما
وجد لها من قبل أنفسها فقط، بل ومن قبل الحركات (18 ظ)[ 20 ظ] المختلفة
المجانسة بتحريكها لطبيعة طبيعة من هذه الطبائع الأربع ، مثل مجانسة فعل

[Page 202]
القمر لتوليد الماء، ومجانسة فعل الاجرام لتوليد النار، فإن التعادل الذي يوجد
لها في الكون والفساد إنما يلفي لها من هاتين الجهتين، أعني من قبل طبائعها المتضادة
المتقاومة، ومن قبل اختلاف مقاومة الأسباب المجانسة لمضادة مضادة منها بعضها
بعضا، فإنه واجب ان كان مزمعا أن يكون هاهنا كون وفساد دائما أن يكون يجري
ذلك على التكافؤ ونظام محدود. وإذا كان ذلك كذلك فواجب أن يكون هنالك
تكافؤ وتعادل بين الأسباب الفاعلة والنفعلة.
فقد تبين من هذا القول لم كانت الحركات السماوية كثيرة باضطرار، وذلك من
قبل ضرورة الهيولي لا من قبل السبب الغائي، ولذلك ما اعتذر عن اعطاء هذا
السبب في هذا الموضع، إذ لم يكن أن يظهر له في هذا الموضع غير هذا السبب.

المطلب الثالث

ونقول أيضا: ان شكل السماء، كما سلف من قولنا، واجب أن يكون
مستديرا لأنه الشكل الذي يليق بجوهرها وطباعها. وهو يستعمل هاهنا في بيان
هذا المطلب أربعة براهين :

[Page 203]

البرهان الأول:


وهذا البرهان مبناه على مقدمتين:
إحداهما: أن الشكل المستدير هو أول الأشكال والمتقدم عليها بالطبع .
والمقدمة الثانية: أنه واجب أن يكون الشكل الأول للجسم الأول .
فأما ان الشكل المستدير أول الأشكال فهو يستعمل في ذلك بيانات :
احدها: أن كل سطح فاما أن يحيط به خط واحد وإما أكثر من خط واحد .
والذي يحيط به خط واحد فهو المستدير، والذي يحيط به أكثر من خط واحد فهي
الأشكال الكثيرة الأضلاع. وإذا كانت الدائرة هي التي يحيط بها خط واحد،

[Page 204]
وسائر السطوح أكثر من خط واحد ، وكان الواحد في كل جنس قبل الكثير ومتقدم
عليه تقدما طبيعيا فواجب أن تكون الدائرة أول السطوح والمتقدمة عليها تقدما
طبيعيا على جهة ما تتقدم الأسباب المتقدمة بالطبع مسبباتها.
فهذا أحد البيانات أن الدائرة أول الأشكال .
وبيان ثان (أيضا) وهو أن التام قبل الناقص ضرورة، والتام هو الذي لا
يمكن أن يزاد فيه ولا ينقص منه، والناقص هو الذي تمكن فيه الزيادة والنقصان.
والخط المستدير تام ضرورة لأنه لا تمكن فيه الزيادة والنقصان ويبقَى بعد خطا
مستديرا، والخط المستقيم ناقص لأنه تمكن فيه الزيادة والنقصان وهو بعد خط
مستقيم. وإذا كان الخط المستدير تاما والمستقيم ناقصا والتام قبل الناقص، فالخط
المستدير ضرورة قبل الخط المستقيم ومتقدم عليه .
وإذا كان ذلك كذلك، فالسطح المستدير قبل السطح الكثير الخطوط
[19 و : ﻏ ] لأن ما يتقوم بالمتقدم، وهو جزء جوهره، هو ضرورة متقدم على ما
يتقوم بالمتأخر، وهذه هي حال السطح المستدير مع الكثير الاضلاع. وإذا تبين

[Page 205]
أن الدائرة متقدمة على سائر الأشكال المستقيمة الخطوط ، وكانت نسبة الدائرة
إلى الأشكال المسطحة، (هي) نسبة الكرة إلى المجسمات، فبين أن الكرة
متقدمة على سائر المجسمات. وأيضا فإنه كما قلنا أن الدائرة هي التي يحيط بها خط
واحد فأوجبنا من ذلك أن تكون متقدمة على سائر السطوح التي تحيط بها الخطوط
أكثر من واحد ، كذلك الكرة يجب أن تكون متقدمة على سائر المجسمات، إذ
كانت الكرة يحيط بها سطح واحد وسائر المجسمات (يحيط بها) سطوح أكثر من
واحد. قال :
وقد يشهد لهذا الذين يولدون الاجرام من السطوح، وذلك انهم يحلون
المجسمات التي يحيط بها أكثر من سطح واحد إلى سطوح كثيرة، مثل حلهم الشكل
الناري إلى مثلثات، ولا يحلون الكرة إلى سطوح كثيرة، إذ كانت ذات سطح
واحد.
فقد تبين من هذا أن الشكل المستدير متقدم على سائر الأشكال وأولها أولية
طبيعية .
وقد يظهر أيضا (أن الشكل المستدير هو أول في الترتيب العددي)، أعني

[Page 206]
إذا شبهنا الأشكال في ترتيبها بالعدد في ترتيبه، وذلك انك تجد أشبه شيء
بالواحد الدائرة وبالاثنينية المثلث فإن المثلث أول الأشكال المستقيمة الخطوط ، إذ
كانت جميع الأشكال إليه تنحل ، وكذلك الاثنينية أول الكثرة . وأيضا فإن المثلث
تتقوم صورته (19 و) [29 و] بالاثنينية، إذ كانت خاصته أن تكون زواياه
مساوية لزاويتين قائمتين ، وهذه الاثنينية الموجودة فيه هي خاصة لازمة عن
صورته فلذلك كان في صورته اثنينية ما. وأما الدائرة فصورتها واحدة وليس
فيها اثنينية بوجه من الوجوه، ولذلك كانت اليق من المثلث بهذه النسبة، أعني أن
تكون نسبتها من سائر الأشكال نسبة الواحد من العدد ، فإنه ان جعلنا هذه النسبة
للمثلث، لم يكن أن نقول في الدائرة انها قبل المثلث ولا بعده، وذلك
ممتنع، أعني أن يقال في شكل ما أنه ليس قبل شكل ولا بعده .
وإذ قد تبين أن الشكل الكرى أول الأشكال (ضرورة)، وكان من
البين بنفسه أن الشكل الأول للجرم الأول، فهذا الشكل ضرورة هو لأول
الاجرام، ولما كان قد تبين أن الجرم السماوي هو أول الاجرام، فواجب أن يكون
الجرم السماوي كري الشكل ضرورة. وإذا كان الجرم السماوي مستدير الشكل

[Page 207]
فالاجرام التي تتصل به وتماسه مستديرة (أيضا)، إذ كان ليس يمكن أن يوجد
(فيما) بينهما خلاء ، ولذلك ما يظهر أنه واجب ان تكون الأفلاك التي
للكواكب المتحيرة مستديرة من جهة ما تماس الفلك (الأعظم، وان تكون
الاسطقسات أيضا مستديرة من جهة ما تماس مقعر فلك) القمر.
فهذا أحد ما يبين به أن شكل جرم السماء مستدير وكذلك سائر الاسطقسات.

البرهان الثاني:

وأقول: انه ان كان شكل الجرم السماوي غير مستدير، فإنه يلزم ضرورة أن
يكون خارج العالم أما خلاء واما جسم منفعل. لكن قد تبين أنه ليس خارج
العالم لا خلاء ولا جسم ، فواجب أن يكون شكل الجرم السماوي مستديرا. فاما
صحة لزوم التالي للمقدم في هذا القياس فإنه يبين بما أقوله: وذلك انه لما كان
الجرم السماوي متحركا دورا، فله مركز ضرورة . فإن فرضنا له شكلا غير

[Page 208]
الشكل المستدير لزم أن تكون الخطوط المستقيمة الخارجة من مركزه إلى محيطه غير
متساوية. والخط المستقيم إذا توزهمناه متحركا (دورا) من غير أن يثبت في مكان
واحد بمنزلة المغزل، فهو (ضرورة) يملأ موضعا ويفرغ آخر. وإذا كانت
الخطوط الخارجة من المركز إلى المحيط يلزم فيها أن تملأ موضعا وتفرغ ثانيا عند حركة
الكل، وكانت تتعاقب في المكان الواحد بعينه، فبين أنه إذ لم تكن مستوية ان
الأصغر منها لا يملأ موضع الأعظم [ 19 ظ : ﻋ ]، فيلزم عن ذلك ضرورة اما
أن يبقَى الموضع الذي يفضل به الخط الأعظم على الخط الأصغر خلاء، واما
أن يخلفه هنالك خط جسم آخر غير الخط الذي في الجسم السماوي، وكلا الأمرين
محال. وهذا اللزوم هو ظاهر في الأشكال الكثيرة الزوايا، وذلك أن هذه الأشكال
يعرض فيها أن تتعاقب الخطوط المختلفة الخارجة من مركزها على الموضع الواحد
بعينه عند حركتها دورا، ولهذا يلزم ضرورة أن تكون الزوايا الناشزة تملأ موضعا
وتفرغه. واما ماعدا الأشكال الكثيرة الزوايا ، مثل الشكل البيضي والعدسي،
فليس يعرض في كل أوضاعه عند حركته دورا ان تكون الخطوط المختلفة التي فيه
تتعاقب على مواضع باعيانها حتَّى يلزم عن ذلك ما لزم في الأجسام ذوات الأشكال
الكثيرة الزوايا، وذلك أن الشكل البيضي إذا توهمنا أن أطول خط فيه، انه
المحور، وتحرك عليه مستديرا لم يلزم عن ذلك أن تتعاقب الخطوط المختلفة التي
فيه في مواضع واحدة باعيانها، الا أن يتوهم أن المحور الذي عليه يدور هو خط
آخر من الخطوط المارة بمركزه. وكذلك الشكل العدسي يمكن أن يتوهم له
وضعان عند حركته مستديرا، أحدهما يلزم فيه أن يفرغ موضعا ويملأه ، والوضع
الثاني ليس يلزم فيه ذلك.

[Page 209]
وإذا كان ذلك كذلك، فكيف أطلق القول أرسطو أنه يلزم متَى كان شكل
الجرم السماوي الأقصَى غير مستدير أن يكون خارج العالم خلاء أو ملاء. أما أنا
فإني أقول: إنه قد تبين فيما سلف أن الجسم البسيط الطبيعي صنفان: إما
مستقيم الخطوط وإما مستدير ( 19 ظ ) [ 29 ظ ]. فأما الجسم المستقيم الخطوط فإن
الواجب ضرورة أن يكون مكانه إما خلاء وإما نهاية جسم محيط به من
خارج، واما الجسم الكري فإن مكانه هو محيط الجسم المحدب الذي هو مركزه
الذي هو يدور.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن لم يكن شكل الجرم الأقصَى كريا، كان
ضرورة مستقيم الخطوط (وكل مستقيم الخطوط) فواجب أن يكون خارجه
جسم، أو يكون هنالك خلاء يطيف به.

[Page 210]

البرهان الثالث:

وهذا البرهان ينبني على ثلاث مقدمات:
إحداها : ان حركة الجرم السماوي هي أسرع الحركات.
والثانية : ان المتحرك الأسرع يجب أن يكون له الشكل الأسرع.
والثالثة : أن حركة ذي الشكل المستدير أسرع من حركات جميع
الأشكال . فينتج عن ذلك : أن الجرم السماوي له الشكل المستدير ضرورة.

[Page 211]
فاما ان حركة الجرم المستدير المتحرك الحركة اليومية أسرع الحركات فبين
بنفسه ، وبالواجب كان ذلك ، وذلك أنه لما كان عدد هذه الحركة العارض لها من
قبل المتقدم والمتأخر هو المقدر لاعداد سائر الحركات ، والمكيال لها ، أعني أن زمان
هذه الحركة هو المقدر لزمان سائر الحركات ، وكان المكيال في كل شيء واجبا
أن يكون أصغر من الشيء الذي هو له مكيال ، مثل الواحد في العدد والأوقية في
الدراهم ، وكانت الحركة الأولى هي السريعة جدا ، كان واجبا ضرورة أن تكون
حركة الجرم السماوي اليومية هي أسرع من جميع الحركات وكذلك أيضا بالواجب
كانت حركة الدائرة أسرع من جميع الحركات التي تبتدئ من نقطة وتنتهي إليها،
وذلك ان خط الدائرة المحيط بها هو أصغر من جميع خطوط الأشكال المساوية
للدائرة ، [ و] قد بين ذلك المهندسون . فمتَى فرضنا متحركين على استدارة
متساويين في السرعة ، وفرضنا اللذين يحيطان به متساويين واحدهما مستدير والآخر
غير مستدير كانت حركة الشكل المستدير أسرع ضرورة.

البرهان الرابع

وهذا البرهان هو مبني على شكل الاسطقسات التي في الوسط ، وذلك أنه لما
تبين له في الأرض والماء وفي سائر الاسطقسات انها مستديرة ، تبين من ذلك أن
سائر الأجسام المحيطة بها مستديرة، وذلك أن بعضها مماس لبعض، وليس
هنالك [20 و : ﻋ] خلاء. فإذا كانت الأرض مستديرة كان الماء عليها مستديرا
ضرورة، وإذا كان الماء مستديرا كان الهواء أيضا مستديرا، وكذلك النار والاجرام

[Page 212]
العالية السماوية التي فوق هذه الاجرام يلزم فيها أيضا، إذا كانت الاسطقسات
مستديرة، ان تكون هي أيضا مستديرة، وإلا كان هناك خلاء ضرورة.
فاما ان الأرض والماء مستديرا الشكل فذلك يبين بمقدمات:
إحداها: أن سطح الأرض هو الموضع الطبيعي للماء الذي فيه يسكن،
وليس يتحرك منه إلا قسرا، فإنه إن لم يكن هذا الموضع هو الذي يسكن فيه الماء
بالطبع لم يكن له موضع يسكن فيه بالطبع ، وذلك مستحيل.

[Page 213]
والثانية: ان الماء من شأنه أن يتحرك إلى الموضع الأعمق، وهو الأقرب
إلى مركز العالم، فإن وقف في الموضع الأعلى فإنما يقف قسرا.
والثالثة: ان موضعه الطبيعي هو الموضع الذي لا يوجد له موضع أقرب منه
إلى مركز الأرض.
وإذا تقرر هذا فليكن مركز الأرض نقطة أو لنخرج من نقطة أخطين متساويين
إلى سطح الأرض الطبيعي أحدهما عليه أ ﺤ والآخر (عليه) أ ب
(ولنصل نقطة ﺤ بنقطة ب بخط ﺤ ب)، فإن كان سطح الأرض غير
مستدير، كان خط ﺤ ب مستقيماً، وكان هو قاعدة المثلث ﺣ أ ب. فإذا
أخرجنا من نقطة أ عمودا إلى خط ﺣ ب، وهو عمود أ ء، كان هذا العمود هو
أقصر من كل واحد من خطي أ ﺣ و أ ب، وذلك بين من أن الزاوية العظمَى
يوترها الضلع الأطول. وإذا كان ذلك كذلك ، كانت نقطة ء من سطح الأرض
التي على العمود هي أقرب إلى المركز من نقطتي ﺣ و ب، فيلزم عن ذلك إذا كان
الماء في احدَى نقطتي ﺣ أو ب الا يقف هنالك وقوفا طبيعيا ، (وأن يسيل إلى
نقطة يكون بعدها من أ بعدا مساويا لبعد ء من أ) . [Picture]


مركز الأرض


وإذا كان ذلك كذلك ، وكان الموضع الطبيعي لوقوف الماء هو سطح
الأرض ، فواجب أن يكون هذا السطح مستديرا، وأن تكون الخطوط التي

[Page 214]
(تخرج) من المركز إليه متساوية، وكذلك يجب في شكل الماء أن يكون
مستديرا، (20 و) [30 و] وكذلك يلزم أن تكون سطوح سائر الأجسام الحاوية
بعضها لبعض مستديرة هكذا إلى الجرم الأقصَى، فإن المقعر إذا كان طبيعيا لجسم
ما، وكان مستديرا، كان المحدب له طبيعيا ضرورة، وكان مستديرا.
فقد تبين من هذه الأقاويل أن العالم كله كري الشكل مستدير، وأن استدارة
الجرم السماوي وكريته، كما يقول أرسطو، فقد اتقنت اتقانا لا يستطيع الصانعون
أن يبلغوا كنه ذلك ولا أن يقاربوه، فضلا عن أن يبلغوه في الأمور الصناعية،
وكذلك لا يمكن أيضا أن يوجد في الأشياء الطبيعية التي هاهُنا، مثل الاسطقسات
وغيرها من الأشياء المركبة منها، شيء يكون في أحكام الاستدارة والاستواء على
شبهه ولامثاله. ولذلك ينبغي أن يعتقد أن سمكه لا يشبه في الملوسة والاستواء
وصحة الاستدارة (سمك شيء من سائر الأجسام)، وأنه كل ما كان من
الأجسام البسيطة أقرب منه كان أصح استدارة، وكل ما كان أبعد كان أقل
استدارة، ولذلك ما نَرى أن الأرض أقلها استدارة.

المطلب الرابع:

ولما كان الجرم المستدير يمكن أن يتحرك باحدَى حركتين مختلفتي ، مثل أنه
ممكن أن يتحرك من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، وكان قد تبين من

[Page 215]
أمر هذه الحركات أنه ليس فيها تضاد حتّى يكون ذلك هو السبب في اختلاف
جهات هذه الحركات واختصاص جرم (جرم) من الاجرام السماوية بجهة
دون جهة، أخذ يفحص عن السبب في ذلك، أعني لم كانت الحركة اليومية
العظمَى من المشرق إلى المغرب ولم [20 ظ : ﻋ] تكن من المغرب إلى المشرق
كالحال في حركات سائر الأفلاك ، فإنه لما كان لا يلفي شيء من الأشياء الطبيعية
الكائنة الفاسدة عطلا ولا بغير علة وسَبب، وكانت الأشياء الأزلية أحرَى بذلك.
ولذلك ما نرَى أن للسماء علة وسببا في كون حركتها من بعض النواحي دون
بعض، فإن هذه الحركة لما كانت معلولة، وجب أن يكون اختصاصها بناحية دون
ناحية معلولا (وإنما كان يمكن ألا يكون لذلك علة لو كانت الحركة بذاتها علة غير
معلولة، وذلك أن الأشياء الأزلية اما أن تكون علة وإما أن تكون ذات علة ، فما
كان منها معلولا) فجميع ما يلحقه ويعرض فيه معلول ضرورة. وهو يعتذر
أولا هاهنا من هذا النحو من الفحص لقلة ما بأيدينا من المقدمات الأول في هذه
الأشياء البعيدة عنا بالجوهر والمكان، ويقول أنه قد يظن ظان أن الفحص

[Page 216]
عن جميع العلل من فعل الرجل السيء النظر، الذي الباعث عليه اما جهل وإما
شهوة في النظر مفرطة، ( إذ كان لا يمكن أن يوصل من علل هذه الأشياء إلى ما
يوصل إليه من علل الأشياء القريبة من جوهرنا، لكن نقول ) وان كنا لا
نصل من معرفة علل هذه الأشياء < إلا> القدر الذي نصله من علل تلك،
فليس ينبغي لنا من أجل ذلك أن نرفض طلب علل هذه الأشياء إذ كانت بجهة
داخلة في جنس العلل اليقينية ، وإن لم تكن من أعلاها رتبة، وإنما الذي ينبغي
لنا أن نرفض من علل الأشياء ما كان منها على جهة الاقناع الخطبي ، واما من
وجد في هذه الأشياء عللا من جنس العلل اليقينية فينبغي أن يحمد
ويقرظ.
وإذا كان ذلك كذلك، فقد ينبغي أن نروم في هذا المعنَى اعطاء علة واضحة
من جنس العلل اليقينية التي تقع تحت الحس، أعني لم كانت السماء تختص بابتداء
الحركة من ناحية دون ناحية ، فنقول:
إن ما يقوله في اعطاء هذا السبب يبين بمقدمتين:
احداهما: أن الطبيعة إنما تفعل في جميع الأشياء الطبيعية الأفضل
(والأكرم من أحد الامكانين أو الامكانات المختلفة).

[Page 217]
والمقدمة الثانية: أن ناحية اليمين أعني الموضع الذي اختص بابتداء الحركة هو
أفضل من ناحية اليسار، والأمام أفضل من الخلف، والفوق أفضل من
الأسفل.
وإذا تقررت هاتان المقدمتان، وكانت السماء هي أولى الأشياء الطبيعية وأحراها
أن تتوخَّى فيها الطبيعة أبدا أفضل الامكانات، وكان ابتداء الحركة من جهة اليمين
أفضل من الحركة من اليسار في كل ما له يمين ويسار، وكانت السماء ( 20 ظ)

[Page 218]
[ 30 ظ] قد تبين أن لها يمينا ويسارا وأماما وخلفا، فبالواجب ما كان ابتداء حركة
السماء من جهة اليمين لا من جهة اليسار، وإلى جهة الأمام لا إلى جهة
الخلف.
وإذا كان ذلك كذلك ، فليس لاختصاص الحركة اليومية بجهة المشرق علة غير
هذه العلة، أعني العلة التي اختصت من أجلها جهة اليمين في الحيوان باليمين من
جهة اليسار باليسار وذلك لطلب الأفضل. والدليل على أن الطبيعة
تتحرى في حركة السماء الأفضل والأكرم ما صيرت عليه حركتها من الدوام
والاتصال غير المنقطع، وذلك أنه كما تخيرت أفضل الوجودين من الحركة، أعني
المنقطع والدائم، كذلك اختارت لها أفضل الناحيتين التي منها تكون الحركة، فإن
الحركة تفضل الحركة في هذين المعنيين جميعا.
فقد تبين من هذا القول لم كانت السماء الأولى تتحرك من المشرق إلى المغرب،
ولا تتحرك من المغرب إلى المشرق.

المطلب الخامس


ولما كان يظهر من أمر حركة السماء انها مستوية، أخذ يفحص هل يمكن فيها
(فيما يستقبل أو فيما مضَى) أن تختلف بالسرعة والبطء وهو يبين

[Page 219]
أنه لا يمكن ذلك في الحركات الأزلية، ويأتي في ذلك ببراهين أربعة.

البرهان الأول

وهذا البرهان مبناه على مقدمتين:
إحداهما: أن الحركة [21 و : ﻋ] الواحدة المختلفة بعينها في السرعة والبطء
يوجد لها ذلك على ثلاثة أحوال: إما أن تكون الحركة مشتدة في أولها، وكلما
خفت استرخت، وذلك كالحال في الحركة القسرية، وإما أن يكون
اشتدادها في وسطها كالحال في عدو الحيوان وشدة حركته . واما أن يكون اشتدادها
في آخرها كالحال في الحركات الطبيعية، مثل حركة الأرض إلى أسفل والنار
إلى فوق.
والمقدمة الثانية: أن الجرم السماوي ليس يمكن أن يوجد فيه مقدار ما من
السرعة محدود، وذلك أنه ليس لحركته ابتداء ولا وسط ولا انتهاء إذ كان دائم
الحركة.
وإذا تقررت لنا هاتان المقدمتان فنرجع فنقول:
إن كانت السماء الأولى تتحرك حركة مختلفة كان ضرورة لحركتها شدة واسترخاء

[Page 220]
محدود، وان كان لها شدة واسترخاء محدود فاما أن تكون الشدة في مبدإ الحركة أو
في وسطها أو في منتهاها ، لكن ليس لها مبدأ ولا وسط ولا نهاية، فليس لها شدة
ولا استرخاء، وإذا لم يكن لها شدة ولا استرخاء فليس لها اختلاف، وإذا لم تكن
مختلفة فهي واحدة ومستوية، إذ كان ليس سبب اختلاف الحركة الواحدة بعينها
شيئا غير الشدة والاسترخاء.

البرهان الثاني


وهذا البرهان مبناه أيضا على مقدمتين:
إحداهما: أن كل حركة فإما أن يلحقها الاختلاف إما من قبل المحرك أو
من قبل المتحرك أو من كليهما، وذلك أنه لما كان يظهر في كل متحرك يتحرك عن
محرك أن سبب اختلاف الحركة فيه إما أن يكون من أجل أن المحرك له ليس يحرك
بقوة واحدة بل (بقوى) مختلفة بالأقل والأكثر، واما من أجل أن المتحرك
يتغير بضرب ما من التغير، وإما من أجل الأمرين جميعا ، و<إذا> كان قد
تبين أن كل متحرك فله محرك، فواجب أن تكون كل حركة فإنما يلحقها الاختلاف
اما من قبل المحرك أو المتحرك أو من كليهما، فإنه من المستحيل أن تتغير الحركة

[Page 221]
الواحدة بعينها بالسرعة والبطء، والنسبة التي بين المحرك والمتحرك نسبة واحدة
بعينها. فبهذا يقع لنا التصديق بهذه المقدمة.
وأما المقدمة الثانية فهي ما تبين من (أن) المحرك الأول والمتحرك الأول،
أعني الجرم السماوي ومحركه، ليس يمكن في واحد منهما أن يقبل التغيير. وذلك أنه
لو قبل واحد منهما التغيير لما كانت الحركة الأولى متصلة وازلية، على ما تبين في
الثامنة من السماع.
وإذا قد تقررت لنا هاتان المقدمتان فنرجع فنقول:
إن كانت حركة السماء مختلفة، فإما أن يكون ذلك من قبل تغير المحرك أو
المتحرك أو كليهما، لكن ليس يمكن فيهما ذلك من قبل جهة من هذه الجهات،
فإذن ليست حركة السماء مختلفة. وهذا البرهان هو أوثق البراهين الأربعة التي
أتَى بها هاهنا.

البرهان الثالث

وهذا البرهان تأليفه هكذا: (21 و ) [ 31 و ]
إن كانت حركة السماء الأولى مختلفة غير مستوية، فإنما يكون ذلك بأحد
أمرين: إما أن تتغير كلها فتكون حركتها بأسرها مرة أسرع ومرة أبطأ. وإما أن تتغير
أجزاؤها فتكون أجزاؤها مرة أسرع أيضا ومرة أبطأ، لكنها لا تتغير أجزاؤها ولا

[Page 222]
كلها، فالسماء إذن ليست حركتها مختلفة ، فاما أن أجزاء السماء الأولى غير مختلفة
في السرعة والبطء، فإن ذلك يؤخذ من الحس ومن الارصاد المتقدمة.
وذلك انها لو كانت مختلفة لاختلفت الأبعاد التي بين الكواكب الموجودة فيها على
قديم الدهر وطويل الزمان، أعني أن الكواكب الثابتة والأبعاد التي بينها لم يزل
الرصاد لها (أبدا) يثبتون أنها واحدة بعينها على قديم الدهر ومرور الأيام.
واما ان السماء الأولى لا تتغير بكليتها فإن ذلك يبين بأنه لو كان ذلك كذلك
لكان لحركتها شدة، ولو كان لحركتها [ 21 ظ : ﻋ] شدة لكان لحركتها
استرخاء ، لكن ليس لها استرخاء فليس لها شدة . فاما انه ليس لحركتها استرخاء،
فإن ذلك يبينه بمقدمات ثلاث:
إحداها أن الاسترخاء ضعف.
(والثانية أن الضعف أمر عارض وخارج عن الطبع).
والثالثة أن الأعراض الخارجة عن الطبيعة شبه الكبر والهرم لا يلحق
السماء.
فأما أن الاسترخاء ضعف فهو أمر بين بنفسه. وكذلك كون الضعف أمرا عارضا
خارجا عن الطبيعة هو أيضا أمر بين بنفسه. واما ( ان) الجرم السماوي لا تناله
العوارض الخارجة عن الأمر الطبيعي فذلك يبين بمقدمتين:

[Page 223]
إحداهما: أن العوارض الموجودة في الأشياء الطبيعية سببها التركيب، وذلك أن
الأشياء التي تنالها العوارض مركبة من أضداد مختلفة المواضع، ووجود الأضداد في
هذه الأشياء المركبة في غير مواضعها شبه الحيوان وما أشبهه من المركبة من
الاسطقسات، فإن الجزء الناري ليس في مكانه، ولا الجزء الأرضي وهذا هو
السبب الأول في لحاق (الهرم والفساد لكل مركب)، لأن كل اسطقس
يطلب موضعه الخاص به. وهذه المقدمة قريبة الظهور بنفسها، وستتبيّن أكثر إذا
تبين أن جميع المركبات الكائنة الفاسدة مركبة من أضداد، وهي الاسطقسات
الأربعة.
والمقدمة الثانية: هي أن الجرم السماوي بسيط غير مركب من أضداد ، ولا
شيء من أجزائه موجود في غير موضعه . وهذه المقدمة ظاهرة مما تبين في الأولى من
هذا الكتاب.
وهاتان المقدمتان ليس يخفَى عليك ، إن كانت قرأت أنالوطيقي الأولى،
أنها تنتج في الشكل الثاني أن العوارض الخارجة عن الأمر الطبيعي ليس تقع على
الجرم السماوي ولا تلحقه.
وإذا تقررت هذه المقدمات فنرجع فنقول:

[Page 224]
إن كانت الأعراض الخارجة عن الأمر الطبيعي لا تنال الجرم السماوي ، فليس
يناله الضعف، وإذا لم ينله الضعف ، فليس لحركته استرخاء. وإذا لم يكن
لها استرخاء، فليس لها شدة . وما ليس له شدة ولا استرخاء فليس متغيرا بكليته،
فالسماء غير متغيرة بكليتها. وما ليس يتغير بكليته ولا باجزائه فحركته
مستوية.

البرهان الرابع

وهذا البرهان تأليفه أيضا هكذا:
إن كان لحركة السماء الأولى اختلاف، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أحوال: اما
أن توجد سريعة زمانا لا نهاية له وبطيئة زمانا لا نهاية له. (وإما أن توجد
متزيدة السرعة فقط زمانا لا نهاية له ، ومتزيدة البطء فقط زمانا لا نهاية له
أيضا) . واما أن توجد مرة سريعة ومرة بطيئة على جهة التعاقب والتبادل، كما
نحس ذلك في الكواكب السيارة . ولكن ليس توجد السماء الأولى بواحدة

[Page 225]
من هذه الأحوال ، فليس يمكن أن يكون في حركتها اختلاف . فاما أنه لا يمكن
أن يوجد لحركة السماء تزيد إلى غير نهاية وتنقص إلى غير نهاية فذلك يظهر من
وجهين:
أحدهما : أن التنقص ضعف، والضعف أمر خارج عن الطبع ، وما هو أمر
خارج عن الطبع فليس يمكن أن يكون زمان وجوده مساويا لزمان الأمر الطبيعي،
فضلا عن أن يوجد زمانا لا نهاية له، وذلك أن زمان المرض أقصر بكثير من زمان
الصحة.
والوجه الثاني : أنه قد تبين ( 21 ظ) [31 ظ] ، في الأولى من هذا
الكتاب ، أنه يستحيل أن يوجد في الشيء قوَى متضادة زمانا لا نهاية له، فإنه
يلزم عن ذلك أن يوجد المتضادان معا.

[Page 226]
واما امتناع الحالة الثالثة وهي أن تكون حركة السماء باحدَى هاتين الحالتين،
أعني أن تكون اما مشدودة دائما واما مسترخية دائما وإلى غير نهاية (في
التزيد) ، فذلك يظهر من أن كل محرك طبيبعي فله نسبة محدودة من المتحرك،
ولذلك ليس يحرك أي محرك اتفق أي متحرك اتفق ولا في اي زمان اتفق . وإذا
كان ذلك كذلك ، فكل حركة فنهاية سرعتها ونهاية بطئها محدودة بالزمان،
أعني أنه يوجد لها زمان لا يمكن أن توجد تلك الحركة في أقل منه ، وزمان لا
يمكن أن توجد تلك الحركة في أكثر منه . ومثال ذلك : أن الضارب
[22 و : ﻋ] بالعود له أقل زمان يمكن أن يضرب فيه بالعود ، وله أكثر زمان
يمكن أن يضرب فيه بالعود . وأيضا لو أمكن في الحركة أن تسترخي إلى غير نهاية لما
أمكن في المتحرك أن يسكن بما هو محرك.

[Page 227]
وإذا كان ذلك كذلك، (فإن كانت السماء يوجد لها الاسراع والابطاء فأقل
زمان تتحرك فيه السماء محدود). وليس يمكن أن يوجد لها سرعة إلى غير
نهاية، وإذا لم توجد لها سرعة إلى غير نهاية لم يوجد لها ابطاء أيضا إلى غير نهاية،
فإنه لو وجد لها أحد هذين لوجد لها الأمر الآخر. وإذا بطل هذان الوجهان فلم يبق
إلا الوجه الثالث، أعني أن تكون السرعة والابطاء فيها يتعاقبان. لكن لو كان
الأمر هكذا في السماء الأولى لوقع ذلك ضرورة مع طول الزمان تحت العيان، ولم
يكن ذلك مما يخفَى على مرور الاحقاب مع عناية السلف الصالح بتفقد أمثال
هذه الأحوال في السماء. وأيضا فإن الاضداد من شأنها أن تظهر للحس ظهورا
أبين من الأشياء التي ليست باضداد، وذلك أن كل واحد من الضدين يعرف
صاحبه وينبه عليه. وأيضا لو كان هذا للزم أن يكون هاهنا تغير متقدم على هذا
التغير، وذلك كله مستحيل.
فقد تبين من هذا القول أنه ليس لحركة السماء اختلاف ألبتة، وأنها واحدة في
الدهر مستوية.

[Page 228]

الجملة الثالثة


وهذه الجملة ينظر فيها من أمر الكواكب في ستة مطالب:
أحدها : في معرفة جواهرها (من أي الأجرام والجواهر هي).
والثاني : في معرفة جهات حركاتها.
والثالث : في معرفة أشكالها.
والرابع : في العلة التي من أجلها صار بعض الكواكب أبطأ وبعضها أسرع.
والخامس : لم كان بعضها يتحرك حركات أسرع وبعضها أقل.
والسادس : لم صار في الفلك الأعلى كواكب كثيرة وفيما دونه من الأفلاك
كوكب واحد.

[Page 229]

المطلب الأول:

فنقول: انه من الواجب أن تكون طبيعة الكواكب من طبيعة الجسم الذي فيه
الكواكب من جهة ما هي جزء منه. وهذه قضية قد اجمع عليها الأولون،
مثل من قال أن طبيعة الفلك نار، فإنه يجعل الكواكب نارية ، وإذا كان هذا
أمرا واجبا قبوله، وكان قد تبين أن طبيعة الفلك طبيعة خامسة، وأنه لا ثقيل
ولا خفيف، فواجب أن تكون طبيعة الكواكب من هذه الطبيعة. وليس ينبغي أن
يشككنا في ذلك ما يظهر في الكواكب من أنها مسخنة، فإن هذا مما قد يوهم أن
طبيعتها نار. وسبب الغلط في ذلك هو عكس اللاحق، فإن كل نار مسخنة
وليس كل مسخن نارا، وذلك أن هاهنا أشياء تسخن بالحركة والاصطكاك.
وبهذه الجهة يرَى أرسطو أن الشمس والكواكب تسخن، (وذلك أنها بحركتها تحمي
الهواء وتسخنه، فإنه لما كان من شأن الحركة أن يحمي بها الحديد والحجارة)
والخشب، كان الهواء المجاور لها أحرَى بذلك. وهو يستشهد على احتدام الهواء
بالحركة بما يعرض للناشبة التي يرمي بها وفيها الرصاص فإنه يعرض للرصاص الذي
فيها أن يذوب من سخونة الهواء واحتدامه، وعلى هذه الجهة يسخن عنده

[Page 230]
الهواء نفسه من اضطراب أجزائه وحركتها واصطكاك بعضها ببعض، وذلك
بتحريك الاجرام السماوية له. ويدل على ذلك ما يظهر فيه من الكواكب المنقضة
ومن الآثار [22 ظ : ﻋ] النارية، وكلما كان الكوكب أعظم جرما وأقرب إلى
الهواء، كان ( هذا) الفعل له أعظم، ولذلك كان هذا الأثر، أعني
التسخين، أعظم ما يوجد للشمس والقمر، وذلك لعظم اجرامهما وقربهما من
الهواء، ولهذا كانت الشمس كلما قربت من سمت رؤوسنا (22و) [32 و]
أحر. (وليس بنكير أن يعرض هذا للهواء) عن الكواكب وهي غير مماسة له
كما يقول الاسكندر فإن المحرك قد يحرك بنفسه الشيء وبواسطة، وليس يلزم في
الواسطة أن يتحرك بنوع الحركة التي يتحرك بها المتحرك الأخير، والدليل على ذلك
السمكة المعروفة التي تخدر (يد) الصائد بتوسط الشبكة إذا وقعت فيها.
وحجر المغنطيس الذي يجذب الحديد بتوسط الهواء من غير أن يجذب الهواء،

[Page 231]
ولذلك ما يرَى (أرسطو) أن الهواء يسخن بحركة الشمس ، وليس (يمكن
أن) يسخن ما دون الشمس من الأفلاك بحركة الشمس ، وإن كنا نسلم أن
المتوسط لابد أن ينفعل عن المحرك نوعا ما من الانفعال وإن لم يكن من نوع
الانفعال الأخير ولولا ذلك لم يكن أن يُؤدى تحريك المُحرك الأول إلى المتحرك
الأخير، ولهذا بعينه ما نرَى أن الكواكب ليس يلزم فيها أن تسخن بسخونة الهواء
الذي تحميه (ضرورة) وتصيره نارا كما تسخن النشابة بسخونة الهواء الذي
تحميه. وبالجملة فإذا كان التسخين الموجود للكواكب لا يخلو أن يكون لها اما من
جهة الحركة واما من جهة أنها من طبيعة النار، وكان قد تبرهن بالبرهان الذي لا
نشك فيه انها ليست نارا ولا من طبيعة النار، فواجب أن يكون تسخينها من جهة
الحركة والاصطكاك.
واما الإضاءة الموجودة لها فليس يدل منها على أنها أيضا نار، وذلك أنه قد
تبرهن أنه ليس كل نار مضيئة، فضلا عن أن يكون كل مضيء نارا،

[Page 232]
فإن الإضاءة عرض ليس تؤخذ في حده النار ولا جنس النار، وهذان هما قسما
الاعراض الذاتية الضرورية على ما تبين في كتاب البرهان. وإذا لم تكن
الإضاءة من الاعراض الذاتية للنار، فاحرَى أن لا تكون من الاعراض الخاصة
بالنار، ولذلك قيل في كتاب النفس ان المضيء صنفان الجرم السماوي
والنار.
وأقول أيضا: انه يظهر بالحس أن الضوء يسخن بالانعكاس، وأنه كلما
كان الانعكاس أشد كان التسخين أكثر، وذلك ظاهر في المرايا المحرقة، وقد قيل
في سبب ذلك في التعاليم، وقد تبين في كتاب النفس أن الضوء ليس

[Page 233]
بجسم. وإذا كان ذلك كذلك ، فقد يوجد التسخين لما (ليس) بجسم فضلا
عن أن يوجد لما ليس بنار. وهذه الجهة هي الجهة الثانية التي نرَى أن بها
تسخن الكواكب ما دونها. وفي هذا الوجه شك ليس بالدون، وقد فحصنا عنه
في كتاب الآثار.
فقد تبين من هذا القول ما جوهر الكواكب، وأنها من طبيعة الجرم الخامس.
وتبين مع هذا الجهة التي بها يسخن، وانها ليس يلزم عن كونها مسخنة ومضيئة أن
تكون نارا كما ظن ذلك قوم من القدماء.

المطلب الثاني

وأقول: ان الكواكب إذ كان يظهر من أمرها أنها تنتقل مع السماء، فإن
الأمر لا يخلو في ذلك من أربعة أقسام: إما أن يكونا ساكنين معا، أعني
السماء والكواكب (معا)، وتكون الأرض هي المُتحركة كما (قد) ظن
ذلك قوم. (واما ان يكونا متحركين معا). واما أن يكون أحدهما ساكنا
والآخر متحركا، وهذا على ضربين: اما أن تكون الكواكب هي الساكنة
والسماء هي المتحركة، (وإما أن يكون عكس هذا) ، أعني أن تكون
الكواكب هي المتحركة والسماء هي الساكنة. فاما ان تكونا ساكنين

[Page 234]
(معا) وتكون الأرض هي المتحركة فامتناع ذلك أمر معروف بنفسه، وأرسطو
يستقصي البحث عن ذلك، ويعدد المحالات اللازمة له فيما يستقبل على جهة
الاستظهار، أعني هل [23 و : ﻋ] يمكن أن تتحرك الأرض حركة دورية على ما
كان يرَى ذلك بعض القدماء. واما كون كليهما متحركين أعني الكواكب والسماء،
فإن امتناع ذلك يظهر بما أقوله: وذلك أنه يعرض للكرة بالذات أن تتم جميع
الدوائر الواقعة فيها على اختلافها بالصغر والكبر دورتها في زمان واحد ومعا،
ولذلك قيل ان أجزاء الدوائر العظمَى الواقعة في الكرة أسرع من اجزاء الدوائر
الصغرَى . وإنما كان هذا من خواص دوائر الكرة لكون جميعها دائرة على مركز
واحد واقطاب واحدة.
وإذا تقرر (له) هذا من أمر حركة الدوائر الواقعة في الكرة، فإن فرضنا
كل كوكب من الكواكب متحركا بذاته مع حركة دائرته، كانت حركات
الكواكب لا محالة مختلفة في السرعة والبطء لاختلاف الدوائر التي تدور فيها،
وذلك ان الكوكب (لا محالة) (22 ظ) [32 ظ] الذي في الدائرة العظمَى إذا
فرضنا أنه يُتم دورته ودورة الكوكب الذي في الدائرة الصغرَى في زمان واحد فهو
ضرورة أسرع حركة من الكوكب الذي في الدائرة الصغرَى.

[Page 235]
وإذا كان ذلك كذلك، لم يخل ذلك من أحد أمرين: إما أن يكون
سبب اختلاف الكواكب في السرعة والبطء اختلاف الدوائر التي تدور عليها حتَّى
لو قدرنا مثلا وجود الكوكب الذي في الدائرة الصغرَى في الدائرة العظمَى والذي
في (الدائرة) العظمَى في الصغرَى ، مثل لو قدرنا الكواكب (التي في بنات
نعش في معدل النهار، وقدرنا) التي في معدل النهار في دائرة بنات نعش،
لعرض للكوكب الأسرع أن يعود ابطأ وللأبطإ أن يعود أسرع. واما ان يكون
سبب اختلافهما في السرعة والبطء انما هو طبائع الكواكب أنفسها. لكن إن أنزلنا
سبب ذلك اختلاف الدوائر، لم تكن للكواكب في أنفسها حركة تخصها، وكانت
حركتها تابعة لحركة الدوائر حتَّى إذا توهمنا الكوكب (الواحد) بعينه في دائرة
أعظم كان أسرع، وإذا توهمناه في دائرة أصغر عاد أبطأ.
وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن للكواكب في أنفسها حركة تخصها، وذلك
مستحيل في المتحركات الجارية (في حركتها) على نظام طبيعي، أو نسلم أن
الدوائر هي التي تحرك الكواكب، والكواكب ساكنة، وان أنزلنا سبب ذلك
اختلاف طبائع الكواكب، فكيف ليت شعري عرض للأشياء المختلفة الحركات،

[Page 236]
لاختلاف طبائعها، أن يوافق كل واحد منها حركة الدائرة التي فيها يدور، أعني أن
تكون حركة كل واحد من الكواكب قد عرض لها ان كانت مساوية لحركة
الدائرة التي تتحرك معها وعليها، حتَّى تكون متحركات كثيرة مختلفة الحركة تتم
أدوارها في زمان سواء، وهذا انما كان يعرض لو كان ممكنا عن الاتفاق والبخت،
ووجود الاتفاق والبحث في الاجرام السماوية شيء لا يليق بها إذ كانت في غاية
الترتيب والنظام ولو سلمنا وجود الاتفاق والبخت في هذه الاجرام الشريفة ، لكان
ذلك انما يوجد منها في الأقل، أعني في كوكب أو كوكبين، على ما يوجد عليه
الأمر في الأشياء التي يعرض فيها (ما) بالاتفاق، وهي الكائنة الفاسدة . فاما
ان يعرض ذلك بالبخت في جميع الكواكب فشيء خارج عن القياس.
وبمثل هذا يبين أنه ليس يمكن أن يكون الفلك ساكنا والكواكب
متحركة، وذلك أنه كان يعرض في انتهاء حركاتها وتمام دوراتها في وقت
واحد من الاتفاق ما كان يعرض إذا فرضنا أن الدوائر معها متحركة، وبيّن أنه
ليس يعرض شيء من هذا المحال في اختلاف حركات اجزاء الكرة الواحدة من
جهة ما هي اجزاء كرة واحدة . فاما من جهة ما كل واحد من الأجزاء متحرك
بذاته فيعرض عنه المحال المتقدم. وإذا امتنع أن تكون الكواكب والدوائر متحركة
معا ، أو أن تكون الكواكب متحركة والدوائر ساكنة، فلم بيق إلا أن تكون
الدوائر هي المتحركة والكواكب ساكنة مربوطة فيها متحركة بحركتها على جهة ما
يتحرك الجزء بحركة الكل. ولذلك لسنا نقول أن السماء تنخرق وتنصدع عند

[Page 237]
حركات الكواكب كما [ 23 ظ : ﻋ] كان يلزمنا لو وضعنا الفلك ساكنا والكواكب
متحركة، وذلك أن التي تقبل الانخراق انما هي الاجرام الكائنة الفاسدة شبه الهواء
والماء.
وقد يظهر أيضا أن الكواكب لا يمكن أن تتحرك بذاتها ومن تلقائها من وجه
آخر، وذلك أنه قد بين أصحاب التعاليم من أمرها أنها كرية الشكل، وسيبين
ذلك من قولنا بعد هذا، من قبل أن طبيعتها من طبيعة الجرم الخامس. وإذا
وضعنا أن أشكالها كرية، فإن كان لها حركة بذاتها فهي احدَى حركتين، اما حركة
دور، واما حركة دحرجة ، وذلك أن الجسم المستدير ليس يمكن فيه أن يتوهم
متحركا الا باحدَى هاتين الحركتين، لكن ليس للكواكب واحدة من هاتين
الحركتين فالكواكب ضرورة ساكنة (غير) متحركة . فاما انها ليست تتحرك
هذه الحركة المحسوسة دورا فمأخوذ من الحس، وذلك أن المتحرك دورا هو ثابت في
موضع واحد بعينه، والكواكب تُرَى متنقلة، ولو كانت متحركة دورا مع هذه
الحركة المحسوسة لها، أعني حركة النقلة بجملتها، لما كان يذهب ذلك عن الحس
(في) جميعها (23 و) [33 و]، وذلك أنه لو ذهب عليه ذلك في واحد منها
لما ذهب عليه ذلك في جميعها، فإنه لو وجدت هذه الحركة ، أعني
الدورية، في كوكب واحد للزم أن توجد في جميعها إذ كانت طبيعتها
واحدة بالنوع. فاما ما يظهر في الشمس عند الغروب والطلوع خاصة من أنها
تدور، فذلك رؤية لا حقيقة، وسبب ذلك معطى في علم التعاليم. والدليل على
أنها رؤية أنه ليس يعرض لها ذلك عند الاستواء والارتفاع الكثير عن الأفق
والمسافة واحدة أو أقرب، وأرسطو يقول أن سبب ذلك هو ضعف البصر عن
ادراكها، وذلك أنه يرَى أنها في هذا الموضع أبعد من البصر إذا قاربت وسط

[Page 238]
السماء. وانما ينبني هذا على أن للشمس اختلاف منظر وذلك بأن يكون
للأرض قدر محسوس بالإضافة إلى فلكها وذلك أمر مختلف فيه بين أصحاب
التعاليم، ولذلك يقول أن البصر إذا ضعف عن ادراك الكواكب دار فيرَى الشيء
كأنه يدور مثل ما يعرض لأصحاب السدر، وهذه العلة عنده هي العلة في
أن ترَى الكواكب الثابتة كأنها ترتعد. وليس يرَى ذلك في غير الثابتة وذلك لمكان
بعد الثابتة وقرب غير الثابتة من ابصارنا.
واما انها ليس تتحرك حركة دحرجة، فقد يدل على ذلك ظهور الخيال
المعروف بوجه القمر في القمر على حالة واحدة، وذلك أنه تبين من أمر هذا الأثر
الذي يظهر في وجه القمر أنه حقيقة لا رؤية، وذلك في علوم التعاليم. وإذا
فرضناه حقيقة فلو كان للقمر حركة دحرجة لاختلفت رؤية هذا الأثر، وإذا لم
توجد هذه الحركة للقمر لم توجد لسائر الكواكب، وإذا لم توجد (للكواكب)
احدَى هاتين الحركتين فهي ساكنة ضرورة.
ونقول أيضا أنه لو كانت هذه الكواكب منتقلة من ذاتها وبجملتها لوجب (أن
تختار لها الطباع) <في> آلات بها تنتقل في المكان من جهة ما هي متنفسة،
فإنه من المستحيل الخارج عن كل قياس أن تكون الطبيعة قد هيأت مثل هذه
الآلات للحيوان وتكون قد اغفلت ذلك في هذه الاجرام التي هي أشرف من
الحيوان. وإذا لم يلف للكواكب آلة بها تتحرك فهي ضرورة ساكنة. ومن هنا يظهر
أنه ليس لحركة الكواكب أصوات، كما كان يرَى ذلك أقوام من القدماء، فإنهم
كانوا يقولون (ان لها) أصواتا متفقة النغم بما يظهر من حدوث الصوت

[Page 239]
والقعقعة عن حركات الاجرام الكبار التي لدينا، فإنه إذا حدث ذلك في هذه
الاجرام فكم بالحري أن يحدث (ذلك) في (جرم) الشمس والقمر التي
هي أعظم من جميع الاجرام التي لدينا باضعاف كثيرة وأسرع حركة ، وكانوا
يقولون أن العلة في أنا لا نسمع تلك الأصوات أنا نشأنا عليها منذ الصبا فألفتها
أسماعنا إلفا لا نحس به. قالوا والدليل على ذلك أنه لا يتأذى بالأصوات المعتادون
لها كما يتاذى بها غير المعتادين كحال الصفارين مع سائر [ 24 و : ﻋ] الناس،
أعني أن تاذى الصفار بالصوت هو أقل (ولو سلم لهم هذا على استحالته
للزمهم) (...)
(وأرسطو يرد عليهم بأنه ليس اعتياد الصوت مما يعوق عن ادراكه، ولو كان
ذلك كذلك لعرض للصفارين وأشباههم الا يسمعوا أصوات المطارق لكثرة
اعتيادهم لها وتنشئتهم عليها. ولو سلم لهم هذا لكان يلزم عن حركاتها المحدثة
للأصوات تأثير كبير، فيما لدينا من الموجودات)، فإنا نرَى الرعود تصدع
الحجارة وتشق الأرض (حتَّى) ليخرج النبات المعروف بنبات الرعد. وإذا
كان يعرض (مثل) هذا في هذه الاجرام الصغار فكم بالحري كان يعرض ذلك
في تلك الاجرام العظام لو تحركت بذاتها، ولذلك ما يجزم أرسطو القول على أنه لو
كان لها صوت لكان واجبا أن تؤثر في الموجودات التي لدينا، فضلا عن أن
نسمعها. ولذلك ليس لقائل أن يقول أنه قد يمكن أن يكون لها أصوات ولا

[Page 240]
نسمعها لبعد المسافة التي بيننا وبينها على ما تبين في التعاليم، كما يقول ذلك
تامسطيوس ويتشكك به على أرسطو ، فإنه لو كانت من البعد عنا بحيث تنقطع
الحركة المولدة للصوت في الهواء قبل أن تصل الينا لكان أحرَى ألا تصل إلينا منها
استحالة محسوسة، وذلك أنه من المستحيل أن يصل التسخين المتولد عن حركتها
إلينا ولا يصل الصوت (23 ظ) [ 33 ظ] المتولد عن ذلك لو كان هنالك صوت.
وانما العلة في أنه ليس لها صوت انها مربوطة بجسم الفلك وهي جزء منه، ولذلك
ما يجب إذا لم يكن لها صوت، وكانت من العظم وسرعة الحركة بحيث هي، ولم
تكن من البعد بالاضافة إلى عظم اجزائها وسرعة حركاتها <بما هي من
المقدار> الا تسمع أصواتها، ان تكون ولا بد مربوطة حتَّى يكون هذا
الانعكاس فيها صحيحا ، أعني أنه إذا انزلنا أنها مربوطة فواجب ألا يكون لها
صوت، وإذا أنزلنا أنه ليس لها صوت فواجب أن تكون مربوطة، فيكون أحد ما
يبرهن به أنها متحركة بحركة الفلك انه (ليس لها صوت). ولي
كما ظن (ذلك) تامسطيوس أن هذا لا ينعكس وذلك أنه لما وجد الرباط أحد
أسباب فقد الصوت (لذلك) ليس يلزم أنه متَى فقد الصوت باطلاق
وجد الرباط إذ كان قد يفقد لأسباب أخر غير الرباط ظن الأمر كذلك في
الكواكب، وليس كما ظن فإن وجود الرباط فيها سبب خاص لفقد الصوت.

[Page 241]

المطلب الثالث

واما ان أشكال الكواكب مستديرة ، على مثال شكل السماء، فإن وجود هذا
الشكل لها موافق لسكونها كما أنه موافق لحركة السماء، فإن ذلك يظهر بما أقوله:
وذلك أنه إن كان الجسم المستدير غير موافق للحركة المستقيمة، أعني التي
تتحرك من الوسط وإلى الوسط، وكان الجسم المستقيم الابعاد هو المخصوص بهذه
الحركة فما ليس يتحرك بهذه الحركة أعني المستقيمة، فليس بمستقيم الابعاد ضرورة،
وذلك واجب بحسب عكس النقيض. وما ليس بمستقيم الابعاد فهو مستدير، فما
ليس يتحرك بهذه الحركة فهو مستدير ضرورة. ولذلك لما كان الجسم السماوي ليس
يتحرك بهذه الحركة فهو مستدير الشكل ضرورة، سواء كان ساكنا كالحال في
الكواكب أو متحركا دورا كالحال في الافلاك، (فإن كان شيء ما) مستديرا
وليس يمكن فيه أن يتحرك دورا فواجب أن يكون ساكنا.
وإذا كان ذلك كذلك، فبحق ما صيرت الطبيعة شكل الكواكب مستديرا،
إذ كان ليس من شأنها أن تتحرك حركة مستقيمة وإنما شأنها السكون فقط. وأيضا
فلو كان من شأنها أن تتحرك حركة مستقيمة لجعلت لها الطبيعة الآلات التي بها
تتحرك كالحال في الحيوان.
وقد يدل على أن الكواكب مستديرة الشكل ما يظهر من استدارة جرم القمر
عند امتلائه بالضوء، وذلك أنه لو لم يكن مستديرا لما تشكل في الاستنارة بشكل
هلالي. وما يجب للكوكب الواحد يجب لسائر [ 24 ظ : ﻋ] الكواكب إذ
كانت من طبيعة واحدة. ولذلك ليس هذا القول مثاليا ولا مقنعا.
وقد يدل أيضا على أن جرم الشمس كري ان كسوفها يظهر هلاليا.

[Page 242]

المطلب الرابع

وهو بعد هذا يطلب السبب الذي من أجله كانت الكواكب المتحيرة بعضها
أسرع من بعض ويقول: ان العلة في ذلك ان هذه الكواكب لما كانت
تتحرك حركة مخالفة لحركة الجرم الأول المتحرك بالكل الحركة اليومية، وجب أن
يكون السبب في ابطائها وسرعتها بعدها وقربها من الجرم الأول، (وذلك أن ما
قرب) من الجرم الأول كانت القوة الواصلة إليه من الجرم الأول المحركة له
خلاف حركته أقوَى، وما بعد منه كانت هذه القوة فيه أضعف ، فكأنه كلما قرب
الكوكب (من الجرم الأول كان) العائق له عن حركته أقوَى، وكلما بعد كان
أضعف، وان كان ليس هنالك عوق في الحقيقة، وإنما هناك شهوة
واختيار، فكل ما كانت شهوته واختياره للاقتداء بالمحرك الأول أكثر كانت حركته
للمتحرك الخاص به ابطأ. وهو يستشهد على صحة هذه العلة بما أثبته أصحاب علم
المجسطي من صحة هذا الوجود، وذلك أنهم متّفقون على أن زحل أرفع الكواكب
وأبطأها، والقمر أخفض الكواكب وأسرعها، وأن ما بينهما من الكواكب يوجد
بالحالة الوسطَى من السرعة والبطء.

[Page 243]
لكن قد يعترض (في) هذا معترض على أرسطو ويقول:
انه (ان) كان يجب لو كانت هذه العلة صحيحة أن يكون هذا
المعني يوجد فيها على ترتيب، وليس يوجد الأمر كذلك، فانا ان سلمنا أن الشمس
تحت (24 و) [34 و] عطارد والزهرة، على ما كان يراه القدماء من المنجمين، فما
عسَى أن نقول في الكواكب الاخر. فنقول :
إن هذا الاعتراض إنما كان يلزم لو فرضنا القوَى المحركة الخاصة بكوكب كوكب من
هذه الكواكب، أعني المحرك لها خلاف حركة الكل متساوية في القوة، وفرضنا
المسافات متساوية أيضا ، واما إذا فرضنا قواها الخاصة مختلفة والمسافات مختلفة
فليس يلزم (أن يظهر فيها هذا المعنَى على ترتيب في القرب والبعد، بل انما
يجب) أن يظهر فيها هذا المعنَى على الجملة. ولذلك نقول أن أحد الأسباب
في اختلافها في السرعة والبطء (مع هذا السبب، هو اختلاف القوَى المحركة لها
واختلاف المسافات. وإذا كان ذلك كذلك، فأسباب السرعة والبطء)
الموجودة فيها تلتئم من ثلاثة أشياء: من اختلاف القوى المحركة الخاصة بها، ومن
اختلاف ضعف القوة العائقة في حقها، ومن اختلاف المسافة التي عليها تتحرك.
ويشبه أن يكون انما أفرد هذا السبب بالقول اما لأنه أملك الأسباب بهذا
المعنَى، وإما لأنه أخفاها، وإما لأنه (جمع) الأمرين جميعا .

المطلب الخامس :

قال :
وقد ينبغي أن نفحص عن مسألتين فحصا بالغا:
احداهما: لم كانت الكواكب المتحيرة ما كان أقرب منها من الفلك الأول

[Page 244]
يتحرك حركات كثيرة وما كان أبعد يتحرك حركات أقل، وقد كان يجب أن يكون
الأمر بخلاف ذلك، أعني أن يكون ما قرب من الفلك الأول يتحرك بحركات
أقل، إذ كان الفلك الأول إنما يتحرك حركة واحدة فقط. وهو يعمل في
تصحيح هذا الوجود على ما ظهر بالارصاد المتقدمة لأهل بابل ومصر (من أن
الشمس ابعد الكواكب عن الفلك الأول بعد القمر) وانها أقلها حركات،
وذلك أن القمر على رأي أهل بابل ومصر انما أثبتوا له ثلاث حركات فقط: حركة
الطول وحركة العرض وحركة الجوزهر، أعني موضع مقاطعة فلكه المائل لفلك
البروج. واما بطليموس فإنه أثبت له حركتين سوَى هذه الثلاث حركات (التي
ذكرنا)، ومذهبه أيضا ان الشمس فوق عطارد والزهرة. ولم يختلف أصحاب
التعاليم في أن الشمس أقلها حركات كما لم يختلفوا في أن القمر أسفل [25 و: ﻋ]
الكواكب. وارسطو يستشهد على ذلك بما شاهده من أنه أبصر القمر وقد كسف
المريخ.
وأما المطلب الثاني فهو لأي علة صار الفلك الأول فيه كواكب كثيرة وهو
واحد، (وسائر الأفلاك بعكس هذا)، أعني أنه ليس يوجد في الفلك الواحد
منها إلا كوكب واحد .

[Page 245]
وهو يعتذر أولا من التكلم في هذين المطلبين لعواصتهما ويقول: انه ليس ينبغي
أن يظن بنا أن طلبنا مثل هذه الأشياء صلفا ولا جهلا، لكن ينبغي أن نشكر
على ما نقوله في هذه الأشياء، إذ كان ما نقول فيها غير خارج عن جنس
البراهين، وأن يسر بذلك من وقف عليها، فإن المدرك اليسير في هذه الأشياء
(جليل) لعواصتها وشرفها في ذاتها، مع ما في الفحص عن الأشياء الغامضة
من تلقيح العقل وتخريجه وحصول فضيلته التامة. وانما كنا نرَى أن ما يطلب من
هذه المعاني في هذه الأجسام الكريمة مستغلقا لو كنا نعتقد فيها أنها غير متنفسة،
فاما ونحن نعتقد فيها أنها متنفسة، إذ كانت متحركة من تلقائها، فليس ما نرومه
من ذلك بخارج عن القياس ولا ممتنع علينا.
فلنبدأ من المطلب الأول فنقول:
إن الشيء الفاضل الذي هو في غاية الفضيلة هو الذي من شأنه أن يقتني
الفضيلة التي تخصه بغير عمل ولا فعل، وهذا هو شأن العلة الأولى. وأما ما عدا
هذا من الأشياء الفاضلة، أعني المتنفسة، فمنها ما ينال الشيء الذي هو من جنس
الفضيلة التامة التي هي في الغاية بعمل واحد فقط، وهذه هي (الأشياء)
القريبة من الشيء الفاضل باطلاق والقريبة فضيلتها من الفضيلة باطلاق. ومنها ما
تنال هذه الفضيلة باعمال كثيرة. (ومنها ما لا تمكن فيه هذه الفضيلة لا باعمال قليلة
ولا كثيرة، لكن يمكن فيه) اقتناء ما هو من جنسها باعمال قليلة، وذلك أن
اقتناء الفضيلة باعمال قليلة يكون ضرورة لأحد أمرين: اما لفضيلة المقتني وشرفه،

[Page 246]
واما لسيارة الفضيلة المقتناة وبعدها عن الفضيلة التامة. ومنها ما لا يمكن فيه شيء
من جنس هذه الفضيلة، أعني التي تنال ليسارتها باعمال قليلة، وهذا (24 ظ)
[34 ظ] الجنس ليس يوجد فيه شيء من أعمال ذوي الفضائل. ومثال ذلك أن
بعض الناس يقتني الصحة بغير رياضة ولا عمل، وبعضهم يقتنيها برياضة يسيرة،
وبعضهم يقتنيها برياضة كثيرة واعمال شاقة، وبعضهم ليس يمكن فيه أن يقتني
الصحة لا برياضة قليلة ولا بكثيرة، لكن ينال ما هو شبيه بالصحة باعمال يسيرة.
وهذا كله بيّن من أمر المتنفسات. وأيضا فإنا نقول أن بعض الأشياء ينال
الفضيلة التامة بفعل واحد، وبعضها لا يمكن فيه نيل هذه الفضيلة، لكن يمكن
فيه نيل فضائل كثيرة من جنسها بافعال كثيرة حتَّى تقوم لها كثرة الفضائل مقام
مافاتها من كيفية الفضيلة. وهذه هي حال الانسان مع الأشياء التي هي أشرف منه
والتي هي فاضلة باطلاق، فإن الانسان لما لم يمكن فيه أن يقتني الفضيلة
التامة جعل له اقتناء فضائل كثيرة من جنس الفضيلة التامة. وبعض الأشياء لا
يمكن أن يقتني من هذه الفضائل أعني التي هي من جنس الفضيلة التامة (إلا
فضائل قليلة وباعمال قليلة)، وهذه هي حال الحيوان والنبات مع الانسان.
ومنها ما لا يمكن فيه أن يقتني شيئا من جنس هذه الفضيلة التامة لا بعيدا ولا قريبا
وهذه هي حال الجمادات. وبين أن اقتناء الفضيلة الواحدة بعينها باعمال يسيرة أهون
وأيسر وأقل تعبا من اقتنائها بافعال كثيرة .

[Page 247]
وإذ قد تقرر وجود هذه الأشياء في ذوات النفوس، بما هي متنفسة، فأقول
إن الجرم الأول إنما وجدت له حركة واحدة لأنه امكن فيه أن ينال الفضيلة القريبة
من الفضيلة التامة أو الفضيلة التامة بفعل واحد فقط، وان ما قرب منه من
الاجرام السماوية انما وجدت له حركات كثيرة اما لأنه لم يكن فيه أن ينال الفضيلة
التي نالها الجرم الأول إلا بأفعال كثيرة، مثل (الذي) يقتني الصحة بافعال
كثيرة، واما [25 ظ: ﻋ] لأنه لما لم يمكن فيه نيل الفضيلة التي نالها الجرم الأول
جعل مقتنيا فضائل كثيرة من جنسها بافعال كثيرة لتقوم له الكثرة مقام ما نقصه من
تمام الكيفية، وذلك كحال الانسان مع ما هو أشرف منه وأتم وجودا.
وتكون الأجرام السماوية البعيدة من الجرم الأول انما وجدت لها حركات أقل ان
سلمنا أن الشمس والقمر بهاتين الصفتين، أعني أنهما أقل الكواكب حركات
وأبعدها من الفلك الأول، لأحد أمرين ضرورة: اما لأنها لم يمكن فيها أن تقتني
كثرة من الفضائل التي امكن أن تقتنيها الاجرام المتوسطة التي بينها وبين الجرم
الأول، كحال الحيوان والانسان، واما لأنها لم يمكن فيها أن تقتني من الفضائل
إلا ما هو أحط من الفضائل المتوسطة التي تقتنيها الأجرام المتوسطة، ولذلك كان
اقتناؤها بافعال يسيرة، كحال النبات مع الحيوان، وذلك أنه ليس يمكن أن تكون
الفضيلة الواحدة بعينها يقتنيها الأشرف والأقل شرفا بافعال متساوية في العدد. واما
ما دون الاجرام السماوية فلما لم يمكن فيها نيل الفضيلة التي من جنس الفضيلة التي
تنالها الاجرام السماوية كانت أفعالها يسيرة بالإضافة إلى الفضيلة اليسيرة التي في
طباعها أن تنالها.
واما الأرض من بين الاسطقسات الأربعة فلما لم يمكن فيها أن تنال

[Page 248]
الفضيلة التي من جنس الفضيلة اليسيرة التي نالتها سائر الاسطقسات جعلت غير
متحركة بل ساكنة دون فعل وعمل.
فهذا هو مبلغ ما يمكن أن يقال في أسباب هذه الأشياء بحسب الطاقة
الانسانيه، وبحسب ما في أيدينا في ذلك من المقدمات المأخوذة من الاجرام المتنفسة
التي لدينا. ويشبه أن يكون هذا القول إذا أريد ألا يعرض فيه شك من قبل
كثرة الأفعال على نقصان الفضيلة ومن قبل قلتها اما على كمال الفضيلة في الغاية
(واما على نقصان الفضيلة التي في الغاية)، وإذا كان ذلك كذلك، (أمكننا
أن نعتبر الأفضل والأقل فضلا) لا من جهة الترتيب فنقول :
(ان أفضلها هو الفلك المكوكب)، ثم الشمس، ثم الأقل حركة. وعلى
هذا فيكون القمر يلي في الفضيلة الشمس، أو نقول فيه أن القمر لا يمكن فيه أن
ينال الفضيلة التي ينالها ما هو (25 و) [17 و] أكثر حركات منه بحركات كثيرة
فجعلت له حركات قليلة .

[Page 249]
وأما المطلب الثاني وهو لم صار في الفلك الأول كواكب كثيرة يديرها
فلك واحد، وفي سائر الأفلاك كوكب واحد تديره أفلاك كثيرة؟ فهو يجيب على
ذلك بجوابين:
أحدهما: أن الفلك الأول لما كان يظهر من أمره أنه مبدأ الحياة وعلة الوجود
للاشياء الحية وغير الحية أكثر من سائر الأفلاك، وجب ان تكون قوته أعظم من
سائر قوَى الأفلاك. والقوة العظمَى تحرك اجراما أكثر، والقوة الصغرَى تحرك
اجراما أقل، فلهذه العلة صار الفلك الأول يحرك كواكب كثيرة بحركة واحدة،
وصارت تلك تحرك كوكبا واحدا بأفلاك كثيرة. وانما صارت هاهنا حركات كثيرة
لتستدرك بذلك الطباع مافاتها من أن تكون فيها كواكب كثيرة، فكأن الطبيعة في
هذا عدلت فحيث صيرت كواكب كثيرة صيرت حركة واحدة فقط، وحيث
صيرت كوكبا واحدا صيرت حركات كثيرة، ليكون كل جرم منها على أقصَى ما في
طباعه ان يقبل من الكمال، فسبحان الخلاق العليم.
والجواب الثاني: ان هذه الأفلاك التي دون الفلك لما كان لكل واحد منها
حركة تخصه على مركز خاص به وقطب خاص، وكانت مع هذا تستتبع الفلك

[Page 250]
الأعظم في الحركة اليومية استتباعا واحدا على مركز واحد وقطب واحد، صار
المحرك لجميعها في هذه الحركة انما هو الفلك الأعظم، وقد تبين أن الفلك
الأعظم، وإن كان أعظم الأجسام قوة، فهو من جهة [26 و: ﻋ] ما هو جسم
(متناهي العظم متناهي القوة) التي تكون من قبل السرعة والبطء، وإذا كان
متناهي هذه القوة، فلو كان في سائر الأفلاك كواكب كثيرة لكان سيلحقه
بتحريكها كلال وتعب من هذه الجهة، أي ابطاء خارج عن الطبع، لا من جهة
التحريك إلى غير نهاية ولا من جهة أن في المتحرك منه مبدأ مضادا للمحرك، على
ما يلفي عليه الأمر في المتحركات التي لدينا، بل من جهة أن كل محرك بالطبع فله
متحرك محدود الكمية بالطبع. فمتَى انزلنا ذلك المتحرك أعظم جرما من الجرم الذي
له بالطبع لزم أن تكون حركته خارجة عن الطبع، وإذا كانت خارجة عن الطبع
(لحقها التعب والكلال من جهة البطء).
فعلى هذا ينبغي أن يفهم قول أرسطو هاهنا في الجرم الأول أنه كان يناله التعب
والنصب لو كان يحرك أفلاكا أكثر من هذه الأفلاك وكواكب أكثر من هذه
الكواكب لا على وجه آخر. فقد تبين أنه ليس في الاجرام السماويه مبادئ
متضادة وانه لا يلحقها كلال في التحريك إلى غير نهاية ( أعني تضاعيف حركة
مستديرة بالتكرير ).

[Page 251]
فقد قلنا في جواهر الكواكب، (وفي حركاتها)، وفي جهات حركاتها،
وفي اشكالها، ولم كان بعضها أسرع من بعض، ولم كان بعضها يتحرك حركات
كثيرة وبعضها حركات قليلة، ولم كان الفلك الأعظم يدير كواكب كثيرة وسائر
الأفلاك تدير كوكبا واحدا.

الجملة الرابعة

وهو يفحص في هذه الجملة عن أربعة مطالب:
أحدها: هل الأرض متحركة أم ساكنة.
والثاني: عن موضعها أين هو من العالم إن كانت ساكنة.
والثالث: عن السبب في سكونها.
والرابع: عن شكلها.
وما يقوله في ذلك منحصر في سبعة فصول:
ا - يخبر فيه عن مذهب القدماء في (موضع) الأرض.
ب - يخبر فيه عن مذهبهم أيضا في سبب سكونها وحركتها.
ﺟ - ( يخبر فيه ) عن مذهبهم أيضا في شكل الأرض

[Page 252]
د - في مذهبهم أيضا في علة سكونها ومن قال منهم أنها ساكنة.
ﻫ - في ابطال أن تكون الأرض متحركة.
و - في تعريف موضعها والسبب في سكونها.
ز - في معرفة شكلها.

ا - الفصل الأول :

فنقول: ان الأولين اختلفوا في موضع الأرض فكل من زعم أن السماء متناهية
قال أن الأرض في الوسط. فأما شيعة فيثاغورش وقوم غيرهم من القدماء فانهم
قالوا أن النار هي الموضوعة في الوسط، وأما الأرض فهي متحركة عندهم حوْل
الوسط، وقالوا ( أيضا ) أن أرضا أخرى مقابلة لهذه الأرض، وان عن حركة
هذه الأرض التي نحن عليها وحول الأرض الأخرى يحدث الليل والنهار. وهو يعذل
هذه الشيعة ويقول انما صاروا لمثل هذه الأقاويل لأنهم لا يرومون ان يطابقوا ما
يقولونه في علل الأشياء موافقة الأمور المحسوسة [ 26 ظ : ﻋ ] وشهادتها لها، وهي
الجهة التي ينبغي أن يتوخاها من يروم أن يعطي في الشيء سببا طبيعيا، بل يفعلون
عكس هذا وهو انهم يرومون نقل ما يظهر للحس وصرفه بالقول ( 25 ظ ) [ 17 ظ ]
المموه إلى الأسباب التي اعتقدوها في تلك الأشياء، فهؤلاء ليس يثبتون آرائهم من
الحس ولا من القياس بل انما يرومون أن يصيروا الحس والقياس تبعا لآرائهم
واعتقادهم في الشيء.

[Page 253]
فاما الحجة التي اعتمدوها في هذا الرأي فانهم قالوا ان النار أشرف من
الأرض، والشيء الشريف فينبغي أن يكون في الموضع الأشرف، والموضع
الأشرف هو الموضع الوسط من العالم، والموضع الوسط من العالم هو المركز لأنه
الذي بعده من محيط العالم بعد واحد، فالنار إذن هي في هذا الموضع. قالوا والعلة
في أن الشيء الشريف ينبغي أن يكون في الوسط أن الموضع للوسط هو الحائط
للأشياء، والشيء الأكرم والأشرف ينبغي أن يكون محفوظا، وليس في العالم
أشرف من النار، فلهذه العلة كانت في الموضع الوسط.
وأرسطو يقول أنه ذهب عليهم في هذا القول ان الوسط يقال على معنيين:
أحدهما الوسط في العظم والمقدار، وهو الذي بعده من الطرفين بعد واحد.
والثاني الوسط في القوة والفعل. وليس هذا الوسط (هو) الوسط الذي
في العظم (والمقدار)، وذلك أن الوسط الذي في القوة يوجد في سائر
المقولات، والوسط الذي في العظم إنما يوجد في مقولة الكم فقط. وكما أن
الوسط الذي في القوة في الحيوان هو غير الوسط في العظم، كذلك ينبغي أن يعتقد
في أمر العالم، أعني أن الوسط فيه في القوة ليس ينبغي أن يكون هو الوسط في
المقدار.
وإذا تبين أن الوسط (الذي) في القوة غير الوسط (الذي) في المقدار
وذلك في العالم وفي غيره من الموجودات، وكان الحافظ هو الوسط في القوة لا
(الوسط) في المقدار، فالشيء الأشرف إنما ينبغي أن يكون في المكان الأوسط
بالقوة، فلذلك ما ينبغي أن نفحص أي هو الموضع الأوسط بالقوة، فإن الأوسط
في القوة هو مبدأ وهو الحافظ للشيء الذي فيه. واما الأوسط في المقدار فهو
أحرَى ان يكون أخيرا من أن يكون مبدأ ، فإنه محوي لا حاوي، والحاوي
أشرف من المحوي، وهذه هي حال المكان الفوق الذي نرَى نحن أنه موضع

[Page 254]
(النار مع المكان الأسفل الذي نرَى أنه موضع) الأرض، أعني أن المكان
الفوق هو الأوسط بالقوة، والأسفل الأوسط بالمقدار. وإنما كان ذلك كذلك لأن
الفوق يحوي الأسفل والحاوي بمنزلة الصورة والمحوى بمنزلة المادة.
فهذه هي مذاهب القدماء في موضع الأرض من قال منهم أنها في الوسط ومن
قال أنها في غير الوسط.

ب - الفصل الثاني

واما مذهبهم في سكون الأرض وحركتها فإن للقدماء في ذلك مذهبين:
أحدهما: مذهب من كان يرَى أنها ساكنة.
والثاني: مذهب من كان يرَى أنها متحركة. وهذه الفرقة انقسمت إلى فرقتين:
ففرقة كانت ترَى أنها تتحرك حول الوسط، وهذه الفرقة هي الفرقة التي كانت
ترَى أن الأرض ليس موضعها (في) الوسط الذي هو وسط العالم في المقدار،
وممن كان يقول بهذا القول آل فيثاغورش فانهم كانوا يقولولن أن الأرض تتحرك
حول الوسط، وكانوا يرون مع هذا أن هاهنا أرضا أخرى مقابلة لهذه الأرض،
وكانوا يخصونها باسم مشهور عندهم، ومنهم قوم كانوا يزعمون أنه ممكن أن تكون
هاهنا ارضون كثيرة تدور حول الوسط كما تدور الأرض التي نسكن عليها، (لكن
تخفي عنا لقيام هذه الأرض التي نسكن عليها ) بيننا وبينها حتَّى تسترها عنا،
وان هذه الأرضين ممكن أن تكون السبب في كثير من كسوفات القمر، لأنها تقطع
عنا استنارته (التي تصل إليه) من الشمس، وذلك أنا إن قلنا أن سبب
الكسوف القمري هو كون الأرض في الوسط، أعني في مركز العالم، فليس
(يكون) قطعها عن القمر انارة الشمس له من جهة ما هي في الكون، بل
من جهة ما يخرج من جسمها [27 و: ﻋ] عن المركز ويفيض، أعني نصْف

[Page 255]
كرتها. وإذا كان ذلك كذلك، فاحرَى أن تقطع استنارة القمر بالشمس ما كان
بجملته من الأرضين خارج المركز.
والفرقة الثانية كانت ترَى أنها في المركز، أعني الأرض، وأنها تدور وتتحرك
على محورها الثابت. وهو يبطل أن تكون الأرض متحركة بثلاثة براهين:
البرهان الأول: أن الأرض إن كانت متحركة حول الوسط فهذه الحركة
لها قسرية لا طبيعية، لأنها لو كانت طبيعية لكانت موجودة لاجزاء الأرض. فإن
نوع حركة الجزء والكل لكل منها واحد. ولو كان ذلك كذلك (26 و)
[18 و] لكانت أجزاؤها تحس متحركة حول الوسط، وذلك مما لم يحس بعد.
وإذا لزم أن تكون هذه الحركة لها قسرية لزم أن تكون غير سرمدية، وإذا كانت
غير سرمدية كانت الأرض (أيضا) غير سرمدية من جهة ما هي جزء من أجزاء
العالم. وقد تبين أن العالم بجميع أجزائه سرمدي.
والبرهان الثاني انا نرَى الكواكب تتحرك حركات متضادة ومختلفة في الطول وفي
العرض، فإن فرضنا أن هذه الحركات إنما تظهر للكواكب من قبل حركة
الأرض، لزم أن تكون الأرض متحركة بحركات متضادة، وإن وضعنْا بعضها من
قبل الكواكب وبعضها من قبل الأرض، أعني ان وضعنا احدَى حركتي الطول
للأرض والأخرى للكواكب لزم الا يوجد لها حركة العرض، فإن وضعنا للأرض
حركة عرض لزم أن تكون حركة العرض للكواكب واحدة، وان توجد حركة
العرض ايضا للكواكب الثابتة، فإنه يظهر أن لجميع الكواكب السيارة ثلاث
حركات: حركة الطول، أعني المغربية والمشرقية، وحركة العرض، (وليس يمكن
أن تجعل واحدة من هذه الثلاث في الأرض واثنين في الكواكب)، وذلك

[Page 256]
أن حركة العرض إنما تتولد في الكواكب عن حركتي الطول، أعني الحركة اليومية
وحركة الكوكب في فلكه المائل.
والبرهان الثالث انا نرى الشمس والقمر تطلع وتغرب على مواضع باعيانها من
الأرض غير متبدلة ولا متنقلة، فلو كانت الأرض متحركة على المحور لاختلفت من
الأرض حركة العرض، أعني مواضع الطلوع والغروب في أفق أفق باختلاف الأيام
في الطول والقصر.
وأقول ان سكون الأرض بين بنفسه وانما نسق أرسطو هذه البراهين على جهة
الاستظهار.

ﺟ - الفصل الثالث

واما مذهب القدماء في شكل الأرض فمنهم من قال أنه فلكي مستدير. ومنهم
من قال انها عريضة كشكل الطبل، واستدل هؤلاء على أن شكلها ليس بكري بما
يظهر عند طلوع الشمس وغروبها من أن الأرض تقاطع قرص الشمس على خط
مستقيم، ولو كانت كرية لعرض من تقاطعها شكل هلالي مثل ما يعرض من تقاطع
جرم الشمس والقمر في الكسوف الشمسي. وهؤلاء ذهب عليهم أن الجسم الكري
الكبير إذا قطع جسما كريا صغيرا فإنه يقاطعه على خط مستقيم، وذلك أن الانحناء
في القوس الصغير من الدائرة التي تقع في الكرة العظيمة لا يظهر، والجسم
(الكري) الكبير انما يقاطع الكري الصّغير بقوس صغيرة فتظهر تلك القوس
قليلة التحدّب كأنها خط مستقيم، وهذه حال الشمس مع الأرض في الرؤية، فإن
الشمس تظهر في قدر الشبر لبعدها منا والأرض تظهر بالاضافة إليها عظيمة
جدا، وإن كان قد تبين في التعاليم أن الشمس أمثال كثيرة للأرض لكن هذا إنما
عرض لها من جهة الرؤية.
فهذه هي آراء القدماء في حركة الأرض وموضعها وشكلها.

[Page 257]

د - الفصل الرابع

وأما الذين قالوا بسكون الأرض وهم جمهور القدماء [27 ظ : ﻋ] فانهم
تحيروا واختلفوا في العلة التي من أجلها تسكن الأرض، وذلك انهم وجدوا أن
أجزاء الأرض إذا رفعت إلى الهواء وخلى عنها هوت سفلا، وانه إذا دحرج الجزء
الأسفل منها تحرك الجزء الأعلى إلى موضع الأسفل، وان الجزء الكبير منها يضغط
الصغير ويحركه إلى جهة المركز، وأن الجزء كلما كان أعظم كان أسرع لانحداره.
وهذا شيء ليس يعرض للأرض بجملتها وقد كان واجبا أن يعرض للكل ما يعرض
للجزء. وهو يحمد القدماء في طلبهم علة هذه المشاهدة، ويقول ان طلبهم هذه
العلة هو فلسفة حق، وان كان جميع ما قالوه فيها أمر غير مستقيم، وهو
يحكي عنهم في ذلك، أعني في سبب سكون الأرض بجملتها مع أن أجزائها تظهر
أبدا متحركة نحو المركز، آراء:
أحدها قول من قال ان السبب في ذلك أن الأرض بجملتها غير متناهية فليس
لها مكان تتحرك إليه. وهذا القول فاسد، فإنه قد تبين أنه ليس يوجد جسم بالفعل
لا نهاية له، وقد عاب هذا القول أنبادقليس وحمل على قائله.
والقول الثاني قول من قال ان السبب في سكون الأرض انها بجملتها موضوعة
على الماء، فانها تطفو عليه شبه الخشبة، فانها لا تطفو على الهواء وتطفو على الماء.
وهو يبطل هذا الرأي بثلاث حجج:
احدها (26 ظ) [18 ظ] (أنه) إذا كان سبب ثبوت الأرض الماء فماذا

[Page 258]
ليت شعري هو سبب ثبوت الماء، فإن أجزاء الماء أيضا تتحرك سفلا.
والحجة الثانية: أنه يظهر أن الهواء أخف من الماء والماء أخف من الأرض،
فإن كان ذلك كذلك فكيف يمكن أن يكون الجسم الأخف تحت الأثقل، أعني أن
يعتمد الأثقل عليه.
والحجة الثالثة: أنه لو كان من شأن الأرض ان تثبت على الماء لكان من شأن
أجزائها أن تثبت عليه وتطفو فوقه، وذلك خلاف المحسوس، فإن جميع أجزاء
الأرض ترسب في الماء، وكلما كان جزء الأرض أكبر كان أسرع لرسوبه إلى القعر.
والرأي الثالث : قول من قال أن السبب في سكونها هو عرض شكلها، وذلك
أن من شأن هذا الشكل أن يعسر قطعه للهواء، فلذلك تطفو الأرض فوق
الهواء، مع أنه ليس لها موضع خال في الهواء تنتقل إليه، فكأنها مضغوطة من كل
ناحية من قبل الهواء، إذ كان ليس له موضع ينتقل إليه، ولا هناك جسم يملأ
الموضع الذي كانت تفرغه الأرض لو تحركت بجملتها، شبه ما يعرض في
سراقات الماء فإنه إذا سدت أفواهها لم يسل الماء من أسفلها إذ كان ليس
هنالك جسم يملأ موضع الماء. ويثبتون قولهم بما يظهر في أشياء كثيرة من أن الهواء
قد يقوى ان يحمل أجساما عظيمة الثقل، وبخاصة إذا كانت عريضة الأشكال،
فإن هذا الشكل يعسر به تقسم الهواء.
وهو يرد هذا بأنه لو كان السبب في وقوف الأرض هو هذا، أعني ضغطها
للهواء، وانه ليس لها موضع تتحرك إليه، لكان عظم جرمها أحرى أن يكون سببا
لوقوفها من عرض شكلها. وذلك أنه كلما كانت الأرض أعظم احتاجت إلى مكان
أعظم وكان ضغطها للهواء أكثر، وسواء كانت مستديرة أو غير مستديرة في هذا
المعنَى، واللازم في ذلك واحد، فلا معنَى لقولهم ان السبب في ذلك انها عريضة
الشكل، هذا ان سلم لهم أنها عريضة، فاما ان لم تكن عريضة فقولهم أشد
فسادا.

[Page 259]
والرأي الرابع: قول من قال ان السبب في سكونها في الوسط انما هو الحركة
الدورية التي عرضت للكل، أعني الهواء والماء، عن حركة الجرم الأول، فإن
جميع من قال أن الأرض في الوسط وأن العالم محدث اتفقوا على أنها انما اندفعت
إلى الوسط من قبل الحركة الدورية، كما يعرض في الرطوبات وفي الهواء، أعني أنه
إذا أديرت بشدة اندفعت الأشياء الثقيلة التي فيه إلى الوسط، فبعض هؤلاء
كان يقول أن السبب في سكونها في الوسط إذا اندفعت عن الحركة هو عرض
شكلها، وبعضهم كان يقول أن السبب في سكونها في الوسط هو السبب
بعينه في اندفاعها إلى الوسط، أعني [28 و: ﻋ] حركة الالتواء والتدوير،
ويحتجون لذلك بما يظهر من أن الماء إذا أدير في القدح بشدة (ووضعت فيه قطعة
نحاس أنه يثبت ذلك النحاس) في وسطه ولا يرسب غلى قعر القدح، وهذا
القول <هو> منسوب إلى أنبادقليس.
ولما فرغ من ذكر آرائهم أتَى بقول مشترك في الرد على جميع هذه الأقاويل
المتقدمة في علة سكون جميع الأرض مع الحركة التي توجد لاجزائها، وهو يقدم
لذلك أولا مقدمات قد وضعها غير ما مرة:
احداها:
إن كل جسم طبيعي فله حركة طبيعية، وذلك أنه إن لم تكن له حركة طبيعية
لم تكن له حركة قسرية، فإن القسرية إنما تقال بالاضافة إلى الطبيعة. وإذا لم
تكن له حركة طبيعية ولا قسرية فليس له حركة أصلا، وذلك مستحيل، أعني أن
يلفي جسم طبيعي غير متحرك أصلا.
والمقدمة الثانية:
ان كل جسم طبيعي إذا كان له حركة طبيعية مستقيمة فله سكون طبيعي، وان

[Page 260]
السكون الطبيعي نهاية الحركة الطبيعية، كما أن السكون القسري نهاية الحركة
القسرية.
وإذا كان ذلك كذلك، وفرضنا سكون الأرض بكليتها في الوسط، اما من
قبل شكلها، واما من قبل الالتواء والتدوير الذي يقول به جمهور الطبيعين، واما
من قبل أن غيرها يحملها، كان سكونها في الوسط سكونا قسريا ضرورة. فإذا
توهمنا السبب القاسر للأرض في الوسط قد ارتفع، مثل أن ترتفع شدة الحركة
والتدوير أو غيرها من الأسباب التي قالوا بها، كان للأرض ضرورة أن تتحرك
بالطبع من الوسط التي هي فيه ساكنة، وذلك إلى ما يلي اقدامنا ورؤوسنا، فإنه
يجب أن تكون نسبة حركتها بالطبع إلى هاتين الجهتين نسبة واحدة (وألا (27 و)
[19 و] تكون حركة إلى جهة ما يلي رؤوسنا أحرى إلى جهة ما يلي أقدامنا. وإذا
كانت نسبة حركتها إلى هاتين الجهتين نسبة واحدة) لكون الجهتين واحدة،
فواجب أن يكون ما لا يعوق الأرض عن الحركة من احدَى هاتين الجهتين الا يعوق
من الجهة الأخرى، فإن الأشياء المتشابهة عللها متشابهة. فإن كان الدوران أو شكل
الأرض لا يعوق الأرض عن الحركة إلى ما يلي رؤوسنا فليس يعوقها عن الحركة إلى
ما يلي أقدامنا، فإنه واجب إذا فرضت أن الجهتين واحدة ان يكون ما يعوق من
احداهما يعوق عن الأخرى، وما لا يعوق من احداهما لا يعوق من الأخرى.
ولما أتَى بهذا الرد المشترك لجميعهم، أخذ في الرد على أنبادقليس بما يخصه،
وذلك بحسب ما كان يراه في تكون العالم، فيقول له: فقبل أن تجتمع
الاسطقسات واجزاء العالم من المحبة أين كانت الأرض يومئذ ساكنة، وما
كان السبب إذ ذاك في سكونها، فانه قبل أن تكون صورة هذا العالم
موجودة لم يكن هنالك تدوير ولا حركة الهواء. وهذه المقاومة هي من جنس
المقاومة التي تكون بحسب قول القائل لا بحسب الأمر نفسه.

[Page 261]
ثم إنه يأتي بعد هذا القول بثلاث معاندات بحسب الأمر نفسه:
العناد الأول: انه ليس يمكن أن يتصور أن التدوير والالتواء الذي في
الهواء هو الذي كان فيما سلف سبب حركة الأرض إلى الوسط وسكونها فيه، وإنه
حينئذ كان موجودا على غير ما هو عليه الآن، فإن الهواء القريب من الأرض ليس
يوجد الآن متحركا وانما يتحرك من الهواء دورا ما قرب من الأثير، فنحن بين
أمرين: اما أن نضع حركة الالتواء في الهواء والتدوير حينئذ كما هي الآن. واما أن
نضع انها كانت فيما سلف على غير ما هي عليه الآن. فإن وضعنا أنها كانت فيما
سلف على غير ما هي عليه الآن فما السبب الآن ليت شعري في سكون الأرض في
الوسط وحركتها إليه. وان وضعنا أنها كانت فيما سلف كما هي الآن، أعني من
حركة الهواء، فمستحيل أن تكون حركة الهواء سببا لسكون الأرض في الوسط
وحركتها إليه لا فيما سلف ولا في الآن.
والعناد الثاني: أنه إن كنا لا نرَى أن الالتواء هو سبب لحركة النار إلى
فوق بل نقر أن طبيعة النار هي السبب في ذلك، فواجب أن يكون السبب في
حركة الأرض إلى الوسط وسكونها فيه طبيعتها [28 ظ: ﻋ] لا الالتواء والتدوير،
فإن النقلة لما كانت واحدة بالجنس، وجب أن يكون سببها أيضا واحدا بالجنس
وهو طبيعة المتنقل.
والعناد الثالث: أنه من البين بنفسه أن الثقيل والخفيف ليسا يحدان بالدوران
حتَّى يكون الثقيل هو الذي يندفع عن الدوران والخفيف هو الذي لا يندفع عنه،
وذلك أنه من المعلوم بنفسه أن الدوران ليس يظهر في حد الثقيل ولا في حد
الخفيف كما يظهر في حدهما الحركة إلى فوق والحركة إلى أسفل، أعني أنا نحد
الخفيف بأنه المتحرك إلى فوق والثقيل بأنه المتحرك إلى أسفل. وإذا كان هذا هكذا

[Page 262]
فالثقيل والخفيف موجودان بانفسهما قبل الدوران والالتواء، وهما السبب في حركة
الأرض إلى أسفل والنار إلى فوق.
وأيضا فإن فرضنا أن الحركة حادثة، أعني حركة الدوران، فإلى أي موضع
ليت شعري كانت تتحرك الأرض والنار قبل حدوث هذه الحركة، فإنه ان لم يكن
في وقت ما جسم كري متحرك دورا لم يكن هنالك نهاية وإذا لم يكن نهاية لم يكن
هنالك فوق ولا أسفل، وإذا لم يكن هنالك فوق ولا أسفل لم يكن هنالك ثقيل
ولا خفيف، وإذا لم يكن هنالك ثقيل ولا خفيف لم يكن هنالك أرض ولا نار.
وذلك كله مستحيل .
ولما فرغ من عناد هذه الآراء أتَى برأي خامس للقدماء في سبب سكون الأرض
وهو أشدها اقناعا، وهو رأي منسوب إلى القميدروس القديم، وذلك أن
هذا الرجل ومن تبعه كان يرَى أن سبب سكون الأرض في الوسط إنما هو
كونها موضوعة من جميع الآفاق بالسواء، وذلك أنه لمّا لم يكن لها أن
تتحرك إلى جهة أكثر منها إلى جهة، إذ كان بعدها إذا كانت في الوسط من
كل ناحية من الأفق بعدا سواء، وقفت هناك، وذلك اما أن الافاق
كأنها تجاذبها من كل ناحية تجاذبا (27 ظ) [19 ظ] سواء، وكأن قوتها
في الحركة إليها تكون قوة سواء. واما إذا لم تكن في الوسط فيكون الأفق الأبعد
أقوَى جذبا أو تكون هي إليه أقوَى ميلا.
وهو يعاند هذا الرأي بثلاثة براهين: اثنان منها يبطل بهما هذا الرأي نفسه،
والثالث يبطل به القياس الذي يستعملونه في تثبيته.
فأما العناد الأول فهو هكذا: ان كان سبب سكون الأرض في الوسط انما هو
تساوي بعدها من جميع الآفاق، فيجب أيضا إذا توهمنا النار موضوعة في الوسط

[Page 263]
ان تسكن هنالك، وليس النار فقط، بل وكل جسم يوضع هنالك. وإذا كان
ذلك كذلك، لم يكن هذا السكون للأرض في الوسط خاصا بها بل مشتركا لها
ولجميع الأجسام، وإذا كان الأمر كذلك فهذا السكون هو لها قسري لا طبيعي،
وإذا كان هذا السكون لها قسريا لم يكن لها سكون طبيعي. وقد قيل أن كل جسم
له سكون بالطبع كما أن له حركة بالطبع.
وأما العناد الثاني فهو أن السكون الذي هو نهاية الحركة الطبيعية واجب
أن يكون سكونا طبيعيا، ولما كان حيث تسلك أجزاء الأرض فهنالك يجب أن
تسلك الأرض بجملتها، وكانت الأجزاء تسلك سلوكا إلى الوسط، فواجب
أن تكون الأرض بأسرها تسلك سلوكا طبيعيا إلى الوسط. وإذا سلكت إليه سلوكا
طبيعيا فهي تسكن فيه سكونا طبيعيا، وإذا سكنت هنالك سكونا طبيعيا فليس
سبب سكونها هو تساوي الميل وتقاوم الحركات المتضادة وتعادلها. والعجب، كما
يقول أرسطو، أن يفحص الفاحص لم سكنت الأرض في الوسط ويعطي فيها مثل
هذه العلة البرانية، ولا يطلب مثل ذلك في سكون النار في الأفق، فإنه واجب أن
يكون الأمر فيهما متشابها، أعني أنه إن كانت النار إنما تسكن في الأفق من قبل
طبيعتها ان تكون الأرض إنما تسكن في الوسط من قبل طبيعتها، وإن كانت
الأرض انما تسكن في الوسط لأمر يضطرها إلى السكون فيه ان تكون النار انما
تسكن في الأفق لأمر يضطرها إلى السكون فيه. وبالجملة فقد كان واجبا عليهم أن
يطلبوا في النار مثل هذه العلة. إلا أنه متَى وضعت امثال هذه العلل لسكون
الاسطقسات ارتفع السكون الطبيعي عنها جملة، وإذا ارتفع السكون الطبيعي
[29 و: ﻋ ] ارتفعت الحركة الطبيعية وإذا ارتفعت الحركة الطبيعية ارتفعت
القسرية، وإذا ارتفعت الحركتان معا بطل وجود الجسم الطبيعي، إذ مستحيل أن
يوجد جسم لا متحرك ولا ساكن. وكذلك يجب عليهم أن يطلبوا فيها علة الحركة
كما طلبوا علة السكون.
فاما قياسهم الذي أوجبوا منه أن الأرض ثابتة في الوسط فإنه مؤلف من
مقدمتين:

[Page 264]
إحداهما: أن الأرض إذا كانت في الوسط كانت حركتها إلى جميع النواحي
بالسواء.
والمقدمة الثانية وهي الكبرَى: (ان كل ما كانت حركته إلى جميع النواحي
بالسواء فواجب أن يثبت في مكانه ويسكن فيه).
فينتج من ذلك: (أن الأرض واجب أن تسكن في الوسط لكون حركتها إلى
جميع النواحي بالسواء).
ويثبتون هذه المقدمة الكبرَى بما يظهر من أمر (الصخرة المستديرة) أنها إذا
جذبت من جميع النواحي بالسواء ثبتت ولم تمل إلى جهة دون جهة، وكذلك
الرجل العطشان والجائع جدا وقد بعد عنه الطعام والشراب بعدا سواء انه واجب
فيه أن يسكن ولا يتحرك.
وأما أرسطو فإنه يعاند هذه المقدمة الكبرَى بما أقوله: وذلك أن كل ما كان
ثبوته ووقوفه بهذا النحو من الوقوف، فواجب أن تتمزق أجزاؤه وتتشذب
وتتحرك إلى جميع النواحي، لأنه ليس الجسم الموضوع في الوسط نقطة حتَّى يلزم
في أجزائه ما يلزم في كله، أعني أن يكون بعد الكل والاجزاء من المحيط بعدا
واحدا، وسواء وضعت الأجزاء تتحرك إلى جهة البعد (الاقرب ان كان ذلك على
جهة الجذب ، أو إلى جهة البعد) الأبعد أن كان ذلك من قبل الميل، وان
كان واجبا فيها ان فرضت متحركة نحو الأفق ان تكون متحركة نحو الأفق الأقرب
فإن الجسم الطبيعي كلما قرب من موضعه الطبيعي كان أسرع حركة. وإذا كان ذلك
كذلك فقد (28 و) [16 و] يجب في الأرض أن تتمزق وتتحرك أجزاؤها إلى جميع

[Page 265]
الجهات، وأقل ذلك أن تنتفخ وتنتشر ان لم تتمزق، وتصير أعظم مما
هي بالطبع، هذا إذا وضعنا الاجزاء تتحرك إلى جهة القرب الأقرب. كما يلزم فيها
إن كانت حركتها إلى نحو البعد الأبعد أن تنقبض وتتضام، والانقباض والانتشار
حركة، فوجود الشيء في الوسط هو احرَى على هذا الوجه ان يكون سببا للحركة
من أن يكون سببا للسكون.
فهذا هو الذي يستعمل أرسطو في ابطال هذه المقدمة.
واما المقدمة الصغرَى فقد تبين بطلانها أيضا من قوة الأقاويل التي سلفت،
وذلك أن الأرض إذا كانت حركتها، وهي (في) الوسط، إلى جميع النواحي
بالسواء فسكونها هنالك قسرا لا طبيعي، فأي موضع هو الذي يسكن فيه ليت
شعري سكونا طبيعيا، فإن سائر المواضع هي مخصوصة بسائر الاسطقسات.
وأما تامسطيوس فإنه يروم نصرة هذا القول، ويقول: انه قد قيل في
طيماوش أن الشيء المتشابه إذا وضع في الشيء المتشابه أنه لا يميل إلى أحد
الجوانب (وأنه ليس المعنَى في قولهم أنه يميل إلى أحد الجوانب) بمعنَى أن
القوَى المتضادة التي فيه >تقف ذلك في اعتدال< على الحركات المختلفة

[Page 266]
تتقاوم حتَّى يقف الشيء بضرب من القسر هنالك، بل معنَى ذلك عندهم
أن الشيء المتشابه إذا وضع في الوسط وكان من شأنه أن يثبت هنالك، فإن
السبب الأقصَى في سكونه هو كون بعده من جميع الجهات بعدا سواء. فكأن هذه
العلة المعطاة في هذا القول على ما فهمه هذا الرجل عن القدماء انما هي علة
أقدم من صورة الأرض لسكونها الطبيعي في الوسط، وذلك أنه إذا فرضنا الأرض
ساكنة بالطبع في الوسط كانت العلة القريبة في ذلك صورة الأرض وهي الثقل،
والعلة البعيدة كونها (بعيدة) من جميع الآفاق بالسواء، ولذلك يستجفي
تامسطيوس قول أرسطو هاهنا ويقول أن هذه العلة ليس تذهب على أحد، أعني
أن سبب سكون الأرض هو أنه لها بالطبع. ويقول وإنما الذي تتشوق معرفته
ما سبب هذا الوقوف الذي لها في هذا الموضع بالطبع.
وإن كان مقصد القدماء بهذا القول هذا فإن أرسطو ما فهم عنهم
مقصودهم، وأقاويله التي أتَى بها في معاندة هذا الرأي يسهل الانفصال عنها
[ 29 ظ : ﻋ] كما فعل ذلك تامسطيوس فيها ، فانا نجده في كتابه قد انفصل عنها
من هذه الجهة. وقد ينبغي أن ننظر ما مقصود القدماء في ذلك، هل ما فهمه
عنهم أرسطو، أو ما فهمه عنهم تامسطيوس المنتصر لهم ولأفلاطون، فنقول:
إنه من الظاهر أن القدماء إنما كانوا يطلبون في ذلك السبب الفاعل لسكونها في
الوسط، وذلك اما القريب واما البعيد، ان كان هنالك سبب بيعد أو كلاهما، لا
السبب الصوري (ولا غير ذلك من الأسباب). وبيّن أن من قال أن

[Page 267]
السبب في سكونها في الوسط هو: أن الجوهر الثقيل من شأنه بالطبع أن يسكن
هنالك، فقد أعطَى السبب الفاعل القريب، كما فعل ذلك أرسطو. وان من
قال أن السبب في كون الثقيل ساكنا بالطبع في الوسط: ان الذي في الوسط بعده
من جميع النواحي بعد سواء أنه لم يعط في ذلك سببا فاعلا لسكونها بالطبع في
الوسط لا قريبا ولا بعيدا، وإنما اعطَى سببا صوريا تعاليميا، وذلك أن حد
(الشيء) الذي في الوسط (ان) يكون بعده من جميع النواحي بعدا
سواء، فكأنه قال انما سكنت بالطبع في الوسط لأن (الشيء) الذي في
الوسط بعده من جميع النواحي بعد سواء، وبيّن أن هذا لم يكن غرض القدماء،
وإنما كان طلبهم عن السبب الفاعل لسكون الأرض في الوسط، وذلك لا
يتصور، أعني إذا فرضنا البعد المتساوي للأرض من الأفق سببا فاعلا لوقوفها، إلا
بأن تكون في الأرض قوة على الحركة إلى جميع النواحي بالسواء، فحينئذ
يكون تساوي الميل سببا فاعلا لسكونها في الوسط، ومن هذه الجهة يلحقهم
العناد الذي ألزمهم أرسطو، فانهم انما كانوا يرومون أن يعطوا في (سكون)
الأرض سببا مباينا لسبب حركة أجزائها في الوسط، فإنهم كانوا يرون الأجزاء
متحركة والأرض بجملتها واقفة (فكانوا يرومون أن يعطوا في ذلك سببا طبيعيا
فلزمهم أن يكون سببا قسريا)، لأن السبب في حركة الاجزاء وسكونها وحركة

[Page 268]
الكل وسكونه هو واحد بعينه، ولما ذهب على (القدماء) (28 ظ) [16 ظ]
الموضع الطبيعي لسكون الاجزاء ذهب عنهم الموضع الطبيعي لسكون الكل، فإنه
واجب إن لم يكن للجزء موضع يسكن فيه بالطبع الا يكون للكل، وان كان
للجزء موضع يسكن فيه بالطبع فواجب أن يكون للكل، وان يكون موضع الكل
والجزء واحدا بالصورة والحد واما ما يقال في علة وجود الثقيل والخفيف من
كون بعد الثقيل عن الحركة الدورية السماوية وقرب الخفيف منها فهو قول حق، إلا
أنه ليس بعلة للأمر المطلوب هاهنا وهو لم كانت الأجزاء تتحرك من الأرض
والأرض بجهاتها ساكنة، وانما هو علة لوجود الثقيل والخفيف، ولذلك ليس يليق
أيضا أن يحمل قول القدماء على هذا المعنَي ويتأول فيه هذا التأويل. فهذا هو
جملة ما يقوله في ابطال مذاهب القدماء في هذا المطلوب. ولما أبطل العلل التي
قالها القدماء في سكون الأرض شرع هاهنا في اعطاء السبب الطبيعي في ذلك وحل
الشك الذي أفنَى القدماء أعمارهم في طلبه، وهو ما يظهر من سكون الأرض
بجملتها وتحرك أجزائها، إذا وجدت موضعا للحركة، مع أن المقرّ به أن موضع
الكل والجزء يجب أن يكون واحدا ، فابتدأ أولا بابطال أن تكون الأرض متحركة.
ونحن فقد ذكرنا ذلك عند الاخبار عن مذهب من قال أن الأرض متحركة
فلينقل إلى هاهنا ، وليجعل على حدته فصلا خامسا.

و - الفصل السادس

وأما هاهنا فإنه يبين أن الأرض في الوسط، وأنها ساكنة بالطبع، ويحل الشك
المتقدم (في ذلك)، ويعطي السبب في سكونها، وذلك يظهر بما أقوله:

[Page 269]
وذلك أنه قد بان أن كل متحرك حركة استقامة بالطبع فواجب فيه أن يسكن
بالطبع عند انتهاء حركته، فإنه لا يمكن أن تكون حركة مستقيمة غير متناهية، على
ما تبين في السماع. وإذا تقررت هذه المقدمة، واضفنا إلى ذلك مقدمة ثانية
[ 30 و : ﻋ] وهي أن مكان الجزء والكل واحد بالعدد والحد، وأنه حيث تسلك
المدرة الواحدة بعينها فهنالك تسلك الأرض بجملتها، وأنه حيث تقف المدرة
الواحدة فهنالك تقف الأرض بأسرها، وكان ظاهرا من اجزاء الأرض أنها تتحرك
بالطبع إلى مركز الأرض الذي هو وسط للكل، فبيّن أن مكان الأرض هو وسط
الكل، إذ مكان الكل والجزء واحد بالحد والماهية، وانما تختلف بالصغر
والكبر. فاما ان أجزاء الأرض تتحرك إلى مركز الأرض الذي هو مركز العالم،
فذلك يظهر من أن مساقط الاحجار تكون أبدا أعمدة على السطوح الموزونة
من جميع جهات الأرض على ما بينه المهندسون. وإذا كان ذلك كذلك،
فهي ضرورة تلتقي عند المركز، وتحدث هنالك زوايا متساوية توترها قسي متساوية
اما من محيط الفلك واما من محيط الأرض. وهذا يدل، على ما بينه المهندسون،
أن النقطة التي تلتقي عليها الأحجار يلزم ضرورة أن تكون وسط الأرض ووسط

[Page 270]
العالم، وذلك أنها لو لم تكن وسط الأرض لما كانت مساقط الأحجار أعمدة
على السطوح الموزونة الواقعة على ظهر الأرض من جميع الجهات ولما كانت
القسي المتساوية من الدوائر الواقعة في الأرض توتر من جميع الجهات زوايا متساوية
عند المركز، أعني الزوايا التي تصنعها مساقط الأ حجار عند المركز، وكذلك لو لم
يكن وسط الأرض وسط الكل لما كانت القسي المتساوية من الفلك توتر من جميع
الجهات عند المركز زوايا متساوية.
وقد يشك شاك في هذا ويقول: ان كانت أجزاء الأرض تتحرك إلى مركز
الأرض الذي عرض له ان كان مركز الكل فهل حركتها إلى مركز الكل، أعني
العالم بأسره (هو) من جهة أنه مركز الأرض، أو الأمر بعكس ذلك، أعني
أن حركتها إلى مركز الأرض هو من جهة أنه عرض له ان كان مركز الكل،
فنقول: انه انما تتحرك الأحجار إلى مركز الأرض من جهة أنه مركز الكل،
والدليل على ذلك أن النار لما كانت ضد الأرض، إذ كانت النار هي الخفيفة
باطلاق والأرض هي الثقيلة باطلاق، وكان يظهر من أمر النار أنها تتحرك إلى أفق
العالم، فواجب أن تكون الأرض تتحرك إلى مركزه.
فقد تبين من هذا أن أجزاء الأرض تسلك بالطبع إلى وسط الأرض من جهة
ما هو وسط الكل، (29 و) [ 12 و] وأن الأرض بجملتها موضوعة في وسط الكل
الذي هو المركز، إذ كان بعدها من جميع النواحي بعدا سواء
(مستويا)، (وهذا هو حد الحركة الذي تطلبه الأجزاء بحركتها)، فعلى
هذا يكون موضع الكل والاجزاء واحدا بالحد والعدد، ومن هنا يظهر أنها ساكنة
بالطبع في الوسط. ومما أقوله أيضا، وذلك أن أجزاء الأرض لما (كانت)

[Page 271]
تتحرك بالطبع إلى مركز الأرض من جهة ما هو مركز الكل ووسطه، كان السكون
لها بالطبع انما هو (في) هذا الموضع ضرورة، لأنه لو كان سكونها هنالك قسرا
لكانت حركتها من الوسط طبيعية، وذلك مستحيل، لأن حركتها الطبيعية انما هي
(إلى) الوسط ، فإنه لما كان انما يوجد لكل جسم بسيط حركة واحدة بسيطة
طبيعية، وكانت الحركة الطبيعية للنار انما هي من الوسط، وكانت النار ضد
الأرض، فالواجب أن تكون الحركة الطبيعية الخاصة بالأرض من الفوق إلى
الوسط، ولذلك كان سكونها في الوسط طبيعيا، وحركتها منه قسرية. وإذا كانت
حركة الاجزاء بالطبع إلى الوسط وسكونها بالطبع فيه، فبالواجب كانت حركة
الأرض بجملتها إلى الوسط طبعا وسكونها فيه طبعا، ولذلك ليس يمكن فيها أن
تتحرك من الوسط إلا قسرا على جهة ما يمكن ذلك في اجزائها. فإذن السبب في
حركة الأرض إلى الوسط وسكونها فيه بالطبع انما هو صورتها الطبيعية وهي الثقل،
كما أنه ليس السبب في حركة النار إلى فوق وسكونها في مقعر الفلك إلا صورة النار
الجوهرية وهي الخفة.
وهاهنا تبين الشيء الذي كان القدماء يشكون فيه، أعني لم كانت أجزاء
الأرض تطلب السفل أبدا [30 ظ : ﻋ] ويضغط الأكبر منها الأصغر من غير أن
يعرض ذلك لجملة الأرض، فإن الأرض إذا تميز منها جزء بالفعل طلب بصورته
الجوهرية الموضع الطبيعي للأرض بجملتها وهو الوسط، أعني وسط العالم، إذ كان
لا فرق بين مكان الكل والجزء من أن كل واحد منهما يطلب وسط العالم من جهة
ما هو له وسط، وبذلك قيل أن مكان الكل والجزء واحد. فالأرض انما سكنت
بجملتها إذ كانت في وسط العالم، أعني أن يكون بعد محيطها من محيط العالم بعدا
واحدا. والجزء الواحد منها أو الاجزاء إذا وجدت بالفعل فإنه يتحرك (ليكون بنفسه
في وسط العالم ويسكن هنالك، إذ كان لا فرق بين موضع الكل والجزء في أنهما
في وسط العالم)، إلا أن موضع الكل محيط بموضع الجزء، أعني الجزء الذي

[Page 272]
بالفعل، فاما الأجزاء التي بالقوة فليست في أين ولا متحركة إلا بالقوة.
فقد تبين من هذا أن الأرض ساكنة بالطبع في الوسط، وتبين سبب ذلك،
وانحل الشك الذي كان القدماء تحيروا فيه.
قال:
وقد يشهد أن الأرض في الوسط وانها ساكنة البراهين التي جرت عادة
أصحاب التعاليم أن يستعملوها في ذلك: وذلك أنه لو كانت في غير
الوسط، كما يقول بطليموس، لكان ذلك لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن تكون
خارج المحور، أو في المحور نفسه مائلة إلى أحد القطبين، أو تكون موجودة
بالوجهين، أعني أن تكون خارجة المحور مائلة إلى أحد القطبين. ولو كانت خارجة
عن المحور لما كانت أزمنة طلوع الكواكب من الأفق الشرقي إلى وسط السماء
مساوية لأزمنة انحطاطها من وسط السماء إلى المغرب. ولو كانت على المحور مائلة
إلى أحد القطبين لما (كانت) قطعت دائرة الأفق في كل اقليم دائرة البروج
بنصفين الا حيث تكون الأرض منتصبة. ولو كان ذلك كذلك لما استوَى
الليل والنهار في سائر الأقاليم عند الاعتدالين. ولو اجتمع الامران، أعني لو وجدت
خارج المحور مائلة إلى أحد القطبين، لوجدت المحالات اللازمة لهما جميعا.

- الفصل السابع

ولما تبين له هذا أخذ يبين أن شكل الأرض كرى وهو يقدم لذلك مقدمات:
إحداها: ان لكل جزء من اجزاء الأرض ثقلا إلى أن يتنهي إلى وسط العالم.
والثانية: ان من شرط الجزء الأكبر ان يدفع الأصغر حتَّى ينال هو الوسط.
والثالثة: أن الجزء المدفوع لا يتموج بل ينقبض ويميل نحو الوسط بغاية ما

[Page 273]
يمكنه (وإذا كان ذلك كذلك فلنضع الأرض على جهة المثال متكونة) على ما
كان يراه كثير من القدماء، وذلك بأن يتوهم أن أجزائها (29 ظ) [12ظ] تكونت
في أول الأمر في كل جهة، ونزلت من جميع نواحي الفلك إلى الوسط، وكل
واحد منها يطلب الوسط على قدر ميله، فإذا وضعنا الأرض على هذه الصفة
وتحفظنا بالمقدمات التي عددناها فأقول:
انه يجب ضرورة أن تتخلق الأرض في الوسط تخلقا كريا، وذلك أنه لا
تخلو الأجزاء الثقيلة النازلة من جميع النواحي ان تكون متساوية في العدد متساوية
في العظم والترتيب أعني أن يكون ما ينزل منها من كل نقطة من الفلك متساويا في
العدد والعظم والترتيب أو يكون ما ينزل منها من ناحية أكبر وأكثر مما ينزل من
أخرى. فإن كان ما ينزل منها من جميع النواحي، أعني من كل نقطة من
الفلك (منها)، متساويا في العظم والعدد، وكانت كلها تؤم المركز حتَّى
يضغط بعضها بعضا على تعادل، فبين أنه واجب أن تكون سطوح آخر الأجزاء
نزولا، وهي التي يحدث منها سطح الأرض، بعدها من المركز بعد متساو،
وهذه هي خاصة الكرة، أعني أن تكون الخطوط التي تخرج من المركز إلى السطح
المحيط متساوية. وان فرضنا أن هبوطها من بعض الجهات يكون أكثر أو أكبر لزم
أيضا عن ذلك أن يكون شكلها كريا وفي وسط العالم ضرورة، وذلك أن الأكبر
يضغط الأصغر والأكثر الأقل حتَّى يخرجه وينحيه من المركز إلى أن يصير الكل منها
في وسط العالم، فتكون الأرض مستديرة [31 و: ﻋ] ضرورة. ولذلك لو
توهم أحد أنه قد زيد في كرة الأرض مثل نصفها من أحد جهاتها فقط حتَّى
لا يكون مركز الأرض هو مركز الكل لتحركت الأرض بأسرها حتَّى يكون مركزها
بعينه هو مركز الكل، وحينئذ (كانت) تسكن بالطبع، لأن ما تطلبه المدرة

[Page 274]
الواحدة من الوقوف في الوسط هو الذي تطلبه الأرض بجملتها فإن كان من شأن
الأرض أن تتكون بهذا الشكل فبيّن أنه واجب أن يوجد لها هذا الشكل وإن لم
تتكون بجملتها فإن هذا الشكل إذا تبين أنه الشكل اللازم لجوهرها لم يكن فرق فيما
يلزم من ذلك بين أن نضعها متكونة أو غير متكونة. ولذلك لم يضرنا في التعلم ان
ننزلها متكونة، (وان كنا نَرى أنه ممتنع ومستحيل أن تكون متكونة، لكن لم نضع
هاهنا الممتنع) من جهة ما هو ممتنع وإنما فرضناه من جهة ما هو ممكن،
ولذلك لم يعرض لنا خلل من استعماله في هذا التصور والتصديق. وهذا النحو
من التعليم كثيرا ما يستعمل، وقد قيل في جهة استعماله في غير ما موضع. والفرق
بين انزالنا هاهنا ان الأرض متكونة، وبين ما كان يضعه القدماء من ذلك، انا
نضع نحن أنه لما تكونت الاجزاء الثقيلة بالقوة وصارت ثقيلة بالفعل تحركت بالطبع
نحو الوسط. واما القدماء فإن حركتها عندهم نحو الوسط عندما تكونت كان قسرا،
ومن جهة ضغط الحركة الدورية لها. وقد تبين بطلان ذلك.
ولما أتي بالبرهان الطبيعي على أن شكل الأرض كري شرع أيضا في عضد ذلك
بالبراهين التعاليمية فقال:
إن الدليل على أن شكل الأرض كري أنه إذا قاطع ظلها جرم القمر في
الكسوف القمري فإنه يقاطعه بخط مستدير، وليس يتفق ذلك إلا أن يكون ظل
الأرض مخروطا أو أسطوانيا، وذلك لا يكون إلا ظل الجرم المستدير ضرورة.
(وهو يستدل على أن ما يظهر من ذلك حقيقة لا خيال أنه يظهر الخط
الفاصل) أبدا في الكسوف القمري غير التام بين الجزء المضيء من القمر

[Page 275]
والمكسوف محدبا، وذلك بخلاف الخط الذي يفصل الوجه المضيء منه من غير
المضيء عند تشكله من الشمس بالاشكال الهلالية، فإن هذا الخط يختلف
منظره من قبل اختلاف الهواء، فمرة يظهر إلى الاستقامة، ومرة يظهر محدبا، ومرة
يظهر تام التقويس. واما الخط الذي (يظهر) في الكسوف فإنه يظهر أبدا على
حالة واحدة. وهذا يدل على أن ما يظهر من ذلك ليس هو خيالا وانما هو
حقيقة. وإذا كان ذلك كذلك، فالأرض كرية ضرورة.
ومن الدليل أيضا على أنها فلكية، وأنها ليست بكبيرة، أنا إذا انتقلنا إلى ناحية
القطب الجنوبي ليس بكبير انتقال ظهرت لنا كواكب في الفلك الأعلى لم تكن
تظهر بعد فإن الكواكب التي تحت الفرقدين تغيب في أرض مصر وأرض
قبرس، وهي لا تغيب عند أهل الربع الشمالي لا الغربي ولا الشرقي. وسهيل لا
يظهر في بلادنا هذه التي هي جزيرة الأندلس إلا ما يحكى (30و) [13 و] أنه
يظهر في الجبل المعروف فيها بجبل سهيل. وهو يظهر في بلاد البربر، خلف البحر
الذي بيننا وبينهم المسمى بالزقاق، وقد عاينت (أنا) بمراكش في عام ثمانية
وأربعين وخمسمائة كوكبا لا يظهر من هذه البلاد وذلك على الجبل المعروف
بجبل درن فزعموا أنه سهيل.
والكسوفات القمرية يتقدم حدوثها في البلاد الشرقية على حدوثها في البلاد
الغربية، وذلك دليل على استدارتها أيضا.

[Page 276]
وقد قال قوم أن الأرض يبلغ من صغرها أن الموضع الذي يدعي بصنم هرقل،
وهو فيما أحسب المدعو عندنا بصنم جزيرة قادس، هو قريب من أول حد من
حدود أرض الهند، ولذلك يرون أن البحر واحد، ويستدلون على صحة قولهم بأن
الفيلة تتكون في أرض الهند وتتكون أيضا في أقصى الغرب، وذلك باقصَى
الجنوب، من الربع الغربي الجنوبي، وهي بلاد [31 ظ: ﻋ] السودان
والبربر. هكذا حكَى أرسطو وقد رأيت أنا من أخبرني أن الفيل يوجد في
تلك الصحاري. قالوا: وإذا كان الأمر كذلك، فطبيعة الموضعين واحدة ، أعني
أرض الهند والحدود الغربية. وإذا كانت طبيعة الموضعين واحدة فليس ذلك إلا
لأحد أمرين: اما لأن الموضع واحد واما لأن احدهما قريب من الآخر وما قاله
أيضا أصحاب المجسطي في مساحة دورها انه نحو من أربعة وعشرين ألف ميل
يشهد على صغرها. وكذلك ما ظهر لهم من أنها جزء من نحو مائة وستين جزءا
من الشمس يدل أيضا دلالة ما على صغرها.
فقد تبين من هذا القول شكل الأرض وموضعها وسكونها والسبب في ذلك.
وهنا انقضت هذه المقالة.
والحمد لله رب العالمين.

[Page 279]
(30و) [13و]

المقالة الثالثة

وما يقوله في هذه المقالة منحصر في ثمانية جمل:

[Page 280]
الجملة الأولى: بمنزلة الصدر لهذه المقالة وذلك أنه يذكر فيها بما سلف له من
القول في اجزاء العالم، وبما بقي عليه من ذلك.
الجملة الثانية: يذكر فيها آراء القدماء في لحوق الكون والفساد للموجودات
الطبيعية.
الجملة الثالثة: يعاند فيها القول بالجزء الذي لا يتجزأ بمقدمات طبيعية غير
المقدمات التعاليمية التي استعملها في معاندته في السماع الطبيعي.

[Page 281]
الجملة الرابعة: يذكر فيها أن الكون لا يمكن أن يوجد لجميع الأجسام الطبيعية
وانما يمكن أن يوجد لبعضها.
الجملة الخامسة: يفحص فيها عن أسباب الكون في المركبات وهي التي تسمى
اسطقسات.
الجملة السادسة: (يبين فيها أن الكون يوجد في الأجسام البسيطة التي هي
اسطقسات وذلك في أجزائها لا في كلها).
الجملة السابعة: يبين فيها أن كون الاسطقسات لا يكون من جرم آخر ولا
من غير جرم وإنما يتكون بعضها من بعض.
الجملة الثامنة: يعاند فيها الأقاويل التي قالها القدماء في كون الاسطقسات
بعضها من بعض.

الجملة الأولى

قال:
لما كنا قد تكلمنا، فيما سلف من هذا الكتاب، في الجرم الخامس المتحرك
دورا، وبيّنا أي طبيعة هي طبيعته وطبيعة أجزائه، أعني الكواكب، وسائر الأمور
التي تكلمنا فيها من أمر هذا الجرم الكريم، مثل أنه غير كائن ولا فاسد إلى غير
ذلك من الأشياء التي تكلمنا فيها، فقد بقي علينا من النظر في أجزاء العالم البسيطة
التي غرضنا في هذا الكتاب التكلم فيها، التكلم في الأربعة الأجسام البسيطة الباقية
المتحركة حركة استقامة، أعني النار والهواء والماء والأرض، وفي جميع اللواحق
والأعراض التي تعرض لها. وانما كان ذلك كذلك لأنه لما كانت الموجودات
الطبيعية اما أجساما واما أفعالا وانفعالات توجد [ 32 و: ﻋ ] للأجسام، (30 ظ)

[Page 282]
[ 13 ظ ] وكانت الأجسام صنفين اما بسيطة شبه الاجرام الأربعة، واما مركبة مثل
الحيوان والنبات، كان جل النظر الطبيعي في الأجسام البسيطة والمركبة. ولما كان
النظر في البسيط قبل المركب، وكان قد تكلم فيما سلف من هذا الكتاب (في الجرم
الخامس فواجب أن يكون الذي بقي عليه من هذا الكتاب النظر في الجزئين
الباقيين)، أعني المتحرك إلى فوق، والمتحرك إلى أسفل وفي جميع اللواحق التي
تلحقها.

الجملة الثانية

ولما كان اخص اللواحق بهذه الاجرام البسيطة (هو) وجود الكون والفساد
لها، لأنه اما الا يوجد كون ولا فساد لشيء من الأشياء أصلا، واما ان وجد
فإنما يوجد لها أولا، أعني للاسطقسات وللمركبات من أجلها، شرع أولا يذكر
آراء القدماء في الكون والفساد فقال:
إن الأولين الذين تفلسفوا الفلسفة النظرية خالف بعضهم بعضا في هذا المعنَى،
وخالفوا أيضا رأينا في ذلك. فاما مخالفة بعضهم بعضا فمن قبل أن منهم من
قال ليس يوجد كون ولا فساد لشيء من الأشياء وان ما يظهر من ذلك فهو رؤية
وظن لا حقيقة، ومن هؤلاء برمنيدس وصاحبه. ومنهم من قال ضد هذا، كأنه
تعمد مخالفتهم، وهو أن جميع الأشياء كائنة، ومن هؤلاء من قال أن الكائنة على
ضربين: اما كائن لا يقع تحت الفساد، واما كائن يقع تحت الفساد. ومنهم من

[Page 283]
قال انه ليس شيء ثابت وقتا ما وإنما الأشياء متكونة سائلة وانما الثابت الموضوع
لها، فبعض هؤلاء قال في هذا الموضع أنه الماء، وبعضهم قال انه النار، وبعضهم
قال انه الأرض، وبعضهم قال إن الاجرام المتكونة انما تتركب من السطوح لا من
جرم.
والذي قاد الفرقة النافية للكون إلى القول بذلك هو انهم اعتقدوا أنه ليس
يوجد شيء غير الأمور المحسوسة، ولا أن هاهنا شيئا معروفا غيرها، أي لم يعترفوا
بوجود الكليات، واعتقدوا مع هذا أن المعلوم ينبغي أن يكون ثابتا غير متغير
فقادهم هذا إلى أن نفوا التغيير والحركة جملة، ودافعوا الحس بان قالوا أن التغيير
والحركة شيء يرى وأنه ليس بحقيقة ولذلك رأوا أن المحسوسات ليست موجودة في
الحقيقة فضلا عن أن تكون متغيرة، واعتقدوا أن فيها جواهر هي بالحقيقة موجودة
وغير متغيرة. وهويحمدهم على اثباتهم جواهر غير متغيرة ويلومهم في اثبات ذلك
في هذه الأمور الطبيعية لأن الأمور الطبيعية انما هي طبيعية بما فيها من مبدأ
الحركة، ولذلك كان النظر في الأمور غير المتغيرة من حق علم آخر، أعني من علم
ما بعد الطبيعة.
فهذه جملة آراء القدماء في كون الأجسام وفسادها. وهو يرجئ القول في الرد
على من قال ان كل شيء مكون، ويبدأ بالرد على من قال أن الكون يكون من
السطوح وهو الذي قيل في طيماوش.

الجملة الثالثة

وهذه الجملة تنقسم أولا (إلى) قسمين:
القسم الأول: يعرف فيه أم المحالات اللازمة لهذا الرأي، أعني من قال أن

[Page 284]
كون الأجسام من السطوح، منها تعاليمية ومنها طبيعية. وان التعاليمية تلحق الأمور
الطبيعية وليس ينعكس ذلك، أعني أن تلحق المعاندات الطبيعية في ذلك
المعاندات التعاليمية. وان قصده هاهنا هو ذكر ما يخص الأمور الطبيعية من
ذلك.
واما القسم الثاني فيعدد فيه المعاندات الطبيعية التي تلزم أصحاب هذا الرأي. الجملة الثالثة

القسم الأول

قال:
واما الذين يقولون ان الاجرام مركبة من السطوح، وأنها تنحل إليها، فإن
بعضهم يبطل كثيرا من الأمور التعاليمية المعترف بها عند أهل التعاليم، وذلك أنه إذا
كانت الأجسام تنحل إلى السطوح، فقد يلزمهم ان تنحل السطوح إلى الخطوط،
والخطوط إلى النقط، فيلزمهم أن تكون الأجسام مركبة من النقط. وهذا يرفع
كثيرا [ 32 ظ: ﻋ] من الأصول والأوضاع التعاليمية، مثل أن كل خط فإنه يقسم
بنصفين، ومثل أن المقادير (منها صم ومنها منطقة)، إلى غير ذلك من المحالات
اللازمة لهم في هذا الجنس التي قد عددت فيما سلف من هذا العلم.
(واما الآن فإنه يروم أن ينظر في ذلك هاهنا من) (31 و) [14و ] المحالات
اللازمة لهم من جهة الأمور الطبيعية، وذلك أن المحالات التي تعرض من فرض
هذا الرأي لأصحاب التعاليم تعرض لأصحاب العلم الطبيعي، والمحالات التي
تعرض لأصحاب العلم الطبيعي لا تعرض لأصحاب التعاليم.

[Page 285]
قال:
والعلة في ذلك أن الجرم التعاليمي ناقص عن الجرم الطبيعي، وذلك أن
التعاليمي انما ينظر في الجرم من حيث هو مجرد من الهيولي ومن الاعراض
اللاحقة له من أجلها، مثل البياض والسواد والخفة والثقل وغير ذلك. واما
الطبيعي فإنه ينظر في الجرم من حيث هو في مادة ومقترنة به أعراضه الهيولانية،
وهذا هو معنَى أن الجرم التعاليمي ناقص عن الجرم الطبيعي ومحصور فيه، وذلك أنه
إذا كان الجرم التعاليمي محصورا في الجرم الطبيعي، أعني أن الجرم الطبيعي يتضمن
الجرم التعاليمي وزيادة، لم يكن الجرم الطبيعي محصورا في التعاليمي، فواجب أن
يكون ما يعرض للجرم التعاليمي يعرض ضرورة للطبيعي، وألا يعرض للتعاليمي كل
ما يعرض للطبيعي. مثال ذلك أن النقطة التي يلزمهم أن تتركب منها الأجسام، إذا
أخذت تعاليمية، لم يلزمهم في ذلك المحال الذي يلزمهم إذا أخذت النقطة طبيعية،
أعني مع الهيولي، (وذلك أنه يلزمهم أن تكون النقطة منقسمة) على ما سيظهر
من القول بعد.
ولما بين جهة المعاندات التي يقصد أن يستعملها مع أصحاب هذا الرأي في هذا
الموضع شرع في تعديدها.

القسم الثاني

وهذا القسم فيه فصلان: الفصل الأول يذكر فيه المحالات اللازمة لأصحاب
هذا الرأي. واما الفصل الثاني فيبين فيه على جهة الاستظهار ما كان وضعه في
البرهان الأول من أن كل جسم متحرك حركة استقامة فهو اما ثقيل واما خفيف.
ويتطرق من هذا إلى وجوب الحركة الطبيعية لجميع الأجسام. ثم يعرف كيف تكون
هذه الحركات بتوسط الهواء، أعني الطبيعية والقسرية، وانه ضروري فيها أو
كالضروري.

[Page 286]

الفصل الأول:

وهذا الفصل يذكر فيه ثلاث معاندات:
العناد الأول:

قال:
ونقول (انه لا يمكن أن تكون الأجسام) الطبيعية مركبة من السطوح على ما
قيل في طيماوش. برهان ذلك: انه إن كانت مركبة من السطوح، وكان لا يمكن
أن يكون شيئان ليس لواحد منهما ثقل أو خفة يكون لهما إذا اجتمعا ثقل أو خفة،
وكانت النقطة ليس يمكن فيها أن تكون ثقيلة ولا خفيفة، فإنه لا يمكن أن يكون
لشيء من الاجرام الطبيعية ثقل أو خفة، ولكن لها ثقل أو خفة، فليس يمكن أن
يكون شيء من الاجرام مركبا من السطوح. فاما المستثنَى في هذا القياس الشرطي،
وهو مقابل التالي، فهو أمر بين بنفسه، والقدماء يسلمونه، وسيتكلف هو بيانه على
جهة الاستظهار فيما يستقبل. واما جهة لزوم التالي للمقدم في هذا القياس فإن ذلك
يظهر بما أقوله: وذلك لأنه إذا وضع أن الاجسام مركبة من السطوح، وكانت
نسبة السطوح إلى الاجسام نسبة الخطوط إلى السطوح والنقط إلى الخطوط، لزم أن
تكون السطوح مركبة من الخطوط والخطوط من النقط، فتكون الأجسام على هذا
مركبة من النقط. وإذا وضع أن النقط ليس لها ثقل إذا أخذت مفردة أو مركبة
فبين أنه ليس يمكن أن يكون للخطوط المركبة منها ثقل أو خفة. وإذا لم يكن
للخطوط ثقل أو خفة لا مفردة ولا مركبة، وكانت السطوح مركبة منها ( فبين أنه
ليس لها ثقل ولا خفة وإلا كان شيئان ليس لكل واحد منهما ثقل ولا خفة إذا ركبا
[ 33 و: ﻋ] حدث لكل واحد منهما ثقل).
وإذا كانت الأجسام مركبة من السطوح، وكانت السطوح ليس لها ثقل ولا

[Page 287]
خفة، (لا في جنس الأفراد ولا جنس التركيب) فبيّن أن الأجسام ليس
يكون لها لا ثقل ولا خفة. فعلى هذه الجهة يظهر اللزوم الذي بين المقدم
والتالي في هذا القياس الشرطي.
واما تصحيح ما وضع في المقدم من أن النقطة ليست بثقيلة ولا خفيفة فهو يأتي
في ذلك ببراهين ثلاثة: اثنان منها يستعمل فيهما مقدمات واجب قبولها والثالث
يستعمل فيه مقدمات يسلمها القدماء على جهة ما يستعمل (31 ظ) [ 14 ظ] في
المعاندات التي تكون بحسب قول القائل لا بحسب الأمر نفسه.
فأما البرهان الأول فهو هكذا:
ان كان كل ثقيل يمكن أن يكون أثقل من شيء وأخف من شيء آخر،
فكل ثقيل أو خفيف يقبل التجزئة بالفعل. واما ان كل ثقيل وخفيف يقبل
التجزئة، وكانت النقطة ليست تقبل التجزئة فاللازم عن ذلك، في الشكل الثاني
أن النقطة لا ثقيلة ولا خفيفة.
وهذا البرهان ائتلف من قياسين: احدهما شرطي، والآخر حملي في الشكل
الثاني. اما الحملي فلا كلام فيه، لأنه من مقدمتين احداهما بينة بنفسها وهي ان
النقطة لا تقبل التجزئة، والثانية مبينة بالقياس الشرطي وهي ان كل ثقيل أو
خفيف يقبل التجزئة. واما الشرطي الذي صحح به هذه المقدمة فالنظر فيه في

[Page 288]
موضعين: احدهما تصحيح استثناء المقدم بعينه. والموضع الثاني تصحيح اللزوم
الذي بين المقدم والتالي. واما تصحيح اللزوم بينهما فهو أمر بين بنفسه، وذلك أنه
إذا فرضنا أن كل ثقيل يمكن أن يكون أثقل من شيء آخر فذلك الشيء الآخر
يكون جزءا منه ضرورة. وإذا كان ذلك كذلك، فكل ثقيل منقسم. ومثل هذا
بعينه يعرض في الخفيف. وانما الكلام في تصحيح استثناء المقدم نفسه في هذا
القياس الشرطي، وهو: أن كل ثقيل فإنه يمكن أن يكون أثقل من شيء آخر
وأخف من شيء آخر، وكل خفيف فيمكن أن يكون أخف من شيء آخر وأثقل
من شيء آخر. وأرسطو يضع هذه القضية على أنها بينة بنفسها، ويقول انها غير
منعكسة، وذلك أنه يقول: إن كان كل ثقيل يلزم أن يكون أثقل من شيء آخر
وأخف من شيء آخر، وان هذا غير منعكس، أعني أنه ليس كل ما هو أثقل أو
أخف من شيء آخر فواجب أن يكون ثقيلا أو خفيفا، فإن الهواء أثقل من النار
وليس بثقيل، والماء أخف من الأرض وليس بخفيف. وانما تنعكس هذه القضية
إذا أخذت المقايسة في نوع واحد بعينه من جهة ما يختلفان بالأقل والأكثر في ذلك
النوع بعينه. مثال ذلك أن الأرض أثقل من الماء وهي مع هذا ثقيلة، وذلك أن
كليهما ثقيل. وكذلك النار أخف من الهواء وهي مع ذلك خفيفة إذ كانا كلاهما
خفيف. واما إذا أخذت المقايسة في النوع الواحد بعينه لا من جهة ما يختلفان
بالأقل والأكثر في ذلك النوع بعينه، بل من جهة تمازج ذلك النوع من
الضدية الموجودة في النوع المضاد له، فإنه لا يصدق ذلك، مثال ذلك أن الماء
أخف من الأرض وليس بخفيف، وإنما كان ذلك (كذلك) لأن الماء وإن
مازجته الخفة بما نقصه مَن ثقل الأرض فلم يخرج بذلك من أن ينتقل من نوع ثقيل
إلى نوع خفيف. وكذلك يعرض في جميع الأشياء التي تقال بالمقايسة، وذلك ان
كل مؤثر باطلاق فهو أثر من شيء آخر، وليس كل ما هو أثر من شيء آ خر فهو
مؤثر باطلاق، مثل (ذلك أن) الزمانة أثر من الموت وليست الزمانة مؤثرة
باطلاق.

[Page 289]
وليس لقائل أن يقول انما كان يكون صادقا قول القائل كل ثقيل فيمكن أن
يوجد أثقل من شيء آخر لو كان أيما جزء فرضناه من الأرض والماء يمكن أن تأخذ
جزءا (آخر) من الأرض بالفعل أصغر منه وكذلك من الماء، وليس الأمر
كذلك فإن أصغر أجزاء الأرض والماء والهواء والنار محدودة، أعني أن أصغر
أعظامها محدودة. وإذا كان ذلك كذلك، فليس يمكن أن يكون كل ثقيل أثقل
من شيء آخر ولا كل خفيف أخف من شيء آخر [ 33 ظ: ﻋ]، فإن هذا انما
لحق الثقيل والخفيف بالعرض، أعني عدم الانقسام، وذلك من جهة ما
الثقيل ماء أو أرض والخفيف نار أو هواء، لا من جهة ما هذا ثقيل وهذا
خفيف. وهذا أمر بين بنفسه، أعني أن الثقيل والخفيف تلحقهما (المقايسة)
والانقسام بما هما ثقيل وخفيف، ويلحقهما عدم الانقسام بما أحدهما جسم مشار
إليه كأنك قلت أرض أو هواء، وهذا بعينه عرض للجسم ولسائر الأعظام،
أعني أنه ينقسم إلى غير نهاية من جهة ما هو جسم وعظم، ويتناهَى في الانقسام
من جهة ما هو مشار إليه محسوس.
وإذا كان ذلك كذلك، فالممكن في هذا القياس انما وضع من جهة ما هو
ممكن لا من جهة ما (32 و) [ 15و] هو ممتنع، أعني أن الثقيل انما وضع هاهنا
أنه ممكن أن يقبل الانقسام من جهة ما هو ثقيل لا من جهة ما هو نار أو أرض.
لكن الممكن إذا انزل من جهة ما هو ممكن لم يعرض عن انزاله محال. فلما انزل في
هذا القياس المتقدم مقدمة ممكنة من جهة ما هي ممكنة، وهو: أن الثقيل يقبل
الانقسام بما هو ثقيل، وأضاف إليها مقدمة مشكوكا فيها، وهو: أن النقطة ثقيلة
أو خفيفة، لزم عن ذلك محال وهو: أن تكون النقطة تقبل الانقسام، والمحال

[Page 290]
ليس يعرض عن وضع الممكن بما هو ممكن. فقد بقي أن يكون انما عرض في هذا
القول عن وضعه أن النقطة ثقيلة أو خفيفة.
وأمثال هذه البراهين كثيرا ما يستعملها أرسطو في هذا العلم. ومن هنا يظهر أيضا
غلط تامسطيوس فيما ظنه بأرسطو في هذا الموضع من أنه استعمل مقدمة ممكنة في
نتيجة ضرورية. فإن الذي وضع أرسطو هو أن كل ثقيل ممكن أن يفرضه منقسما
بالفعل من جهة ما هو ثقيل، والنقطة ليس يمكن فيها ذلك، فانتج من ذلك أن
النقطة ليست بثقيلة. ليس بأنه استعمل مقدمة ممكنة، بل انما أوجب امكان شيء
لشيء وسلب ذلك الامكان عن شيء آخر، فوجب أن يكون أحدهما مسلوبا
ضرورة عن الآخر.
وأما البرهان الثاني فهو يستعمل فيه مقدمتين:
إحداهما: ان كل ثقيل فهو كثيف، وكل خفيف فهو متخلخل.
والمقدمة الثانية: ان الكثيف هو الذي تكون اجزاؤه كثيرة التضام،
والمتخلخل هو الذي تكون أجزاؤه غير متضامة. وهذه المقدمة وضعها هاهنا بحسب
تسليم القدماء لها، وذلك أن القائلين بالاجزاء (التي لا تتجزأ) هذا هو رأيهم في
الثقيل والخفيف، لا أن هذا رأيه في الثقيل والخفيف، فإن الكثيف والمتخلخل هو
عنده من باب الكيفية لا من باب الكمية. وإذا وضعنا أن الكثيف والمتخلخل هو
على ما كان يعتقد فيه القدماء لزم ضرورة متَى كان ثقيل ما مساويا في حجمه
لخفيف ما ان يكون أكثر أجزاء منه، فإن كانت النقطة خفيفة أو ثقيلة لزم ضرورة
أن تكون كثيفة أو متخلخلة، وإذا كانت كثيفة أو متخلخلة فهي ضرورة منقسمة
فإن النقطة الكثيفة يلزمهم أن تكون (أكبر) أجزاء من النقطة الخفيفة.
وأما البرهان الثالث فهو هكذا:

[Page 291]
كل ثقيل اما أن يكون جاسيا واما لينا، والجاسي هو الذي لا يندفع عند
الغمز، واللين هو الذي يندفع تحت الغمز ويتطامن. والمتطامن وغير المتطامن يقبلان
التجزئة، فإن معنَى التطامن هو الذي يقبل التقعير في عمقه، وما كان بهذه الصفة
فهو جسم ضرورة، وكل جسم منقسم، فيلزم عن ذلك ان كانت النقطة ثقيلة أن
تكون منقسمة.
فهذه هي الأقاويل التي بين بها أرسطو أن النقطة ليست بثقيلة ولا خفيفة،
وهو أحد ما وضع في المقدم من القياس الشرطي المتقدم، فيلزم عنه أن يكون
الجسم الطبيعي ليس فيه ثقل ولا خفة. ولما كان أيضا أحد ما وضع في المقدم
من ذلك القياس أنه ليس يمكن أن يتركب شيء له ثقل أو خفة على جهة الكمية
من أشياء ليس لها خفة ولا ثقل، أخذ يتقصي بيان ذلك هاهنا على جهة
الاستظهار، إذ كان لقائل أن يقول أنه يمكن أن يكون من أشياء لا ثقل لها شيء
له ثقل، كما تكون من المادة والصورة عندكم جسم وليس واحد منهما جسما،
فقال:
إنه إن كان كل ما هو من الأجسام الثقيلة [ 34 و: ﻋ ] أكثر أجزاء فهو
أثقل، كان لا محالة للنقط التي يتركب منها الجسم الثقيل ثقل، فإنه إن كان كل
جسم ثقيل مركبا من أربع نقط مثلا، وكان أثقل من جسم آخر مركب من ثلاث
نقط، إذ كان أكثر أجزاء منه، وقد فرضنا أن كل ما هو أكثر أجزاء هو أثقل،
وجب ضرورة أن يكون أثقل منه بشيء ثقيل وهي النقطة الرابعة، كما أن الأشد
بياضا من غيره هو أشد بياضا بشيء أبيض لا محالة. وإذا كان ذلك كذلك،
فواجب ان كان الجسم ثقيلا، وهو مركب من النقط، أن تكون النقط لها
ثقل، وقد تبين أن ذلك غير مُمكن.
وأيضا ان كان السبب في ان بعض الأجرام أثقل من بعض، كما قيل (32 ظ)

[Page 292]
[15 ظ] في الكتاب المسمى طيماوش من أجل كثرة السطوح وقلتها، وجب ضرورة
ان تكون السطوح لها ثقل، والا فما كان يكون كثرتها وقلتها سببا لتفاضل الأجسام
(بعضها على بعض) في الثقل، وان كانت السطوح هي السبب في ان كانت
بعض الأجسام خفيفة باطلاق كالنار، وبعضها ثقيلة باطلاق كالأرض، وجب أن
يكون بعض النقط ثقيلا (باطلاق وبعضها خفيفا باطلاق) وقد تبين أن ذلك
مستحيل.

العناد الثاني

ولما كمل له هذا القول أتَى بعد ذلك بقولين يعاند بهما هذا الرأي نفسه أعني
الرأي القائل أن الأجسام الطبيعية مركبة من السطوح. واحد القولين هو هذا:
ان كان الجرم الطبيعي مركبا من السطوح فليس يمكن أن يتصور ذلك إلا على
أحد وجهين: إما على جهة اطباق السطوح بعضها على بعض، واما على ⎤ما يقوله
المهندوس من أنه إذا أضيف خط إلى خط في الطول والعرض حدث سطح، وهم
لا يقولون بهذا، فينبغي أن يكون حدوث الجسم عن السطح على جهة
الاطباق⎡ (لا على جهة إلصاق الأطراف احدها بطرف الآخر، لكن ان كان
تركيبها على جهة الصاق اطراف بعضها ببعض لم يحدث عن ذلك جسم بل
سطح)، وان كان حدوث الجسم عنها على جهة الاطباق كان الحادث عن
ذلك ليس هو اسطقسا، وذلك بحسب قولهم، ولا هو من اسطقس، وذلك انهم
يعتقدون ان الاسطقسات التي تركبت منها الأجسام هي الأشكال الخمسة المذكورة

[Page 293]
في آخر كتاب اقليدس، وليس يمكن أن يحدث عن اطباق السطوح بعضها عن
بعض، ان سلمنا أنه يجتمع من ذلك جسم ما من هذه الأجسام الخمسة التي هي
الاسطقسات بزعمهم، مثل ذي الاثنتي عشرة قاعدة وذي العشرين
قاعدة. وإذا لم يحدث عنها واحد من هذه الأجسام، وكانت الاجسام اما هذه
الخمسة واما ما تركب منها، فالحادث عن السطوح هو ضرورة جسم ليس باسطقس
ولا من اسطقس.
وهذه المعاندة انما هي أيضا بحسب اعتقاد القائلين بهذا القول في ذلك لا
بحسب الأمر في نفسه.

العناد الثالث

واما القول الثاني فهو هكذا:
إن كانت الأجسام مركبة من السطوح، وكان المركب من شأنه أن ينحل إلى
البسيط في وقت ما، وجب أن يكون وقت لا يوجد فيه إلا نقط فقط،
وذلك أنه قد ينحل في وقت ما الجسم إلى السطوح والسطوح إلى الخطوط
والخطوط إلى النقط، وهكذا يلزم بعينه في الزمان ان اعتقد معتقد أنه مركب من
الآنات، أعني أنه يلزم أن يأتي حين لا يوجد زمان ماض ولا مستقبل. وهذا كله
شنيع ومستحيل.
ولما أتَى بالمحالات اللازمة لأصحاب هذا القول قال:
إن مثلها يعرض للذين يركبون العالم والأجسام الطبيعية من العدد شبه ما فعله
آل فيثاغورش، يعني بذلك أنه يلزمهم أن تكون الآحاد لها ثقل وخفة فيكون ما لا
ينقسم منقسما.

[Page 294]
فهذا هو جملة ما يقوله أرسطو في الرد في هذا الموضع على أفلاطون.
وأما ما يعتذر به عنه تامسطيوس من أنه إنما أراد بقوله أن الأجسام مركبة من
السطوح ⎤المحددة⎡الأبعاد الأول الثلاثة، أعني الطول والعرض والعمق، التي
هي أول صورة في المادة الأولى ⎤من قبل انها تنمي الأبعاد الثلاثة وتصيرها موجودة
بالفعل⎡، فعذر لا يرفع العذر عنه. وذلك أنه إن كان أفلاطون أراد هذا
المعنَى الذي تأويله عليه تامسطيوس، فقد أساء في عبارته عن ذلك بهذا القول الذي
ما كان يمكن أن يفهم منه أبدا هذا المعنَى لو لم يكن معلوما ومتقررا عندنا من كتب
أرسطو. وان كان لا يريد به إلا المعنَى [ 34 ظ : ﻋ ] الذي تأوله عليه أرسطو وهو
المعنَى الذي يقتضيه قوله اقتضاء أولا فقد ظهر غلطه فيه ذلك. ⎤وأيضا لا
يقول بهذا إلا من يعتقد أن السطوح جواهر⎡.

الفصل الثاني

ولما كان قد أخذ في البرهان المتقدم أن كل جسم متحرك حركة استقامة فهو اما
ثقيل واما خفيف، أخذ يبين ذلك هاهنا على طريق الاستظهار. ولما كان
يحتاج أن يأخذ في بيان ذلك أن لكل جسم طبيعي بسيط حركة طبيعية اضطرار،

[Page 295]
شرع في بيان ذلك أولا، وهو يأتي في (بيان) ذلك أولا ببرهانين، ثم يبين
أن القدماء الذين كانوا يقولون بحركة الاجزاء التي لا تتجزأ إلى غير نهاية في الخلاء
قبل حدوث العالم، يلزمهم أيضا أن يقروا بوجود حركة طبيعية، وكذلك يلزم
أفلاطون الذي كان يضع أن حركة الاسطقسات كانت قبل كون العالم غير
منتظمة ثم صارت إلى النظام.
(33 و) [ 10 و]

البرهان الأول
وهذا البرهان هو هكذا:
لما كانت الأجسام بأسرها يظهر من أمرها انها متحركة، فلا تخلو حركتها ان
تكون اما قسرا واما طبعا. لكن إن كانت حركتها قسرا فلها لا محالة حركة طبيعية،
فإن الحركة القسرية البسيطة إنما هي التي خالفت الطبيعية اما في الجهة واما في
السرعة واما في غير ذلك من الأسباب، ولذلك كان لكل واحد من الأجسام
البسيطة حركة واحدة فقط طبيعية، ويمكن أن تكون له حركات كثيرة خارجة عن
الطبع.
وإذا كان ذلك كذلك فلكل جسم بسيط حركة طبيعية ضرورة.
البرهان الثاني:

وأما هذا البرهان فهو يقدم له مقدمات ثلاث:
احداهما: أن كل جسم متحرك حركة استقامة فله سكون ما.
الثانية: ان الساكن اما أن يسكن طبعا واما (أن يسكن) قسرا.

[Page 296]
والثالثة: أن ما كان سكونه في موضع بالطبع فحركته إليه بالطبع، وما كان
سكونه في موضع ما بالقسر فحركته إليه تكون بالقسر.
ثم يضع مقدمة رابعة وهي: أن كل جسم طبيعي متحرك ملموس فواجب أن
يكون له سكون بالطبع، وإذا وجد له سكون بالطبع وجدت له حركة بالطبع. إذ
قلنا ان ما سكن في موضع ما بالطبع فحركته إلى ذلك الموضع هي بالطبع.
فاما ان كل جسم طبيعي فواجب أن يوجد له سكون بالطبع فذلك يظهر من
أنه إن لم يوجد له سكون بالطبع فسيوجد له سكون بالقسر. فلنفرض مثلا أن
الأرض ساكنة في الوسط بالقسر، وانه لا يوجد شيء ساكن إلا بالقسر،
فالقاسر للأرض ضرورة على السكون لا يخلو أن يكون ساكنا أو متحركا، مثل ما
يضع انبادقليس ان سبب سكون الأرض هي الزوبعة ذات الجولان، فإن كان
القاسر ساكنا عاد السؤال في هذا السكون هل هو بالطبع أو بالقسر، فإن كان
بالقسر عاد السؤال أيضا في القاسر هل هو ساكن أو متحرك، فإن قيل ساكن عاد
السؤال في الساكن هل هو بالطبع أو بالقسر، وذلك إلى غير نهاية، وهو
مستحيل. وان فرضنا القاسر متحركا فإلى أي مكان ليت شعري كان شأن الجسم
المقسور أن يتحرك إليه وعماذا قسره القاسر، فإنه ان كان لا يمكن في الجسم المتحرك
على استقامة ان يتحرك إلى غير نهاية، فواجب أن تكون الحركة، التي قسره عنها
القاسر، إلى موضع مخصوص لو لم يكن هنالك قاسر. وإذا كانت حركته إلى
موضع مخصوص فسكونه يكون ضرورة في ذلك الموضع بالطبع. وإذا كان سكونه
هنالك بالطبع فحركته إليه بالطبع. وإذا كان ذلك كذلك، فكل جسم طبيعي فله
حركة طبيعية ضرورة.
ولما تبين أن كل جسم طبيعي فواجب أن توجد له حركة طبيعية، أخذ يبين
ايضا أن هذا المعنَى يلزم آل لوقيش وآل ديمقريط اللذين كانوا يرون أن الأجزاء التي
لا تتجزأ كانت تتحرك في الخلاء ( قبل وجود العالم) حركة غير متناهية، أعني
أنه يلزمهم أن يقروا بوجود حركة طبيعية. وكذلك يلزم أفلاطون الذي

[Page 297]
[ 35 و: ﻋ ] كان يقول أن حركة الاسطقسات كانت قبل كون العالم غير منتظمة ثم
صار بها الله إلى النظام. وابتدأ أولا بما يلزم من ذلك آلي لوقيش وديمقراطيس.
فقال:
فانا نسألهم أولا هل يتحرك كل واحد من الاجرام الأول من ذاته أو من
غيره، فإن قالوا انه يتحرك من ذاته فقد أقروا بوجود الحركة الطبيعية، وكذلك إن
قالوا أن فيها ما يتحرك من غيره وما يتحرك من ذاته، وإن قالوا أنها كلها تتحرك
من غيرها لزمهم محالان:
المحال الأول: ان يوجد للشيء حركة قسرية دون أن توجد له حركة
طبيعية، فإن المتحرك من غيره هو المتحرك قسرا ضرورة.
والمحال الثاني: الا تكون المتحركات قسرا ومن خارج ترتقي إلى متحرك بالطبيعة
وبمبدإ فيه، وقد تبين وجود ذلك في كتاب السماع، فإن سلموا وجود المتحرك
فقد اقروا بوجود الحركة الطبيعية.
قال:
وهذا المحال بعينه يلزم الذين يقولون ان الاسطقسات كانت تتحرك قبل كون
العالم حركة غير ذات نظام ولا ترتيب، وذلك أنه لا فرق بين قولهم وبين هذا
القول في وضعهم اجراما طبيعية غير متحركة حركة طبيعية الا أن أولائك يضعون
هذه الاجرام المتشابهة الأجزاء وأفلاطون يضعها الاسطقسات الأربعة. إلا أنه
يعطف ( 33 ظ) [ 10 ظ] على هذا القول، أعني الذي يقول أن الاسطقسات
كانت تتحرك قبل كون العالم حركة غير ذات نظام، بما هو أخص به فيقول: ان
قائل هذا القول لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يسلم أن حركة هذه الاسطقسات
الموجودة الآن كانت قبل كون العالم طبيعية أو قسرية فإن كانت قسرية وجب أن

[Page 298]
يوجد متحرك بالطبع وإلا أدَّى القول إلى ما لا نهاية له على ما تبين في السماع.
وإن كانت تتحرك لا قسرا فليس تلك الحركة شيئا غير ( هذه) الحركة الموجودة
لها بالطبع والسكون الموجود لها بالطبع. وإذا كانت ساكنة في مواضعها بالطبع
ومتحركة إليها بالطبع فالعالم موجود قبل أن يوجد، وذلك أنه ليس معنَى
وجود هذا العالم شيئا غير وجود أجزائه في مواضعها الطبيعية، وإذا كان ذلك كذلك
فالترتيب والنظام الموجود للعالم موجود قبل أن يوجد.
ثم انه يأتي بعد هذا بقول آخر يعاند به هذا الرأي فيقول:
إن كانت هذه الاسطقسات تتحرك قبل كون العالم حركة غير ذات ترتيب
ولا نظام، فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: اما أن يكون يمكن أن يتولد عن
حركاتها حيوان أو نبات أو شيء من هذه المركبات، واما الا يمكن ذلك فيها. فإن
أمكن ذلك فيها وجدت أجزاء العالم قبل أن يوجد العالم، وذلك مستحيل، وان لم
يمكن ذلك فيها، فذلك لأن لها طبيعة وقوة تمنع من ذلك وليس هذا شيء أكثر
من وجود حركاتها ذات نظام وترتيب.
ثم يأتي بعد هذا بقول ثالث يرد به على الذين قالوا ان الاسطقسات لا نهاية لها
وانها تتحرك إلى غير نهايه، أعني أنه يلزمهم أن تكون تتحرك حركة طبيعية وذات
نظام قبل كون العالم. وما يقوله في ذلك فهو هذا: ان كانت الاسطقسات غير
المتناهية تتحرك قبل كون العالم إلى غير نهاية من ذاتها فلا تخلو الصورة المحركة لها

[Page 299]
ـ كانك قلت الثقل أو غير ذلك من الصور التي هي مبدأ الحركة ⎤في واحد واحد
منها⎡(في الشيء) ـ ان تكون واحدة في جميع هذه الأجزاء أو تكون
كثيرة. وان كانت كثيرة فاما أن تكون متناهية أو غير متناهية. فإن كانت
الصور واحدة كانت الحركة الموجودة لجميعها واحدة. وإن لم تكن تتحرك حركة
غير ذات نظام بل تكون الأجزاء كلها حركة واحدة بالنوع وإلى موضع واحد
بعينه، بمنزلة ما تتحرك أجزاء الأسطقس الواحد بعينه حركة واحدة وإلى موضع
واحد، مثل الأرض والماء والهواء والنار، فإن كانت الصور كثيرة إلا أنها متناهية
كانت الحركة أيضا متناهية محدودة. وإذا كان ذلك كذلك، كانت ذات نظام
ضرورة، لأنها كلها تسلك إلى مواضع محدودة متناهية، واما ان كانت الصور التي
بها تتحرك غير متناهية في النوع وغير متناهية التحريك، كانت الحركة ( التي هي
كالجنس لما تحتها من الحركات) غير متناهية بالوجهين جميعا، أعني غير متناهية
⎤بالنوع⎡وبالتحريك. وإذا كان ذلك كذلك [ 35 ظ : ﻋ ]، فجميع
الأنواع الداخلة تحت جنس الحركة مناسبة <للجنس> ⎤ للمحرك وللحركة التي
تحركها⎡وتابعة له أعني إن كان <الجنس> ⎤عدد المحركين ⎡ متناهيا كانت

[Page 300]
الحركات متناهية، وإن كان < الجنس > ⎤عدد المحركين ⎡ غير متناه كانت أنواع
الحركات غير متناهية. وإذا كانت (أنواع) الحركات (غير متناهية) كيفما
فرضت تابعة لطبيعة <الجنس الذي يعمها> ⎤المحركين⎡فهي ضرورة ذات طبيعة
محدودة. وإذا كان ذلك كذلك فهي ذات نظام وترتيب بوجه ما ⎤فمن رفع النظام
فقد وضع النظام إما النظام الموجود الآن بعينه كما لزم الفريق الأول واما نظام ما
آخر كما لزم هؤلاء⎡.
فهذا هو أوفق الوجوه التي يمكن أن يتأول عليها كلام أرسطو في هذا الموضع.
وفيه نظر قد استوفينا الكلام فيه في شرح هذا الكتاب على اللفظ (ومعنَى
هذا القول بالجملة أنه إذا لم يحرك أي محرك اتفق أي متحرك اتفق ولا أي مسافة
اتفقت، فهنالك طبع ما ونظام، لأن من الطبع والنظام ان يتحرك متحرك محدود
عن محرك محدود مسافة محدودة، سواء فرضت المسافة محدودة أو غير محدودة،
والمحركون والمتحركون متناهيين أو غير متناهيين).
ثم إنه بعد هذا يأتي بقول رابع في الرد على من قال أن لا نظام أقدم من ما له
نظام فنقول:
إن الذي لا نظام له هو حد الأشياء الخارجة عن المجرَى الطبيعي، كما أن
الذي له نظام هو حد الأشياء الموجودة على المجرَى الطبيعي. وإذا كان ذلك كذلك
وكان الشيء الموجود للمحسوسات على المجرَى الطبيعي اما أن يوجد في أكثر الزمان
أو في جميعه، والشيء الخارج عن الطبع فإنما يوجد في أقل الزمان، كان محالا أن
يوجد الشيء الخارج عن الطبيعة زمانا لا نهاية له. وهذا لازم ضرورة لمن كان يقول
أن الأشياء كانت تتحرك (زمانا لا نهاية له) قبل كون العالم حركة ذات نظام
زمانا لا نهاية له. فهذه جميع المحالات التي تلزم جميع من جعل قبل كون العالم

[Page 301]
حركة ( 34 و) [11 و]، ولذلك يحمد الذين يكونون العالم من أشياء كانت قبل
ساكنة، إذ كان لا يلزمهم شيء من هذه المحالات مثل أنكساغورش وانباذقليس،
فإن انكساغورش كان يرَى أن الأشياء كلها كانت ساكنة زمانا لا نهاية له ثم حركها
العقل، واما أنبادقليس فكان يضع العالم تارة كائنا وتارة فاسدا، وكان يرَى أن
الكون اجتماع والفساد افتراق وأن سبب الاجتماع المحبة والافتراق العداوة، هربا من
أن يلزمه أن تكون أشياء متحركة قبل كون العالم. وقد كان قوم قالوا قبل أنبادقليس
أن كون العالم كان من أشياء كانت قبل مجتمعة ساكنة ثم انها تحركت وافترقت،
قالوا: وذلك أنه ليس من الواجب أن يكون العالم من أشياء مفترقة متحركة،
فاستعان أنبادقليس بهذا الرأي وتممه بادخاله المحبة والعداوة، وصيّر كون العالم
اجتماع تلك الأشياء من المحبة بعد كونها مفترقة من (قبل) العداوة.
ولما تقرر له أن لجميع الأجسام المبسوطة الطبيعية حركة طبيعية، وان جميع
الحركات ليست قسرا ولا خارجا عن الطبيعة، أخذ يبين ما كان قصد إليه من أول
الأمر وهو أن لكل جسم طبيعي ثقلا أو خفة، وجعل بيان ذلك على جهة الخلف
وهو يستعمل في ذلك مقدمتين:
احداهما: أن الجسم الأثقل يتحرك في الزمان الواحد بعينه بعدا أعظم مما
يتحركه الجسم الأقل ثقلا.
والمقدمة الثانية: أنه إذا تحرك جسمان أحدهما أثقل من الآخر في زمان واحد
مسافة مختلفة فإن نسبة الثقل إلى الثقل نسبة المسافة إلى المسافة.
وإذا تقرر هذا فأقول:
أنه واجب في كل جسم متحرك من الوسط أو إلى الوسط، وبالجملة في كل
متحرك بالطبع حركة استقامة، ان يكون ذا ثقل أو خفة. برهان ذلك أنه إن لم
يكن هذا صادقا فليكن نقيضه صادقا، وهو أن جسما ما متحرك بالطبع إلى الوسط
من غير أن يكون ثقيلا. وإذا كان ذلك كذلك، فهو يتحرك ضرورة مسافة محدودة

[Page 302]
في زمان محدود [ 36 و: ﻋ]. فليكن هذا المتحرك الذي لا ثقل له متحركا إلى
الوسط، وليكن عليه أ، وليكن الزمان الذي فيه يتحرك عليه حرفا ب ء والمسافة
التي عليها يتحرك حرفا ﻫ ز ولنفرض جرما ذا ثقل يتحرك في زمان ب ء مسافة
ما فستكون ب ء ضرورة أعظم من مسافة ﻫ ز، إذ كنا فرضنا أن الأثقل
يتحرك في الزمان ﻫ ز ح الواحد مسافة أعظم، وليكن هذا الجرم عليه
حرف ط وهذه المسافة عليها [Picture] حرف ﻫ ز ح، فإذا قسمنا
جسم ط بقسمين تكون نسبة ط إلى احدهما نسبة مسافة ﻫ ز ح بأسرها إلى مسافة
ﻫ ز التي هي جزء منها، ولزم أن يكون الجزء من ط ذي الثقل يتحرك مسافة ﻫ ز
في زمان ب ء، وقد كان في هذا الزمان بعينه يتحرك الجسم الذي لا ثقل له هذه
المسافة بعينها، فيكون في زمان واحد بعينه يتحرك جسمان مسافة واحدة بعينها
احدهما ثقيل والآخر لا ثقل له. وهذا خلف لا يمكن. فإذن ولا جسم واحد ليس
له ثقل. وبهذا بعينه يبين أنه ولا جسم واحد ليس له خفة.
فلما بين أن كل جسم (فهو) إما ثقيل وإما خفيف بتسلمه وجود الحركة
الطبيعية، أخذ أيضا يبين أن هذا يلزم بعينه من وجود الحركة القسرية للجسم
الطبيعي، أعني أن يكون ذا ثقل أو خفة كما يلزم ذلك من وجود الحركة الطبيعية
له، وبيّن ذلك أيضا بطريقة الخلف على نحو البيان المتقدم. وهو يقدم أيضا لهذا
البيان مقدمتين:
إحداهما: أنه إذا كان متحركان كل واحد منهما متحرك حركة قسرية عن محرك
واحد، وكان أحد المتحركين أثقل من الآخر، فإن المتحرك الأخف يتحرك في
الزمان الواحد بعينه مسافة أعظم مما يتحركها الأثقل في ذلك الزمان وعن ذلك
المحرك.

[Page 303]
والمقدمة الثانية: أن نسبة المسافة إلى المسافة في الزمان الواحد بعينه هي نسبة
الثقل إلى الثقل.
وإذا تقرر هذا فأقول: ان كل جرم يتحرك في الوسط حركة قسرية فإنه ثقيل
لا محالة. برهان ( 34 ظ ) [11 ظ ] ذلك أنه ان وجد جسم متحرك من الوسط
حركة قسرية وليس بثقيل، فإنه يجب أن يتحرك عن محرك ما في زمان متناه مسافة
اما متناهية واما غير متناهية فلنفرضها متناهية، وليكن هذا الجرم جرم أ، ولتكن
هذه المسافة عليها ﺣ ﻫ ، وليكن الزمان عليه و ز ، ولننزل جرما آخر له ثقل عليه
ب يتحرك في زمان و ز مسافة عن ذلك المحرك بعينه، فبيّن أنه يتحرك في ذلك
الزمان مسافة أقل من مسافة ﺣ ﻫ فلتكن مسافة ﺟ ء، ولنقسم متحرك ب على
نسبة [Picture] مسافة ء ﺣ إلى مسافة ﺣ ﻫ فيكون ﺣ و ب يتحرك مسافة
ﺣ ﻫ في [Picture] الزمان الذي يتحرك فيه ب باسره مسافة ﺣ ء، وقد كان
تبين أن في [Picture] ذلك الزمان بعينه تحرك الجرم الذي لا ثقل له هذه
المسافة بعينها. هذا خلف لا يمكن، أعني أن يكون جرمان احدهما له ثقل والآخر
ليس له ثقل يتحركان مسافة واحدة بعينها في زمان واحد بعينه عن محرك واحد بعينه
فهو إذن يتحرك حركة غير متناهية، وذلك خلف أيضا لا يمكن، فإذن هو
غير متحرك أصلا.
فهذه هي البراهين التي استعملها في بيان أن كل جسم له ثقل أو خفة. وقد
قلنا غير ما مرة أن تكلف أمثال هذه البراهين إنما هي مع من يجحد ( وجود )
الأمور البينة بانفسها أو في طباعه نقص عن ادراكها.
ولما تقرر له هذا أخذ يبين كيف تكون الحركة الطبيعية والقسرية فقال:
إنه لما كانت الأشياء المتحركة بالطبع هي التي بدء حركتها فيها، والأشياء التي

[Page 304]
حركتها بالقسر هي التي محركها من خارج، وكانت المتحركات لا تخلو من هذين
القسمين، وجب أن تكون الحركتان صنفين فقط اما طبيعية واما خارجة عن
الطبيعية. ( فاما الحركة الطبيعية فمثل حركة الحجر إلى أسفل، واما القسرية
فمثل حركته إلى فوق ). وكل واحدة من هاتين الحركتين يظهر من أمرها أنها
تستعمل الهواء الذي تتحرك بتوسطه بمنزلة الآلة، (اما الحركة الطبيعية فيعينها الهواء
بالمبدأ الذي يستفيده من المحرك الطبيعي)، وذلك أن من شأن الهواء إذا قبل
حركة ما من محرك أن يتمسك بتلك الحركة زمانا وان [ 36 ظ: ﻋ] فارقه
المحرك حتَّى كأنه في تلك الحال متحرك من ذاته، فإذا تحرك المتحرك الطبيعي عن
المبدأ الذي في ذاته تحرك عنه الهواء أيضا بأكثر مما يتحرك هو عن مبدئه فيفيده شدة
في الحركة، لأنه يكون عونا للمحرك الأول، أعني القوة الطبيعية التي في
المتحرك.
واما الحركة القسرية فإن حاجتها إلى الهواء المتوسط أبين وأظهر، فإنه لولا هذه
القوة التي في الهواء، أعني لولا أنه يقبل التحريك ويبقي زمانا ما متحركا عن
تلك القوة إلى أن تنسلخ عنه تلك القوة التي قبلها من المتحرك، لما أمكن أن توجد
حركة قسرية إلا مادام المحرك مماسا للمتحرك، ولذلك ليس العلة في حركة السهم،
وقد فارقه الوتر، شيئا غير أن الهواء يقبل التحريك من الوتر ويبقَى يحرك السهم
وقد سكن الوتر إلى أن تبطل فيه الحركة التي استفادها من الوتر، وانما كان الهواء
بهذه الصفة لأنه ثقيل وخفيف معا، وذلك أنه إذا كان في مكان الماء كان خفيفا،
وإذا كان في مكان النار كان ثقيلا وإن كان في موضعه الطبيعي ليس بثقيل
ولا خفيف ففيه قوة واستعداد أن يقبل مبدأ التحرك إلى أسفل وإلى فوق، ولذلك
كان آلة للحركة القسرية والطبيعية، اما الطبيعية فلمكان العون لها والتسهيل، واما

[Page 305]
القسرية فلمكان الضرورة، وذلك أنه ما كانت المتحركات الحركة القسرية
يمكن أن تتمادى إذا فارقها المحرك لولا أن طبيعة الهواء هذه الطبيعة. وكذلك الأمر
في الماء وان كان في ذلك دون الهواء.
فقد تبيّن من هذا أن كل جرم يتحرك حركة طبيعية أو قسرية انه اما ثقيل واما
خفيف، وتبيّن مع هذا كيف تكون الحركة الطبيعية والقسرية.

الجملة الرابعة

ولما كان قد ذكر فيما تقدم آراء القدماء في الكون، أخذ يبين رأيه في ذلك
فقال: اما ان الكون يوجد لبعض الأشياء فشيء ظاهر بالحس، والذين رفعوا
وجود الكون لم ينفوه عن المحسوسات وإنما نفوه عن أمور ظنوا أنها المحسوسات،
واما انه ليس جميع الأشياء يقع تحت الكون فذلك يظهر مما نقوله هاهنا: وذلك
أن كل كائن اما أن يكون جسما / وإما أن يكون في جسم، فإن كانت جميع
الأشياء متكونة بعد أن لم توجد وجب أن يكون الجسم بأسره متكونا على
الاطلاق، أعني أن يتكون من لا جسم. وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يتقدم
كون الجسم فراغ وخلاء فيه يتكون، إذ المكان من ضرورة المتكون، وذلك أن
الجسم لا يخلو أن يتكون من الجسم بالفعل أو من الجسم بالقوة أو من غير جسم
أصلا. فإن فرضناه متكونا من جسم بالفعل لزم ضرورة أن يكون مكان
المتكون هو بعينه مكان الجسم المتكون منه، شبه الهواء الذي في القدح يعود ماء،
وان كان من جسم موجود بالقوة أو من غير جسم أصلا لزم ضرورة أن يكون
هنالك خلاء مفارق فيه يتكون الجسم، وذلك محال، مع أن كون جسم من لا
جسم على الاطلاق مستحيل، وكذلك كون جسم من جسم بالقوة أعني من هيولي
دون صورة، لأن الهيولي لا يمكن فيها أن تتعرى عن الصورة لأنه لو تعرت عن

[Page 306]
الصورة لكان ما لا يوجد بالفعل موجودا، وذلك مستحيل.

الجملة الخامسة

وهذه الجملة فيها ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: يبين فيه أن للموجودات المركبة أوائل واسطقسات.
المطلب الثاني: يبين فيه أن الاسطقسات والأوائل يجب أن تكون
متناهية.
المطلب الثالث: يبين فيه أن هذه الأوائل أكثر من واحد.
المطلب الأول

[ 37 و: ﻋ ] ولما تبين له أن الكون ليس يوجد لجميع الأجسام وإنما يوجد
لبعضها، أخذ يطلب لأي الأجسام يوجد الكون، وما أسباب وجوده، فقال:
انه لما كانت المعرفة بالشيء المركب إنما تحصل بمعرفة الاسطقسات والمبادئ التي
تركب منها الشيء وهي موجودة فيه، فقد ينبغي أن نفحص عن هذا المعنَى في
المتكونات المركبة، أعني أن نبحث عن مبادئ الكون فيها واسطقساتها، فلنبحث
أولا هل يجب أن توجد، أم هل هذه المبادئ لجميع الأشياء الكائنة المركبة، أم
ليس ذلك بواجب في جميعها، وإن كان ذلك واجبا فما هي وكم هي، وهو
يجعل مبدأ الفحص عن ذلك المعنَى من معرفة الاسطقس، وشرح ما يدل عليه
اسمه المتفق عليه عند جميع الناس فيقول:
إنهم اتفقوا على أن الأسطقس هو الذي تنحل إليه جميع المركبات أخيرا أولا

[Page 307]
وبالذات، ولا ينحل هو إلى شيء أبدا. واختلفوا هل هو معاد في المركبات بالقوة
أو بالفعل، وذلك أن التركيب ان كان على جهة الاجتماع، كما يراه كثير من
القدماء، كان الأسطقس موجودا في المركب بالفعل، وإن كان على جهة
الاختلاط، كما يراه المشاؤون، كان موجودا فيه بالقوة. وقد يظهر أن هذا الحد
مطابق للأسطقس أن جميع الناس انما يطلقون اسم الأسطقس على هذا المعنَى،
كان كلامهم في الأمور الصناعية أو في الأمور الطبيعية أو في الأمور الموجودة على
الاطلاق. وإذا كان الأسطقس هو آخر ما تنحل إليه الأجسام بالذات لا
بالعرض، فيجب ضرورة أن يكون جسما بسيطا. ولما كان يظهر من أمر الأجسام
المركبة الطبيعية انها تنحل إلى أشياء على هذه الصفة انحلال الحيوان والنبات إلى
الأجسام المتشابهة الأجزاء وانحلال المتشابهة الأجزاء إلى الماء والأرض والنار والهواء،
وكان ظاهرا من أمر هذه انها لا تنحل إلى جسم آخر، فبيّن أن في الأجسام المركبة
الطبيعية أشياء بهذه الصفة أعني أسطقسات. ولما كان الأسطقس هو الذي ينحل
أخيرا إليه الجسم الطبيعي، وجب أن يكون هو الذي منه تتكون جميع الأجسام،
على أنه موجود فيها اما بالقوة واما بالفعل، ولذلك ليس يلزم أن يكون < أن > كل
ما يتكون منه الشيء أسطقس له حتَّى نشرط له هذا الشرط الثاني، أعني أن يكون
جزء من المكون اما بالقوة واما بالفعل ولذلك... النار تتكون من الخشبة،
والخشبة من النار، ونقول أن النار أسطقس الخشبة وليس نقول أن الخشبة أسطقس
النار، إذ كانت النار ليست تنحل إلى الخشبة في وقت من الأوقات، والخشبة
تنحل إلى النار، ولا الخشبة موجودة في النار على أنها جزء منها لا بالقوة ولا
بالفعل.
فقد تبين من هذا القول أن في الأجسام المركبة أجساما بهذه الصفة، وهي
المسماة أسطقسات، فإن هذه الأجسام البسيطة موجودة كما تبين ذلك في أول
هذا الكتاب.

المطلب الثاني:

ولما تبين له أن في الأجسام المركبة اسطقسات أخذ يطلب أولا من أمرها هل

[Page 308]
هي متناهية أم غير متناهية. ولما كان الذين يقولون أنها غير متناهية فرقتين:
إحداهما فرقة انكساغورش الذين كانوا يقولون أن الاسطقسات هي
المتشابهة الأجزاء، وأنها غير متناهية.
والفرقة الثانية فرقة ديمقريطس ولوقش الذين كانوا يقولون إن الأسطقسات
هي أجزاء لا تتجزأ، وأنها أيضا غير متناهية.
ابتدأ أولا بالرد على انكساغورش فقال:
إن هذه الفرقة يلزمها الخطأ من وجهين:
احدهما وضعهم ان جميع الأجسام اسطقسات.
والوجه الثاني وضعهم إياها غير متناهية.
أما خطأهم في وضعهم الأجزاء المتشابهة هي الاسطقسات لجميع الأجسام
فبيّن، لأنه يظهر بالحس من أمر هذه المتشابهة انها تنحل إلى غيرها مثل انحلال
اللحم والعظم إلى النار والأرض والهواء والماء، وقد قلنا ان الأسطقس لا ينحل إلى
شيء آخر، فاذن هذه الأجسام، أعني المتشابهة الأجزاء، ليست اسطقسات.
وأما خطأهم في وضعهم إياها غير متناهية فإنه يظهر [ 37 ظ : ﻋ ] من أنه
ليس هاهنا سبب يضطرهم إلى وضعها غير متناهية، وذلك أن كل ما نطلب
أسبابه من جميع ما يظهر < ما يراد > في المتكونات وفي لواحقها يمكن أن يعطي
أسباب ذلك الشيء من جهة ما هي متناهية من غير ضرورة تضطره إلى وضعها غير
متناهية، شبه ما عرض لانبادقليس، فإن هذا الرجل يرَى < أن >

[Page 309]
الاسطقسات متناهية وهو، مع هذا، يأتي من قبلها بالعلل والأسباب التي تطلب
في المتكونات على أتم الوجوه وأكملها. وليس لهؤلاء أن يقولوا انه لما كانت
الكائنات غير متناهية وجب أن تكون الاسطقسات غير متناهية، وذلك أنهم يقرون
أنه قد تكون أشياء من أشياء هي غيرها بالنوع، مثل انه قد يكون العظم من غير
عظم والوجه من غير وجه. وإذا كان ذلك كذلك فليس يمتنع أن تكون أشياء غير
متناهية الفصول من أشياء متناهية الفصول، ولذلك كان الأخلق بهم أن يضعوا
المبادئ متناهية من أن يضعوها غير متناهية، وبالجملة فقد يجب أن يكون الحال في
مبادئ هذه الصناعة النظرية كالحال في مبادئ سائر الصنائع النظرية، فكما أن
صاحب علم التعاليم يضع المبادئ في صناعته من الصنائع التعاليمية متناهية، ثم يروم
أن يوفي لها جميع ما يطلب سببه في تلك الصناعة، كذلك يجب أن يكون
الأمر في هذه الصناعة.
وقد يظهر أنه ليس يمكن أن تكون المتشابهة الأجزاء متناهية مما نقوله: وذلك
أن فصول الأجسام المتشابهة الأجزاء هي المحسوسات، وقد تبين في كتاب النفس أن
المحسوسات متناهية، إذ كانت محصورة في متضادات متناهية وإذا كان ذلك كذلك
ووضعنا أن الاسطقسات هي المتشابهة الأجزاء فالواجب أن تكون متناهية.
ولما فرغ من الرد على انكساغورش، وبالجملة على من يقول ان الاسطقسات
هي المتشابهة الأجزاء غير المتناهية، عاد إلى ابطال الرأي الثاني وهو رأي
ديمقريطس ولوقش فقال:
إن هؤلاء يقولون ان الاسطقسات هي أجسام غير متغيرة وغير متناهية. قالوا
وكذلك ليس يمكن أن يتولد من الواحد منها كثير، إذ كون الواحد منها غير
منقسم، ولا يمكن أيضا من الكثير منها أن يكون واحدا بالحقيقة، أعني متصلا،
وذلك أن الاعظام انما تتولد عندهم من هذه الأجزاء على جهة الاجتماع والاتفاق،
وكذلك كانوا يرون أنه واجب أن يكون في الأجسام المركبة خلاء منبث. وهو

[Page 310]
يقول أولا أن هذه الآراء هي أشبه برأي آل فيتاغورش الذين يكونون جميع
الأشياء من العدد، وذلك أن هؤلاء ان لم يصرحوا بهذا الاعتقاد في الموجودات
فهو لازم ضرورة لهم، وذلك أنه لا فرق بين من يضع أن الأجسام مؤلفة من
وحدات لا تنقسم وبين من يضعها من أجرام لا تنقسم في أن الأجسام على
كلا الرأيين مركبة من أشياء لا تنقسم، وكذلك يلزم هؤلاء أن تكون الأشياء
كلها منفصلة وأن ترتفع طبيعة الكم المتصلة، كما يلزم ذلك الذين يقولون أن جميع
الموجودات مركبة من الاعراض. ولما قرر شبه هذين الرأيين وأن اللازم عنهما واحد
أتَى بالشبهة التي قادتهم إلى القول بأن هذه الأجسام غير المتجزئة هي غير
متناهية، وقال أن هؤلاء القوم لأجل أنهم كانوا يعتقدون أن هذه الأجسام
غير المتجزئة إنما يخالف بعضها بعضا بالاشكال، وكانت الأشكال عندهم غير
متناهية، وجب عندهم أن تكون هذه الاجرام غير متناهية.
قال:
وهؤلاء القوم مع أنهم يضعون أن فصول هذه المبادئ غير المتجزئة
بالأشكال ليس يقولون ما شكل كل واحد منها ولا يضعون لواحد من البسائط
الأربعة شكلا خاصا، إذ كانوا يرون أن هذه البسائط الأربعة مركبة من تلك
الأجزاء، كما كان يضع لها كثير من القدماء، الا النار فقط، فإنهم كانوا يرون أن
الشكل الفلكي خاص بها، لكن لا من جهة أنها مركبة من اسطقسات ذوات
أشكال. وكذلك كانوا يرون الأجزاء التي منها تكون الماء مثلا أشكالا غير الأشكال
التي للأجزاء التي منها تكونت الأرض، بل انما كانوا يفرقون بين هذه الأجسام
البسائط الأربعة بأن بعضها متكون من أجزاء كبار وبعضها من أجزاء صغار، وإنما

[Page 311]
تتكون هذه الأجسام [ 38 و: ﻋ ] الأربعة عندهم بعضها من بعض بأن ينفصل
من الجسم الذي منه الكون الأجزاء التي تكون ذلك الجسم، إن كانت كبارا
فكبارا وإن كانت صغارا فصغارا، وتبقَى الأجزاء التي تكون الجسم المتكون.
مثال ذلك أن الأجزاء الكبار <التي هي> خاصة بالأرض والصغار خاصة بالماء،
فإذا انفصلت من الأرض الأجزاء الكبار وبقيت الصغار عادت الأرض ماء، ومتَى
انفصلت من الماء الأجزاء الصغار وبقيت الكبار عاد الماء أرضا.
ولما قرر قول هؤلاء في هذه الاجرام غير المتجزئة، والشبهة التي قادتهم إلى
القول بأنها غير متناهية، وجهة اعتقادهم في فصول الأجسام البسائط الأربعة من
جهة ما هي مركبة عندهم من هذه الأجزاء غير المنقسمة التي هي اسطقسات لها
عندهم، شرع في المحالات اللازمة لهم فقال:
إن أول ما يعرض لهم من الخطأ الخطأ الذي يعرض لانكساغورش، وهو أن
تكون فصول المحسوسات غير متناهية، وذلك أنه ان كانت فصول الأجسام متناهية
فواجب أن تكون فصول هذه الأوائل متناهية. فهذا هو الخطأ المشترك الذي
يعرض لهذين الرجلين. وقد يعرض لهؤلاء خاصة أن يبطلوا كثيرا من المبادئ
التعاليمية، وكثيرا من معاني المحسوسات في هذا العلم، أعني علم الطباع. اما
مبادئ التعاليم التي يعود هذا القول بالابطال عليها فكثيرة، مثل وجود القسمة إلى
غير نهاية في الاعظام التي يضعها المهندس أحد أصوله المتسلمة، مثل أن الخط فهو
ينقسم بنصفين. وقد فرغ من تقرير هذه الأشياء اللازمة لهذا القول في السماع
الطبيعي من هذه الجهة، وسنبين بعد المحالات التي تعرض له من جهة هذا العلم.
وذلك أنه على هذا القول ليس يمكن أن يوجد تغير ولا استحالة لا في الكيف ولا
في الجوهر ولا في النمو والاضمحلال.

[Page 312]
قال:
وما يضعونه من مخالفة الماء والهواء ومخالفة الأربع بسائط بعضها لبعض لما كان
من صغر الأشياء وكبرها التي منها ركبت بزعمهم، ومن كون انفصال هذه الأجزاء
بعضها من بعض وانتفاض الصغار من الكبار يعود ببطلان قولهم، وذلك أنه ان
كانت اسطقسات الماء والهواء مثلا أجزاء لا تتجزأ، وكان اختلاف الماء والهواء الحال
صغر الاجزاء وكبرها، وكان كون أحدهما من الآخر انما يكون بأن تنتفض الأجزاء
الصغار من الكبار، وجب ضرورة أن تكون هذه الأجزاء منقسمة، وذلك أن
فرض حدها أجزاء غير منقسمة وفرضها كبارا وصغارا يناقض نفسه، فضلا
عن فرضها بعضها متكونة عن بعض اما على جهة الاستحالة واما على
جهة الانتفاض. وما يعتذر به عنهم تامسطيوس بان يقول انه يشبه أن يقال على
رأيهم أن الماء يتكون مثلا من الهواء لا بأن تتميز الأجزاء الصغرَى من الكبرَى بأن
يخرج بعضها من بعض وتنتفض، بل بان تفترق فقط، مثل ما نقول أن ...
انما يكون إذا تميزت الاجزاء اللطيفة من ير من الأجزاء الغليظة، فلا معنَى
لاعتذاره عنهم في ذلك. فان ذلك يلزمهم إذا فرض كون بعضها من بعض
بالذات، ولو فرضت على الوجه الآخر للزمه محال آخر ليس بالدون، وذلك أن
الأجزاء الصغار التي تفترق، إذ كانت غير متناهية، لو تميز منها ما شاء الله أن يتميز
لبقي الباقي منها غير متناه، فلا يعود الهواء ماء أبدا، وذلك كله محال.
قال:
ويلزمهم، من جهة أنهم يضعون فصول هذه الأجزاء بالأشكال، أن تكون
مفارقة وذلك أن الأشكال متناهية، إذ كان كل شكل اما أن يكون مستقيم
الخطوط أو مستديرها، وكل أحد من هذين إما أن يكون مسطحا واما أن يكون
مجسما، فاما الأشكال المسطحة [ فإنها ] تنحل إلى المثلث وأما الأشكال المجسمة
[ فانها ] تنحل إلى المخاريط، وذلك ظاهر في الكرة وغيرها من الأشكال المجسمة

[Page 313]
المستقيمة الخطوط، وذلك أن الكرة تنقسم إلى ثمانية مخاريط، والمكعب إلى ستة
مخاريط، وكذلك واحد واحد من الأشكال الخمسة المجسمة المذكورة في كتاب
أوقلديس، وإذ كانت الأشكال تنحل إلى أشكال متناهية كانت متناهية، وإذا
كانت متناهية [ 38 ظ: ﻋ ] فالأجسام ذوات الأشكال متناهية ضرورة من جهة ما
⎤فصولها⎡ ( متناهية ) بالشكل. واما قول تامسطيوس ان هذا انما يلزم في
الاشكال المنتظمة، أعني المتساوية الاضلاع والزوايا، واما الأشكال غير
المنتظمة فإنها غير متناهية، ولهم أن يزعموا أن أشكال هذه الأجزاء هي من غير
المنتظمة، فقول لا معنَى له، لأنه ان كانت هذه الأجزاء إنما لها أشكال بما هي
أجسام طبيعية، أعني أن تكون تتنزل منها منزلة الفصول الذاتية من جهة ما
هي اسطقسات، فواجب أن تكون أشكالها أشكالا منتظمة. ولذلك لما اعتقد كثير
من القدماء في الاسطقسات الأربعة انها انما هي اسطقسات بما هي ذوات أشكال
ادعوا لها اشكالا منتظمة، وهي الخمسة المذكورة في كتاب أوقليدس.
قال:
واما [ أن ] الأجسام البسيطة يجب أن تكون متناهية فذلك يظهر من أنه
واجب ان يكون لكل جسم بسيط حركة بسيطة، ولكل حركة بسيطة جسم
بسيط، وإذا كانت الحركة البسيطة بهذه الصفة، وكانت الحركة متناهية،
فالأجسام البسيطة ضرورة متناهية، فاما ان الحركات متناهية فذلك يظهر من أن
الأماكن متناهية، وقد سلف القول في هذا في أول هذا الكتاب.

المطلب الثالث

ولما تبين له أن الاسطقسات متناهية، أخذ يفحص هاهنا هل هي واحدة أو
أكثر من واحد فقال:

[Page 314]
إن ناسا من القدماء أيضا قالوا ان الاسطقسات واحد، وهؤلاء اختلفوا
في ذلك الواحد، فبعضهم قال انه واحد من الاسطقسات الأربعة،
وبعضهم قال انه الأرض، وبعضهم قال انه الماء، وبعضهم قال انه الهواء،
وبعضهم قال انه النار، ومنهم من لم يجعله واحدا من الاسطقسات الأربعة وجعله
طبيعة متوسطة بين اسطقسين اثنين من هذه الاسطقسات الأربعة، اما بين الماء
والهواء، واما بين الهواء والنار، وهؤلاء صيروا الكون من هذا الأسطقس الواحد
بتكاثفه مرة وتخلخله أخرى، وقالوا إن سائر الاسطقسات تكون منه على هذه
الجهة، أعني من صيّر الاسطقس الواحد وسطا بين اثنين منها، إما ماء واما هواء،
واما جسما ألطف من الماء وأكثف من الهواء. واما من صيّره نارا فقط فإنه يجعل
الكون منه بالتكاثف فقط، وكذلك من صيّره أرضا فإنه يجعل الكون منه
بالتخلخل فقط.
ولما قرر مذهب هؤلاء شرع في معاندتهم، وهو يقبل أولا على معاندة من
قال انه واحد من المتوسطات أو طبيعة متوسطة بين اثنين من المتوسطات، وهم
الذين كانوا يقولون أن كون سائر الاسطقسات على جهة التكاثف والتخلخل، ثم
يأتي بعد ذلك بمعاندة تخص من يقول أن الاسطقس هو النار الذي هو ألطف
الأجزاء، ثم يأتي بمعاندة تعم الجميع، فابتدأ وقال:
ان كل من صيّر الأسطقس متوسطا مّا اما ماء واما هواء واما شيئا ألطف من
الماء وأكثف من الهواء، ومن صيّر الاسطقسات تتكون منه على جهة التكاثف
والتخلخل، فقد يلزمه ضرورة أن يكون قبل الاسطقس الذي يفرضه أسطقس
متقدم عليه، فاما كيف يلزمه < عن > ذلك فمما أقوله: وذلك أنهم إذا فرضوا أن
الاسطقس واحد وأن الكون منه يكون بالتكاثف والتخلخل وكانوا قد

[Page 315]
وضعوا الكون يكون لها على جهة التركيب من الاسطقسات أو على جهة
الانحلال إليها، وجب ألا يكون التكاثف شيئا غير اجتماع أجزاء ذلك الأسطقس
وتركيبها، وألا يكون التخلخل الا انحلال تلك الأجزاء، وإذا كان ذلك كذلك
فالجسم المتخلخل الذي ينحل إليه الجسم المتوسط هو أقدم من الجسم المتوسط،
فالأسطقس المفروض اذن أسطقس آخر قبله، وإذا كان هذا هكذا والنار كانت
هي ألطف الأجسام كانت النار هي الأسطقس،وإن لم تكن النار هي ألطف
الأجسام فذلك الجسم الذي هو ألطف من سائر الأجسام هو الأسطقس.
فهذا هو أحد المحالات التي تلزم هؤلاء القوم، وليس كما ظن تامسطيوس أن
ذلك إنما كان يلزمهم لو كانوا يسلمون أن التكاثف هو تركيب وان التخلخل هو
انحلال، فانهم إذا وضعوا أن [ 39 و: ﻋ] التكاثف والتخلخل كونان
متقابلان في الجوهر، لزم أن يكون أحدهما تركيبا والآخر تحليلا.
فهذا أحد المعاندات التي تخص هؤلاء القوم.
ومعاندة ثانية وهي أنه إن كان الكون انما هو تكاثف وتخلخل، وسامحناهم في
أن الكونين كلاهما تركيب فقط، لا تركيب وانحلال على ما قلناه قبل، لزمهم
ضرورة أن يقولوا أن المتكاثف هو المركب من أجزاء كبار والمتخلخل هو المركب من
أجزاء صغارا، وذلك أن ... يكون هنالك فرق بين التركيب الذي هو
التكاثف والتركيب الذي هو التخلخل. وإذا كان هذا هكذا كانت سائر
الاسطقسات إنما تختلف جواهرها باختلاف نسبة أجزائها بعضها إلى بعض، أعني
نسبة الاجزاء الكبار التي يتكون منها الجسم الكثيف إلى الأجزاء الصغار التي يتكون
منها الجسم اللطيف، إذ كانت طبيعة الأجزاء طبيعة واحدة. وإذا كانت جواهرها
إنما هي تابعة لنسبة محدودة، أي نسبة كانت، كأنك قلت نسبة الضعف، وجب
أن يكون جوهر كل الأشياء مضافة في كون الشيء الواحد بعينه نارا وهواء، نارا

[Page 316]
بالإضافة إلى ما أجزاؤه أنصاف أجزائه، وهواء بالإضافة إلى ما أجزاؤه
أضعاف أجزائه، وذلك أن الجزء الواحد بعينه قد يضاف إلى شيء فيكون
نصفه ويضاف إلى آخر فيكون ضعفه.
فهذا هو المحال الثاني الذي يلزم هؤلاء القوم.
وينبغي أن تعلم أن هذه المحالات اللازمة إنما لزمت لهؤلاء لأنهم لم يجعلوا
التكاثف والتخلخل في الاستحالة، وإنما جعلوها في الجوهر. وانما لزمهم ذلك إذ
جعلوا الكون من جسم واحد، ولذلك لزمهم اما أن يكون أحدهما تركيبا والآخر
تحليلا، واما أن يكونا مركبين من أجزاء متضادة، وليس هنالك شيء تتضاد
به الأجزاء بما هي أجزاء الا بالكبر والصغر.
ولما فرغ من معاندة هؤلاء عاد إلى المحالات التي تلزم من جعل الأسطقس هو
النار، واما من جعل الأسطقس هو النار فليس يلزمه هذا المحال. وإنما قال
ذلك لأن هؤلاء إنما الكون عندهم بالتكاثف فقط لا بالتخلخل ولذلك ليس
يلزمهم المحالان المتقدمان، أعني أن يكون قبل الأسطقس أسطقس وأن تكون
جواهر الأسطقسات في نسبة عددية. اما أنه ليس يلزمهم أن يكون قبل الأسطقس
الذي يفرضونه أسطقس فلأن النار هي ألطف الأجسام، وأما أنه لا يلزمهم المحال
الثاني فلأنهم لا يوجبون منها كونين متقابلين. لكن هؤلاء تلزمهم محالات أخر،
وذلك أن القائلين بأن الأسطقس هو النار هم فرقتان: فرقة تجعل للنار شكلا وفرقة
ليس تجعل للنار شكلا، والشكل الذي وضعه من قال أن للنار شكلا هو الشكل
المخروط. وهؤلاء أقنعوا أنفسهم في ذلك بحجتين:
إحداهما أن هذا الشكل لما كان أسرع الأشكال قطعا ونفوذا، وكانت
النار أنفذ من جميع الأشكال وأسرعها قطعا للأشياء، وجب أن يكون الشكل

[Page 317]
الأنفذ للجسم الأنفذ. وهذا إنما كان يلزم لو كان الشكل عارضا ذاتيا
للأسطقسات.
وأما الحجة الثانية فهي هكذا، قالوا: لما كان من الواجب أن تكون جميع
الأجسام مركبة من النار إذ هي ألطف من جميع الأجسام، وكانت جميع
الأشكال مركبة من الشكل المخروط، وجب أن يكون أول الأشكال ⎤لأول⎡
الأجسام. وهو يزدري بأهل هذا القول ويقول على جهة < هذه > السخرية
بهم ان هذا القول هو قول مزخرف. واما تامسطيوس فيقول منتصرا لهم انه ليس
بين هذا القول فرق وبين الذي استعمله هو نفسه في المقالة الأولى من هذا
الكتاب، وهو أنه قال: لما كانت الحركة البسيطة أول الحركات وجب أن يكون
المتحرك بها أول المتحركات، وأقول انا أيضا ومثل هذا في الظاهر قوله: لما كان
الجسم السماوي أول الأجسام وجب أن يكون له أول ⎤ الأشكال ⎡ وهو الشكل
المستدير. والفرق بين هذه البراهين التي استعملها هو في هذا الموضع وبين هذا
القول الذي استعمله هؤلاء ان الحركة من الأمور الذاتية للجسم الطبيعي وكذلك
للجسم السماوي، إذ كان متحركا من تلقائه، واما وجوب الشكل للاسطقسات
فليس واجبا لها على ما سيظهر بعد.
ولما قرر مذهب الفرقة التي قالت أن الاسطقس هو النار، شرع في
الرد عليها فقال:
إن هؤلاء لما كانوا يجعلون الأجسام من هذا الاسطقس، على جهة التكاثف
فقط، لزمهم أن يقولوا أن [ 39 ظ: ﻋ ] سائر الأجسام انما كانت تكون من
تركيب أجزاء هذا الأسطقس بعضها إلى بعض تركيبا يتولد عنه التكاثف الذي هو
صورة المكون عندهم، فقد يلزمهم بالجملة أحد أمرين: اما المحال الذي لزم
القائلين بالجزء الذي لا يتجزأ، واما أن يكون قبل الأسطقس اسطقس ويمر ذلك
إلى غير نهاية فلا يكون هنالك اسطقس أول. فاما كيف يلزم هذا فعلى ما أقوله:

[Page 318]
وذلك أن الأجزاء النارية التي تتركب منها سائر الأجسام لا يخلو أن تكون مما تقبل
التجزئيي أو مما لا تقبله. فإن كانت مما تقبله فقد قالوا بوجود الجزء جزء
وهو الجزء الذي انقسم، وقبل الاخر آخر وهو الذي ينقسم إليه أيضا، ويمر الأمر
إلى غير نهاية فتكون الاستطقسات غير متناهية، وذلك أن الجزء الأصغر يكون
اسطقسا للجزء الأكبر إذ كان يتحرك إليه، ولذلك يجب أن تكون أنواع التركيبات
لا نهاية لها.
ثم يأتي هاهنا بقول بيّن منه أنه ليس يمكن أن يكون اسطقس للاجسام البسيطة
الأربعة جزءا لا يتجزأ ⎡..... ⎤ لوجب أن يكون كل جزء منها مواقفا
في الكمية والعظم لصاحبه، لأن عظم الأجزاء التي لا تتجزأ هو واحد بعينه، فإن
كانت هذه الأجزاء واحدة في العظم كانت واحدة في العدد لأنها غير متناهية على
زعمهم، وجب أن تكون اجرام الاسطقسات الكلية مساو بعضها لبعض، ولسنا
نرَى ذلك فإن النار أكبر عظما من الهواء والهواء من الماء والماء من
الأرض. وإذا تقرر هذا فنرجع ونقول: إن كان عظم الاسطقسات مختلفا،
وكانت مركبة من أجزاء لا تتجزأ، فواجب أن تكون هذه الاجزاء تختلف
بالعظم والصغر، فتكون الأجزاء الأصغر للأسطقس الذي له جرم الأصغر وتكون
الأجزاء الأعظم للأسطقس الذي له الجرم الأعظم، وإذا [ كان ] ذلك
كذلك، وكانت النار هي أعظم الاسطقسات جرما، فاجزاؤها هي أعظم

[Page 319]
الأجزاء. ولما كان الأكبر فيه أجزاء أعظم من الأصغر، وجب أن تكون
أجزاء النار منقسمة، وقد يلزم هذا من وضع القول المتقدم، وذلك أنه إذا كانت
أجزاء الاسطقسات انما تختلف بالعظم والصغر مع أن جوهرها واحد، لزم أن يكون
الشيء الواحد عند بعض الأشياء نارا وبعضها هواء، وكذلك الأمر في سائر
الاسطقسات.
واما الذين أوجبوا للنار الشكل المخروط فإنه يرد عليهم بأنه يلزمهم ألا
يكون جزء النار نارا، وذلك أنه قد تبين أن كل <من> أجزاء النار منقسمة
وشكل المخروط ليس ينقسم إلى أشكال مخروطة، وكل جزء من أجزاء النار
على زعمهم من ضرورته أن يكون شكله مخروطا، فلزمهم ضرورة أن يكون جزء
النار نارا إذ كان ليس جميع أجزاء المخاريط مخاريط، على ما تبين في كتاب
أوقليدس، وإذا لم يكن جزء النار نارا لم يكن اسطقس ولا من
أسطقس.
ولما فرغ من المعاندات التي تخص فريقا فريقا ممن قال أن الاسطقس واحد،
أتَى بمعاندة مشتركة لجميعهم فقال:
إن الذين قالوا أن الاسطقس واحد يلزمهم أن تكون الحركة واحدة،
وذلك أن لكل جسم طبيعي مبدأ حركة طبيعية، وأنه كلما كان الجسم أعظم
كانت حركته أشد وأسرع، مثال ذلك أن الأرض كلما كانت أعظم كانت حركتها
إلى أسفل أسرع، فلو كان الأسطقس واحدا لكان لجميع الأجسام حركة واحدة،
ولذلك كلما كان المركب منه أعظم كانت تلك الحركة فيه أظهر. ولكن العيان يشهد

[Page 320]
بخلاف ذلك، وذلك أنا نرَى أجساما تتحرك إلى فوق وأجساما تتحرك إلى أسفل،
وإذا كانت الحركة البسيطة أكثر من حركة واحدة، كانت الأجسام البسيطة أكثر
من جسم واحد.
فقد تبين من هذا القول أن الأسطقس أكثر من واحد.

الجملة السادسة

ولما تبين له أن الاسطقسات متناهية، وأنها أكثر من واحد، <وجب عن
ذلك أن تكون كثيرة متناهية>، أخذ يفحص هاهنا هل هي واقعة تحت الفساد
والكون أم ليست بواقعة، بل هي دائمة سرمدية. فإنه إذا استبان هذا المعنَى من
أمرها واستبان كم عددها وما طبائعها كملت المعرفة لنابها، فأقول:
إنه لا يمكن أن تكون الاسطقسات سرمدية ولا يمكن أن يكون فيها جزء
سرمدي، وذلك أنا نرَى كل واحد ينحل ويعود إلى الصغر بعد الكبر وإلى القلة
بعد الكثرة، وذلك بيّن من أمر الماء والهواء [ 40 و: ﻋ] وسائر الاسطقسات.
وإذا كان هذا ظاهرا من أمرها، أعني أنها تنحل وتنتفض، فلا يخلو التحلل
والانتفاض اما أن يكون إلى غير نهاية أو يكون إلى نهاية. فإن كان إلى نهاية فلا
يخلو أن تكون نهايته بفساد جميع أجزاء الأسطقس، أو بانتهاء التحليل إلى جزء لا
يفسد. وان انتهَى التحليل إلى جزء لا يفسد فلا يخلو أن يكون ذلك الجزء غير
متجزئ أو متجزئا، ومحال أن يكون الانحلال إلى غير نهاية لأنه يلزم عنه أن
يكون التركيب أيضا إلى غير نهاية، وذلك أن زمان التركيب يلزم أن يكون اما
أعظم من زمان الانحلال وإما أن يكون مساويا له واما أقل منه. وإذا كان زمان
كل واحد منهما، أعني التركيب والانحلال، غير متناه لزم اما أن يكون الشيء
متحللا متركبا معا في زمان واحد، واما أن يكون زمان غير متناه قبل ⎤ زمان غير
متناه قد خرجا إلى الفعل وحركة متناهية قبل حركة⎡ غير متناهية بالفعل. وإذا كان

[Page 321]
التحليل ينتهي إلى جزء غير منقسم لزمت المحالات المتقدمة، وان كان منقسما فهو
ضرورة يقبل الفساد لأنه أصغر من سائر الأجزاء، والجزء الأصغر يظهر من أمره أنه
أحرَى أن يقبل الفساد، وذلك الشيء انما يفسد اما من ضده وذلك بالذات واما
من شبيهه وذلك بالعرض، وذلك إذا عرض أن تكون المضادات بينهما بالقلة
والكثرة، مثل المصباح الذي ينطفئ إذا ادخل في التنور. وإذا كان فساد
الشيء من هذين الأمرين فبيّن ان كل شيء كلما كان أصغر كان أكثر قبولا للفساد.
وإذا كان ذلك كذلك فواجب أن تكون الاسطقسات كائنة فاسدة بجميع أجزائها.

الجملة السابعة

ولما تبين له أنها كائنة فاسدة بجميع أجزائها أخذ < أن > يطلب مماذا كونها
فقال: لا يخلو كونها أن يكون اما من جرم واما من لا جرم. فان كان من
جرم فلا يخلو أن يكون من جرم غيرها أو يكون كون بعضها من بعض. فقال أنه
محال أن يكون كونها من لا جرم، وذلك انه لا يلزم قائل هذا القول أن يقر بوجود
الخلاء، وذلك أن كل متكون ما فاما أن يتكون في مكان ليس فيه جسم، واما
أن يتكون في مكان فيه جسم. ومحال ان يتكون في مكان فيه جسم لأنه يلزم عن
ذلك أن يوجد جسمان في مكان واحد، وإذا امتنع ذلك، فواجب أن
يتكون في مكان ليس فيه جسم، والمكان الذي ليس فيه جسم هو خلاء
اضطرارا، وإذا كان وجود الخلاء ممتنعا فكون الاسطقسات تتكون أجزاؤها من
لا جرم ممتنع. واما كونها من جسم غير الاسطقسات الأربعة فممتنع أيضا،
وذلك أن هذا الجسم يعرض له أن يكون متقدم الوجود على الاسطقسات. وإذا
كان ذلك كذلك فلا يخلو أن يكون له ميل، أعني ثقلا أو خفة، أو لا يكون
ميل. فإن كان له ميل كان أحد الاسطقسات ضرورة، وإن لم يكن له ميل

[Page 322]
لم تكن له حركة على ما تقدم فلا يكون جرما طبيعيا ولا تعليميا. وإذا
كان جسما تعليميا لم يكن في مكان أصلا، لأنه ان كان في مكان فهو فيه اما
ساكن [ و ] اما متحرك. فإن كان ساكنا فلا يخلو أن يكون اما ساكنا فيه قسرا [ و ]
اما ساكنا فيه طبعا فإن كان ساكنا فيه قسرا فقد كان فيه متحركا قسرا، وإن
كان ساكنا فيه طبعا فقد كان فيه متحركا طبعا وإذا كان فيه متحركا أو ممكن أن
يتحرك فهو جسم طبيعي لا تعاليمي. وكذلك لا يمكن أن يكون الجسم التعاليمي في
مكان، لأنه إن كان فيه كان أحد الاسطقسات الأربعة، وإذا لم يكن في
موضع لم يتكون منه جسم، لأن المكون والمتكون منه يجب أن يتكونا معا في مكان
واحدا. وأيضا فإنه إذا لم يكن <في مكان جسيما> موجودا خارج الذهن
في مكان، فواجب بحسب ⎤ عكس ⎡النقيض أن يكون ما ليس في مكان فليس
بموجود خارج الذهن جسما وما ليس بموجود خارج الذهن جسما، فليس يتكون
منه شيء.
وإذ قد تبين أنه لا يمكن أن تتكون الاسطقسات من لا جسم ولا من
جسم غيرها فواجب أن تتكون بعضها من بعض.

الجملة الثامنة

ولما تبين له أن الاسطقسات تتولد بعضها من بعض، أخذ يفحص هاهنا عن
جهة تولد بعضها من بعض، وهل ما قاله الأقدمون في ذلك مقنع أم لا
فقال:

[Page 323]
إن للقدماء في ذلك رأيين: أحدهما رأي أنبادقليس وديمقريطس وهما
اللذان كانا يقولان أن الاسطقسات كامنة بعضها في بعض، وأن
الكون إنما يكون بخروج بعضها من بعض. [ 40 ظ: ﻋ ] والرأي الثاني
المنسوب إلى أفلاطون وهو الذي كان يرَى أن الاسطقسات انما تتكون بعضها من
بعض بانحلال المثلثات التي تركبت منها الاسطقسات الفاسدة <إلى المثلثات
التي تركب منها الاسطقس الفاسدة> إلى المثلثات التي تركب منها الاسطقس
المتكون، وذلك أن هذا الرأي مبناه على أن كثيرا من القدماء كانوا يوجبون لكل
واحد من الاسطقسات شكلا خاصا ممن الأشكال ... المركبة من السطوح
والمثلثات المتساوية الاضلاع والزوايا المذكورة في كتاب أوقليدس، مثل أنهم
كانوا يوجبون للنار الشكل المخروط، أعني الذي يحيط به أربع مثلثات متساوية
الأضلاع والزوايا، وللأرض الشكل المكعب، وللماء ذا العشرين قاعدة، وللهواء
ذا الثمان قواعد. فلما كانت هذه الأشكال تنحل إلى المثلثات والمثلثات لا تنحل إلى
شكل آخر، رأَى أفلاطون أن الأسطقسات مركبة من المثلثات، وأن هذه المثلثات
يتغير بعضها إلى بعض. وبالجملة كل من يشكل الاسطقسات بشكل خاص ويَرى
أن فصولها إنما هي في الشكل، فواجب عليه أن يعتقد أن تكوين بعضها من بعض
اما أن يكون على هذه الجهة واما على جهة الاستحالة بمنزلة الشمعة التي تنتقل
من شكل إلى شكل.
ولما كان مبلغ آراء القدماء في تكوين الاسطقسات بعضها من بعض وفي ماهية

[Page 324]
فصولها الذاتية التي تختلف هو هذا القدر، شرع في الفحص في هذه المقالة عن
ذلك وما يقوله في معاندة هؤلاء منحصر في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: يرد فيه على الذين يقولون بالكمون.
الفصل الثاني: يرد فيه أيضا على الذين يقولون بتركيب الاسطقسات من
المثلثات وانحلالها إليها.
الفصل الثالث: يرد فيه بالجملة على الذين يشكلون الاسطقسات ويجعلون
فصولها الذاتية التي يخالف بعضها بعضا في الأشكال.

الفصل الأول

قال:
وأما أصحاب أنبادوقليس وديمقريطس فانهم بما يضعونه من [ أن ] الكون
يكون بالمكون يلزمهم أن لا يكون هنالك كون كل حقيقة، وذلك أنه يعرض لهم
من جهة ما يرومون اعطاء أسباب الكون أن يبطلوا الكون ويرفعوه من الموجودات
وهم لا يشعرون بذلك، وذلك أن الكون على رأيهم انما هو كون مموه لا على
الحقيقة. وذلك أن الاسطقسات إذا كانت كامنة بعضها في بعض، ثم خرجت
بعضها من بعض، فلزم هنالك كون في الحقيقة، إذ كان الكائن هو الذي وجد
بعد أن لم يكن. واما الكائن الذي يظهر للحس < الذي بعد الذي كان فيه
كفيه> فإن سمي كونا مثل هذا فمن قبل ظهوره للحس من غير أن يكون
هنالك في الحقيقة كون.

[Page 325]
قال:
ومع هذا فإنه يعرض لهم في هذه الأشياء محالات، وهو ياتي [ في ] ذلك
هاهنا بمعاندات خاصة بهم:

المعاندة الأولى:

قال:
ولو كان الماء محلا كامنا في الهواء لكان الماء يتحرك إلى أسفل كما يتحرك إذا
انتفض وخرج من الهواء، أعني أنه كان يكون ثقله وهو كامن كثقله إذا
خرج من الهواء، ولكنا نجد الثقل إنما يحدث فيه إذا انفصل من الهواء وتميز
عنه، فالماء إذن ليس بكامن في الهواء. واعتذارهم من ذلك بان السبب في أن لا
يكون له ثقل إذا كان كامنا في الهواء فإنه إذا كان كامنا في الهواء >فإنه إذا كان
كامنا في الهواء< كان منتشرا وإذا خرج من الهواء صار له ثقل هواء، قول
مموه، فإنه إن كان ماء بالفعل في الهواء فهو ثقيل بالفعل، والتلبد وعدمه لا تأثير له
في الثقل ولا في عدمه.
المعاندة الثانية:

وأما هذه المعاندة فهي هكذا:
الأجسام المخالطة إذا افترق بعضها من بعض وتميزت لم يملأ واحدا منها مكانا
أعظم من المكان الذي كان يملأه في وقت الاختلاط، ونحن نرَى الهواء إذا تميز من
الماء شكل مكانا أعظم من مكان الماء، فينتج عن ذلك أن الماء ليس بمخالط
للهواء، وذلك أنه إذا لم يكن سبب ذلك وجود الخلاء، على ما يزعمه أصحاب
الكمون، أعني أنه إذا لم يكن الخلاء سبب كون الهواء يشكل مكانا أوسع إذا كان
خارجا من الماء فبيّن أنه إن كان كامنا فيه لم يمكن [ 41 و: ﻋ ] أن يشكل موضعا

[Page 326]
أوسع إذا انفصل منه، لكنه يشكل، فليس الهواء بكامن في الماء.

المعاندة الثالثة:

وأما هذه المعاندة فهي هكذا:
إن كانت الاسطقسات بعضها كامنا في بعض، لزم أن يفني وينقطع خروج
الجرم الكامن من الجرم الذي كان فيه حتَّى لا يبقَى فيه الجرم الذي كان كامنا فيه.
وإذا كان ذلك كذلك لزم أن ينقطع ... ضرورة. فاما كيف يلزم ذلك فهو
ظاهر من أنه ليس يمكن أن يكون في الحرم المتناهي اجرام غير متناهية. ومثال
ذلك أن الماء إذا كان يخرج من الأرض... سينقطع والا وجدت في الأرض
المتناهية أمياه لا نهاية لها وذلك مستحيل، فإن كان هذا غير ممكن لا
يمكن أن يكون خروج الاسطقسات دائما، لكن خروجها دائم، فليس
بعضها كامنا في بعض.
فقد تبين من هذا أنه ليس كون الاسطقسات بعضها من بعض على جهة
النقض والخروج.
الفصل الثاني:

قال:
وإذ قد تبين أن الاسطقسات لا يكون بعضها عن بعض بالخروج والتميز،
وكانت الاسطقسات على ما تزعم الفرقة الثانية ذوات أشكال، فلا يخلو أن تكون
استحالة بعضها إلى بعض وتكوين بعضها من بعض على حد وجهين: اما بتبديل
أشكالها وانتقالها من بعضها إلى بعض، مثلما تقبل القطعة الواحدة من الشمع

[Page 327]
أشكالا مختلفة. واما على جهة انحلال الأشكال إلى المثلثات التي تركب منها ذلك
الشكل على ما قاله أفلاطون، فإن كان بتبدل واستحالة بعضها إلى بعض لزم هذا
القول أن يقول أن الاسطقسات مركبة من أجزاء لا تقبل التجزئة، وهي
الأجزاء ذوات الأشكال، فإنه ان تجزأت هذه الأجزاء لزم أن يكون جزء
الاسطقس ليس هو اسطقسا ولا من أسطقس، وذلك انه ليس يمكن في الشكل
الذي يضعونه للنار، أعني المخروط، أن ينحل إلى أشكال مخروطة ولا في الشكل
الكري أن تنحل أيضا جميع أجزائه إلى أشكال كرية. ومثل هذا يعرض في
الأرض وفي سائر الاسطقسات. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن جزء الأرض أرضا
ولا جزء النار نارا. وبالجملة فيلزم هذا الرأي سائر المحالات التي تلزم من شكل
الاسطقسات وهي التي يعددها بعد. وأما ان كان تكون بعضها من بعض على جهة
انحلال السطوح إلى المثلثات التي منها تركبت تلك الأشكال فأول ما يلزم قائل
هذا القول ألا تكون كل الاسطقسات بعضها من بعض، وذلك أن المثلثات التي
ينحل إليها المكعب هي غير المثلثات المتساوية الأضلاع التي يتركب منها الشكل
المخروط وباقي الأشكال المذكورة الخمسة. وكذلك يضع أصحاب هذا الرأي
الأرض وحدها لا تستحيل إلى شيء من الاسطقسات ولا يستحيل إليها شيء منها،
وذلك أنه إن كانت المثلثات لا يستحيل بعضها إلى بعض ولم تكن طبيعتها
واحدة فبالواجب أن يعرض للأرض ذلك. وما يسلمونه من أن الأرض لا
تتغير حفظا لوضعها هو مخالف للحسن والعيان، فانا نرَى الأرض وسائر
الاسطقسات يستحيل بعضها إلى بعض. فهؤلاء القوم يدعون أن الأشياء المحسوسة
أوائل وعلل لا يشهد بها الحس والعيان بل يردها ويكذبها، والسبب في ذلك
أنهم لا يطلبون في هذه الأشياء العلل المناسبة لها بل انقادوا إلى آراء واهنة ورثوها
ممن كان قبلهم، وذلك أنه واجب أن تكون المبادئ للأمور الطبيعية أمورا طبيعية
ومبادئ الأمور الالهية أمورا الهية ومبادئ الأمور التعاليمية أمورا تعاليمية. وبالجملة

[Page 328]
فإنما يجب أن تكون المبادئ والأسباب المطلوبة في ذلك الجرم مناسبة وخاصة كما
قيل في كتاب البرهان.
قال:
فأما هؤلاء القوم، ويشير به إلى أفلاطون، فلمحبتهم في التعاليم جعلوا
للأشياء الطبيعية أوائل تعاليمية. ولحبهم في هذا القول وطلب نصرته عرض لهم ما
يعرض لكل من يروم أن ينصر رأيه وان كان كاذبا بأي وجه اتفق له، فإن
هؤلاء من شأنهم أن يسلموا الآراء الكاذبة الشنيعة تحفظا من أبطال وضعهم وأن
يطرحوا أشياء كثيرة مما يظهر للحس. وبالجملة فيرومون أن يطابقوا المحسوسات
بآرائهم لا أن يطابقوا آرائهم بالمحسوسات. وذلك أنه ينبغي أن يقضي على أوائل
جميع الأشياء من تمامها غايتها، والتمام في الأمور الطبيعية والصناعية هو الأمور
[41 ظ: ﻋ] المحسوسة، ولذلك كان الواجب أن يقضي على الأوائل ويصح
من الأمور الظاهرة للحس، لا أن يقضي على الأمور الظاهرة للحس ويصح
من العلل والأسباب التي توضع، كما عرض لهؤلاء أن يدفعوا الأمور الظاهرة بالحس
وينسبون ما يظهر من ذلك بالحس إلى أغاليط.
فهذه جملة ما يقوله في تعريف وجه غلط هؤلاء القوم، والجهة التي منها
عرضت لهم المحالات التي تلزمهم.
ثم إنه يشرع في تعديد المحالات التي تلزمهم فقال:
إن أول ما يلزمهم أن تكون الأرض هي الأسطقس وحدها، وذلك أنها إذا
كانت لا تنحل ولا تستحيل إلى شيء آخر فهي الأسطقس بالحقيقة، إذ كان من
خاصة الأسطقس انه لا ينحل إلى شيء آخر.
ومحال ثان آخر وهو أن يلزمهم، إذا استحالت الاسطقسات بعضها إلى بعض
لانحلال المثلثات من الاسطقس الفاسد وتركيبها في الاسطقس المتكون، ان يبقَى

[Page 329]
هنالك من تولد الماء والهواء مثلثات فضلا، وذلك أنه لما كان الهواء يتولد من ثلاثة
مثلثات والماء من عشرين مثلثا، لزم أن يبقَى بين تولد الهواء من الماء
أربعة مثلثات فضلا. فإن قال قائل أن هذه المثلثات الأربعة يتولد منها نار لزم ألا
يتكون من الماء هواء الا ويتكون معه نار من الهواء نفسه، وذلك خلاف ما
يحس.
ومحال ثالث أنه يعرض لقائل هذا القول أن يكون الجسم من غير جسم،
⎤وإذا كان الجسم من سطوح كان ضرورة غير جسم، وإذا كان غير جسم⎡
لزم ضرورة أن يكون هنالك خلاء متقدم عليه كما قيل فيما تقدم.
الفصل الثالث:
ولما فرغ من المحالات التي تخص من ركب الاجسام البسيطة من السطوح، أخذ
يذكر المحالات اللازمة لمن يشكل الاسطقسات بأشكال مسدودة ويجعل فصولها
الذاتية في الشكل فقال:
إن مما يلزم هؤلاء أنهم لا يصيّرون كل جرم قابل للتجزئة، وذلك نقيض
ما يضعه صاحب التعاليم مع ما عليه هذه العلوم من الصحة ووثاقة البراهين، وإنما
يجحدون انقسام الأجسام إلى غير نهاية ودائما لئلا يفسد وضعهم في ذلك،
لأنهم إذا صيّروا لكل اسطقس شكلا من الأشكال التي لا يمكن أن ينقسم
ذلك الشكل إلى امثاله، مثل المخروط الذي قد يمكن ألا تنقسم جميع أجزائه إلى
مخاريط متشابهة أو الشكل الكري فإنه لا ينقسم إلى أشكال كرية أصلا، وصيروا
بعض الاسطقسات بهذه الصفة، لزمهم أحد أمرين: إما أن يضعوا النار ليست
تنقسم بما هي نار إلى أجزاء نارية مشابهة لها إذ كان الشكل المخروط ليس ينقسم إلى

[Page 330]
أشكال مخروطة مشابهة له فلا يكون بنفسه أصلا، أو يسلموا انها تنقسم إلا أنه
ليس يكون لها شكل مخروط فيلزمهم ان لا يكون جزء النار نارا، فهم لا
ينفكون من أحد هذين المحالين: اما أن يجحدوا قسمة الأجسام واما أن يضعوا أن
غير النار ليس نارا.
فهذه أحد المحالات اللازمة للذين يجعلون فصول الاسطقسات الجوهرية في
الأشكال سواء اعتقدوا أنها مركبة من السطوح أو لم يعتقدوا ذلك.
وقد يلزمهم محال آخر وذلك أن من الأشكال ما إذا ركبت بعضها على بعض
ملأت المكان ولم يبق هنالك مكان ولا فراغ، ومنها ما إذا ركبت بعضها مع بعض
لم تملأ المكان ولزم أن يبقَى فيها خلاء وفراغ. وهذان الصنفان موجودان في
الأشكال السطحية والأشكال الجمدية، وذلك أن الأشكال السطحية
المتساوية الأضلاع والزوايا التي تملأ السطح هي ثلاثة فقط: الشكل المثلث والمربع
والمسدس. واما المخمس وسائر الأشكال المستوية الأضلاع والزوايا فليس تملأ
السطح. واما المجسمة المالئة المستوية الأضلاع والزوايا فهي اثنان فقط الشكل
المخروط والشكل المكعب. وانما كانت الأشكال السطحية لا تملأ الموضع منها الا
تلك الثلاثة فقط، لأنه إذا توهمنا نقطة في سطح قد تقاطع عليها خطان
مستقيمان حدثت هنالك أربع زوايا قائمة. وإذا كان ذلك كذلك فالذي يملأ
السطح من الأشكال المركبة يجب ضرورة أن تكون زواياه. أربع زوايا قائمة،
واما مساوية لأربع زوايا قائمة. فإذا ركبت هنالك أربع مربعات تلتقي زواياها
الأربع على تلك النقطة المفروضة [Picture] [ 42 و: ﻋ] في السطح، أعني أن
تكون تلك النقطة مشتركة للأربع زوايا ورأسه لها ملأت سطح المربعات
ضرورة، لأن كل زاوية من زوايا المربع قائمة. وكذلك إذا جعلت مشتركة لزاوية

[Page 331]
مثلثات ستة متساوية الأضلاع والزوايا لأن زاوية كل مثلث منها هي ثلثا قائمة
فيكون مجموع الستة زوايا مساوية لأربع زوايا قائمة فتملأ السطح ضرورة. كذلك
المسدس يملأ السطح إذا جعلت النقطة في السطح رأسا لثلاث مسدسات متساويات
الأضلاع والزوايا، لأن كل زاوية منها تكون مثل قائمة وثلث، فيكون مجموع
الثلاثة منها مساوية لأربع زوايا قائمة وهي المالئة السطح. واما المخمس والمسبع
وسائر الأشكال المتساوية الأضلاع والزوايا فليس يمكن فيها أن تملأ السطح إذ كان
الذي يجتمع من زواياها اما أقل من أربع زوايا قائمة واما أكثر. مثال ذلك المخمس
فإنه لما كانت زاويته قائمة وخمس فإن توهمنا النقطة المفروضة في السطح رأسا
لثلاث زوايا قائمة وثلاث أخماس قائمة فلا تملأ السطح ضرورة، وإذا فرضناها أربع
زادت على أربع زوايا قائمة المالئة للسطح بأربع اخماس زاوية قائمة. وكذلك ليس
يمكن الخمسة مثلثات المتساوية الأضلاع والزوايا أن تملأ السطح إذ كان الذي
يجتمع منها أقل من أربع زوايا قائمة.
وأما الأشكال المجسمة المتساوية الأضلاع والزوايا فانما كانت الاثنان منها ما
كانت تملأ الموضع فقط دون الثلاثة الباقية، لأنه متَى توهمنا نقطة في الهواء قد
تقاطع عليها ثلاثة خطوط في الطول والعرض والعمق كل واحد منها قائم على
صاحبه على زاوية قائمة، حدثت هنالك ثمانية زوايا مجسمة كل واحدة منها
ثلث زواية قائمة وهي زاوية المكعب. فما كان من زاوية الاشكال المجسمة يجتمع
منها إذا جعلت تلك النقطة رأسا لها ثمانية زوايا اما زاوية المكعب أو ما هو مساو لها
ملأت الموضع ضرورة. وإذا اعتبر ذلك بهذه الطريق لم يلف من الأشكال
الخمسة المشهورة ما تملأ الموضع إلا الاثنان فقط، وهما اللذان ذكرنا، وذلك أنه
متَى جعلنا تلك النقطة الخاصة لثمانية مكعبات ملأت الموضع ضرورة وكذلك متَى
جعلتا خاصة لاثني عشر مخروطا لأن زاوية ستة مخاريط منها مساوية

[Page 332]
لزوايا أربع مكعبات، وذلك أن زاوية المخروط المجسمة هي من زاويتين
قائمتين وزاوية المكعب هي من ثلاث زوايا قائمة، وذلك أن نسبة زاوية المخروط
إلى الأربع زوايا مكعبة هي بعينها نسبة زوايا المثلث المتساوي الأضلاع والزوايا
إلى الأربع زوايا قائمة إذ كانت زاوية المثلث ثلثي قائمة. وإذا اعتبرنا بهذه
الطريق باقي الأشكال الثلاثة، أعني ذا العشرين قاعدة أو ذا الاثني عشر قاعدة أو
ذا تسع قواعد، لم توجد زواياها تملأ الموضع بل توجد اما أزيد واما أنقص.
مثال ذلك أن زاوية المجسم ذي الخـ قاعدة هي من ثلاث قوائم وثلث، وثلاث
قوائم وثلث ليس يمكن أن يجتمع منها اثنا عشر قائمة التي هي أربع زوايا
المكعب، وذلك أنا ان جعلنا هذه الزاوية، أعني زاوية ذا الاربع قاعدة على
عدد زوايا المكعب زادت عليها قائمة وثلث، وان جعلناها ثلاثة اجتمع منها
عشرة قوائم فنقصت عن زاوية المكعب بقائمتين، وكذلك يبين الأمر في ذلك في
ذي التسع قواعد وذي الاثني عشر قاعدة بهذه الطريق بعينها.
وإذا كان هذا هكذا لزم الذين يشكلون الاسطقسات بأشكال ذاتية أن يكون
هنالك شكلان مجسمان من الأشكال المتساوية الأضلاع والزوايا مما شأنه أن يملأ
الموضع، لأن الاسطقسات أربعة. وقد تبين في كتاب أوقدليس أنه ليس هنالك
شكل من جسم [ 42 ظ: ﻋ ] مجسم سادس سوَى الأشكال الخمسة فضلا أن
توجد بالشرط الموصوف، أعني أن تملأ الموضع.
فهذا هو أحد المحالات التي ألزمهم أرسطو وهو من الأمور التي ليس عليها
خفك حقا لمن كان عنده أدنَى ارتياض بالهندسة.

[Page 333]
ولما أبطل أن ⎤ يكون ⎡للاسطقسات أشكال، أخذ يبين أن من نفس جوهرها
وبما هي أسطقسات يظهر أنه لا يجوز أن يكون لها أشكال جوهرية فابتدأ وقال:
إن الدليل على أنه ليس لها أشكال تخصها أنا نراها مشكلة بشكل الحاوي
لها وتماسه من جميع نواحيه، وبخاصة الماء والهواء. وإذا كان ذلك كذلك فليس
لها شكل يخصها لأنه لو كان لها شكل يخصها لكانت تفسد بفساده، ونحن نرَى
الهواء والماء يبقَى كل واحد منهما ماء وهواء مع أنه يتشكل بأشكال مختلفة. وإذا
كان هذا بيّنا من أمر الاسطقسات فهي بالقوة جميع الأشكال، وذلك واجب من
أمرها، إذ كانت اسطقساتها، فإنه لو كان لها شكل يخصها لما قبلت الأشكال
المتفننة كالحال في الهيولي التي لما كانت قابلة لجميع الصور لم يكن لها في نفسها
صورة تخصها. فإن بالشبه الذي بين طبيعة هذه الاجرام وطبيعة الهيولي كانت هذه
الاجرام اسطقسات جميع المركبات، وبذلك امكن أن يستحيل بعضها إلى بعض.
وقد تبيّن من هذا أن من قبل انها مادة الاشكال والصور انه واجب الا يكون لها
شكل يخصها.
ودليل آخر وهو أنه لو كان لها أشكال تخصها لما أمكن أن يتولد عنها لحم ولا
عظم، وبالجملة جسم متشابه الأجزاء متصل، فان الأشكال إذا تركبت ليس
يحدث عنها جسم متصل ماعدا الشكلين اللذين ذكرنا، ولا يحدث أيضا من تركيب
السطوح جسم متصل، وإنما يحدث الجسم المتصل من الامتزاج والاختلاط. فلو
كانت الاسطقسات ذوات أشكال، لما أمكن أن يحدث منها جسم
متصل، ولو لم يحدث جسم متصل لم يكن هنالك كون.
قال:
ولذلك ان نظرنا طرفي أقاويلهم، وفحص عنها فحصا بليغا، تبين أنهم

[Page 334]
يفنون بتلك الأقاويل الكون، وانهم كلما حرصوا [على] اثباته ازدادوا عنه
بعدا.
ولما أبطل أن يكون للاسطقسات أشكال ذاتية شرع في ابطال الأقاويل والدلائل
التي منها صيروا لواحد واحد من الاسطقسات شكلا يخصه فقال:
إن أشكال الاسطقسات التي يسلكونها ليست بالجملة موافقة لقواها ولا لكيفياتها
ولا لحركاتها، كما ظن الذين شكلوها بالأشكال واستدلوا بذلك على أنها
ذوات أشكال، وذلك أن منهم من قال أن النار لما كانت سريعة الحركة مسخنة
محرقة وجب أن يكون شكلها فلكيا، ومنهم من قال أنه لما كانت بهذه الصفة
وجب أن يكون شكلها مخروطا لأن هذين الشكلين زعموا أنهما أسرع حركة من
غيرهما من الأشكال لأنهما لا يشغلان ولا يملآن من الموضع إلا شيئا يسيرا جدا.
قالوا وهما الشكلان اللذان يليقان بالتسخين، وذلك أن الشكل الكري من جهة ما
هو مقعر كانت [له] زاوية واحدة والشكل المخروط له زاوية حادة. قالوا والنار
انما تحرك بزاويتها.
فهذه هي الحجج التي احتج بها من صيّر شكل النار مخروطة أو كرية، ولما
كانوا قد أثبتوا للنار بالجملة الشكل من سرعة حركتها وقلة ثباتها واحراقها، أخذ
يناقض واحدة واحدة من هذه الدلالات فابتدأ بمعاندة [من] أوجب الشكل
لها من جهة سرعة الحركة فقال:
إنه لو كانت النار انما وجب لها أحد هذين الشكلين من أجل سرعة حركتها
لكانت حركتها على استدارة، لأن السرعة لهذين الشكلين إنما توجد إذا تحركا على
جهة الاستدارة، ثم عاند وجود هذا الشكل لها من جهة قلة ثباتها فقال:
لو كان السبب في قلة الثبات للنار أحد هذين الشكلين إذ كانا يملآن من
الأرض موضعا يسيرا، وكان السبب في وجود الثبات للأرض الشكل المكعب للزم

[Page 335]
أن تكون النار والأرض إذا كانتا في مواضعهما الطبيعية ذوات أشكال مكعبة، وإذا
كانتا خارجتان من مواضعهما ذوات أشكال فلكية، فانا نرَى الأرض والنار
وسائر الاسطقسات [ 43 و: ﻋ] تتحرك إذا كانت في مواضعها الطبيعية
وتسكن إذا صارت في مواضعها، وكلما قربت من مواضعها اشتدت حركتها
ولما عاند وجود أحد هذين الشكلين للنار من جهة سرعة الحركة ومن جهة قلة
الثبات، أخذ يعاند وجودها لها من جهة الاحراق فقال :
إنه لو كانت النار انما تحرق وتسكن من أجل الزاوية التي فيها لوجب أن تكون
الاسطقسات كلها مسخنة محرقة لأنها كلها ذوات زوايا، مثل الشكل المثمن وذي
الخـ قاعدة، وإنما كان يجب أن تختلف الاسطقسات في الاحراق بالأقل
والأكثر ووجود الاسطقسات كلها محرقة كذب وباطل.
ودليل آخر وهو أنه لو كانت الأجسام انما تحرق بما هي ذوات زوايا غير منقسمة
لوجب أن تكون الأجسام المساحية محرقة لأن فيها على رأيهم زاوية غير منقسمة.
والا فليرونا لم كانت الأجسام الطبيعية تحرق والأجسام التعاليمية لا تحرق فإنهم
لم يقدروا أن يأتوا في ذلك بفرق بيّن.
ودليل آخر أيضا وهو أنه لو كانت النار مخروطة أو فلكية لوجب أن يكون
الشيء الذي تفرقه وتفصله إلى أجزاء نارية يفصله إلى مخروطات أو أفلاك
وذلك غير موجود وشنيع. وذلك أنه إن كان الأمر هكذا كان الشكل بما هو شكل
انما ينفصل وينقسم إلى أمثال شكله، فيجب من ذلك أن يكون السكين كل ما
نقطعه إنما نقطعه إلى سكاكين والمنشار كل ما ننشره إنما نفصله إلى مناشير وذلك
مستحيل:

[Page 336]
قال:
ومن العجب أنهم يشكلون النار بهذا الشكل من قبل انها تفصل وتفرق وهي
تجمع أكثر مما تفصل وتفرق، وذلك انما شأنها أن تجمع الأشياء المتجانسة وتفرق
غير المتجانسة، ففعلها بالذات إنما هو الجمع وفعلها بالعرض هو التفريق. فإن كان
التفريق سببه الشكل فما هو سبب الجمع الذي هو لها بالذات فانه كان واجبا
عليهم أن يأتوا في ذلك بقول مقنع. وهو يلزمهم توبيخا آخر وذلك أنه إذا صار
الحار ضدا للبارد والرطب لليابس، وكانت جواهر هذه في الأشكال وفصولها،
وجب أن يكون شكل الحار يضاد شكل البارد وليس يضاد شكل شكله.
قال:
ولذلك لم يعرض واحد منهم لتشكيل البارد، وقد كان يلحق عليهم اما ان
يصيّروا لجميع الكيفيات أشكالا واما ألا يصيروا لواحد منها شكلا البتة.
قال:
ومنهم من اجتهد أن يقول في هذه القوة التي هي البرودة، يشير بذلك إلى
أفلاطون، فقال فيها ضد ما هي عليه. وذلك أنه إذا قال أن البارد هو الشيء
العظيم الجزء، لأنه لا يغوص وينفذ في المجاري لكن يلجلج ويسدد. وإذا
كان ذلك كذلك وجب أن تكون النار هي الشيء الصغير الجزء لأنه يغوص وينفذ
في المجاري لموضع لطافته وصغره. وإذا كانت طبائع البارد والحار في هذين المعنيين
كان التضاد الموجود منهما إنما هو من قبل الصغر والكبر لا من قبل الشكل، كما
راموا بهذا القول. وذلك أنه ان كانت الأجزاء الكبار والصغار شكلها واحد كأنك
قلت مخروطا أو فلكا، وجب أن يكون المخروط الأكبر ليس بنار والأصغر
نارا، فلا يكون الشكل علة الاحراق كما قالوا.

[Page 337]
فقد تبين من هذا القول أنه ليست فصول الاسطقسات في الشكل ولا لها
بالجملة أشكال تخصها. وإذا كانت فصولها إنما هي انفعالاتها، مثل الرطوبة
واليبوسة والحرارة والبرودة، وفي أفعالها مثل الاحراق والتسخين والتبريد والترطيب،
وفي قواها الجوهرية مثل الخفة والثقل، فقد نرَى أنا متَى أحطنا علما بهذه الأشياء
منها انا عرفنا كل واحد من الاسطقسات بما يخصه، فاما الثقل والخفة فنقول فيها
في المقالة التي تتلو هذه المقالة، واما سائر الفصول الاخر فنقول فيها في كتاب
الكون والفساد.
كملت المقالة الثالثة بعون الله تعالى

[Page 341] [43 ظ: ﻋ ]

المقالة الرابعة

وما يقوله في هذه المقالة منحصر في ثلاث جمل:
الجملة الأولى: يفحص فيها عن أقاويل القدماء في الثقل والخفة.
الجملة الثانية: يبين فيها لم كانت بعض الأجسام البسيطة ثقيلة وبعضها
خفيفة.
الجملة الثالثة: يبين فيها ما هو الثقيل والخفيف، وأي هي الأجسام التي هي
تتصل بالثقل والخفة، وكم عددها، ويعطي أسباب الاعراض اللاحقة لها.
الجملة الأولى

وهذه الجملة فيها ثلاثة فصول:
الفصل الأول: يبين فيه الشيء الذي يقصد التكلم فيه في هذه المقالة
ويعرف السبب في ذلك.
الفصل الثاني: يرسم فيه الثقيل والخفيف، ويبين على كم وجه يقال كل واحد

[Page 342]
منهما، ويبين أن القدماء انما تكلموا من ذلك في نوع واحد منهما فقط.
الفصل الثالث: يذكر فيه ما تتمة أقاويل القدماء في الثقيل والخفيف المحدث
منهم والقديم، ويأتي بما يعاند جميعهما، ويعرف مبلغ تقصيرهم في ذلك.

الفصل الأول:

قال:
إن الشيء الذي قصدنا الفحص عنه في هذه المقالة شيئان:
أحدهما أن نبين ما هو الثقيل والخفيف ونأتي بالقول الدال على طبيعتهما.
والثاني أن نعرف بالسبب الذي من أجله كانت بعض الأجسام ثقيلة
وبعضها خفيفة.
قال:
وانما كان النظر في الثقيل والخفيف واجبا في هذا العلم لأن النظر فيهما
مناسب للنظر في الحركة، فإن الطبيعة تقال اما على مبدأ الحركة بتقديم واما على
الحركة نفسها بتأخير. ولما كنا انما نسمي ثقيلا أو خفيفا ما فيه بدء حركة طبيعية في
المكان أو متحرك حركة طبيعية في المكان، فالثقل والخفة إما أن يكونا اسمين
للمبادئ التي تتحرك بها هذه الاجسام أو للحركات التي تتحركها هذه

[Page 343]
الأجسام، ولذلك كان واجبا أن يكون النظر فيها طبيعيا. وأرسطو يقول أن الثقل
والخفة في لسانهم هما اسمان للقوة التي بها تتحرك هذه الأجسام لا اسمان لافعال
هذه الأجسام، وانه ليس لافعال هذه الأجسام عندهم اسم. ويشبه أن يكون
الأمر في لسان العرب بخلاف ذلك فلنقدر نحن هاهنا بالثقل والخفة على هذه
القوة.
قال:
ولكون النظر في الثقيل والخفيف طبيعيا تكلم فيهما جميع الأولين
من الطبيعين، إلا أنهم لم يفحصوا عن ذلك فحصا مستقصَى، ولا ميزوا
طبيعتهما تمييزا جدا، وكان بعضهم في ذلك أقرب إلى الصواب من بعض.
قال:
ولذلك ينبغي أن نذكر آرائهم، ونبيّن أن ما قالوه في ذلك غير كاف، ثم نأتي
بعد ذلك برأينا وقولنا في ذلك.

الفصل الثاني:

فنقول:
إن الثقيل والخفيف يقال كل واحد منهما على جهتين: اما باطلاق واما بتقييد
وإضافة، وذلك أنه لما كان ظاهرا أن من الأجسام ما يتحرك إلى الوسط

[Page 344]
ومنها ما يتحرك من الوسط، وكان الذي يتحرك من الوسط يظهر من أمره أنه
المتحرك إلى فوق، وهو المسمى الخفيف، والذي يتحرك إلى الوسط يظهر من
أمره أنه المتحرك إلى أسفل، وهو المسمى ثقيلا، فإن كان هاهنا فوق بالطبع
وباطلاق وأسفل بالطبع واطلاق لا بالاضافة، فواجب أن يكون هاهنا خفيف
باطلاق وثقيل باطلاق. فاما ان للعالم فوق بالطبع [أو] باطلاق وأسفل أيضا
باطلاق فقد جحد ذلك ناس من الطبيعيين، منهم أفلاطون، وقالوا كيف يكون
للعالم فوق باطلاق وأسفل باطلاق وهو مستدير متشابه الأجزاء من كل جهة. وإذا
كان [ 44 و: ﻋ ] ذلك كذلك لم يوجد له الفوق والأسفل الا بالاضافة إلى
الانسان، فيكون ما يلي رؤوسنا هي جهة الفوق، وما يلي أقدامنا هي جهة
الأسفل، وقد يعرض أن يكون ما يلي أقدامنا من العالم هي الجهة ⎤ التي تقابل
رؤوس الناس الذين أقدامهم من الجهة⎡المقابلة.
قال:
وإنما كان يسوغ لهم هذا لو لم يكن للعالم أفق ووسط محدودين بالطبع
ومتمايزين في الوجود. واما إذا كان للعالم أفق محدود بالطبع ووسط محدود بالطبع،
وكان كل واحد منهما واحدا بالعدد، وكان الأفق يضاد الوسط تضاد طرفي
الخط المستقيم وهما اللذان في النهاية من التضاد، فواجب أن يكون الفوق والأسفل
باطلاق موجودين في العالم. وإذا وجدوا في العالم وجد الثقيل المطلق والخفيف
المطلق.
قال:

[Page 345]
وقد يشهد أن الأفق من العالم هو الفوق تسمية الناس له بجهة الفوق واعترافهم
بذلك. وإن كانوا انما يعتقدون أن السماء إنما هي نصف كرة فقط فانهم لا
يضرهم في هذا الاعتقاد أن يعلموا أن السماء كرية، فانهم لو علموا انها كرة
تامة لأقروا بالفوق كاقرارهم به مع عدم العلم بانها كرة تامة.
وإذا قد تقرر هذا فنقول: ان الخفيف المطلق هو السالك إلى افق العالم الذي
هو الفوق باطلاق، والثقيل المطلق هو السالك إلى وسط العالم الذي هو أسفل
باطلاق. فاما الثقيل المضاف والخفيف المضاف فانما يقالان على كل شيئين يكونان
من نوع واحد ويسلكان إلى جهة واحدة، إلا أن أحدهما أسرع سلوكا من الآخر،
فيقال في الأسرع أنه أثقل ان كانا من جنس الثقيل، وانه أخف إن كانا من جنس
الخفيف.
قال:
وعامة القدماء انما تكلموا من الثقيل والخفيف في هذا النوع فقط، أعني الذي
يقال بالإضافة، وذلك ظاهر من أقوالهم التي يقول أنهم فيهما.

الفصل الثالث:

فأما الآراء التي حكاها عن القدماء في الثقيل والخفيف فهي ثلاثة:

[Page 346]
إحداها قول من جعل جوهر الثقيل والخفيف في قلة الاجزاء وكثرتها، وذلك
أن من القدماء من ميز الثقيل والخفيف في قلة الأجزاء وكثرتها بأن قال أن الثقيل
والخفيف مركبان من أجزاء هي واحدة بالصورة، إلا أن الثقيل هو المركب من
أجزاء أكثر والخفيف هو المركب من أجزاء أقل، وهذا القول قاله أفلاطون في
طيماوس، وذلك بمنزلة ما يقول القائل أن النقرة من الرصاص الكبيرة أثقل من
الصغيرة. إلا أن قولهم هذا ليس هو في جميع الأشياء المتشابهة بمنزلة الرصاص
الكبير مع الصغير وفي الأشياء غير المتشابهة بمنزلة الخشبة والرصاص. وإنما
قالوا ذلك لأنهم كانوا يرون أن جميع الأشياء مركبة من أجزاء متشابهة، أعني
واحدة بالصورة، وإن ظهرت مختلفة.
قال:
وقولهم ترده المشاهدة والعيان مع أن هذه العلة التي أعطوها ان
سلمناها لهم كانت العلة للأثقل والأخف لا علة للثقيل والخفيف. فاما كيف ترد
المشاهدة والعيان اللازم لهم عن هذا القول فعلى ما أقوله: وذلك أنا نرَى النار أبدا
خفيفة دائمة السلوك إلى فوق، قليلة كانت أو كثيرة، ونرَى الأرض دائما ثقيلة
دائمة الحركة إلى أسفل، قليلة كانت أو كثيرة، فلو كانت النار خفيفة لانها مركبة
من مثلثات أقل، والأرض ثقيلة لأنها مركبة من مثلثات أكثر، للزم أن تكون النار
الكثيرة تتحرك إلى أسفل والصغيرة إلى فوق، وذلك خلاف ما يظهر، فإن النار
الكبيرة اسرع حركة إلى الفوق من النار الصغيرة.

[Page 347]
ومحال آخر أيضا وذلك أنه إن كان سبب الثقل والخفة كثرة المثلثات وقلتها لزم
أن يكون قدر من الهواء أثقل من قدر من الماء، وذلك إذا كان في ذلك القدر من
الهواء من المثلثات أكثر مما في ذلك القدر من الماء، وذلك خلاف ما يحس، فإن
الهواء ليس يتحرك بالطبع إلى موضع الماء.
قال:
فهذا هو النحو من التعليل [الذي] علل [به] هؤلاء الثقيل والخفيف.
قال:
واما غيرهم من المتقدمين فانهم لم يرضوا بهذا التعليل ولا قنعوا بتوفية هذا
السبب [ 44 ظ: ﻋ].
قال:
وإن كانوا أقدم في الزمان فإن قولهم جار على طريقة القدماء أكثر، يعني في
جودة التمييز وكثرة الاستقصاء، واما أولائك فانهم وان كانوا محدثين فإن قولهم جار
على طريقة القدماء اكثر، يعني في قلة الاستقصاء، لأنه يظهر منه بقرب خلاف
المحسوس. وذلك أنه إن كانت الأشياء المركبة المتساوية في المقدار هي التي تتركب
من أجزاء أول متساوية في العدد، وكان السبب في الثقل والخفة كثرة الاجزاء
وقلتها، وكان يظهر أن بعض الأشياء المتساوية في المقدار أثقل من بعض،
فبالواجب ما يوجب عن ذلك أن تكون الأشياء المتساوية غير متساوية.
قال:
ومن ركب الاجرام من السطوح، على ما يقوله هذا الرجل، ليس يمكنه
أن يقول أن السبب في الثقيل والخفيف هو كبر الأجزاء التي تركب منها الثقيل وصغر
الأجزاء الأول التي تركب منها الخفيف، على ما قال ذلك ناس من الطبيعيين.

[Page 348]
وذلك أنه ليس يمكن أن يقال أن سطحا أثقل من سطح وان كان أكبر منه. وأما
الذين يركبون الأجسام من أجرام غير منقسمة فقد يمكنهم أن يضعوا هذا
الوضع، وليس تلزمهم هذه الشناعة التي لزمت من قال أن علة الخفة والثقل هي
كثرة الأجزاء وقلتها. وذلك أن لأصحاب هذا الرأي أن يقولوا انما كان الأصغر
أثقل من الأعظم في كثير من الأشياء لأن ذلك الأصغر مركب من أجزاء أعظم
والأعظم مركب من أجزاء أصغر، وانهم وان لم يمكنهم أن يعطوا سبب ذلك في
المركبات، أعني ان يكون الأصغر هو الأثقل، فقد يمكنهم أن يعطوا ذلك في
البسائط التي [منها] تركب الجسم.
فهذه جملة ما يقوله في الرد على أفلاطون في اعطاء سبب الثقيل والخفيف وقلة
الاسطقسات والحذق الذي في المذهب.
وأما ⎤ المذهب ⎡ الثاني الذي هو أشد اقناعا من هذا فهو رأي
ديمقريطس ولوقش، وذلك أنهم كانوا يقولون أن علة الثقل والخفة مبثوت في
الاجرام، يعنون أن الخلاء هو الذي يحرك الاجرام إلى فوق والملاء إلى اسفل. قالوا
وبذلك أمكن أن تظهر بعض الاجرام أعظم وهي أخف لأن عظم جرمها انما هو
من كثرة الخلاء الذي يدخلها لا من قبل كثرة الملاء. فعلى هذا لا يمتنع أن تكون
الاجرام متساوية في الاجزاء وبعضها أخف من بعض. ولأن هذا القول لا

[Page 349]
يلزمه المحال الذي لزم ذلك القول الآخر، كان هذا القول أشد اقناعا.
ولما ذكر هذا الرأي وأنه أشد اقناعا من الآخر، شرع في معاندته. وقوة ما
يستعمله في ذلك هو ما أقول: وذلك أنه إن كان كل جرم يوجد فيه خلاء
مبتوت، وكان الخلاء علة الخفة والملاء علة الثقل فلا يخلو حدهم للخفيف على
هذا الرأي من وجوه أربعة: إما أن يحدد بأنه الذي فيه خلاء كثير والثقل ضد
هذا. وإما أنه الذي فيه ملاء قليل والثقل ضد هذا، وإما أنه الذي فيه خلاء كثير
وملاء قليل، أعني أن يحدوا القلة والكثرة في الخلاء والملاء في الجسم الواحد
بالإضافة إلى الجسم [الآخر] لا باضافة الخلاء الذي فيه إلى الملاء الذي فيه والثقل
ضد هذا. واما ان يحدوه بنسبة الخفيف فيه إلى الثقيل، اعني في الجسم الواحد
بعينه حتَّى يكون الخفيف ما كان الخلاء فيه أكثر من الملاء بنسبة محدودة والثقل
ضد هذا. فاما أن حدوا الخفيف بأنه الذي فيه خلاء كثير لزمهم أن تكون أرض ما
أخف من نار ما، وذلك أنه إذا كان في جزء ما من النار مشار إليه مقدار ما من
الخلاء أمكن أن نأخذ أرضا كثيرة حتَّى يكون فيها من الخلاء ما هو أكثر مما هو في
ذلك الجزء من النار فيلزم أن تكون تلك الأرض متحركة إلى فوق. واما ان حدوه
بأنه الذي فيه ملاء قليل أمكن أن نأخذ أيضا نارا كثيرة فيها ملاء أكثر مما في
أرض صغيرة فيلزم في تلك النار أن تتحرك إلى أسفل. واما ان حدوا الخفيف

[Page 350]
بأنه الذي فيه خلاء كثير وملاء قليل فقد يلزمهم أن يعود الثقيل لا ثقيلا ولا
خفيفا، وكذلك الخفيف يعود لا ثقيلا ولا خفيفا. لأنا إذا أخذنا جرمين أحدهما
فيه من الخلاء أكثر مما في الآخر وفيه من الملاء أقل مما في الآخر فقد يلزم أن يكون
أحدهما خفيفا، وهو الذي فيه من الخلاء أكثر ومن الملاء أقل، والآخر
ثقيلا، فإذا ضاعفنا [ 45 و: ﻋ ] الجرم الذي وضعناه خفيفا صار فيه من الماء
أكثر مما في الجرم الثقيل وكذلك من الخلاء فيلزم أن يكون ثقيلا ولا خفيفا
بحسب حدهم وان يكون خفيفا وثقيلا بحسب الحدين البسيطين، وذلك كله
مستحيل. واما أن يضع الثقيل والخفيف نسبة الخلاء فيه إلى الملاء
فانهم يتخلصون من هذه الشناعات، إلا أنه يلزمهم محال آخر وهو أن لا
تكون النار الكثيرة أسرع من النار اليسيرة، وذلك أن النسبة فيها واحدة، أعني
نسبة الخلاء إلى الملاء، ومثل ذلك يعرض في الأرض بيعنه، أعني ألا تكون
>في< الأرض الكبيرة أسرع من الصغيرة، وإذا امتنعت هذه الوجوه كلها فمحال
أن يكون الخلاء والملاء علة الثقيل والخفيف.
قال:
وقد يلزمهم إذا كان الخلاء هو سبب الحركة إلى فوق أن يكون الخلاء من شأنه
أن يتحرك إلى فوق، فإن هم سلموا ذلك وقالوا أن الخلاء متحرك إلى فوق والملاء
إلى أسفل لزمهم أن يعطوا سبب تحرك ذلك الخلاء إلى فوق والملاء إلى أسفل،
وان يوفوا السبب الذي من أجله كانت هاتان الطبيعتان لا تفترق احداهما من
الأخرى في شيء من الأجسام، مع أن أحدهما من شأنه أن يتحرك إلى فوق

[Page 351]
والآخر إلى أسفل. وأيضا ان أنزلنا أن الخلاء متحرك لزم أن يكون للخلاء موضع
أو يكون للموضع موضع ليس بموضع، فهم لا يقدرون أن يوفوا علة حركة
الخلاء، ولا يمكنهم أن يقولوا أنه غير متحرك مع أنهم يضعونه علة الحركة.
فهذه هي المحالات التي تلزم من علل الثقيل والخفيف بالخلاء والملاء.
واما المذهب الثالث مذهب من جعل علة الثقيل والخفيف صغر الاجرام أو
كبرها، وذلك أن هؤلاء قالوا أن الاجزاء الأول التي تركب منها الخفيف أصغر من
الاجزاء الأول التي تركب منها الثقيل، ورأَى هؤلاء شبيه برأي أهل المذهب الأول
في أنهم انما تكلموا من الثقيل والخفيف في الذي يقال بإضافة لا في الثقيل المطلق
والخفيف المطلق، وذلك أن كل من لم يعط في سبب ذلك طبيعتين متضادتين
بالماهية والصورة وانما جعل سبب ذلك من قبل الأقل والأكثر لم يقدر أن يقول في
علة الثقيل المطلق والخفيف المطلق، ولهذا كان قول أصحاب الخلاء والملاء أفضل
في هذا المعنَى من أقوال غيرهم، لأنهم يقدرون أن يقولوا في الثقيل المطلق
والخفيف المطلق، وذلك أن من الخلاء والملاء يأتي إذا عللوا هاتين الطبيعتين
المتضادتين بعلل متضادة، إلا أن هؤلاء أيضا لا يمكنهم أن يقولوا في الأثقل
والأخف قولا جيدا، كما لا يمكن أولائك أن يقولوا في الثقيل المطلق والخفيف
المطلق قولا مقنعا، وقول الذين صيّروا علة الثقيل والخفيف صغر الاجزاء
الأول وكبرها أجود وأقنع من الذين صيّروا علة ذلك كثرة الاجزاء وقلتها، كما
قلنا، إذ كان لهؤلاء إذا اعترض عليهم بوجود بعض الأجسام البسائط أكثر وأخف

[Page 352]
قالوا ان التي هي أخف مركبة من أجزاء صغار، وان كانت أكثر، والتي هي أثقل
هي مركبة من أجزاء كبار وان كانت أقل. واما من جعل سبب ذلك القلة والكثرة
فقط فليس يمكنه أن يتخلص من هذا الشك، إلا أنه قد يلزم هؤلاء إذا تؤمل
الأمر ما لزم أهل القول وذلك أنه إذا كانت طبيعة الأجزاء الصغيرة
والكبيرة واحدة لزم ان تكون الاسطقسات كلها من طبيعة واحدة وانما تختلف
بالأقل والأكثر، وإذا كان ذلك كذلك فلا يكون هنالك خفيف مطلق ولا ثقيل
مطلق، ويلزم أن تكون الأجزاء الصغار إذا اجتمع منها ما هو مساو للكبار ان
يكون فعلها واحدا فيعرض من ذلك أن تكون النار الكثيرة أثقل من الماء اليسير
والأرض اليسيرة.
فقد تبين من هذا فساد جميع الآراء التي قالها الأولون في الثقيل والخفيف.
قال:
وناس من القدماء أقروا بوجود الخلاء، إلا أنهم كانوا لم يتكلموا في الثقيل
والخفيف بشيء شبه فيثاغورش وانبادقليس، ومنهم من تكلم في ذلك وهم
الذين قصصنا آرائهم آنفا.

[Page 353]

الجملة الثانية

قال:
وإذ قد تبين فساد أقاويل القدماء في الثقيل والخفيف فقد ينبغي أن نعرف ما
طبائعهما. إلا أنه قبل [ 45 ظ: ﻋ ] ذلك فينبغي أن نتكلم في السبب الغائي الذي
من أجله كانت بعض الاجرام تتحرك إلى فوق وبعضها إلى أسفل، فإن هذا
⎤ أوكد ⎡ ما يفحص عنه من أمر الثقيل والخفيف فنقول:
إن علة سلوك بعض الاجرام البسيطة إلى فوق وبعضها إلى أسفل هو طلب
الموضع الخاص بجرم جرم منها، فإن كل واحد من الاجرام البسيطة يتحرك إلى
الموضع الملائم له من جهة ما هو كمال أخير، وذلك أنه ينبغي أن يعتقد أن العلة
الغائية في هذه الحركة هي العلة الغائية في سائر الحركات بعينها، وذلك أنه لما كان
هاهنا ثلاث حركات: حركة في المكان وهي النقلة، وحركة في الكيف وهي
الاستحالة، وحركة في الغذاء وهي النمو والاضمحلال، وكان ظاهرا من
جميع الحركات انها ليست تكون واحدة منها من أي شيء اتفق ولا إلى أي شيء
اتفق، ولا يكون المتحرك المتصف بواحدة واحدة منها أي شيء اتفق، ولا يكون
المحرك أيضا لواحدة واحدة منها أي شيء اتفق، بل يظهر من أمر واحدة واحدة
من أجناس الحركات انها تنتقل من ضد محدود إلى ضد محدود. مثال ذلك أن
المستحيل من السواد انما يستحيل ضرورة بالذات اما إلى البياض واما إلى المتوسط
بين الأبيض والأسود، وكذلك الحركة في المقدار انما تنتقل من كمية محدودة إلى
كمية محدودة، فواجب أن يعتقد أن الأمر في هذه الحركات الطبيعية التي في المكان
على هذا النحو، أعني أنها انما تتحرك إلى موضع محدود وعن محركات محدودة
وتتصف بها محركات محدودة. وإذا كان هذا هكذا وكان العلو والأسفل موجودين
بالطبع، وكان المحرك لهذين هو المكان للثقيل والخفيف، والمتحرك هو الشيء الثقيل

[Page 354]
بالقوة والخفيف بالقوة إلى أن يوجد خفيفا أو ثقيلا بالفعل التام، وذلك بأن
يكون على كماله الأخير. وانما يكون الثقيل والخفيف على كماله الأخير > وانما يكون
الثقيل والخفيف على كماله الاخير< إذا كان مع أنه ثقيل موجود بالفعل في المكان
الذي يخصه وهو الفوق.
وإذا كان هذا كله كما وصفنا فظاهر أن الموضع هو الاستكمال الأخير الذي لهذا
الجسم، وهو الذي يتنزل منه بمنزلة الصورة الأخيرة من التكون، إذ كان هو
منتهَى الحركة الخارجة من القوة إلى التمام. فعلى هذا ينبغي أن يعتقد في هذه
الاسطقسات أن السبب في حركتها هو سلوك الشبيه إلى شبيهه، لا كما ظن بعض
الناس أن الأرض تسلك إلى الأرض والنار إلى النار، فإن هذا مما لم يمكن، ولو
كان ذلك كذلك لكانت أجزاء الأرض تتحرك إلى الأرض والنار إلى النار.
وقد يظهر أن السبب في حركات هذه الاجرام هو طلبها الاين الشبيه بما أقوله:
وذلك أن المكان الذي يتحرك إليه الجزء من كل واحد منها هو مكان الكل. ولما
كانت الاجزاء يتحرك كل واحد منها إلى نهاية الجسم المحيط بالكل من خارج كان
المكان لكل واحد من هذه الأجسام الأربعة هو نهاية الجسيم المحيط به من خارج
التي تتحرك الأجزاء إليه وتسكن فيه. ولما كانت الأجسام الخفيفة تتحرك إلى فوق
وتسكن فيه، والثقيلة تتحرك إلى الوسط وتسكن فيه، كان المحيط بالجسم

[Page 355]
الخفيف هو الفوق والمحيط بالجسم الثقيل هو الأوسط، وكان الفوق كالصورة للشيء
الخفيف والخفيف كالهيولى له، وكذلك يكون الوسط كالصورة للشيء الثقيل
والثقيل كالهيولى له. وإذا كان المكان شبيها بالصورة والمتمكن فيه شبيها بالهيولى
فالجسم الخفيف الثقيل انما يتحرك إلى الشبيه، وهو نهاية الجسم المحيط به، فلذلك
كانت هذه الاجرام تشبه بعضها بعضا سواء أخذ الشبه بينهما من فوق أو من
أسفل. وذلك انا إذا أخذنا ذلك من أسفل وجدنا الأرض تشبه الماء، إذ كان هو
النهاية المحيطة بها، والماء يشبه الهواء والهواء يشبه النار، وان أخذنا الأمر أيضا من
فوق وجدنا النار تشبه الهواء والهواء يشبه الماء والماء يشبه الأرض وإنما
[ 46 و: ﻋ ] تشابهت هذه الأجسام المتتالية لأن بعضها محيط ببعض وأين
لبعض. واما الطرفين أعني النار والأرض فليس يشبه واحد منهما صاحبه،
وذلك أنهما متباعدان في المكان وليس أحدهما محيطا بالآخر. لكن بالجملة نسبة

[Page 356]
المكان الفوق إلى المكان الأسفل نسبة الكمال ¬إلى المستكمل⌐ والصورة إلى الهيولى.
وكذلك يلفي الأمر في نسبة هذه الأماكن بعضها إلى بعض، وفي نسبة هذه
الأجسام بعضها إلى بعض، فانه قد يوجد في مقولة الوضع ما يشبه الهيولى والصورة
< كما يوجد ذلك في مقولة الوضع ما يشبه الهيولى والصورة > كما يوجد ذلك في
مقولة الاين وفي سائر المقولات.
وإذا كان هذا هكذا ظهر أن السبب الغائي في حركات هذا الجسم في المكان
هو الأين المحيط بها من جهة ما هو شبيه، والسبب الفاعل لها أو الهيولاني هو
الميل، كما أن السبب في حركة المريض من المرض إلى الصحة ليس شيئا أكثر
من طبيعة الجسم القابل للصحة، وهو حصول الصحة التي هي كمال الجسم
المتصحح. وذلك أنه يشبه من طلب لم كانت الأجسام بعضها يتحرك إلى فوق
وبعضها إلى أسفل من طلب لم كانت أجسام الحيوان التي تتحرك إلى الصحة ولا
تتحرك إلى الطول مثلا والقصر. وبالجملة فالسبب في تغايير هذه الحركات الثلاث
هو هذان السببان، أعني طبيعة المتحرك وطبيعة ما إليه الحركة، فإنه لما كانت
انما تتقوم بهذه الأسباب وهي تتنزل بمنزلة الفصول الخاصة وجب أن تكون هذه
الأسباب هي الأشياء التي فيها تتغاير، فإن الفصول المقومة هي بعينها الفصول
المقسمة، وانما تختلف بالجهة. وهذه الحركة التي في المكان إنما تخالف سائر
الحركات، فإن المتحركات في المكان توجد عند أول ما تقبل صورة متحركة
بذاتها في المكان، والمتحركات الاخر فليس توجد متحركة عن ذاتها وانما يوجد
متحركة مادام الفاعل لها والمحرك لها متحركا فقط، شبه الاستحالة والنمو
والاضمحلال، وان كان قد يمكن أن [ يكون] في هذه أيضا شبها من
تلك، وذلك أنا قد نرَى كثيرا من الاجرام عندما يقبل استحالة يسيرة من

[Page 357]
خارج يستحيل هو استحالة أكثر من ذاته، أعني أكثر مما أفاده الفاعل مثل
الأجسام التي تتحرك إلى الصحة التامة والسقم الذي في الغاية مع أدنَى محرك يرد
عليها. لكن ان وجد هذا المعنَى في سائر الحركات فهو بجهة متأخرة عن وجوده في
حركات هذه البسائط في الأين، والسبب في أن هذه البسائط توجد متحركة في
المكان من ذاتها إذا ارتفع عنها العائق، أما إثر تمام كونها أو بعد ذلك بزمان
ما، إنما هو أن الموضوع للثقل والخفة كمال وقريب جدا من جوهر الاسطقسات،
و الموضع للسواد والبياض والصحة والمرض بعيد من جوهر الشيء المتصحح
والمتسود، وبعيد من الكمال. والدليل على أن الموضوع للثقل والخفة كمال شيئان:
أحدهما أنه يوجد له أكمل الحركات التي هي النقلة في المكان، وذلك أن هذه
الحركة متأخرة في الكون متقدمة في الوجود، لأن المتأخرة في الكون هي المتقدمة في
الوجود.
وأما الثاني [ فهو] أنه توجد له هذه الحركة من ذاته. وكذلك نقول أن الثقل
والخفة أما أن يكونا هما جوهر الاسطقسات، واما أن يكونا أقرب إلى جوهرها من
سائر الاعراض الموجودة للاسطقسات. وكذلك هذه الحركة هي أقرب إلى جوهرها
من سائر الاعراض الموجودة لها، فاختلاف طبائع المتحركات واختلاف طبائع
المحركين واختلاف غايات الحركات هي السبب في اختلاف هذه الحركات أنفسها
وذلك أن باجتماع هذه الأشياء وتوافقها تتحرك المتحركات إلى التمام الذي في
طبائعها ان تتحرك إليه ما لم يعقها عائق. وكما أن هذه الأسباب بعينها هي
السبب في أن يحصل لمتكون متكون صورة محدودة وكمية محدودة، كذلك
<كذلك> هي السبب في أن يحصل له أين محدود المقدار والجهة والنوع.
فهذه هي جملة ما يقوله أرسطو في السبب الذي من أجله كانت تتحرك هذه
الأجسام البسيطة بعضها فوق وبعضها أسفل.

[Page 358]
واما تامسطيوس فإنه يتشكك [على] أرسطو في هذا <الـ>
[46 ظ :عـ] ويرى أنه قد كان بقي عليه أن يعطي في اختلاف هذه الحركات
للأجسام البسيطة الأسباب الخاصة ولا يكتفي بهذه الأسباب العامة، ويقول: كما
أنه ليس يكتفي في جواب السائل لم صح هذا العليل بأن يقول لأنه كان بالقوة
صحيحا، أو لأن من شأنه أن يتحرك إلى الصحة، دون أن يأتي بمعنَى زائد فيقول
وانما كان ذلك كذلك لأن الخلط العفن دفعته الطبيعة على طريق البحران، أو لأنه
سخن من أعضائه ما كان باردا، وما أشبه ذلك من الأسباب القريبة التي جرت
العادة أن تعطى في أمثال هذه الأشياء، كذلك يجب أن يكون > في < الأمر في
الجواب في هذه الحركات. وأنت إذا تأملت الأمر ظهر لك من قريب أن
تامسيطوس غالط في ذلك، فان هذه الحركات الأينة لما كانت موجودات
لاجسام بسيطة، وكانت الأسباب التي تقوم بها الأجسام البسيطة بسيطة، وجب
ضرورة أن تكون هذه الأسباب هي الأسباب الخاصة بالأمور البسيطة، بخلاف
الأمور في الأشياء المركبة التي تمثل بها تامسيطوس، فإن الأمور المركبة أسبابها
الخاصية أمور زائدة ضرورة على الأسباب البسيطة العامة التي ائتلفت منها المركبة،
ولذلك ليس يوجد في الأمور البسيطة من الأسباب الا العامة فقط وهي لها
خاصة. واما المركبة فانه يوجد فيها الصنفان من الأسباب أعني العامة والخاصة،
ولذلك ليس يكتفي في معرفتها باعطاء الأسباب العامة المشتركة دون أن يعطي فيها

[Page 359]
الأسباب الخاصة. وهذا أمر بيّن بنفسه لمن كان له قليل مزاولة في
هذه الأشياء.

الجملة الثالثة

وهذه الجملة فيها سبعة فصول:
الفصل الأول: حدّ فيه الخفيف المطلق والثقيل المطلق.
الفصل الثاني: يعطي فيه السبب فيما يظهر من أن بعض الأجسام المركبة يوجد
أخف من شيء في موضع وأثقل من ذلك الشيء في موضع آخر.
الفصل الثالث: يبين فيه أنه توجد أجسام خفيفة باطلاق وثقيلة باطلاق > وأن
هذه الأجسام < وذلك بحسب الرسوم المتقدمة.
الفصل الرابع: يعرف فيه السبب في وجود الثقيل المطلق والخفيف المطلق،
ويعرف أن ذلك هو السبب بعينه في أن يوجد خفيف بالمقايسة وثقيل بالمقايسة،
ويعطي فصولها الخاصة التي توجد لها من قبل الهواء والصور التي بها تختلف هذه
الأجسام البسيطة الأربعة. أعني الخفيف المطلق والثقيل المطلق، والجسمين

[Page 360]
اللذين يقالان بالمقاسية إلى أحدهما ثقيل وبالمقاسية إلى الآخر خفيف، أعني
الماء والهواء.
الفصل الخامس: يعرف فيه أن هذين الاسطقسين لهما ثقل في مواضعهما وليس
لهما فيه خفة.
الفصل السادس: يبين فيه أن بالاسباب التي أعطى في الثقيل [المطلق]
والخفيف المطلق والذي بالمقايسة من جهة العنصر الخاص بواحد واحد منهما ومن
جهة الصورة الخاصة بواحد واحد منهما، تنحل الشكوك التي لزمت من جعل
عنصرهما واحد. مثل من جعل عنصرهما المثلثات ومن جعل عنصرهما اثنين مثل
الذين جعلوا ذلك الخلاء والملاء.
الفصل السابع: يعرف فيه أن الأشكال وإن لم تكن سببا للثقيل والخفيف
على ما تبين فهي معنَى في الخفة والثقل. وبهذا الفصل ختم هذه المقالة.

الفصل الأول:

قال:
إن عرضنا أن نذكر فصول الخفيف والثقيل التي بها تفترق هاتان
الطبيعتان. ونعرف أسباب الأعراض اللاحقة لها. والوقوف على ذلك لا يكون
إلا بأن نضع حدودها الظاهرة المعروفة فنقول:
إن الخفيف المطلق هو الطافي فوق جميع الأجسام والثقيل المطلق هو الراسب
تحت جميع الأجسام [47 و:ﻋ] وأعني بالمطلق الذي لا يقال بالمقاسية إلى كل
واحد من الطرفين بمنزلة الماء الذي يقال فيه إنه خفيف بالإضافة إلى الأرض ثقيل
بالإضافة إلى الهواء، وبمنزلة الهواء الذي هو ثقيل بالمقاسية إلى النار خفيف

[Page 361]
بالمقايسة إلى الماء. فاما [أن] الخفيف المطلق والثقيل المطلق هذه رسومهما فهو
ظاهر، واما انه قد توجد أجسام تنطبق عليها هذه الرسوم حتّى تكون هذه الأقاويل
الشارحة لمعانيها حدودا بينة الوجود وأي هي هذه الأجسام فيظهر هذا بعد.
وأما الخفيف الذي يقال فيه خفيف بالإضافة وثقيل بالاضافة فرسمهما أنهما
طافيان فوق جسم وراسبان تحت آخر، مثل حال الماء فإنه طاف على الأرض
راسب تحت الهواء، فهذه هي الحدود والرسوم التي حد بها أرسطو الخفيف
والثقيل.
وتامسيطوس يرَى أن رسمها بالحركة إلى جهة فوق ⎤ وأسفل⎡ هو الأولى
من رسمها بالطفو والرسوب، لأنه قد يوجد ثقيل وخفيف وان لم يرسب الثقيل ولا
طفا الخفيف. وقد يظن بارسطو أنه رسمهما قبل في أول المقالة وبعد هذه
بهذين الرسمين، وذلك أنه يعترض هذا الرسم انه ان كان الثقيل المطلق هو الراسب
تحت جميع الأجسام فقبل أن يرسب الجسم الثقيل بحسبه الأرض ليس يكون
ثقيلا وإذا لم يكن ثقيلا لم يكن فيه ميل، وإذا لم يكن فيه ميل لم
يمكنه أن يتحرك إلى الموضع الذي يرسب فيه، وبمثل هذا يعترض رسم الخفيف.
قال ولذلك كان أولى أن يرسم الخفيف المطلق بأنه المتحرك إلى فوق والثقيل بأنه
المتحرك إلى الوسط. قال وهذا الرسم ليس ينفسد بوجود الثقيل منها راسبا تحت

[Page 362]
جميع الأجسام والخفيف طاف فوق جميع الأجسام، فإنه ليس لها في موضعها
ثقل ولا خفة وإنما لها ثقل وخفة في المواضع الخارجة عن مواضعها
الطبيعية. وبالجملة فهو يعترض هذا الحد أو الرسم بأمرين:
أحدهما أن المحدود يوجد ولا يوجد له هذا الحد، مثل وجود النار خفيفة قبل
أن تطفو على جميع الأجسام، والأرض ثقيلة قبل أن ترسب تحت جميع
الأجسام .
والثاني أن هذا الحد يوجد لها وجودا ما ليس بموجود فيها، فإنه يوجد لها
وجود الثقل والخفة في مواضعهما الطبيعية، وذلك مستحيل، واما إذا حدّتا،
زعم، بالحركة فلم يلزم هذان الاعتراضان وذلك أن الثقل والخفة ترتفع عنهما
بارتفاع الحركة ويوجدان بوجودها على ما شأنه أن توجد عليه الفصول المقومة
والاعراض الخاصة التي تقام مقام الفصول.
فهذه جملة ما يعترض به تامسطيوس في هذه المواضع على أرسطو فنقول
نحن:
أما [أن ] الحدود المقولة بتقديم تاتلف من جنس وفصل، وأن كل واحد منها
غير مفارق للمحدود إذا كان جزءا منه، فذلك أمر قد تبين في كتاب
البرهان. واما أنه قد تقام أفعال الشيء الخاصة به مقام فعله في الأشياء التي لم
تظهر فصولها كل الظهور، مثلما يقال في حد النخلة انها شجرة تثمر الرطب، فذلك
أيضا أمر قد تبين هنالك. و>من< أمثال هذه الحدود انما تستعمل في الأشياء التي
ليس يمكن فيها الصنف الأول من الحدود الذي هو أكمل، وإذا أخذ الفعل

[Page 363]
مكان الفصل فليس يعني به كونه موجودا بالفعل، لأن الفعل يوجد تارة ولا يوجد
أخرى، والفصل أو ما يقوم مقامه ليس يفارق، فكان لا تكون النخلة نخلة بحسب
رسمها إلا في حين تثمر الرطب لا [أنه] أراد به الاثمار بالفعل، وذلك فاسد، واما
[أن] تقام هاهنا مقام الفصول الطبيعية التي صدر عنها ذلك الفعل على الدوام أو لم
يصدر. واذا كان ذلك كذلك فمعنَى قول أرسطو أن الخفيف هو الذي يطفو فوق
جميع الأجسام أي من شأنه أن يطفو لا أنه الطافي بالفعل، كما أن النخلة كما
رسمت بأنها التي تثمر الرطب ليس يعني به اثمارها الرطب بالفعل لأنه ما كانت
تكون نخلة إلا في ذلك الوقت فقط.
فقد تبين من هذا أن هذا المحدود لم يوجد والحد له معدوم، كما زعم
تامسيطوس. واما ظنه الطفو والرسوب ليسا فصولا للثقيل والخفيف، إذ
كان ليس للاسطقسات ثقل أو خفة في مواضعها وإنما الفصول اللازمة لها الحركة إذ
كانت توجد لها في المواضع التي يوجد لها الثقل والخفة، فظن باطل وقول
خطأ. وذلك أن الطبيعة التي من شأنها أن ترسب تحت الاجسام أو تطفو فوقها إذا
كانت في هذه المواضع هي بعينها [ 47 ظ: ﻋ ] التي من شأنها أن تتحرك إذا كانت
خارجة من هذه المواضع وإنما توجد لها الحركة في مواضع. وانما السبب الذي
توجد لها الحركة في موضع والسكون في الآخر هي واحدة بعينها غير متبدلة،
فإن كنا نعني بالثقيل والخفيف تلك الطبيعة التي هي الثقل والخفة فكيف يقول إنها
ليست موجودة للاسطقسات إذا كانت في أماكنها الطبيعية، وإن كنا نعني به
الحركة ⎤لا الطبيعة الصادرة عنها الحركة⎡ فعلى هذه الجهة يصدق أن
الاسطقسات ليس لها ثقل في مواضعها، أي ليس لها حركة، إلا أنه لم يقصد
هاهنا حد الثقيل والخفيف المشتقين من الثقل والخفة المقولين على الحركة بل ان

[Page 364]
ما قصد حد الثقيل والخفيف المشتقين من الثقل والخفة المقولين على الصورة التي
تصدر عنها الحركة على ما قيل في أول هذه المقالة.
فقد تبين من هذا أن الحد الذي رسم أرسطو به الثقيل والخفيف ليس يوجد
للاسطقسات وجودا ما ليس بموجود، وهو العناد الثاني الذي عاند به
تامسطيوس هذا الحد. وإنما كان الثقل والخفة يحرك حينا ولا يحرك آخر، لأنه إذا
كان بالقوة أسفل أو فوق حرك من جهة ماهو بالقوة، وإذا كان في هذه المواضع
بالفعل لم يحرك لأن الحركة إنما هي كمال ما بالقوة. وإنما رسم أرسطو في أول هذه
المقالة الثقيل والخفيف بالحركة لأن هذا الرسم هو أظهر وجودا للاسطقسات من
الرسم الثاني وسيستعمله مبدأ برهان لوجود هذا الرسم الثاني لها. وإنما آثر الرسم
هاهنا على الرسم الأول لأنه لما ألفي أنه يصدر عن الطبيعة التي قصد رسمها فعلان
اثنان: أحدهما يوجد لها في المواضع الطبيعية لها، وهو الطفو والرسوب، والثاني في
المواضع غير الطبيعية، آثر رسمها بما يوجد لها في مواضعها الطبيعية لا بما
يوجد لها بالعرض وخارجا من مواضعها الطبيعية. ولذلك كان الرسم الذي
جعله هاهنا أولى من الرسم الأول بضد ما ظنه تامسطيوس. وأيضا فإن الحركة
انما توجد لها وهي بعد ثقيلة بالقوة، وإذا سكنت كانت ثقيلة بالفعل. ومعنَى هذا
ان هذه الطبيعة لا توجد على كمالها الأخير إلا إذا سكنت في موضعها
الطبيعي، لأنه قد تبين أن الأين هو الكمال الأخير لها، فما لم يحصل لها بعد هذا
الكمال فهي ناقصة، وفي هذا الوقت تتحرك. فمن حدها بالحركة فقد حدها من
حيث هي ناقصة الوجود، ومن حدها بالسكون في موضعها الطبيعي فقد حدها
وهي على كمالها الاخير.
فقد تبين من هذا القول صحة قول أرسطو وفساد ما اعترض [ به ] عليه
تامسطيوس.

الفصل الثاني

قال:
ولما كان اختلاف الاجرام المركبة في الثقل والخفة انما هو سبب كثرة ما فيها من
الاجرام الخفيفة والثقيلة الأول وقلتها، فقد ينبغي أن ينبغي أن يفحص عن الاجرام الأول
الخفيفة والثقيلة أيّ هي من أجل الوقوف على معرفة أسباب اختلاف الأشياء
المركبة في الثقل والخفة، كما أنه يجب على من زعم أن علة الثقل والخفة في
الأجسام الخلاء والملاء أن يقول ما هو الخلاء والملاء، فإن التقدم بمعرفة طبائع
البسائط هو السبب في معرفة ما يظهر في المركبات، إذ كان لا يظهر في المركبات
شيء إلا وسبب ذلك موجود في البسائط.
قال:
واما ما يظهر من أن بعض الاجرام المركبة أثقل من شيء في موضع وأخف من
ذلك الشيء في موضع آخر، شبه الخشبة التي وزنها ق رطل فانها أثقل في الهواء
من الرصاص الذي وزنه رطلان وهي أخف منه في الماء، فإن السبب في ذلك أن
الاجرام الأول ثقيلة ما عدا النار، ولكلها خفة ماعدا الأرض، فاما الأرض فلها
ثقل في الثلاثة مواضع >و< أعني في موضع النار وموضع الهواء وموضع الماء، ولها
بوجه ما ثقل أيضا في موضعها، فلذلك قد يجوز أن يقال فيها أن لها ثقلا في
المواضع الأربعة. وأما الماء فله ثقل في الموضعين > و < أعني موضع النار وموضع
الهواء، وله أيضا ثقل في موضعه الذي يخصه. واما الهواء فله ثقل في موضع النار
وله بوجه ما ثقل في موضعه. واما النار فليس [48 و: ﻋ] لها ثقل لا

[Page 366]
خارجا من موضعها ولا في موضعها، بل لها في المواضع الثلاث خفة، أعني في
موضع الأرض وموضع الماء وموضع الهواء، وأما الهواء فله خفة في موضع الماء،
وللماء خفة في موضع الأرض، فلكلها خفة ماعدا الأرض. وإذا كان هذا
هكذا فما كان من المركبات الأجزاء الأرضية أغلب عليها كان له ثقل في المواضع
الثلاثة، ولم يوجد أثقل من شيء في موضع وأخف منه في موضع آخر، واما ما
كان الهواء غالبا فيها على الماء والأرض فإنه يكون ثقيلا في موضع الهواء خفيفا في
موضع الماء، شبه الخشبة فإنها ثقيلة في الهواء بما فيها من الماء والأرض الثقيلين في
هذا الموضع وهي خفيفة في الماء بما فيها من الهواء الغالب منها لاجزاء الماء وأجزاء
الأرض في هذا الموضع. ولذلك يعرض لامثال هذه الأشياء أن تكون أثقل من
شيء في موضع وأخف منه في موضع آخر، شبه الخشبة التي وزنها ق رطل فإنها في
الهواء اثقل من الرصاص الذي وزنه رطلان، والرصاص في الماء أثقل من الخشبة.
والعلة عند أرسطو في ذلك أن الخشبة في الهواء هي مركبة من ثلاثة أشياء ثقال:
الأرض والماء والهواء، وهي في الماء مركبة من ثقلين فقط فهي في الهواء أثقل
منها في الماء. إلا أنه قد يعترض هذا على أرسطو كما فعل تامسطيوس ويقول:
هبنا سلمنا له أن الأرض والماء ثقيلان في الهواء فكيف يقال في الهواء أنه ثقيل في
موضعه، ولو كان ثقيلا لكان سكونه فيه قسرا إلى غير ذلك من المحالات التي تلزم
هذا الوضع، وقد عددها تامسطيوس، فنقول:

[Page 367]
إن قول أرسطو في الهواء انه له ثقلا في موضعه ليس ينبغي ان يفهم منه ما
يفهم من قولنا أن له ثقلا في موضع النار، وإنما يريد هاهنا بالثقل المواتاة التي تلفي
فيه والانفعال ليتحرك إلى الفعل عند أدنَى وارد يرد عليه، ولذلك صار بوجه مّا له
ثقل في موضعه أكثر مما له خفة، فإن قبوله التحرك إلى أسفل أكثر من قبوله
التحرك إلى فوق، ولذلك تظهر الحركة القسرية في تحركه إلى فوق أكثر مما تظهر في
حركته إلى أسفل. وأرسطو يستشهد على أنه أكثر رجحانا في الهواء إذا نفخ
منه إذا لم ينفخ، وتامسطيوس يقول أن هذه المشاهدة غير صحيحة وأن الزق
المنفوخ في الهواء هو مثل غير المنفوخ، ولم يتأت لي بعد اختبار هذا. لكن ان
سلمنا أن ثقل الزق المنفوخ في الهواء مساو لثقل غير المنفوخ فيه بيّن [ أن ]
الهواء الذي فيه يتحرك إلى أسفل في موضعه قسرا إذا فرضنا أنه ليس له موضعه

[Page 368]
ثقل، ولو كان يتحرك في موضعه إلى أسفل قسرا لكانت حركة الزق المنفوخ
اشياء ضرورة، وذلك أن الاجزاء الأرضية والمائية التي في الزق المنفوخ
كان يمانعها من الحركة إلى أسفل كثرة ما فيه من الهواء لمكان تحرك الهواء في موضعه
قسرا إلى أسفل، ولكن الهواء لما صار مواتيا لتحريك الثقيل له إلى أسفل صار مع
الثقيل ثقيلا لا ان له في موضعه ثقلا بالمعنَى الذي يقال به انه ثقيل في موضع
النار، لأنه لو كان الأمر كذلك للزم أن يكون موضعه واقفا قسرا وكان يكون
اما ماء واما أرضا إلى غير ذلك من المحالات اللازمة عن ذلك.
وهذا المعنَى هو الذي ينبغي أن يفهم من قوله أن لجميع الاسطقسات ثقلا في
مواضعها، وهذا هو الذي [لم يفهمه] تامسطيوس فالزم منه أرسطو محالات
كثيرة، بل يجب أن يفهم أن قوله أن للهواء ثقلا في موضعه وثقلا في موضع النار
باشتراك الاسم. وهذا المعنَى بعينه هو الذي ينبغي أن يفهم عنه متَى قال في
أسطقس ما ان له ثقلا في موضعه، وسنبين هذا بعد بيانا أكثر.
واما أن يكون السبب في طفو الخشبة على الماء شكلها وعرضها على ما يقول
تامسطيوس فذلك مستحيل. فانه لو كان ذلك كذلك لكانت لا تتحرك من
عمق الماء إلى سطحه، وذلك أن ما شأنه أن يتحرك من عمق الماء إلى سطحه فهو
يتحرك في الهواء إلى أسفل، وإنما كان ذلك كذلك لأن حركته في الماء إلى فوق
تكون من قبل غلبة الاسطقس عليه الذي من شأنه في الماء أن يتحرك

[Page 369]
[ 48 ظ: ﻋ] إلى فوق وهو الهواء، وحركته في الهواء إلى أسفل يكون من غلبة
الاسطقس الذي من شأنه أن يتحرك في الهواء إلى أسفل وهو الماء والأرض مع
مواتاة الهواء الذي هو المحرك لهما وقلة عوقه لحركتهما إلى أسفل. وهذه هي
حال الخشبة والزق المنفوخ والزيت، فالخشبة إنما وقفت في وجه الماء لأن الجزء
الهوائي الغالب عليها ليس من شأنه أن يتحرك إلى أسفل في الماء وإنما يتحرك فيه إلى
فوق، وإنما كانت ثقيلة في الهواء لموضع الأجزاء الأرضية التي فيها والمائية مع
ما في الهواء من المواتاة والقبول للحركة إلى أسفل وهي التي عبّر عنها أرسطو
بالثقل. واما لم كان هذا يعرض للخشبة والزيت مع الماء والهواء، أعني انهما
ثقيلان في الهواء خفيفان في الماء كان الماء في موضعه الطبيعي أو لم يكن،
ففيه موضع فحص لم يعترض له هاهنا أرسطو وسنفحص عنه في غير هذا
الوقت.
فقد تبين من هذا القول ما هو الثقيل المطلق والخفيف المطلق والثقيل المضاف
والخفيف المضاف، ولم كانت بعض الأشياء أثقل من بعض في جميع المواضع
وأخف في موضع.

الفصل الثالث

فأما هل هاهنا أجسام ينطبق عليها حد الثقيل والخفيف وأي الأجسام هي هذه
الأجسام فذلك ظاهر مما أقوله: وذلك أن من الأمور المعروفة بنفسها أن

[Page 370]
الثقيل هو الذي يتحرك إلى أسفل وأن الخفيف هو الذي يتحرك إلى فوق، فإن كان
الأسفل والفوق محدودين، وكانت المحركات تسكن في مواضعها الطبيعية، فالذي
يتحرك إلى نهاية الموضع الأسفل هو راسب تحت الأجسام كلها، والذي يتحرك إلى
نهاية الفوق هو طاف على الأجسام كلها. لكن إن كانت الأرض هي التي كانت
تتحرك إلى نهاية السفل فالأرض هي الراسبة تحت جميع الأجسام، لأنه ليس يظهر
هاهنا جسم يرسب تحتها. وكذلك النار يظهر من أمرها أنها تتحرك فوق جميع
الأجسام ولذلك كانت هي طافية فوق جميع الأجسام. وإذا كان ذلك كذلك
فالأرض هي الثقيلة باطلاق، إذ لو كان فيها خفة لكان يرسب تحتها جسم آخر،
وكذلك النار هي الخفيفة باطلاق إذ لو كان فيها ثقل لكان يطفو فوقها شيء آخر،
فاما الوسط الذي هو أسفل محدود، فذلك شيء قد تبين قبل، وذلك أنه لو لم
يكن محدودا لما كانت الأجسام التي تتحرك إلى الوسط حركتها غير منقضية،
وذلك مستحيل، فإن الحركة كون مّا وكل كائن فواجب أن يكون له نهاية وغاية،
فإن كان التمام غير ممكن فابتدا الكون غير ممكن. ولما كان وجود الحركة غير متناهية
ليس لها غاية ولا تمام فشروع هذه الحركة في الكون، أعني غير المتناهية، ليس
بممكن. وإذا كان شروعها في الكون ممتنعا فهي ممتنعة الوجود ضرورة. وإذا
فرضنا الحركة إلى أسفل متناهية، وكان يظهر من أمر المتحركات إلى أسفل أنها
تتحرك من كل جهة من جهات العالم حركة سواء على زاوية متساوية، فبيّن
انها تتحرك إلى النقطة التي هي وسط العالم. وإذا كان الوسط محدودا فالاطراف
محدودة، أعني النهايات الأخيرة التي هي الفوق. ولما كانت المتحركات أيضا
النهايات الأخيرة أيضا تتحرك من كل جهة من الوسط... حركة
متساوية وعلى زاوية متساوية علم انها تتحرك من وسط النهاية الأخيرة المحيطة
بالكل. وإذا تبين أن الوسط محدود، وأنه المركز، وتبين أن الأطراف

[Page 371]
محدودة، فبيّن أن الذي يتحرك إلى المركز هو الراسب تحت جميع الأجسام،
والذي يتحرك إلى نهاية الأطراف هو الطافي فوق جميع الأجسام. وليس لقائل أن
يقول أن الهواء هو المتحرك إلى نهاية الفوق وأنه ليس هنالك نار، فإنه لو كان الأمر
على ذلك لما كانت النار تتحرك في الهواء لأن تحركها فيه يدل على أنها طافية عليه
وأن موضع الهواء لها موضع غريب، وأن موضعها الطبيعي هو ضرورة فوق الهواء.
وذلك أن هذا الموضع الذي تطلبه النار بحركتها لا يخلو من ثلاثة أحوال: اما أن
يكون فيه جسم [ 49 و: ﻋ] آخر، واما أن يكون خلاء، وإما أن يكون <لك>
هنالك نار بالفعل. ومحال أن يكون فيه جسم آخر لأنه ليس هاهنا جسم آخر [غير]
هذه الأربع اسطقسات ولو كان فيه واحد من الاسطقسات كما زعم بعض
أهل ... من أهل زماننا أن الهواء يصل إلى مقعر القمر لكان فيه واقفا
بالقسر، فإن الهواء ليس منه شأنه أن يتحرك إلى ذلك الموضع، فهو فيه ثقيل
ضرورة. فإذا تبين أن النار هي الخفيفة باطلاق وان الأرض هي الثقيلة باطلاق،
فبين الماء والهواء خفيفان ثقيلان بالمقايسة، أما الهواء فخفيف بالاضافة إلى الماء ثقيل
بالاضافة إلى النار، واما الماء فخفيف بالإضافة إلى الأرض ثقيل بالاضافة إلى
الهواء.
فقد تبين من هذا القول أن هاهنا جسما خفيفا باطلاق [وثقيلا باطلاق]
واجسام بينهما وهي خفيفة بالإضافة إلى ما تحتها ثقيلة بالإضافة إلى ما فوقها، وتبين
أن الأجسام هي هذه الأجسام.

الفصل الرابع

ولما تقرر له وجود هاتين الطبيعتين، أعني الخفيف المطلق والثقيل المطلق،

[Page 372]
>وخفيف بالاضافة< أخذ يروم أن يأتي بالأسباب التي أوجبت أن توجد للأجسام
التي بين الثقيل المطلق والخفيف المطلق طبيعة شبيهة بطبيعة المتوسط، أعني أنه
يصدق عليها ايجاب الطرفين معا فيقال في هذه الأجسام أنها ثقيلة بالاضافة إلى
الخفيف المطلق وخفيفة بالاضافة إلى الثقيل [المطلق]، وسواء كانت هذه الأجسام
المتوسطة واحدة أو أكثر من واحدة، وان كان يضع هاهنا وضعا انها اثنان على ما
يظهر إلى أن يبين الأمر في كتاب الكون والفساد. وهو يستعمل في ذلك
قولين:
أحدهما أنه لما كان يوجد للموضع الذي تتحرك فيه هذه الأجسام طرفان
هما في غاية التضاد، أعني بعد أحدهما من الآخر إذ كان ليس بعد أبعد منهما،
وكان أحد هذين الطرفين وهو الوسط الذي هو أسفل والطرف الآخر الفوق،
فواجب أن يكون الموضع الذي بين هذين الطرفين المتضادين [متوسطا]، وإذا كان
ذلك كذلك فواجب أن تكون أيضا الأجسام التي في هذا الموضع المتوسط متوسطة
بين الجسمين اللذين في غاية التضاد، أعني اللذين في الموضعين المتضادين، حتَّى
يصدق على كل واحد من هذه الأجسام المتوسطة الثقل والخفة، الثقل بالإضافة
إلى ما فوقها من الخفيف المطلق والخفة بالإضافة إلى ما تحتها من الثقيل
المطلق. مثال ذلك الماء فإنه ثقيل بالاضافة إلى الهواء والنار خفيفة بالاضافة

[Page 373]
إلى [الماء و] الأرض [ثقيلة بالإضافة إلى النار]. فهذه هي أحد الأسباب التي
أوجبت اختلاف هذه الطبائع، أعني اختلاف المواضع.
وأما السبب الثاني الموجب لاختلاف الطبائع فهو ما أقوله: وذلك أنه لما كان
يوجد في كل جرم من أجرام المقولات شيء يجري مجرَى الصورة وشيء يجري مجرَى
الهيولى هو الملكة، وكذلك في الكمية المعتدل هو الذي يجري مجرَى الصورة والأسفل
يجري مجرَى المادة، وكان أيضا في الموضع الشيء المحاط به يجري مجرَى الهيولى
والشيء المحيط يجري مجرَى الصورة، وكانت هذه حال الجسم الثقيل أعني الثقيل
المطلق من الجسم الخفيف المطلق أعني الخفيف يحيط بالثقيل، فواجب أن تكون
نسبة أحدهما إلى الآخر نسبة الصورة إلى المادة. وليس يجب أن تكون هذه
النسبة موجودة بين هذين الجسمين فقط، بل وبين مادتيهما، وذلك أنه يجب أن
تكون مادة الخفيف كالصورة لمادة الثقيل، فإن نسبة المادة إلى المادة هي نسبة
الصورة إلى الصورة والجسم المركب منها إلى الجسم المركب، ولست أعني أن
مادة هذين هي اثنان بالعدد، وانما أعني اثنان بالنسبة الخاصة بصورة صورة،
أعني بصورة الثقيل وصورة الخفيف، وان كانت واحدة بالموضوع كمادة الصحة
والسقم التي هي واحدة بالموضوع اثنان بالنسبة لقبول الصحة وقبول المرض، وذلك
أنه واجب أن تكون مادة هذه الأجسام واحدة لكون بعضها مستحيل
[ 49 ظ: ﻋ] إلى بعض، أو تكون كثيرة بالنسبة والاستعداد الذي فيها لقبول
صورة من صور هذه البسائط وإذا كان هذا هكذا وكانت نسبة هاتين

[Page 374]
الطبيعتين احداهما إلى الأخرى هذه النسبة، أعني نسبة الصورة إلى المادة،
وجب ضرورة أن يوجد للاجسام التي بينهما بالإضافة إلى كل واحد منهما هذه النسبة
حتَّى يكون لما فوقها بمنزلة المادة ولما تحتها بمنزلة الصورة. مثال ذلك أن الماء يجري
من الأرض مجرَى الصورة إذ كان محيطا بها، ومن الهواء مجرَى المادة إذ كان الهواء
محيطا به، وكذلك يلفي حال الهواء من الماء ومن النار، أعني أنه يتنزل من
النار منزلة المادة ومن الماء منزلة الصورة. وكذلك الأمر فيما زعم في مواد هذه
الأجسام البسيطة بالإضافة إلى مواد الأجسام التي في الاطراف.
وإذا كان هذا هكذا فقد تبين أنه واجب أن تكون طبائع هذه الأجسام
البسيطة منقسمة إلى ثلاث طبائع: طرفان ووسط، وان يكون كل واحد من هذه
الطبائع خلاف صاحبه بمادته وصورته لا أن تكون جميعها من نوع واحد وطبيعة
واحدة تختلف بالأقل والأكثر، كما ظن ذلك أفلاطون وكثير من القدماء، ولا
أيضا من طبيعتين مختلفتين فقط كما ظن أيضا قوم من القدماء وهم الذين قالوا أن

[Page 375]
علة الثقيل والخفيف الخلاء والملاء، وبوضعنا لها هذه الطبائع الثلاث
يرتفع عنها جميع المحالات اللازمة لمن جعلها طبيعة واحدة أو جعلها طبيعتين فقط.
فاما ان هذه الطبيعة المتوسطة اثنين أو أكثر من ذلك أو أقل فذلك شيء لم يتبين
هاهنا ولا قصد أرسطو بيانه، وسيتبين في كتاب الكون والفساد أنهما اثنان فقط،
وأن الاسطقسات أربعة من جهة ما هي اسطقسات.
فقد تبين من هذا القول أن طبائع هذه الاسطقسات متباينة، وأنه يوجد فيها
الثلاث طبائع التي توجد في كثير من الأضداد أعني الطرفين والوسط.

الفصل الخامس

ولما كان أحد ما وضع فيما سلف ان لهذه الأجسام ثقلا ما في مواضعها وفي
المواضع التي فوقها، أخذ يقرره هاهنا ويحتج له فقال:
ان لكل واحد من الاجرام المتوسطة، أعني الهواء والماء، ثقلا في
مواضعهما الخاصة بهما وفي المواضع التي فوقها. واما النار فليس لها ثقل
البتة.
قال:
والدليل على أن للهواء والماء ثقلا في مواضعهما أنه إذا جذب أحد جزءا من الماء
إلى أسفل انجذب معه الهواء بسهولة وانتقل إلى موضع الماء. وكذلك يعرض للماء
مع الأرض أعني انا إذا دفعنا جزءا من الأرض إلى أسفل انتقل الماء إلى موضع
ذلك الجزء بسهولة. قال: وليس يعرض هذا للنار.

[Page 376]
قال:
وليس لها في مواضعها خفة بدليل أنه ليس ينتقل الماء إلى موضع الهواء
والأرض إلى موضع الماء إلا قسرا، وذلك ظاهر من أمر الماء والهواء في الأنبوبة التي
يجذب بها الماء بتوسط الهواء، وفي الاواني التي تجذب الماء إذا حميت أفواهها
بالنار ثم سدت أفواهها ووضعت على الماء، فإنه يظهر من أمرها أنها تجذب الماء
قسرا وذلك أن الهواء إذا تحرك بالنارية المتولدة فيه إلى أعلى الإناء جذب معه
الماء على جهة الاستتباع لموضع ضرورة امتناع وجود الخلاء.
قال:
وانما لا يعرض مثل هذا للماء مع الأرض لأن سطح الهواء يتحد بسطح الماء
اتحادا يعسر انفصاله عنه لمسامتة احدهما الآخر، وليس الأمر كذلك في سطح
الماء مع سطح الأرض.
فهذه هي جملة ما يقوله أرسطو في أن هذه الاسطقسات الثلاثة لها ثقل في
مواضعها، [لا] ما يفهم من قوله أن لها ثقلا في ماعدا مواضعها، لأنه لو كان
كذلك لكان الموضع الذي يتحرك إليه الجسم البسيط هو الذي يتحرك منه،
ولكانت في مواضعها واقفة قسرا، وذلك كله محال، وإنما نعني بالثقل في
مواضعها سرعة قبولها للحركة إلى أسفل عندما تجذب الجسم الذي تحتها وذلك لمكان
الاستتباع الذي سببه امتناع وجود الخلاء، ولم يوجد لها خفة في مواضعها
لعسر قبولها للحركة إلى المواضع التي فوقها إلا قسرا، فإنه بيّن أنه متَى دحرجنا جزءا

[Page 377]
من الماء عن موضعه ان الهواء يملأ ذلك الموضع بسهولة من غير قسر، وإذا زحزح
جزء من الهواء عن موضعه، لم يملأه جزء من الماء الا بعسر وضرب من القسر،
وكذلك الأمر هو بعينه السبب في انجذاب [ 50 و: ﻋ] الماء إلى موضع الهواء الذي
هو اتحاد بسيطتهما وتكون حركة الواحد منهما إلى موضع صاحبه قسرا وعلى
وتيرة واحدة، وليس كما قال، فإنه يضهر بالحس أن حركة الهواء إلى موضع الماء
أسهل من حركة الماء إلى موضع الهواء، فهذا المعنَى الذي اختلفا فيه هو الذي
سماه أرسطو ثقلا وأوجبه للهواء في موضعه وللماء في موضعه وللأرض في موضعها.
وتامسطيوس يعترض [على] السبب الذي قيل في جذب الهواء الذي في الاناء المحمي
الماء على جهة الاستتباع، وذلك أنه يقول لو كان السبب في ذلك حركة الهواء إلى
فوق عندما يسخن لوجب ألا يكون هذا الجذب للهواء الا عند أول ما يلقي فيه
النار في الاناء، ونحن نجد أنه إن لم يسد الفم الماء، قال فمحال أن يكون
تحرك الهواء الذي في الإناء عند أول ما يلقي فيه النار ثم يتحرك بأخرة عندما يزال
السد من فم الاناء ويوضع على الماء. وقد ذهب عليه أنه إذا جعل النار في
الإناء فإنما يتحرك الهواء الذي في فم الاناء إلى أعلى الإناء إذا وجد جسما يخلفه في
الموضع الذي فرغه ، فإن لم يسد فم الإناء عند أول ما يلقي النار فيه يدخل من

[Page 378]
الهواء الذي من خارج ما يملأ الموضع الذي فرغه الهواء المتحرك إلى أعلى الاناء فلا
يجذب الاناء الماء حينئذ ان وضع عليه، واما إذا سد فم الاناء أول ما توضع فيه
النار فإن الهواء الناري يبقَى في أسفل الاناء بضرب من القسر، فإن نقلته لا
تمكن، إذ كان لا يمكن وجود جسم يملأ ذلك الموضع الذي يتنقل عنه، ولا
يمكن أيضا وجود الخلاء، فإذا وضع السد على فم الإناء ثم أزيل ذلك السد قبل
أن تذهب الحرارة التي في الإناء، ووضع فم الاناء على الماء، تحرك الهواء إلى أعلى
الاناء حينئذ لأنه وجد جسما يملأ الموضع الذي فرغه وهو الماء، ولذلك
ينجذب الماء ويدخل في الاناء قسرا، ومثل ذلك يعرض في المحاجم النارية التي
تصنعها الأطباء.
فقد تبين من هذا القول أن الثقيل يقال على ثلاثة معان: احدها الثقيل
المطلق، والثاني الثقيل المقول بمقايسة، وهو على ضربين منه ما يقال بالاضافة إلى
مكان الجسم الطافي عليه، ومنه ما يقال بالاضافة إلى موضعه.

الفصل السادس

ولما تبين له أن هذه العناصر الأربعة تختلف بفصول خاصية ومواد خاصية،
أخذ يبين ان كل من لم يعتقد في الاسطقسات هذا الاعتقاد لزمه ضرورة الا يوجد
شيء منها يتحرك دائما إلى فوق وشيء يتحرك دائما إلى أسفل، على ما هو المحسوس
من أمرها، فانا نرَى النار تتحرك دائما إلى فوق، صغيرة كانت أو كبيرة، ونرَى

[Page 379]
الأرض تتحرك دائما إلى أسفل، صغيرة كانت أو كبيرة، فمن اعتقد أن لهذه
الاسطقسات طبيعة واحدة أو طبيعتين فقط متضادتين فإنه لا يتخلص من هذا
الشك، وذلك أنه إن وضعها طبيعة واحدة فلا يخلو ذلك من أمرين: اما أن
يضع تلك الطبيعة ثقيلة في الأزل وان الخفة عارضة لها بمنزلة من قال أن صغر
المثلثات وقلة الأجزاء هو السبب في الحفة، وأما >وأما< المثلثات في أنفسها
والأجزاء فثقيلة، أو مثل من قال أن الأشياء كلها ثقيلة لوضع الملاء الذي فيها وانما
تختلف بالأقل والأكثر في هذا المعنَى لموضع مخالفة الخلاء للملاء، واما ان يضع أن
تلك الطبيعة الواحدة خفيفة في الأصل وان الثقيل عارض لها بمنزلة من يقول أن
الأشياء كلها خفيفة لموضع الخلاء الذي فيها، وانما تختلف بالأقل والأكثر لموضع
قلة الملاء الذي يخالط الخلاء وكثرته. فإن وضعها ثقيلة في الأصل والخفة
عارضة لها لزم أن تكون الثقيلة هي التي تتحرك دائما إلى أسفل، وأما الخفيفة شبه
النار والهواء فليس يلزم فيها أن تتحرك دائما إلى فوق، بل قد يوجد منها ما يتحرك
إلى أسفل، وذلك أنه ان كان السبب في حركة القطعة من النار مثلا التي عليها ب
إلى فوق اما قلة الأجزاء واما مخالطة الخلاء، فقد نجد في النار الكثيرة التي هي
أضعاف ب من كثرة الاجزاء أكثر مما نجده في الأرض اليسيرة التي هي جزء من
ب، فيلزم أن تكون النار الكثيرة تتحرك إلى موضع الأرض اليسيرة، فقد وجد
إذن شيء من المتحرك [ 50 ظ: ﻋ ] إلى فوق يتحرك إلى أسفل وذلك مستحيل.
وكذلك يلزم أن السبب في خفة الثقيل مخالفة الخلاء له، أعني ان يوجد في النار
اليسيرة من الخلاء أقل مما في الأرض الكثيرة فتكون النار اليسيرة تتحرك إلى أسفل
والكثيرة إلى فوق، وكذلك يلزم من وضع > أن جعلنا < أن طبيعة هذه الأجسام
هي الخفة لوضع الخلاء، وان الثقل عارض لها من جهة اختلافها في الخفة بالأقل
والأكثر لموضع مخالطة الملاء للخلاء، أعني أنه يوجد الشيء الخفيف دائما خفيفا
ولا يوجد الثقيل دائما ثقيلا، بعكس ما لزم إذا جعلنا الأصل الثقل، وذلك أنه
إن كان السبب في ثقل الأرض انها أكثر ملاء من الهواء والنار فقد يوجد في أرض
صغيرة من الملاء أقل مما يوجد في هواء كبير فتكون الأرض اليسيرة خفيفة والكبيرة
ثقيلة. واما من جعل لها طبيعتين فقط متضادتين بمنزلة من جعل طبيعة النار للخلاء

[Page 380]
وطبيعة الأرض الملاء، فإنه وان كان لا يلقاهم هذا العناد في الطرفين فإنه
يلقاهم في المتوسط الذي بين هذين الطرفين، وذلك أن الماء والهواء على رأيهم
مركب من النار والأرض، إلا أن الهواء يكون من نار كثيرة وأرض يسيرة والماء
بخلاف ذلك، أعني من نار يسيرة وأرض كثيرة. وإذا كان ذلك كذلك لزم أن
يكون > في< الهواء الكثير أثقل من الماء اليسير، وكذلك يلزم أن يكون الماء
الكثير أخف من الهواء اليسير. إلا أن يقولوا أن نسبة النار إلى الأرض في الماء
والهواء هي نسبة محدودة فيتخلصون لعمري من هذه المحالات، لكن يلزمهم محال
آخر وهو ألا يكون الهواء الكثير أسرع حركة إلى فوق من الهواء اليسير على ما قال
قبل.
فقد تبين من هذا أن ما يقوله أرسطو في الثقيل والخفيف وفي طبائعهما هو الرأي
الذي لا يلقاه شك ولا يخالفه حس.

الفصل السابع

ولما تبين له هذا من طبيعة الثقيل والخفيف، وكان قد تبين أن الشكل ليس هو
سبب حركة النقلة الموجودة لهذه الاجرام البسيطة، أخذ يفحص عما يظهر في بعض
الأشياء من أنها تطفو على الماء من قبل شكلها ولا تطفو على الهواء وهي بذلك
الشكل بعيبنه، شبه النحاس والحديد فإنه متَى كان عريض الشكل مقعرا طفا على
الماء، وإذا لم يكن بهذه الصفة رسب في الماء، وهو أولا يأتي بقول ديمقريطس في
ذلك ويبطله ثم يأتي بمذهبه فيقول:

[Page 381]
ان ديمقريطس كان يرَى السبب في أن الأشياء العريضة تطفو على الماء انما هو
كثرة ما يلقاها من البخارات الصاعدة من الماء ويعوقها بصعودها وكثرتها عن أن
تغوص في الماء، واما إذا لم تكن عريضة فليس يلقاها من هذه البخارات إلا يسير
فيغلبها ثقل الشيء الموضوع على الماء فيرسب. وهو يكسر عليه هذا السبب لأنه لو
كان من شأن البخارات الصاعدة ان يطفو عليها العريض للزم أن يعرض ذلك
للحديد العريض في الهواء، ولسنا نرَى ذلك ، فهذا السبب باطل. وقد شعر
ديمقريطس بهذا العناد فقال ان البخارات التي تخرج من الماء تخرج منضغطة غير
منتشرة، والتي تخرج من الهواء تنتشر وتفترق ، ولذلك تعوق تلك ولا تعوق هذه،
ولا معنَى لهذا، فإن البخارات التي في الهواء هي أكثر من البخارات في الماء،
وصعود البخارات هو بنوع واحد. وأما أرسطو فيقول أن السبب في ذلك هو أن
الماء أعسر انقساما من الهواء والأجسام العريضة تلاقي من الجسم الذي يتحرك
>في< أكثر مما يلقي منه الأجسام التي ليست بعريضة فيعسر خرق الاجسام العريضة
للجسم الذي يتحرك فيها ويسهل ذلك من الاجرام التي ليست بعريضة.
وإذا كان ذلك كذلك فالقوة الثقيلة التي في الحديد العريض ليس تقدر أن
تقسم طبيعة الماء وتخرقه، ولذلك يقف الحديد العريض عليه، واما الهواء فلسهولة
انفعاله وقبوله الانخراق بقدر القوة الثقيلة التي في الحديد العريض فيمكنها أن تخرقه
ولذلك لا تطفو عليه. واما الأشياء التي ليست بعريضة فقوة الثقل الذي فيها
[ 51 و: ﻋ] يمكنها أن تخرق الجسمين معا، أعني الثقيل والخفيف.
وينبغي أن تعلم أن أكثر ما يعرض هذا للحديد والنحاس إذ كان مع عرضه فيه
بعض تقعير شبه ما يعرض لطاسة النحاس، وانما يعرض للأجسام المقعرة مثل هذا
العرض لأنها لا ترسب حتَّى يكون فيها من الثقل ما يخرق الماء الذي يلقاها وما
يجذب الهواء في مقعرها إلى أن يصير سطحها المماس لمقعر الاناء تحت سطح

[Page 382]
الماء، وبيّن أن سطح الهواء ليس يتحرك إلى داخل الماء قسرا، ولذلك يحتاج في
الرسوب إلى قوة تجمع الأمرين جميعا، أعني أن تخرق الماء وأن تجذب الهواء الذي
تحت سطح الماء، فإن كان الجسم الثقيل من شأنه أن يطفو على الماء شبه الخشبة
اتفق له مع ذلك ان كان عريضا مقعر الشكل عسر غوصه في الماء، ولهذا كانت
المركبات تحمل ثقلا كثيرا.
فقد تبين من هذا القول ما جوهر الثقيل المطلق والخفيف المطلق والمضاف
(و) كثيرا من الأمور اللاحقة لهما.

كمل كتاب السماء والعالم بعون الله