[Back to Page][Download]

DARE.fulltext: FT25

Averroes, Tahāfut al-tahāfut (تهافت التهافت).

[Page 3]

Proœmium

بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد حمد الله الواجب والصلوة على جميع رسله وانبيائه فان
الغرض فى هذا القول ان نبين مراتب الاقاويل المثبتة فى كتاب
التهافت فى التصديق والاقناع وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين
والبرهان

[Page 4]

[المسئلة فى قدم العالم]

قال ابو حامد حاكياً لادلة الفلاسفة فى قدم العالم
ولنقتصر من ادلتهم فى هذا الفن على ما له موقع فى النفس
[1] قال وهذا الفنّ من الادلّة هو ثلاثة
الدليل الاول

قولهم يستحيل صدور حادث من قديم مطلقاً لانَّا اذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم
مثلاً ثم صدر فانما لم يصدر لانه لم يكن للوجود مرجّح بل كان وجود العالم ممكنا عنه
امكانا صرفا فاذا حدث لم يخل ان تجدّد مرجح او لم يتجدد فان لم يتجدد مرجح بقى العالم
على الامكان الصرف كما كان قبل ذلك وان تجدد مرجح انتقل الكلام الى ذلك المرجح
لِمَ رجح الآن ولم يرجح قبل فاما ان يمرّ الأمر الى غير نهاية أو ينتهى الامر الى مرجح
لم يزل مرجحا

[Page 5] [2] قلت هذا القول هو قول فى أعلى مراتب الجدل وليس هو واصلا
موصل البراهين لان مقدماته هى عامة والعامة قريبة من المشتركة
ومقدمات البراهين هى من الامور الجوهرية المتناسبة . [3] وذلك ان
اسم الممكن يقال باشتراك على الممكن الاكثرى والممكن الاقلى
والذى على التساوى وليس ظهور الحاجة فيها الى المرجح على التساوى
وذلك ان الممكن الاكثرى قد يظن به انه يترجح من ذاته لا من
مرجح خارج عنه بخلاف الممكن على التساوى . [4] والامكان ايضا
منه ما هو فى الفاعل وهو امكان الفعل ومنه ما هو فى المنفعل وهو
امكان القبول وليس ظهور الحاجة فيهما الى المرجح على التساوى
وذلك ان الامكان الذى فى المنفعل مشهور حاجته الى المرجح من
خارج لانه يدرك حسا فى الامور الصناعية وكثير من الامور
الطبيعية وقد يلحق فيه شك فى الامور الطبيعية لان اكثر الامور
الطبيعية مبدأ تغيرها منها ولذلك يظن فى كثير منها ان المحرك هو
المتحرك وانه ليس معروفا بنفسه ان كل متحرك فله محرك وانه ليس
ههنا شىء يحرك ذاته فان هذا كله يحتاج الى بيان ولذلك فحص عنه

[Page 6] القدماء . والامكان الذى فى الفاعل فقد يظن فى كثير منه انه لا
يحتاج فى خروجه الى الفعل الى المرجح من خارج لان انتقال الفاعل
من ان لا يفعل الى ان يفعل قد يظن بكثير منه انه ليس تغيرا
يحتاج الى مغير مثل انتقال المهندس من ان لا يهندس وانتقال
المعلم من ان لا يعلم . [5] والتغير ايضا الذى يقال انه يحتاج الى مغير منه
ما هو فى الجوهر ومنه ما هو فى الكيف ومنه ما هو فى الكم
ومنه ما هو فى الاين . [6] والقديم ايضا يقال على ما هو قديم بذاته
وقديم بغيره عند كثير من الناس والتغيرات منها ما يجوز عند قوم
على القديم مثل جواز كون الارادة الحادثة على القديم عند الكرامية
وجواز الكون والفساد على المادة الاولى عند القدماء وهى قديمة
وكذلك المعقولات على العقل الذى بالقوة وهو قديم عند اكثرهم
ومنها ما لا يجوز وخاصة عند بعض القدماء دون بعض . [7] وكذلك
الفاعل ايضا منه ما يفعل بارادة ومنه ما يفعل بطبيعة وليس الامر فى
كيفية صدور الفعل الممكن الصدور عنهما واحدا اعنى فى الحاجة
الى المرجح . وهل هذه القسمة فى الفاعلين حاصرة او يؤدى البرهان
الى فاعل لا يشبه الفاعل بالطبيعة ولا الذى بالارادة الذى فى الشاهد
هذه كلها هى مسائل كثيرة عظيمة يحتاج كل واحدة منها الى ان

[Page 7] تفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها وأخذ المسئلة الواحدة بدل
المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطانيين
السبعة والغلط فى واحد من هذه المبادى هو سبب لغلط عظيم فى
اخر الفحص عن الموجودات
[8] قال ابو حامد

الاعتراض من وجهين احدهما

احدهما ان يقال بِمَ تنكرون على من يقول ان العالم حدث بارادة قديمة اقتضت
وجوده فى الوقت الذى وجد فيه وان يستمرّ حدمه الى الغاية التى استمر اليها وان يبتدئ
الوجود من حيث بدأ وان الوجود قبلُ لم يكن مرادًا فلم يحدث لذلك وانه فى وقته الذى
حدث فيه، مراد بالارادة القديمة فحدث فما المانع لهذا الاعتقاد وما المحيل له
[9] قلت هذا قول سفسطانى وذلك انه لما لم يمكنه ان يقول بجواز
تراخى فعل المفعول عن فعل الفاعل له وعزمه على الفعل اذا كان
فاعلا مختارا قال بجواز تراخيه عن ارادة الفاعل وتراخى المفعول
عن ارادة الفاعل جائز واما تراخيه عن فعل الفاعل له فغير جائز
وكذلك تراخى الفعل عن العزم على الفعل فى الفاعل المريد فالشك

[Page 8] باق بعينه . [10] وانما كان يجب ان يلقاه باحد أمرين اما بان فعل الفاعل
ليس يوجب فى الفاعل تغيّرا فيجبَ ان يكون له مغير من خارج او
ان من التغيرات ما يكون من ذات المتغير من غير حاجة الى مغير
يلحقه منه وان من التغيرات ما يجوز ان يلحق القديم من غير مغير
وذلك ان الذى يتمسك به الخصوم ههنا هو شيئان احدهما ان فعل
الفاعل يلزمه التغير وان كل تغير فله مغير والاصل الثانى ان القديم
لا يتغير بضرب من ضروب التغير وهذا كله عسير البيان . [11] والذى
لا مخلص للاشعرية منه هو انزال فاعل اول او انزال فعل له اول
لانه لا يمكنهم ان يضعوا ان حالة الفاعل من المفعول المحدث تكون
فى وقت الفعل هى بعينها حالته فى وقت عدم الفعل فهنالك ولا بد
حالة متجددة او نسبة لم تكن وذلك ضرورة اما فى الفاعل او
فى المفعول او فى كليهما واذا كان ذلك كذلك فتلك الحال المتجددة
اذا أوجبنا ان لكل حال متجددة فاعلا لا بد ان يكون الفاعل
لها اما فاعلا اخر فلا يكون ذلك الفاعل هو الاول ولا يكون
مكتفيا بفعله بنفسه بل بغيره واما ان يكون الفاعل لتلك الحال

[Page 9] التى هى شرط فى فعله هو نفسه فلا يكون ذلك الفعل الذى فرض
صادرا عنه أولا بل يكون فعله لتلك الحال التى هى شرط فى
المفعول قبل فعله المفعول . وهذا لازم كما ترى ضرورة الا أن يجوّز
مجوز أن من الاحوال الحادثة فى الفاعلين ما لا يحتاج الى محدث وهذا
بعيد الا على من يجوز أن ههنا اشياء تحدث من تلقاءها وهو قول
الاوائل من القدماء الذين انكروا الفاعل وهو قول بين سقوطه
بنفسه
[12] وفى هذا الاعتراض من الاختلال أن قولنا ارادة ازلية
وارادة حادثة مقولة باشتراك الاسم بل متضادة فان الارادة التى فى
الشاهد هى قوة فيها امكان فعل احد المتقابلين على السواء وامكان
قبوله لمرادين على السواء بعد فان الارادة هى شوق الفاعل الى فعل
اذا فعله كف الشوق وحصل المراد وهذا الشوق والفعل هو متعلق
بالمتقابلين على السواء فاذا قيل هنا مريد أحد المتقابلين فيه ازلى
ارتفع حد الارادة بنقل طبيعتها من الامكان الى الوجوب واذا قيل
ارادة ازلية لم ترتفع الارادة بحضور المراد واذا كانت لا أول لها لم
يتحدد منها وقت من وقت لحصول المراد ولا تعين الا ان نقول

[Page 10] انه يؤدى البرهان الى وجود فاعل بقوة ليست هى لا ارادية ولا
طبيعية ولكن سماها الشرع ارادة كما ادى البرهان الى اشياء هى
متوسطة بين اشياء يظن بها فى بادى الرأى انها متقابلة وليست
متقابلة مثل قولنا موجود لا داخل العالم ولا خارجه
[13] قال ابو حامد مجاوبا عن الفلاسفة
فان قيل هذا محال بيّن الاحالة لان الحادث موجب ومسبب وكما يستحيل حادث
بغير مسبب وموجب يستحيل ايضًا وجود موجِب قد تمت شرائط ايجابه واسبابه واركانه
حتى لم يبق شىء منتظر البتة ثم يتأخر الموجَب بل وجود الموجَب عند تحقق الموجب بتمام شروطه
ضرورى وتأخره محال حسب استحالة وجود الحادث الموجَب بلا موجب فقبل وجود
العالم كان المريد موجودا والارادة موجودة ونسبتها الى المراد موجودة ولم يتجدّد مريد
ولا ارادة ولا تجدّدت للارادة نسبة لم تكن قبل فان كل ذلك تغيّر فكيف تجدد
المراد وما المانع من التجدّد قبل ذلك وحال التجدّد لم يتميز عن حال عدم التجدّد فى
شىء من الاشياء ولا فى امر من الامور ولا فى حال من الاحوال ولا فى نسبة من
النسب بل الامور كما كانت بعينها ثم لم يكن وجود المراد وبقيت بعينها كما كانت
فوجد المراد ما هذا الاﱠ غاية الاحالة

[Page 11] [14] قلت وهذا بين غاية البيان الا عند من ينكر احدى المقدمات
التى وضعنا قبل . [15] لكن ابو حامد انتقل من هذا البيان الى مثال
وضعى فشوش به هذا الجواب عن الفلاسفة وهذا هو قوله
قال ابو حامد وليس استحالة هذا الجنس فى الموجب والموجب الضرورى الذاتى بل وفى
العرفى والوضعى فان الرجل لو تلفّظ بطلاق زوجته ولم تحصل البينونة فى الحال لم يتصور ان
تحصل بعده لانه جعل اللفظ علة للحكم بالوضع والاصطلاح فلم يعقل تأخر المعلول الا ان
يعلّق الطلاق بمجىء الغد او بدخول الدار فلا يقع فى الحال ولكن يقع عند مجىء الغد وعند
دخول الدار فانه جعله علة بالاضافة الى شيء منتظر فلما لم يكن حاضرا فى الوقت وهو الغد
ودخول الدار توقف حصول الموجَب على حضور ما ليس بحاضر فما حصل الموجب الا وقد
تجدّد امر وهو الدخول او حضور الغد حتى أنه لو اراد مريد ان يؤخر الموجب عن اللفظ
غير منوط بحصول ما ليس بحاصل لم يعقل مع انه الواضع بذاته المختار فى تفصيل الوضع فاذا
لم يكن وضع هذا مفهوما ولم نعقله فكيف نعقله فى الايجابات الذاتية العقلية الضرورية .
وأما فى العادات فما يحصل بقصدنا لا يتأخر عن القصد مع وجود القصد اليه الا لمانع فان تحقق
القصد والقدرة وارتفعت الموانع لم يعقل تأخر المقصود اليه وانما يتصور ذلك فى العزم لان
العزم غير كاف فى وجود الفعل بل العزم على الكتابة لا يوقع الكتابة ما لم يتجدد قصد هو
انبعاث فى الانسان متجدد حال الفعل فان كانت الارادة القديمة فى حكم قصدنا الى الفعل
فلا يتصور تأخر المقصود الا لمانع ولا يتصور تقدم القصد اذ لا يعقل قصد فى اليوم الى قيام
فى الغد الا بطريق العزم وان كانت الارادة القديمة فى حكم عزمنا فليس ذلك كافيا فى

[Page 12] وقوع المعزوم عليه بل لا بدّ من تجدد انبعاث قصدى عند الايجاد وفيه قول بالتغير .
ثم يبقى عين الاشكال فى ان ذلك الانبعاث او القصد او الارادة او ما شئت ان تسميه لِمَ
حدث الآن ولَمْ يحدث قبل فاما ان يبقى حادث بلا سبب او يتسلسل الى غير نهاية
ورجع حاصل الكلام الى انه وجد الموجِب بتمام شروطه ولم يبقَ أَمر منتظر ومع ذلك
ينأخر الموجَب ولم يوجد فى مدة لا يرتقى الوهم الى اوّلها بل آلاف سنين لا تنقص شيئا
منها ثم انقلب الموجب بغتة ووقع من غير أمر تجدد وشرط تحقق وهذا محال
[16] قلت هذا المثال الوضعى من الطلاق اوهم انه يؤكد به
حجة الفلاسفة وهو يوهيها لان للاشعرية ان تقول انه كما تأخر
وقوع الطلاق عن اللفظ الى وقت حصول الشرط من دخول الدار
او غير ذلك كذلك تأخر وقوع العالم عن ايجاد البارى سبحانه اياه
الى وقت حصول الشرط الذى تعلق به وهو الوقت الذى قصد فيه
وجوده لكن ليس الامر فى الوضعيات كالامر فى العقليات ومن شبه
هذا الوضعى بالعقلى من أهل الظاهر قال لا يلزم هذا الطلاق ولا يقع
عند حصول الشرط المتأخر عن تطليق المطلق لانه يكون طلاقا
وقع من غير ان يقترن به فعل المطلق ولا نسبة للمعقول من المطبوع

[Page 13] فى ذلك المفهوم الى الموضوع المصطلح عليه
[17] ثم قال ابو حامد مجاوبا عن الاشعرية
والجواب ان يقال استحالة ارادة قديمة متعلقة باحداث شىء أىّ شىء كان تعرفونه
بضرورة العقل او نظره وعلى لغتكم فى المنطق أتعرفون الالتقاء بين هذين الحدّين بحدّ أوسط
أو من غير حدّ أوسط فان ادّعيتم حدًّا أوسط وهو الطريق الثانى فلا بد من اظهاره وان
ادعيتم معرفة ذلك ضرورةً فكيف لم يشارككم فى معرفته مخالفوكم والفرقة المعتقدة لحدوث
العالم بارادة قديمة لا يحصرها بلد ولا يحصيها عدد ولا شبهة فى انهم لا يكابرون العقول عنادًا
مع المعرفة فلا بد من اقامة برهان على شرط المنطق يدل على استحالة ذلك اذ ليس فى جميع
ما ذكروهُ الا الاستبعاد والتمثيل بعزمنا وارادتنا وهو فاسد فلا تضاهى الارادة القديمة
القصود الحادثة وأما الاستبعاد المجرد فلا يكفى من غير برهان
[18] قلت هذا القول هو من الاقاويل الركيكة الاقناع وذلك ان
حاصله هو انه اذا ادعى مدع ان وجود فاعل بجميع شروطه لا يمكن
ان يتأخر عنه مفعوله فلا يخلو ان يدعى معرفة ذلك اما بقياس واما
انه من المعارف الاولى فان ادعى ذلك بقياس وجب عليه ان يأتى به
ولا قياس هنالك وإِن ادعى ان ذلك مدرك بمعرفة اولى وجب
ان يعترف به جميع الناس خصومهم وغيرهم وهذا ليس بصحيح لانه
ليس من شرط المعروف بنفسه ان يعترف به جميع الناس لان ذلك
ليس اكثر من كونه مشهورا كما انه ليس يلزم فيما كان مشهورا ان

[Page 14] يكون معروفا بنفسه
[19] ثم قال كالمجاوب عن الاشعرية
فان قيل نحن بضرورة العقل نعلم انه لا يتصور موجِب بتمام شروطه من غير موجَب
وتجويز ذلك مكابرة لضرورة العقل
قلنا وما الفصل بينكم وبين خصومكم اذا قالوا لكم انَّا بالضرورة نعلم احالة قول من
يقول ان ذاتا واحدا عالم بجميع الكليات من غير ان يوجب ذلك كثرة فى ذاته ومن غير
ان يكون العلم زائدا على الذات ومن غير ان يتعدد العلم بتعدد المعلوم وهذا مذهبكم
فى حق ﷲ تعالى وهو بالنسبة الينا والى علومنا فى غاية الإِحالة ولكن تقولون لا يقاس العلم
القديم بالحادث وطائفة منكم استشعروا احالة هذا فقالوا ان ﷲ تعالى لا يعلم الا نفسه فهو العاقل
وهو العقل وهو المعقول والكل واحد فلو قال قائل اتّحاد العقل والعاقل والمعقول معلوم
الاستحالة بالضرورة اذ تقدير صانع للعالم لا يعلم صُنعَه محال بالضرورة والقديم اذا لم يعلم
الا نفسه تعالى عن قولهم وعن قول جميع الزائفين علوًّا كبيرًا لم يكن يعلم صنعه البتة
[20] قلت حاصل هذا القول انهم لم يدعوا تجويز خلاف ما اظهروا
من ضرورة امتناع تراخى المفعول عن فعله مجانا وبغير قياس اداهم
اليه بل ادعوا ذلك من قبل البرهان الذى اداهم الى حدوث العالم
كما لم تدع الفلاسفة رد الضرورة المعروفة فى تعدد العلم والمعلوم الى
اتحادهما فى حق البارى سبحانه الا من قبل برهان زعموا اداهم
الى ذلك فى حق القديم وأكثر من ذلك من ادعى من الفلاسفة

[Page 15] رد الضرورة فى ان الصانع يعرف ولا بد مصنوعه اذ قال فى ﷲ
سبحانه انه لا يعرف الا ذاته . [21] وهذا القول اذا قوبل هو من جنس
مقابلة الفاسد بالفاسد وذلك ان كل ما كان معروفا عرفانا يقينا وعاما
فى جميع الموجودات فلا يوجد برهان يناقضه وكل ما وجد برهان
يناقضه فانما كان مظنونا به انه تعين لا انه كان فى الحقيقة فلذلك
ان كان من المعروف بنفسه اليقينى تعدد العلم والمعلوم فى الشاهد
والغائب فنحن نقطع انه لا برهان عند الفلاسفة على اتحادهما فى حق
البارى سبحانه واما ان كان القول بتعدد العلم والمعلوم ظنا فيمكن
ان يكون عند الفلاسفة برهان وكذلك ان كان من المعروف بنفسه
انه لا يتاخر مفعول الفاعل عن فعله ويدعى رده الاشعرية من قبل
ان عندهم فى ذلك برهانا فنحن نعلم على القطع انه ليس عندهم فى
ذلك برهان .
[22] وهذا وامثاله اذا وقع فيه الاختلاف فانما يرجع الامر فيه
الى اعتباره بالفطرة الفائقة التى لم تنشأ على رأى ولا هوى اذا سبرته
بالعلامات والشروط التى فرق بها بين اليقين والمظنون فى كتاب

[Page 16] المنطق كما انه اذا تنازع اثنان فى قول ما فقال احدهما هو
موزون وقال الاخر ليس بموزون لم يرجع الحكم فيه الا الى الفطرة
السالمة التى تدرك الموزون من غير الموزون والى علم العروض وكما
ان من يدرك الوزن لا يخلّ بادراكه عنده انكار من ينكره
فكذلك الامر فيما هو يقين عند المرء لا يخلّ به عنده انكار من
ينكره
[23] وهذه الاقاويل كلها فى غاية الوهى والضعف وقد كان يجب
عليه الا يستحق كتابه هذا بمثل هذه الاقاويل ان كان قصده فيه
اقناع الخواص
[24] ولما كانت الالزامات التى اتى بها فى هذه المسئلة برانية وغريبة
عن المسئلة قال فى أثر هذا
بل لا نتجاوز إِلزامات هذه المسئلة - فنقول لهم بمَ تنكرون على خصومكم اذ قالوا
قدم العالم محال لانه يؤدى الى اثبات دورات للفلك لا نهاية لاعدادها ولا حصر لآحدها
مع ان لها سدسًا وربعًا ونصفًا الى قوله
كما سننصه بعد

[Page 17] [25] وهذه ايضًا معارضة سفسطانية فان حاصلها هو انه كما انكم
تعجزون عن نقض دليلنا فى ان العالم محدث وهو انه لو كان غير
محدث لكانت دورات لا شفع ولا وتر كذلك نعجز نحن عن نقض
قولكم انه اذا كان فاعل لم يزل مستوفيا شروط الفعل انه لا يتأخر
عنه مفعوله وهذا القول غايته هو اثبات الشك وتقريره وهو من
احد اغراض السفسطانيين
[26] وانت يا هذا الناظر فى هذا الكتاب فقد سمعت الاقاويل التى
قالتها الفلاسفة فى اثبات ان العالم قديم فى هذا الدليل والاقاويل التى
قالتها الاشعرية فى مناقضة ذلك فاسمع ادلة الاشعرية فى ذلك
واسمع الاقاويل التى قالتها الفلاسفة فى مناقضة أدلة الأشعرية بما
نصه هذا الرجل
قال ابو حامد فنقول بمَ تنكرون على خصومكم اذا قالوا قدم العالم محال لانه يؤدى الى
اثبات دورات للفلك لا نهاية لاعدادها ولا حصر لآحادها مع ان لها سدسًا وربعًا ونصفًا
فان فلك الشمس يدور فى سنة وفلك زحل فى ثلاثين سنة فتكون دورة زحل ثُلْث عشر
دورة الشمس ودورة المشترى نصف سدس دورة الشمس فانه يدور فى اثنى عشر سنة ثم
انه كما لا نهاية لاعداد دورات زحل لا نهاية لاعداد دورات الشمس مع انه ثُلْث عشره
بل لا نهاية لادوار فلك الكواكب الذى يدور فى سنة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة كما
انه لا نهاية للحركة المشرقية التى للشمس فى اليوم والليلة مرة فلو قال قائل هذا مما يعلم
استحالته ضرورةً فبما ذا تنفصلون عن قوله . بل لو قال قائل اعداد هذه الدورات شفع أو
وتر أو شفع ووتر جميعًا أو لا شفع ولا وتر فان قلتم شفع ووتر جميعًا أو لا شفع ولا وتر فيعلم
بطلانه ضرورةً وان قلتم شفع فالشفع يصير وترا بواحد فكيف أعوز ما لا نهاية له واحد
وان قلتم وتر فالوتر يصير واحد شفعا فكيف أعوز ذلك الواحد الذى يصير به شفعا
فيلزمكم القول بانه ليس بشفع ولا وتر

[Page 18]
[27] قلت حاصل هذا القول انه اذا توهمت حركتان ذواتا ادوار
بين طرفى زمان واحد ثم توهم حد محصور من كل واحد منهما بين
طرفى زمان واحد فان نسبة الجزء من الجزء هى نسبة الكل من
الكل مثال ذلك انه اذا كانت دورة زحل فى المدة من الزمان التى
تسمى سنة ثلث عشر دورات الشمس فى تلك المدة فانه اذا توهمت
جملة دورات الشمس الى جملة دورات زحل مذ وقعت فى زمان واحد
بعينه لزم ولا بد ان تكون نسبة جميع ادوار الحركة من جميع
ادوار الحركة الاخرى هى نسبة الجزء من الجزء واما اذا لم يكن
بين الحركتين الكليتين نسبة لكون كل واحد منهما بالقوة أى لا
مبدأ لها ولا نهاية وكانت هنالك نسبة بين الاجزاء لكون كل واحد
منها بالفعل فليس يلزم ان يتبع نسبة الكل الى الكل نسبة الجزء

[Page 19] الى الجزء كما وضع القوم فيه دليلهم لانه لا نسبة توجد بين عظمين
أو قدرين كل واحد منهما يفرض لا نهاية له فاذًا القدماء لما كانوا
يفرضون مثلا جملة حركة الشمس لا مبدأ لها ولا نهاية لها وكذلك
حركة زحل لم يكن بينهما نسبة اصلا فيلزم من ذلك ان تكون
الجملتان متناهية كما لزم فى الجزئين من الجملة . وهذا بين بنفسه .
[28] فهذا القول يوهم انه اذا كانت نسبة الاجزاء الى الاجزاء نسبة
الاكثر الى الاقل يلزم فى الجملتين ان تكون نسبة احدهما الى
الاخرى نسبة الاكثر الى الاقل وهذا انما يلزم اذا كانت الجملتان
متناهيتين واما اذا لم يكن هنالك نهاية فلا كثرة هنالك ولا قلة
واذا وضع ان هنالك نسبة هى نسبة الكثرة الى القلة توهم انه يلزم
عن ذلك محال آخر وهو ان يكون ما لا نهاية له اعظم مما لا نهاية
له وهذا انما هو محال اذا اخذ شيئان غير متناهيين بالفعل لانه حينئذ
توجد النسبة بينهما واما اذا أخذ بالقوة فليس هنالك نسبة . فهذا هو
الجواب فى هذه المسئلة لا ما جاوب به ابو حامد عن الفلاسفة
[29] وبهذا تنحل جميع الشكوك الواردة لهم فى هذا الباب وأعسرها

[Page 20] كلها هو ما جرت به عادتهم ان يقولوا انه اذا كانت الحركات
الواقعة فى الزمن الماضى حركات لا نهاية لها فليس يوجد منها حركة
فى الزمان الحاضر المشار اليه الا وقد انقضت قبلها حركات لا نهاية
لها وهذه صحيح ومعترف به عند الفلاسفة ان وضعت الحركة
المتقدمة شرطا فى وجود المتأخرة وذلك انه متى لزم ان توجد واحدة
منها لزم ان توجد قبلها اسباب لا نهاية لها . [30] وليس يجوّز احد من
الحكماء وجود اسباب لا نهاية لها كما تجوزه الدهرية لانه يلزم عنه
وجود مسبَّب من غير سبب ومتحرك من غير محرك لكن القوم
لما أداهم البرهان الى ان ههنا مبدأ محركا ازليا ليس لوجوده ابتداء
ولا انتهاء وان فعله يجب ان يكون غير متراخ عن وجوده لزم ان لا
يكون لفعله مبدأ كالحال فى وجوده والا كان فعله ممكنا لا ضروريا
فلم يكن مبدأ أولًا فيلزم ان تكون افعال الفاعل الذى لا مبدأ
لوجوده ليس لها مبدأ كالحال فى وجوده واذا كان ذلك كذلك لزم
ضرورة ان لا يكون واحد من افعاله الاولى شرطا فى وجود
الثانى لان كل واحد منهما هو غير فاعل بالذات وكون بعضها قبل
بعض هو بالعرض فجوزوا وجود ما لا نهاية له بالعرض لا بالذات

[Page 21] بل لزم ان يكون هذا النوع مما لا نهاية له أمرا ضروريا تابعا لوجود
مبدأ أول ازلى . [31] وليس ذلك فى امثال الحركات المتتابعة او المتصلة
بل وفى الاشياء التى يظن بها ان المتقدم سبب للمتأخر مثل الانسان
الذى يولد انسانا مثله وذلك ان المحدث للانسان المشار اليه بانسان
آخر يجب ان يترقى الى فاعل اول قديم لا اول لوجوده ولا لاحداثه
انسانا عن انسان فيكون كون انسان عن انسان اخر الى ما لا نهاية
له كونا بالعرض والقبلية والبعدية بالذات وذلك ان الفاعل الذى
لا اول لوجوده كما لا اول لافعاله التى يفعلها بلا آلة كذلك لا أول
للآلة التى يفعل بها افعاله التى لا اول لها من افعاله التى من شأنها
أن تكون بآلة .
[32] فلما اعتقد المتكلمون فيما بالعرض انه بالذات
دفعوا وجوده وعسر حل قولهم وظنوا ان دليلهم ضرورى . وهذا
من كلام الفلاسفة بين فانه قد صرح رئيسهم الاول وهو ارسطو انه
لو كانت للحركة حركة لما وجدت الحركة وانه لو كان للاسطقس
اسطقس لما وجد الاسطقس . [33] وهذا النحو مما لا نهاية له ليس له عندهم
مبدأ ولا منتهى ولذلك ليس يصدق على شىء منه انه قد انقضى
ولا انه قد دخل فى الوجود ولا فى الزمان الماضى لان كل ما انقضى

[Page 22] فقد ابتدأ وما لم يبتدئ فلا ينقضى وذلك ايضا بين من كون المبدأ
والنهاية من المضاف . ولذلك يلزم من قال انه لا نهاية لدورات الفلك
فى المستقبل ألا يضع لها مبدأ لان ما له مبدأ فله نهاية وما ليس له
نهاية فليس له مبدأ وكذلك الامر فى الاول والآخر اعنى ما له اول
فله آخر وما لا اول له فلا آخر له وما لا آخر له فلا انقضاء لجزء
من اجزائه بالحقيقة ولا مبدأ لجزء من اجزائه بالحقيقة وما لا مبدأ
لجزء من اجزائه فلا انقضاء له . [34] ولذا اذا سأل المتكلمون الفلاسفة
هل انقضت الحركات التى قبل الحركة الحاضرة كان جوابهم انها لم
تنقض لان من وضعهم انها لا اول لها فلا انقضاء لها . فايهام
المتكلمين ان الفلاسفة يسلمون انقضاءها ليس بصحيح لانه لا
ينقضى عندهم الا ما ابتدأ . [35] فقد تبين لك انه ليس فى الادلة التى
حكاها عن المتكلمين فى حدوث العالم كفاية فى ان تبلغ مرتبة
اليقين وانها ليس تلحق بمراتب البرهان ولا الادلة التى ادخلها
وحكاها عن الفلاسفة فى هذا الكتاب لا حقة بمراتب البرهان وهو
الذى قصدنا بيانه فى هذا الكتاب . [36] وأفضل ما يجاوب به من سأل

[Page 23] عمل دخل من أفعاله فى الزمان الماضى ان يقال دخل من افعاله مثل ما
دخل من وجوده لان كليهما لا مبدأ له
[37] واما ما جاوب به أبو حامد عن الفلاسفة فى كسر دليل كون
الحركات السماوية بعضها أسرع من بعض والرد عليهم فهذا نصه
قال ابو حامد فان قيل محل الغلط فى قولكم انها جملة مركبة من آحاد فان هذه الدورات
معدومة أما الماضى فقد انقرض وأما المستقبل فلم يوجد بعد والجملة إِشارة الى موجودات
حاضرة ولا موجود ههنا
[38] ثم قال هو فى مناقضة هذا
قلنا العدد ينقسم الى الشفع والوتر ومستحيل ان يخرج عنه سواء كان المعدود موجودا
باقيا أو فانيا فاذا فرضنا عددا من الاعداد لزمنا ان نعتقد انه لا يخلو من كونه شفعا أو
وترا سواء قدّرناها موجودة أو معدومة فانه ان انعدمت بعد الوجود لم تنعدم هذه القضية
ولا تغيرت
هذا منتهى قوله
[39] وهذا القول انما يصدق فيما له مبدأ ونهاية خارج النفس أو فى
النفس اعنى حكم العقل عليه بالشفع والوتر فى حال عدمه فى حال
وجوده واما ما كان موجودا بالقوة اى ليس له مبدأ ولا نهاية فليس
يصدق عليه لا انه شفع ولا انه وتر ولا انه ابتدأ ولا انه انقضى

[Page 24] ولا دخل فى الزمان الماضى ولا فى المستقبل لان ما فى القوة فى حكم
المعدوم وهو الذى اراد الفلاسفة بقولهم ان الدورات التى فى الماضى
والمستقبل معدومة . [40] وتحصيل هذه المسئلة ان كل ما يتصف بكونه
جملة محدودة ذات مبدأ ونهاية فاما ان يتصف بذلك من حيث له
مبدأ ونهاية خارج النفس واما ان يتصف بذلك من حيث هو فى
النفس لا خارج النفس فاما ما كان منه كلا بالفعل ومحدودا فى
الماضى فى النفس وخارج النفس فهو ضرورة اما زوج واما فرد وأما
ما كان منها جملة غير محدودة خارج النفس فانها لا تكون محدودة
الا من حيث هى فى النفس لان النفس لا تتصور ما هو غير متناه
فى وجوده فتتصف ايضا من هذه الجهة بانها زوج او فرد واما من
حيث هى خارج النفس فليس تتصف لا بكونها زوجا ولا فردا .
وكذلك ما كان منها فى الماضى ووضع انه بالقوة خارج النفس أى
ليس له مبدأ فليس يتصف لا بكونه زوجا ولا فردا الا ان يوضع
بالفعل أَعنى كونها ذات مبدأ نهاية . فكل ما كان من الحركات
ليس لها كل ولا جملة اعنى ذات مبدأ ونهاية الا من حيث هى فى
لنفس كالحال فى الزمان والحركة الدورية فواجب فى طباعها ألا

[Page 25] تكون زوجا ولا فردا الا من حيث هى فى النفس .
[41] والسبب فى
هذا الغلط ان الشىء اذا كان فى النفس بصفة أوهم انه يوجد خارج
النفس بتلك الصفة ولما لم يكن شىء مما وقع فى الماضى يتصور فى
النفس الا متناهيا ظن ان كل ما وقع فى الماضى ان هكذا طباعه
خارج النفس ولما كان ما وقع من ذلك فى المستقبل تعين على ما لا
نهاية فيه التصور بان يتصور جزءًا بعد جزء ظن افلاطون والاشعرية
انه يمكن ان تكون دورات الفلك فى المستقبل لا نهاية لها وهذا
كله حكم خيالى لا برهانى ولذلك كان اضبط لاصله واحفظ لوضعه
ممن وضع ان للعالم مبدأ ان يوضع أن له نهاية كما فعل كثير من
المتكلمين
[42] واما قول ابى حامد بعد هذا
على انا نقول لهم انه لا يستحيل على أصلكم موجودات حاضرة هى آحاد متغايرة
بالوصف ولا نهاية لها وهى نفوس الآدميين المفارقة للابدان بالموت فهى موجودات لا
توصف بالشفع والوتر فبمَ تنكرون على من يقول بطلان هذا يعرف ضرورة كما ادعيتم

[Page 26] بطلان تعلق الارادة القديمة بالاحداث ضرورة وهذا الرأى فى النفوس هو الذى اختاره ابن
سينا ولعله مذهب ارسطوطاليس
فانه قول فى غاية الركاكة . [43] وحاصله انه لا ينبغى ان تنكروا قولنا
فيما هو ضرورى عندكم انه غير ضرورى اذ قد تضعون اشياء ممكنة
يدعى خصومكم ان امتناعها معلوم بضرورة العقل أى كما تضعون
اشياء ممكنة وخصومكم يرون انها ممتنعة كذلك تضعون أنتم
أشياء ضرورية وخصومكم تدعى انها ليست بضرورية وليس
تقدرون فى هذا كله ان تأتوا بفصل بين الدعوتين . [44] وقد تبين فى علم
المنطق ان مثل هذه هى معاندة خطبية ضعيفة أو سفسطانية .
والجواب فى هذا ان يقال ان الذى يدَّعَى انه معلوم بالضرورة هو فى
نفسه كذلك والذى تدعون أنتم ان بطلانه معروف بالضرورة ليس
كما تدعونه وهذا لا سبيل الى الفصل فيه الا بالذوق كما لو ادعى
انسان فى قول ما انه موزون وادعى آخر انه غير موزون لكان
البيان فى ذلك ذوق الفطرة السليمة الفائقة
[45] واما وضع نفوس من غير هيولى كثيرة بالعدد فغير معروف
من مذهب القوم لان سبب الكثرة العددية هى المادة عندهم وسبب

[Page 27] الاتفاق فى الكثرة العددية هى الصورة واما ان توجد أشياء كثيرة
بالعدد واحدة بالصورة بغير مادة فمحال وذلك انه لا يتميز شخص
بوصف من الاوصاف الا بالعرض اذ كان قد يوجد مشاركا له فى ذلك
الوصف غيره وانما يفترق الشخص من الشخص من قبل المادة .
[46] وايضا فامتناع ما لا نهاية له على ما هو موجود بالفعل أصل معروف
من مذهب القوم سواء كان اجساما أو غير اجسام . ولا نعرف احدا
فرق بين ما له وضع وما ليس له وضع فى هذا المعنى الا ابن سينا فقط
واما سائر الناس فلا أعلم أحدا منهم قال هذا القول ولا يلائم أصلا
من أصولهم فهى خرافة لان القوم ينكرون وجود ما لا نهاية له
بالفعل سواء كان جسما أو غير جسم لانه يلزم عنه ان يكون ما لا
 نهاية له اكثر مما لا نهاية له . [47] ولعل ابن سينا انما قصد به اقناع
الجمهور فيما اعتادوا سماعه من أمر النفس لكنه قول قليل الاقناع
فانه لو وجدت أشياء بالفعل لا نهاية لها لكان الجزء مثل الكل اعنى
اذا قسم ما لا نهاية له على جزئين . مثال ذلك انه لو وجد خط او عدد
لا نهاية له بالفعل من طرفيه ثم قسم بقسمين لكان كل واحد من

[Page 28] قسميه لا نهاية له بالفعل والكل لا نهاية له بالفعل فكان يكون
الكل والجزء لا نهاية لكل واحد منهما بالفعل وذلك مستحيل
وهذا كله انما يلزم اذا وضع ما لا نهاية له بالفعل لا بالقوة
[48]    قال ابو حامد فان قيل فالصحيح رأى افلاطون وهو ان النفس قديمة وهى واحدة وانما
تنقسم فى الابدان فاذا فارقتها عادت الى اصلها واتحدت
قلنا فهذا أقبح وأشنع واولى بأن يُعتقد مخالفا لضرورة العقل فانا نقول نفس زيد عين
نفس عمرو أو غيره فان كان عينه فهو باطل بالضرورة فان كل واحد يشعر بنفسه ويعلم
انه ليس نفس غيره ولو كان هو عينه لتساويا فى العلوم التى هى صفات ذاتية للنفوس داخلة
مع النفوس فى كل اضافة . فان قلتم انه عين وانما انقسم بالتعلق بالابدان قلنا وانقسام
الواحد الذى ليس له عظم فى الحجم وكميّة مقدارية محال بضرورة العقل فكيف يصير
الواحد اثنين بل الفًا ثم يعود ويصير واحدا بل هذا يعقل فيما له عظم وكمية كماء البحر
ينقسم بالجداول والانهار ثم يعود الى البحر فاما ما لا كمية له فكيف ينقسم . والقصد
من هذا كله ان نبين انهم لم يعجزوا خصومهم عن معتقدهم فى تعلق الارادة القديمة بالاحداث
الا بدعوى الضرورة فى امتناع ذلك وانهم لا ينفصلون عمن يدعى الضرورة عليهم فى هذه
الامور على خلاف معتقدهم وهذا لا مخرج عنه
[49]  قلت اما زيد فهو غير عمرو بالعدد وهو وعمرو واحد بالصورة
وهى النفس فلو كانت نفس زيد مثلا غير نفس عمرو بالعدد مثل ما
هو زيد غير عمرو بالعدد لكانت نفس زيد ونفس عمرو اثنين بالعدد

[Page 29] واحدا بالصورة فكان يكون للنفس نفس فاذًا مضطر ان تكون
نفس زيد ونفس عمرو واحدة بالصورة والواحد بالصورة انما تلحقه
الكثرة العددية اعنى القسمة من قبل المواد فان كانت النفس ليست
تهلك اذا هلك البدن او كان فيها شىء بهذه الصفة فواجب اذا فارقت
الابدان ان تكون واحدة بالعدد . وهذا العلم لا سبيل الى افشائه
فى هذا الموضع
[50] والقول الذى استعمل فى ابطال مذهب افلاطون هو سفسطانى
وذلك ان حاصله هو ان نفس زيد، اما ان تكون هى عين نفس عمرو
واما ان تكون غيرها لكنها ليست هى عين نفس عمرو فهى غيرها
فان الغير اسم مشترك وكذلك الهو هو يقال على عدة ما يقال عليه
الغير فنفس زيد وعمر وهى واحدة من جهة كثيرة من جهة كانك
قلت واحدة من جهة الصورة كثيرة من جهة الحامل لها
[51] واما قوله انه لا يتصور انقسام الا فيما له كمية فقول كاذب
بالجزء وذلك ان هذا صادق فيما ينقسم بالذات وليس صادقا فيما ينقسم
بالعرض اعنى ما ينقسم من قبل كونه فى منقسم بالذات فالمنقسم

[Page 30] بالذات هو الجسم مثلا والمنقسم بالعرض هو مثل انقسام البياض
الذى فى الاجسام بانقسام الاجسام وكذلك الصور والنفس هى
منقسمة بالعرض اى بانقسام محلها والنفس اشبه شىء بالضوء وكما ان
الضوء ينقسم بانقسام الاجسام المضيئة ثم يتحد عند انتفاء الاجسام
   وكذلك الامر فى النفس مع الابدان . [52] فاتيانه بمثل هذه الاقاويل
السفسطانية قبيح فانه يظَنّ به انه ممن لا يذهب عليه ذلك وانما
اراد بذلك مداهنة اهل زمانه وهو بعيد من خلق القاصدين لاظهار
الحق ولعل الرجل معذور بحسب وقته ومكانه فان هذا الرجل امتحن
فى كتبه
[53]   ولكون هذه الاقاويل ليست بمفيدة نوعا من انواع اليقين قال
والمقصود من هذا كله ان نبين انهم لم يعجزوا خصومهم عن معتقدهم فى تعلق الارادة
القديمة بالاحداث الا بدعوى الضرورة فانهم لا ينفصلون عن من يدعى الضرورة عليهم فى
هذه الامور على خلاف معتقدهم وهذا لا مخرج عنه
[54]  قلت اما من ادعى فيما هو معروف بنفسه انه بحالة ما انه بخلاف
تلك الحالة فليس يوجد قول ينفصل به عنه لان كل قول انما يبين بامور

[Page 31] معروفة يستوى فى الاقرار بها الخصمان فاذا ادعى الخصم فى كل
قول خلاف ما يضعه مخاصمه، لم يكن للخصم سبيل الى مناظرته
لكن من هذه صفته فهو خارج عن الانسانية وهؤلاء هم الذين يجب
تأديبهم واما من ادعى فى المعروف بنفسه انه غير معروف بنفسه
لموضع شبهة دخلت عليه فهذا له دواء وهو حل تلك الشبهة واما
من لم يتعرف بالمعروف بنفسه لانه ناقص الفطرة فهذا لا سبيل الى
افهامه شيئا ولا معنى لتأديبه ايضا فانه مثل من كلف الاعمى ان
يعترف بتصور الالوان او وجودها
[55] قال أبو حامد محتجا عن الفلاسفة
 فان قيل هذا ينقلب عليكم فى ان ﷲ قبل حلق العالم كان قادرا على الخلق بقدر سنة
أو سنين ولا نهاية لقدرته فكأنه صبر ولم يخلق ثم خلق ومدة الترك متناهية أو غير متناهية
فان قلتم متناهية صار وجود البارى متناهيا وان قلتم غير متناهية فقد انقضى مدة فيها
امكانات لا نهاية لاعدادها
قلنا المدة والزمان مخلوقان عندنا وسنبين حقيقة الجواب عن هذا فى الانفصال عن
دليلهم الثانى

[Page 32] [56]  قلت اكثر من يقول بحدوث العالم يقول بحدوث الزمان معه
فلذلك كان قوله ان مدة الترك لا تخلو ان تكون متناهية او غير
متناهية قولا غير صحيح فان ما لا ابتداء له لا ينقضى ولا ينتهى
 ايضا فان الخصم لا يسلم ان للترك مدة . [57] وانما الذى يلزمهم ان يقال لهم
حدوث الزمان هل كان يمكن فيه ان يكون طرفه الذى هو مبدأه
أبعد من الآن الذى نحن فيه او ليس يمكن ذلك فان قالوا ليس يمكن
ذلك فقد جعلوا مقدارا محدودا لا يقدر الصانع اكثر منه وهذا شنيع
ومستحيل عندهم وان قالوا انه يمكن ان يكون طرفه ابعد من
الآن من الطرف المخلوق قيل وهل يمكن فى ذلك الطرف الثانى
ان يكون طرف ابعد منه فان قالوا نعم ولا بد لهم من ذلك قيل
فهاهنا امكان حدوث مقادير من الزمان لا نهاية لها ويلزمكم ان
يكون انقضاؤها على قولكم فى الدورات شرطا فى حدوث المقدار
الزمانى الموجود منها وان قلتم ان ما لا نهاية له لا ينقضى فما الزمتم
 خصومكم فى الدورات الزمكم فى امكان مقادير الازمنة الحادثة .
[58] فان قيل ان الفرق بينهما ان تلك الامكانات الغير متناهية هى

[Page 33] لمقادير لم تخرج الى الفعل وامكانات الدورات التى لا نهاية لها قد
خرجت الى الفعل قيل امكانات الاشياء هى من الامور اللازمة
للاشياء سواء كانت متقدمة على الاشياء او مع الاشياء على ما يرى
ذلك قوم فهى ضرورة بعدد الاشياء فان كان يستحيل قبل وجود
الدورة الحاضرة وجود دورات لا نهاية لها يستحيل وجود امكانات
 دورات لا نهاية لها . [59] الا ان لقائل ان يقول ان الزمان محدود المقدار
اعنى زمان العالم فليس يمكن وجود زمان اكبر منه ولا اصغر كما
يقول قوم فى مقدار العالم ولذلك امثال هذه الاقاويل ليست برهانية
ولكن كان الأحفظ لمن يضع العالم محدثا ان يضع الزمان محدود
المقدار ولا يضع الامكان متقدما على الممكن وان يضع العظم
كذلك متناهيا لكن العظم له كل والزمان ليس له كل
[60]  قال أبو حامد حاكيا عن الفلاسفة لما أنكروا على خصومهم ان
يكون من المعارف الاولى تراخى فعل القديم عن القديم بنوع من

[Page 34] الاستدلال لهم على هذه القضية

الى قوله
[61]  أقول حاصل ما حكى هو عن الفلاسفة فى هذا الفصل فى الاستدلال
على انه لا يمكن ان يوجد حادث عن فاعل ازلى انه ليس يمكن ان
يكون هنالك ارادة وهذا العناد انما تأتى لهم بانهم تسلموا من
خصومهم ان المتقابلات كلها متماثلة بالاضافة الى الارادة القديمة ما
كان منها فى الزمان مثل المتقدم والمتأخر وما كان منها موجودا فى
الكيفية المتضادة مثل البياض والسواد وكذلك العدم والوجود

[Page 35] هما عندهم متماثلان بالاضافة الى الارادة الاولى فلما تسلموا هذه
المقدمة من خصومهم وان كانوا لا يعترفون بها قالوا لهم ان من شأن
الارادة الا ترجح فعل احد المثلين على الثانى الا بمخصص وعلة
توجد فى احد المثلين ولا توجد فى الثانى وإِلا وقع احد المثلين عنها
بالاتفاق فكأن الفلاسفة سلموا لهم فى هذا القول انه لو وجد
 للازلى ارادة لأمكن ان يصدر حادث عن قديم . [62] فلما عجز المتكلمون

[Page 36] عن الجواب لجؤا الى ان قالوا ان الارادة القديمة صفة من شأنها ان
تميز الشىء عن مثله من غير أن يكون هنالك مخصص يرجح فعل
أحد المثلين على صاحبه كما ان الحرارة صفة من شأنها ان تسخن والعلم
صفة من شأنه ان يحيط بالمعلوم فقال لهم خصومهم من الفلاسفة هذا
محال لا يتصور وقوعه لان المتماثلين عند المريد على السواء لا يتعلق
فعله باحدهما دون الثانى الا من جهة ما هما غير متماثلين أعنى من جهة
ما فى احدهما صفة ليست فى الثانى وأما اذا كانا متماثلين من جميع
الوجوه ولم يكن هنالك مخصص اصلًا كانت الارادة تتعلق بهما
على السواء واذا كان تعلقها بهما على السواء وهى سبب الفعل فليس
تعلق الفعل باحدهما باولى من تعلقه بالثانى فاما ان يتعلق بالفعلين
المتضادين معا واما ان لا يتعلق ولا بواحد منهما وكلا الامرين
 مستحيل . [63] ففى القول الاول كانهم سلموا لهم ان الاشياء كلها
متماثلة بالاضافة الى الفاعل الاول وألزموهم أن يكون هنالك مخصص
أقدم منه وذلك محال فلما جاوبوهم بان الارادة صفة من شأنها تمييز
المثل عن مثله بما هو مثل عاندوهم بان هذا غير مفهوم ولا معقول
من معنى الارادة فكانهم ناكروهم فى الاصل الذى كانوا سلموه.

[Page 37] هذا هو حاصل ما احتوى عليه الفصل وهو نقل الكلام من المسئلة
الاولى الى الكلام فى الارادة والنقل فعل سفسطانى
[64]  قال ابو حامد مجيبا عن المتكلمين فى اثبات الارادة
والاعتراض من وجهين
الاول ان قولكم ان هذا لا يتصور عرفتموه ضرورةً أو نظراً ولا يمكن دعوى
واحد منهما وتمثيلكم بارادتنا مقايسة فاسدة تضاهى المقايسة فى العلم وعلم ﷲ تعالى يفارق
علمنا فى امور قررناها فلم تبعد المفارقة فى الارادة بل هو كقول القائل ذات موجودة لا
خارج العالم ولا داخله ولا متصلًا ولا منفصلاً لا يعقل لانّا لا نعقله فى حقّنا قيل هذا عمل
توهمك واما دليل العقل فقد ساق العقلاء الى التصديق بذلك فبمَ تنكرون على من يقول دليل
العقل ساق الى اثبات صفة ﷲ تعالى من شأنها تمييز الشىء عن مثله فان لم يطابقها اسم الارادة
فلتسمَّ باسم آخر فلا مشاحّة فى الاسماء وانما أطلقناها نحن باذن الشرع والا فالارادة موضوعة فى
اللغة لتعيين ما فيه غرض ولا غرض فى حق ﷲ تعالى وانما المقصود المعنى دون اللفظ . على انه فى
حقّنا لا نسلم ان ذلك غير متصور فانّا نفرض تمرتين متساويتين بين يدى المتشوف اليهما
العاجز عن تناولهما جميعًا فانه يأخذ احداهما لا محالة بصفة شأنها تخصيص الشىء عن مثله
وكل ما ذكرتموه من المخصصات من الحسن أو القرب أو تيسر الاخذ فانّا نقدر على فرض
انتفائه ويبقى امكان الاخذ فانتم بين أمرين إما ان تقولوا انه لا يتصور التساوى
بالاضافة الى اغراضه فقط فهو حماقة وفرضه ممكن وإِما ان تقولوا التساوى اذا فرض
بقى الرجل المتشوف أبدا متحيّرا ينظر اليهما فلا يأخذ احداهما بمجرّد الارادة والاختيار

[Page 38] المنفكّ عن الغرض وهو ايضا محال يعلم بطلانه ضرورةً فاذن لا بدّ لكل ناظر شاهدا وغائبا
فى تحقيق الفعل الاختيارى من اثبات صفة شأنها تخصيص الشىء عن مثله
[65] اقول حاصل هذه المعاندة ينحصر فى وجهين
أحدهما انه يسلم ان الارادة التى فى الشاهد هى التى يستحيل
عليها ان تميز الشىء عن مثله بما هو مثل وان دليل العقل قد اضطر الى
وجود صفة هذا شأنها فى الفاعل الاول وما يظن من انه ليس ممكنا
وجود صفة بهذه الحال فهو مثل ما يظن انه ليس هنا موجود هو لا
داخل العالم ولا خارجه وعلى هذا فيكون الارادة الموصوف بها
الفاعل سبحانه والانسان مقولة باشتراك الاسم كالحال فى اسم
العلم وغير ذلك من الصفات التى وجودها فى الازلى غير وجودها فى
المحدث وانما نسميها ارادة بالشرع . [66] وظاهر أن اقصى مراتب هذا
العناد انه جدلى لان البرهان الذى أدى الى إِثبات صفة بهذه الحال
أعنى أن تخصص المثل بالايجاد عن مثله انما هو وضع المرادات متماثلة
وليست متماثلة بل هى متقابلة اذ جميع المتقابلات كلها راجعة الى
الوجود والعدم وهما فى غاية التقابل الذى هو نقيض التماثل فوضعهم

[Page 39] ان الاشياء التى تتعلق بها الارادة متماثلة وضع كاذب وسيأتى القول
فيه بعد . [67] فان قالوا انما قلنا انها متماثلة بالاضافة الى المريد الاول اذ
كان متقدساً عن والاغراض الاغراض هى التى تخصص الشىء بالفعل
عن مثله قلنا أما الاغراض التى حصولها مما تكمل به ذات المريد مثل
أغراضنا نحن التى من قبلها تتعلق ارادتنا بالاشياء فهى مستحيلة
على ﷲ سبحانه لان الارادة التى هذا شأنها هى شوق الى التمام عند
وجود النقصان فى ذات المريد وأَما الاغراض التى هى لِذَات المراد
لا لان المراد يحصل منه للمريد شىء لم يكن له بل انما يحصل ذلك
للمراد فقط كاخراج الشىء من العدم الى الوجود فانه لا شك فى ان
الوجود أفضل له من العدم أعنى للشىء المخرج وهذه هى حال الارادة
الاولى مع الموجودات فانها انما تختار لها ابدا أفضل المتقابلين
وذلك بالذات وأولاً . فهذا هو أحد صنفى المعاندة التى تضمنها هذا
القول
[68] وأما المعاندة الثانية فانه لم يسلم انتفاء هذه الصفة عن الارادة
التى فى الشاهد ورام أن يثبت أنه يوجد لنا فى الاشياء المتماثلة ارادة
تميز الشىء عن مثله وضرب لذلك مثالا مثل أن يفرض بين يدى

[Page 40] رجل تمرتين متماثلتين من جميع الوجوه ونقدّر انه لا يمكن ان يأخذهما
معا ويقدر انه ليس يتصور له فى واحد منهما مرجح فانه ولا بد
سيميّز احديهما بالاخذ . [69] وهذا تغليط فانه اذا فرض شىء بهذه
الصفة ووضع مريد دعته الحاجة الى أكل التمر أو اخذه فانّ اخذه
احدى التمرتين فى هذه الحال ليس هو تمييز المثل عن مثله وانما هو اقامة
المثل بدل مثله فأى منهما أخذ بلغ مراده وتم له غرضه فارادته
انما تعلقت بتمييز أخذ احديهما عن الترك المطلق لا باخذ احديهما
وتمييزه عن ترك الاخرى أعنى اذا فرضت الاغراض فيهما متساوية
فانه لا يؤثر أخذ احديهما على الثانية وانما يؤثر أخذ واحدة منهما
أيهما اتفق ويرجحه على ترك الاخذ . [70] وهذا بين بنفسه فان تميز
احداهما عن الثانى هو ترجح احداهما على الثانى ولا يمكن أن يترجح

[Page 41] أحد المثلين على صاحبه بما هو مثل وان كانا فى وجودهما من حيث
هما شخصان ليسا متماثلين لان كل شخصين يغاير أحدهما الثانى بصفة
خاصة به فان فرضنا الارادة تعلقت بالمعنى الخاص من أحدهما تصور
وقوع الارادة باحدهما دون الثانى لمكان الغيرية موجودة فيهما فاذًا
لم تتعلق الارادة بالمتماثلين من جهة ما هما متماثلين . فهذا هو معنى ما
ذكره من الوجه الاول فى الاعتراض
[71] ثم ذكر أبو حامد الوجه الثانى من الاعتراض على قولهم انه لا
يوجد صفة تميز احد المثلين عن صاحبه فقال
والوجه الثانى من الاعتراض هو انا نقول أنتم فى مذهبكم ما استغنيتم عن تخصيص الشىء
عن مثله فان العالم وجد عن سببه الموجب له على هيئة مخصوصة بتماثل تفاصيلها فلمَ اختصّ
ببعض الوجوه واستحالة تميز الشىء عن مثله فى الفعل او فى اللزوم بالطبع أو بالضرورة
لا تختلف الى قوله صار ثبوت الوضع به أولى من تبدل الوضع [متساوية] وهذا
ما لا مخرج منه

[Page 42] [72] قلت محصَّل هذا القول ان الفلاسفة يلزمهم ان يعترفوا بان ههنا
صفة فى الفاعل للعالم تخصص الشىء عن مثله وذلك انه يظهر ان العالم
ممكن ان يكون بشكل غير هذا الشكل وبكمية غير هذه
الكمية لانه يمكن ان يكون أكبر مما هو عليه أو أصغر واذا كان
ذلك كذلك فهى متماثلة فى اقتضاء وجوده . [73] فان قالت الفلاسفة ان
العالم انما امكن ان يكون بشكله المخصوص وكمية أجسامه

[Page 43] المخصوصة وعدده المخصوص وان هذا التماثل انما يتصور فى أوقات
الحدوث فانه ليس هنالك وقت كان حدوث العالم فيه أولى من غيره
قيل لهم قد كان يمكنكم ان تجاوبوا عن هذا بان خلق العالم وقع فى
الوقت الاصلح ولكن نريهم شيئين متماثلين ليس يمكن الفلاسفة ان
يدعوا بينهما خلافا أحدهما تخصيص جهة الحركة التى للافلاك والثانى
تخصيص موضع القطبين من الافلاك فان كل نقطتين متقابلتين
فرضتا فى الخط الواصل من احدهما الى الثانى بمركز الكرة فانه
يمكن ان يكونا قطبين فتخصيص نقطتين عن سائر النقط التى

[Page 44] تصلح ان تكون قطبا للكرة الواحدة بعينها عن سائر النقط التى
فى تلك الكرة لا يكون الا عن صفة مخصصة لاحد المثلين . فان
قالوا انه ليس يصلح ان يكون كل موضع من الكرة محلا للقطبين
قيل لهم يلزمكم على هذا الاصل الا يكون متشابه الاجزاء وقد
قلتم فى غير ما موضع انه بسيط وانه لموضع هذا كان له شكل
بسيط وهو الكرى . وأيضا فان ادعوا ان فيه مواضع غير متشابهة
فقد يقال لهم من أى جهة صارت غير متشابهة بالطبع هل من جهة انها
جسم أو من جهة انها جسم سماوى ولا يصح عدم التشابه من هاتين
جسم أو من جهة انها جسم سماوى ولا يصح عدم التشابه من هاتين
الجهتين .
[74] قال واذا كان هذا هكذا فكما يستقيم لهم قولهم ان الاوقات
فى حدوث العالم متماثلة كذلك يستقيم لخصومهم ان جميع اجزاء الفلك
فى كونها اقطابا متساوية لا يظهر ان ذلك يختص منها بوضع دون
وضع ولا بموضع ثبوت دون موضع
[75] فهذا هو تلخيص هذا العناد وهو خطبى وذلك ان كثيرا من
الامور التى ترى بالبرهان انها ضرورية هى فى بادئ الرأى ممكنة
[76] والجواب عند الفلاسفة انهم يزعمون ان البرهان قام عندهم
على ان العالم مؤلف من خمسة أجسام جسم لا ثقيل ولا خفيف وهو

[Page 45] الجسم السماوى الكرى المتحرك دورا وأربعة أجسام اثنان منها أحدهما
ثقيل باطلاق وهى الارض التى هى مركز كرة الجسم المستدير
والآخر خفيف باطلاق وهى النار التى هى فى مقعر الفلك المستدير
وان الذى يلى الارض هو الماء وهو ثقيل بالاضافة الى الهواء خفيف
بالاضافة الى الارض ثم يلى الماء الهواء وهو خفيف بالاضافة الى الماء
وثقيل بالاضافة الى النار وأن سبب استيجاب الارض للثقل المطلق
هو كونها فى غاية البعد من الحركة الدائرة ولذلك كانت هى المركز
الثابت وان السبب فى الخفة للنار باطلاق هو انها فى غاية القرب
من الحركة المستديرة وان التى بينهما من الاجسام انما وجد فيها الامران
جميعا أعنى الثقل والخفة لكونهما فى الوسط بين الطرفين أعنى الموضع
الابعد والاقرب وانه لو لا الجسم المستدير لم يكن هنالك لا ثقيل
ولا خفيف بالطبع ولا فوق ولا أسفل بالطبع لا باطلاق ولا باضافة
ولا كانت مختلفة بالطبع حتى تكون الارض مثلا من شأنها أن
تتحرك الى موضع مخصوص والنار من شانها أيضا ان تتحرك الى
موضع آخر وكذلك ما بينهما من الاجسام [77] وأن العالم انما يتناهى

[Page 46] من جهة الجسم الكرى وذلك ان الجسم الكرى متناه بذاته وطبعه
اذ كان يحيط به سطح واحد مستدير وأما الاجسام المستقيمة فليست
متناهية بذاتها اذ كان يمكن فيها الزيادة والنقصان وانما هى متناهية
لانها فى وسط الجسم الذى لا يمكن فيه زيادة ولا نقصان ولذلك
كان متناهيا بذاته وأنه لمكان هذا لم يصح أن يكون الجرم
المحيط بالعالم الا كريا والا فكانت الاجسام يجب أن تتناهى اما
الى اجسام اخر ويمر ذلك الى غير نهاية واما ان تنتهى الى الخلاء
وقد تبين امتناع الامرين . [78] فمن تصور هذا علم أن كل عالم يفرض
لا يمكن أن يكون الا من هذه الاجسام وان الاجسام لا تخلو ان
تكون اما مستديرة فتكون لا ثقيلة ولا خفيفة واما مستقيمة
فتكون اما ثقيلة واما خفيفة أعنى اما نارا واما ارضا واما ما
بينهما وان هذه لا تكون الا مستديرة أو فى محيط مستدير لان
كل جسم اما ان يكون متحركا من الوسط أو الى الوسط واما
حول الوسط وان بحركات الاجرام السماوية يمينا وشمالا امتزجت

[Page 47] الاجسام وكان منها جميع الكائنات المتضادة وأن هذه الاجسام
الاربعة لا تزال من اجل هذه الحركات فى كون دائم وفساد دائم
أعنى فى اجزائها وانه لو تعطلت حركة من هذه الحركات لفسد هذا
النظام والترتيب اذ كان ظاهرا ان هذا النظام يجب ان يكون تابعا
للعدد الموجود من هذه الحركات وانه لو كانت أقل او اكثر لاختل
هذا النظام أو كان نظاما آخر وان عدد هذه الحركات اما على طريق
الضرورة فى وجود ما هاهنا واما على طريق الافضل
[79] وهذا كله فلا تطمع ههنا فى تبينه ببرهان وان كنت من
اهل البرهان فانظره فى مواضعه . واسمع هاهنا أقاويل هى اقنع
من أقاويل هؤلاء فانها وان لم تفدك اليقين فانها تفيدك غلبة ظن
تحركك الى وقوع اليقين بالنظر فى العلوم . [80] وذلك أن تتوهم ان كل
كرة من الاكر السماوية فهى حية من قبل انها ذوات اجسام محدودة
المقدار والشكل وانها متحركة بذاتها من جهات محدودة لا من
اى جهة اتفقت وكل ما هذا صفته فهو حى ضرورة اعنى انه اذا رأَينا
جسما محدود الكيفية والكمية يتحرك فى المكان من قبل ذاته
من جهة محدودة منه لا من قبل شىء خارج عنه ولا من اى جهة

[Page 48] اتفقت من جهاته وانه يتحرك معا الى وجهتين متقابلتين قطعنا انه
حيوان وانما قلنا لا من قبل شىء خارج لان الحديد يتحرك الى حجر
المغنيطس اذا حضره حجر المغنيطس من خارج وايضا فهو يتحرك
ايضا اليه من اى جهة اتفقت .
[81] واذا صح هذا فالاجسام السماوية فيها
مواضع هى اقطاب بالطبع لا يصح ان تكون الاقطاب منها فى غير
ذلك الموضع كما ان الحيوانات التى ههنا لها أعضاء مخصوصة فى
مواضع مخصوصة من اجسامها لافعال مخصوصة ليس يصح ان
تكون فى مواضع اخر منها مثل اعضاء الحركة فانها فى مواضع
محدودة من الحيوانات والاقطاب هى من الحيوان الكرى الشكل
بمنزلة هذه الاعضاء اعنى انها اعضاء الحركات ولا فرق بين الحيوان
الكرى الشكل فى ذلك والغير كرى الا ان هذه الاعضاء تختلف
فى الحيوان الغير كرى بالشكل والقوة وهى فى الحيوان الكرى
تختلف بالقوة فقط ولذلك ظن بها فى بادئ الراى انها لا تختلف وانه
يمكن ان يكون القطبان فى فلك اى نقطتين اتفقت . [82] فكما

[Page 49] انه لو قال قائل ان هذه الحركة فى هذا النوع من الحيوان اعنى
الذى ههنا يجوز ان تكون فيه فى اى موضع اتفق منه وان تكون
منه فى الموضع الذى هى فيه نوع آخر من الحيوان لكان اهلا ان
يضحك به لانها انما جعلت فى كل حيوان فى الموضع الاوفق لطباع
ذلك الحيوان أو فى الموضع الذى لا يمكن غيره فى حركة ذلك الحيوان
كذلك الامر فى اختلاف الاجرام السماوية فى مواضع الاقطاب
منها وذلك ان ليست الاجرام السماوية واحدة بالنوع كثيرة بالعدد
بل هى كثيرة بالنوع كاشخاص الحيوانات المختلفة وان كان ليس
يوجد إِلا شخص واحد من النوع فقط . [83] وهذا الجواب بعينه هو
الذى يقال فى جواب لِمَ كانت السماوات تتحرك الى جهات مختلفة
وذلك أن من جهة انها حيوانات لزم ان تتحرك من جهات محدودة
كالحال فى اليمين والشمال والامام والخلف التى هى جهات محدودة
بالحركات للحيوان الا انها فى الحيوانات المختلفة مختلفة بالشكل
والقوة وهى فى الاجسام السماوية مختلفة بالقوة . ولهذا ما يرى ارسطو
ان للسماء يمينا وشمالا واماما وخلفا وفوقا وأسفل فاختلاف الاجرام
السماوية فى جهات الحركات هو لاختلافها فى النوع وهو شىء يخصها

[Page 50] أعنى انه يختلف أنواعها باختلاف جهات حركاتها فتوهم الجرم
السماوى الاول حيوانا واحدا بعينه اقتضى له طبعه اما من جهة
الضرورة او من جهة الافضل ان يتحرك بجميع اجزائه حركة واحدة
من المشرق الى المغرب وسائر الافلاك اقتضت لها طبيعتها ان تتحرك
بخلاف هذه الحركة وان الجهة التى اقتضتها طبيعة جرم الكل هى
افضل الجهات لكون هذا الجرم هو افضل الاجرام والافضل فى
المتحركات واجب ان يكون له الجهة الافضل . [84] وهذا كله بين ههنا
بهذا النحو من الاقناع وهو بين فى موضعه ببرهان وهو ظاهر قوله
تعالى لا تبديل لكلمات ﷲ و لا تبديل لخلق ﷲ وان كنت
تحب ان تكون من اهل البرهان فعليك التماسه فى موضعه
[85] وانت لا يعسر عليك اذا فهمت هذا فهم خلل الحجج التى
احتج بها ابو حامد ههنا فى تماثل الحركتين المختلفتين بالاضافة الى
جرم جرم من الاجرام السماوية وبالاضافة الى ما ههنا فانه يخيل فى
بادئ الرأى ان الحركة المشرقية يمكن ان تكون لغير الفلك الاول
وانه يمكن ان يكون له الحركة المغربية وهذا كما قلنا هو مثل

[Page 51] من يخيل ان جهة الحركة فى السرطان يمكن ان تكون جهة الحركة
فى الانسان وانما لم يعرض هذا الظن فى الانسان والسرطان لموضع
اختلاف الشكل فيهما وعرض هذا فى الاكر السماوية لموضع اتفاق
الشكل . [86] ومن نظر الى مصنوع من المصنوعات لم تبن له حكمته
اذا لم تبن له الحكمة المقصودة بذاك المصنوع والغاية المقصودة منه
واذا لم يقف أصلا على حكمته أمكن ان يظن انه ممكن ان يوجد
ذلك المصنوع وهو باى شكل اتفق وباى كمية اتفقت وباى وضع
اتفق لاجزائه وباى تركيب اتفق . وهذا بعينه هو الذى اتفق
للمتكلمين مع الجرم السماوى وهذه كلها ظنون فى بادئ الرأى
وكما ان من يظن هذه الظنون فى المصنوعات هو جاهل بالمصنوعات
وبالصانع وانما عنده فيها ظنون غير صادقة كذلك الامر فى المخلوقات .
[87] فتبين هذا الاصل ولا تعجل وتحكم على مخلوقات ﷲ سبحانه
ببادئ الرأى فتكون من الذين قال فيهم سبحانه قل هل ننبئكم
بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحيوة الدنيا وهم يحسبون
انهم يحسنون صنعا جعلنا ﷲ تعالى من اهل البصائر وكشف عنا

[Page 52] حجب الجهالة انه منعم كريم . والاطلاع على الافعال الخاصة بالاجرام
السماوية هو الاطلاع على ملكوتها الذى اطلع عليه ابراهيم عليه
السلام حيث يقول سبحانه وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات
والارض وليكون من الموقنين
[88] ولننقل ههنا قول ابى حامد فى الحركات وهو هذا
قال ابو حامد والإلزام الثانى تعين جهة حركة الافلاك بعضها من المشرق الى المغرب
وبعضها بالعكس الى قوله

[Page 53] [89] قلت وأنت فلن يخفى عليك الاقناع فى هذا القول مما تقدم
والجواب عنه وان هذا كله من فعل من لم يفهم تلك الطبائع الشريفة
والافعال المحكمة التى كونت من أجلها وشبه علم ﷲ تعالى بعلم
الانسان الجاهل
[90] وقوله فان قالوا الجهتان متقابلتان متضادّتان فكيف يتساويان - قلنا هذا كقول القائل
المتقدم والمتأخر فى وجود العالم يتضادان فكيف يدعى تشابههما ولكن الذى زعموا انه يعلم
تشابه الاوقات المختلفة بالنسبة الى امكان الوجود والى كل مصلحة يتصور فرضها فى
الوجود فكذلك يعلم تساوى الاحياز والاوضاع والاماكن والجهات بالنسبة الى بلك
المصلحة
[91] هو قول ظاهر البطلان فى نفسه . فانه ان سلم ان امكان وجود
الانسان وعدمه هو على السواء فى المادة التى خلق منها الانسان وان
ذلك دليل على وجود مرجح فاعل للوجود دون العدم فليس يمكن
ان يتوهم ان امكان الابصار من العين ولا ابصار هو على السواء
وذلك انه ليس لاحد ان يدعى ان الجهات المتقابلة متماثلة ولكن له

[Page 54] ان يدعى ان القابل لهما متماثل وانه يلزم عنهما أفعال متماثلة وكذلك
المتقدم والمتأخر ليس هما متماثلين من حيث هذا متقدم و هذا متأخر
وانما يمكن ان يدعى انهما متماثلان فى قبول الوجود . [92] وهذا كله
ليس بصحيح فان الذى يلزم المتقابلات بالذات ان تكون القابلات
لها مختلفة واما ان يكون قابل فعل الاضداد واحدا فى وقت واحد
فذلك مما لا يمكن . [93] والفلاسفة لا يرون امكان وجود الشىء وعدمه
على السواء فى وقت واحد بل زمان امكان الوجود غير زمان
عدمه والوقت عندهم شرط فى حدوث ما يحدث وفى فساد ما يفسد
ولو كان زمان امكان وجود الشىء وزمان عدمه واحدا أعنى فى
مادة الشىء القريبة لكان وجوده فاسدا لامكان عدمه ولكان
امكان الوجود والعدم انما هو من جهة الفاعل لا من جهة القابل .
ولذلك من رام من هذه الجهة اثبات الفاعل فهو قول مقنع جدلى
لا برهانى وان كان يظن ب‍ابى نصر وابن سينا انهما سلكا فى اثبات ان
كل فعل له فاعل هذا المسلك وهو مسلك لم يسلكه المتقدمون وانما
اتبع هذان الرجلان فيه المتكلمين من اهل ملتنا . [94] واما بالاضافة
الى حدوث الكل عند من يرى حدوثه فليس يتصور فيه متقدم ولا

[Page 55] متأخر لان المتقدم والمتأخر فى الآنات انما يتصوران بالاضافة الى
الآن الحاضر واذا لم يكن قبل حدوث العالم عندهم زمان فكيف
يتصور أن يتقدم على الآن الذى حدث فيه العالم ولا يمكن ان يتعين
وقت لحدوث العالم لان قبله اما ان لا يكون زمان واما ان يكون
زمان لا نهاية له وعلى كلا الوجهين لا يتعين له وقت مخصوص
تتعلق به الارادة . [95] فلذلك كان هذا الكتاب أليق لفظ به كتاب
التهافت باطلاق لا تهافت الفلاسفة لان الذى يفيد الناظر هو ان
يتهافت
[96] وقوله وان ساغ لهم دعوى الاختلاف مع التشابه كان لخصومهم دعوى الاختلاف فى
الاحوال والهيئات
يريد أنه ان صح للفلاسفة دعواهم الاختلاف فى جهات الحركات
صح لخصومهم دعوى الاختلاف فى الازمنة مع اعتقادهم التشابه
فيها وهذه معاندة بحسب قول القائل لا بحسب الامر فى نفسه اذا
سلم التناسب بين الجهات المتقابلة والازمنة وقد يعاند هذا العدم
التناسب فى هذا الغير من الازمنة والجهات وللخصم ان يلزم

[Page 56] التساوى بينهما فى دعوى الاختلاف ودعوى التماثل فلذلك كانت
هذه كلها أقاويل جدلية
[97] قال ابو حامد

الاعتراض الثانى
على اصل دليلهم ان يقال استبعدتم حدوث حادث
من قديم ولا بد لكم من الاعتراف به فان فى العالم حوادث ولها أسباب فان استندت
الحوادث الى الحوادث الى غير نهاية فهو محال وليس ذلك مما يعتقده عاقل ولو كان ذلك
ممكنا لاستغنيتم عن الاعتراف بالصانع واثبات واجب وجود هو مستند المكانات واذا
كانت الحوادث لها طرف ينتهى تسلسلها اليه فيكون ذلك الطرف هو القديم فلا بد اذن
على اصلهم من تجويز صدور حادث من قديم
[98] قلت لو ان الفلاسفة ادخلوا الموجود القديم فى الوجود من قبل
الوجود الحادث على هذا النحو من الاستدلال أى لو وضعوا ان
الحادث بما هو حادث انما يصدر عن قديم لما كان لهم محيص من أن
ينفكوا عن الشك فى هذه المسئلة . [99] لكن ينبغى ان تعلم ان الفلاسفة
يجوزون وجود حادث عن حادث الى غير نهاية بالعرض اذا كان ذلك
متكررا فى مادة منحصرة متناهية مثل ان يكون فساد الفاسد

[Page 57] منهما شرطا فى وجود الثانى فقط . [100] مثال ذلك انه واجب ان يتكون
عندهم انسان عن انسان بشرط ان يفسد الانسان المتقدم حتى
يكون هو المادة التى يتكون منها الثالث مثال ذلك ان نتوهم
انسانين فعل الاول منهما الثانى من مادة انسان فاسد فلما صار الثانى
انسانا بذاته فسد الانسان الاول فصنع الانسان الثانى من مادته انسانا
ثالثا ثم فسد الانسان الثانى فصنع من مادته الانسان الثالث انسانا
رابعا فانه يمكن ان نتوهم فى مادتين تأتى الفعل الى غير نهاية من
غير ان يعرض فى ذلك محال وذلك ما دام الفاعل باقيا فان كان هذا
الفاعل لا أول لوجوده ولا آخر كان هذا الفعل لا أول لوجوده ولا
آخر كما تبين فيما سلف وكذلك يعرض ان يتوهم فيهما فى الماضى
أعنى انه متى كان انسان فقد كان قبله انسان فعله وانسان فسد
وقبل ذلك الانسان انسان فعله وانسان فسد وذلك ان كل ما
هذا شأنه اذا استند الى فاعل قديم فهو فى طبيعة الدائرة ليس يمكن
فيه كل . [101] وأما لو كان انسان عن انسان من مواد لا نهاية لها أو يمكن

[Page 58] ان يتزيد تزيدا لا نهاية له لكان مستحيلا لانه كان يمكن ان توجد
مادة لا نهاية لها فكان يمكن أن يوجد كل غير متناه لانه ان
وجد كل متناه يتزيد تزيدا لا نهاية له من غير ان يفسد شىء منه
أمكن ان يوجد كلٌّ غير متناه وهذا شىء قد بينه الحكيم فى
السماع . [102] فاذا الجهة التى منها ادخل القدماء موجودا قديما ليس بمتغير
أصلا ليس هى من جهة وجود الحادثات عنه بما هى حادثة بل بما هى
قديمة بالجنس والاحق عندهم ان يكون هذا المرور الى غير نهاية
لازما عن وجود فاعل قديم لان الحادث انما يلزم ان يكون بالذات
عن سبب حادث . [103] وأما الجهة التى من قبلها أدخل القدماء فى الوجود
موجودا أزليا واحدا بالعدد من غير ان يقبل ضربا من ضروب التغير
فجهتان احديهما انهم الفوا هذا الوجود الدورى قديما وذلك انهم ألفوا
كون الواحد الحاضر فسادا لما قبله وكذلك فساد الفاسد منهما القوه
كونا لما بعده فوجب ان يكون هذا التغير القديم عن محرك قديم
ومتحرك قديم غير متغير فى جوهره وانما هو متغير فى المكان باجزائه
أى يقرب من بعض الكائنات ويبعد فيكون ذلك سببا لفساد

[Page 59] الفاسد منهما وكون الكائن وهذا الجرم السماوى هو الموجود الغير
متغير الا فى الاين لا فى غير ذلك من ضروب التغير فهو سبب
للحوادث من جهة أفعاله الحادثة وهو من جهة اتصال هذه الافعال له
أعنى انه لا أول لها ولا آخر عن سبب لا أول له ولا آخر . [104] والوجه
الثانى الذى من قبله أدخلوا موجودا قديما ليس بجسم أصلا ولا ذى
هيولى هو انهم وجدوا جميع أجناس الحركات ترتقى الى الحركة فى
المكان ووجدوا الحركة فى المكان ترتقى الى متحرك من ذاته عن
محرك اول غير متحرك أصلا لا بالذات ولا بالعرض والا وجدت
محركات متحركات معا غير متناهية وذلك مستحيل فيلزم ان
يكون هذا المحرك الاول أزليا والا لم يكن أولا . [105] واذ كان ذلك
كذلك فكل حركة فى الوجود فهى ترتقى الى هذا المحرك بالذات
لا بالعرض وهو الذى يوجد مع كل متحرك فى حين ما يتحرك وأما
كون محرك قبل محرك مثل انسان يولد انسانا فذلك بالعرض لا
بالذات وأما المحرك الذى هو شرط فى وجود الانسان من أول
تكوينه الى آخره بل من أول وجوده الى انقضاء وجوده فهو هذا

[Page 60] المحرك وكذلك وجوده هو شرط فى وجود جميع الموجودات وشرط
فى حفظ السماوات والارض وما بينهما . وهذا كله ليس يتبين فى
هذا الموضع ببرهان ولكن باقوال هى من جنس هذا القول وهى
أقنع من أقوال الخصوم عند من انصف
[106] وان تبين لك هذا فقد استغنيت عن الانفصال الذى ينفصل
به أبو حامد عن خصماء الفلاسفة فى توجه الاعتراض عليهم فى هذه
المسئلة فانها انفصالات ناقصة لانه اذا لم يتبين الجهة التى من قبلها
ادخلوا موجودا أزليا فى الوجود لم يتبين وجه انفصالهم عن وجود
الحادث عن الازلى وذلك هو كما قلنا بتوسط ما هو أزلى فى جوهره
كائن فاسد فى حركاته الجزئية لا فى الحركة الكلية الدورية أو
بتوسط ما هو من الافعال أزلى بالجنس أى ليس له أول ولا آخر
[107]    فقول ابى حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل نحن لا نُبعد صدور حادث من قديم أى حادث كان بل نبعد صدور حادث
من قديم هو اول الحوادث من القديم اذ لا يفارق حالة الحدوث ما قبله فى ترجيح جهة

[Page 61] الوجود لا من حيث حضور وقت ولا آلة ولا شرط ولا طبيعة ولا غرض ولا سبب من
الاسباب يجدد حالة وأما اذا لم يكن هو الحادث الاول جاز ان يصدر منه عند حدوث
شىء آخر من استعداد المحل القابل وحضور الوقت الموافق أو ما جرى هذا المجرى
[108] ولما أورد ابو حامد عنهم هذا الجواب قال مجيبا لهم
اما السؤال فى حصول الاستعداد وحضور الوقت وكلما يتجدد فيه فقائم فإِما ان
يتسلسل الى غير نهاية أو ينتهى الى قديم يكون أول حادث منه
[109] قلت هذا السؤال هو الذى سألهم أولا عنه وهذا النوع من
الالزام هو الذى ألزمهم منه ان يصدر حادث عن قديم ولما جاوب
عنهم بجواب لا يطابق السؤال وهو تجويز حادث عن قديم لا حادث
أول أعاد عليهم السؤال مرة ثانية . [110] والجواب عن هذا السؤال هو
ما تقدم من وجه صدور الحادث عن القديم الاول لا بما هو حادث
بل بما هو أزلى من جهة انه أزلى بالجنس حادث بالاجزاء وذلك ان
كل فاعل قديم عندهم ان صدر عنه حادث بالذات فليس هو القديم
الاول عندهم وفعله عندهم مستند الى القديم الاول أعنى حضور

[Page 62] شرط فعل القديم الذى ليس باول يستند الى القديم الاول على الوجه
الذى يستند المحدث الى القديم الاول وهو الاستناد الذى هو
بالكل لا بالاجزاء
[111] ثم أتى بجواب عن الفلاسفة بان صور بعض التصوير مذهبهم
ومعناه انما يتصور حادث عن قديم الا بواسطة حركة دورية تشبه
القديم من جهة انها لا أول لها ولا آخر وتشبه الحادث بان كل جزء
منها يتوهم فهو كائن فاسد فتكون هذه الحركة بحدوث اجزائها
مبدأ للحوادث وتكون بازلية كليتها فعلا للازلى
[112] ثم قال فى الاعتراض على هذا النحو الذى من قبله صدور
الحادث عن القديم الاول على مذهب الفلاسفة فقال لهم
الحركة الدورية أحادثة هى أم قديمة فان كانت قديمة فكيف صارت مبدأ
الحوادث وان كانت حادثة افتقرت الى حادث وتسلسل الامر . وقولكم انها من

[Page 63] وجه تشبه القديم ومن وجه تشبه الحادث فتشبه القديم من جهة انها ثابتة وتشبه الحادث
من جهة انها متجددة فنقول أهى مبدأ الحوادث من جهة انها ثابتة أم من حيث
انها متجددة فان كانت من حيث انها ثابتة فكيف صدر شىء حادث عن شىء من حيث
هو ثابت وان كان صدر عنه من حيث هو متجدد فهو يحتاج الى ما يوجب التجدد
وتسلسل ذاك
هذا معنى قوله
[113] وهو قول سفسطانى فانه لم يصدر عنها الحادث من جهة ما هى
ثابتة وانما صدر عنها من حيث هى متجددة الا انها لم تحتج الى سبب
مجدد محدث من جهة ان تجددها ليس هو محدثا وانما هو فعل قديم
أى لا أول له ولا آخر فوجب ان يكون فاعل هذا هو فاعل قديم
لان الفعل القديم لفاعل قديم والمحدث لفاعل محدث والحركة انما
يفهم من معنى القدم فيها أنها لا أول لها ولا آخر وهو الذى يفهم
من ثبوتها فان الحركة ليست ثابتة وانما هى متغيرة
[114] فلما شعر ابو حامد بهذا قال

[Page 64] [115] قال ابو حامد

الدليل الثانى لهم فى المسئلة

زعموا ان القائل بان العالم متأخر عن ﷲ وﷲ متقدم عليه ليس يخلو اما ان يريد به
انه متقدم بالذات لا بالزمان كتقدم الواحد على الاثنين فانه بالطبع مع انه يجوز ان يكون
معه فى الوجود الزمانى وكتقدم العلة على المعلول مثل تقدم حركة الشخص على حركة الظل
التابع له وحركة اليد مع حركة الخاتم وحركة اليد فى الماء مع حركة الماء فانها متساوية فى
الزمان وبعضها علة وبعضها معلول اذ يقال تحرك الظل بحركة الشخص وتحرك الماء بحركة
اليد فى الماء ولا يقال تحرك الشخص بحركة الظل وتحرك اليد بحركة الماء وان كانت متساوية .
فان أريد بتقدم البارى على العالم هذا لزم أن يكونا حادثين أو قديمين واستحال أن
يكون أحدهما حادثا والآخر قديما . وان أريد به أن البارى متقدم على العالم والزمان لا
بالذات بل بالزمان فاذًا قبل وجود العالم والزمان زمان كان العالم فيه معدوما اذ كان العدم
سابقا على الوجود وكان ﷲ سابقا بمدة مديدة لها طرف من جهة الآخر ولا طرف لها من
جهة الاول فاذا قبل الزمان زمان لا نهاية له وهو متناقض ولأجله يستحيل القول بحدوث
الزمان واذا وجب قدم الزمان وهو عبارة عن قدر الحركة وجب قدم الحركة واذا
وجب قدم الحركة وجب قدم المتحرك الذى يدوم الزمان بدوام حركته
[116] قلت اما مساق القول الذى حكاه عنهم فليس ببرهان وذلك ان
حاصله هو ان البارى سبحانه إِن كان متقدما على العالم فاما ان
يكون متقدما بالسببية لا بالزمان مثل ما تقدم الشخص ظله واما
ان يكون متقدما بالزمان مثل تقدم البنّاء على الحائط فان كان

[Page 65] متقدما تقدم الشخص ظله والبارى قديم فالعالم قديم وان كان
متقدما بالزمان وجب ان يكون متقدما على العالم بزمان لا اول له
فيكون الزمان قديما لانه اذا كان قبل الزمان زمان فلا يتصور
حدوثه واذا كان الزمان قديما فالحركة قديمة لان الزمان لا يفهم
الا مع الحركة واذا كانت الحركة قديمة فالمتحرك بها قديم والمحرك
لها ضرورة قديم . [117] وانما كان هذا البرهان غير صحيح لان البارى
سبحانه ليس مما شأنه ان يكون فى زمان والعالم شأنه ان يكون فى
زمان فليس يصدق عند مقايسة القديم الى العالم انه اما ان يكون
معا واما ان يكون متقدما عليه بالزمان والسببية لان القديم ليس
مما شأنه ان يكون فى زمان والعالم شانه ان يكون فى زمان
[118] الاعتراض قال أبو حامد والاعتراض هو ان يقال الزمان حادث مخلوق وليس
قبله زمان أصلا ومعنى قولنا ان ﷲ متقدم على العالم والزمان انه كان ولا عالم ولا زمان ثم
كان ومعه عالم وزمان ومعنى قولنا كان ولا عالم وجود ذات البارى سبحانه وعدم

[Page 66] ذات العالم فقط ومعنى قولنا كان ومعه عالم وجود الذاتين فقط ومعنى التقدم انفراده
بالوجود فقط والعالم كشخص واحد ولو قلنا كان ﷲ ولا عيسى مثلا ثم كان وعيسى
لم يتضمن اللفظ الا وجود ذات وعدم ذات ثم وجود ذاتين وليس من ضرورة ذلك تقدير
شىء ثالث وهو الزمان وان كان الوهم لا يسكن عن تقدير شىء ثالث وهو الزمان
فلا التفات الى أغاليط الاوهام
[119] قلت هذا قول مغالطى خبيث . فانه قد قام البرهان ان ههنا
[120] نوعين من الوجود أحدهما فى طبيعة الحركة وهذا لا ينفك عن
الزمان والآخر ليس فى طبيعة الحركة وهذا ازلى وليس يتصف
بالزمان أما الذى فى طبيعة الحركة فموجود معلوم بالحس والعقل واما
الذى ليس فى طبيعة الحركة ولا التغير فقد قام البرهان على وجوده
عند كل من يعترف بان كل متحرك له محرك وكل مفعول له فاعل
وان الاسباب المحركة بعضها بعضا لا تمر الى غير نهاية بل تنتهى
الى سبب اول غير متحرك أصلا . [ وقام البرهان ايضا على ان الذى

[Page 67] ليس فى طبيعة الحركة هو العلة فى الموجود الذى فى طبيعة
الحركة ] وقام ايضا البرهان على ان الموجود الذى فى طبيعة
الحركة ليس ينفك عن الزمان وان الموجود الذى ليس فى طبيعة
الحركة ليس يلحقه الزمان اصلا واذا كان ذلك كذلك فتقدم أحد
الموجودين على الآخر أعنى الذى ليس يلحقه الزمان ليس تقدما
زمانيا ولا تقدم العلة على المعلول اللذين هما من طبيعة الموجود
المتحرك مثل تقدم الشخص على ظله .
[121] ولذلك كل من شبه تقدم
الموجود الغير متحرك على المتحرك بتقدم الموجودين المتحركين
أحدهما على الثانى فقد أخطأ وذلك ان كل موجودين من هذا الجنس
هو الذى اذا اعتبر أحدهما بالثانى صدق عليه انه اما ان يكون معا
واما متقدما عليه بالزمان أو متأخرا عنه والذى سلك هذا المسلك
من الفلاسفة هم المتأخرة من أهل الاسلام لقلة تحصيلهم لمذهب
القدماء فاذًا تقدم احد الموجودين على الآخر هو تقدم الوجود

[Page 68] الذى هو ليس بمتغير ولا فى زمان على الوجود المتغير الذى فى الزمان
وهو نوع آخر من التقدم واذا كان ذلك كذلك فلا يصدق على
الوجودين لا أنهما معا ولا ان أحدهما متقدم على الآخر . [122] فقول
ابو حامد ان تقدم البارى سبحانه على العالم ليس تقدما زمانيا
صحيح . [123] لكن ليس يفهم تأخر العالم عنه اذا لم يكن تقدمه زمانيا
الا تأخر المعلول عن العلة لان التاخر يقابل التقدم والمتقابلان هما
فى جنس واحد ضرورة على ما تبين فى العلوم فاذا كان التقدم ليس
زمانيا فالتاخر ليس زمانيا ويلحق ذلك أيضا الشك المتقدم وهو
كيف يتاخر المعلول عن العلة التى استوفت شروط الفعل . [124] واما
الفلاسفة فلما وضعوا الموجود المتحرك ليس لكليته مبدأ لم يلزمهم
هذا الشك وأمكنهم ان يعطوا جهة صدور الموجودات الحادثة عن
موجود قديم . ومن حجتهم فى ان الموجود المتحرك ليس له مبدأ
ولا حادث لكليته انه متى وضع حادثا وضع موجودا قبل أن يوجد
فان الحدوث حركة والحركة ضرورة فى متحرك سواء وضعت
الحركة فى زمان أو فى الآن وأيضا فان كل حادث فهو ممكن

[Page 69] الحدوث قبل ان يحدث وان كان المتكلمون ينازعون فى هذا الاصل
فسياتى الكلام معهم فيه والامكان لا حق ضرورى من لواحق
الموجود المتحرك فيلزم ضرورة إِن وضع حادثا ان يكون موجودا
قبل أن يوجد وهذا كله كلام جدلى فى هذا الموضع ولكنه أقنع
من كلام القوم
[125] فقول ابى حامد ولو كان ﷲ ولا عيسى مثلا ثم كان ﷲ وعيسى لم يتضمن اللفظ الا وجود
ذات وعدم ذات ثم وجود ذاتين وليس من ضرورة ذلك تقدير شىء ثالث وهو الزمان
صحيح . [126] الا انه يجب ان يكون تأخره عنه ليس تأخرا زمانيا بالذات
بل ان كان فبالعرض اذ كان المتأخر فتقدمه الزمان أعنى من
ضرورة وجوده تقدم الزمان وكونه محدثا والعالم لا يعرض له مثل
هذا ضرورة الا ان كان جزءًا من متحرك يفضل الزمان عليه من
طرفيه كما عرض لموسى وسائر الاشخاص الكائنة الفاسدة وهذا
كله ليس يبين ههنا ببرهان وانما الذى يتبين ههنا ان المعاندة غير
صحيحة
وما حكاه بعد من حجة الفلاسفة فليس بصحيح

[Page 70] [127] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل لقولنا كان ﷲ تعالى ولا عالم مفهوم ثالث سوى وجود الذات وعدم
العالم بدليل انا لو قدّرنا عدم العالم فى المستقبل كان وجود ذات وعدم ذات حاصلا ولم يصح
ان يقال كان ﷲ ولا عالم بل الصحيح ان يقال يكون ﷲ ولا عالم ويقال للماضى كان
ﷲ ولا عالم فبين قولنا كان ويكون فرق اذ ليس ينوب احدهما مناب الآخر فلنبحث عما
يرجع اليه الفرق ولا شك انهما لا يفترقان فى وجود الذات ولا فى عدم العالم بل فى معنى
ثالث فانا اذا قلنا لعدم العالم فى المستقبل كان ﷲ ولا عالم قيل لنا هذا خطأ فانّ كان انما
تقال على ماضٍ فدل على ان تحت لفظ كان مفهومًا ثالثً وهو الماضى والماضى بذاته هو
الزمان و الماضى بغيره هو الحركة فانها تمضى بمضى الزمان فبالضرورة يلزم أن يكون قبل
العالم زمان قد انقضى حتى انتهى الى وجود العالم
[128] قلت حاصل هذا الكلام ان يعرفهم ان فى قول القائل كان كذا
ولا كذا ثم كان كذا وكذا مفهوما ثالثا وهو الزمان وهو الذى
يدل عليه لفظ كان بدليل اختلاف المفهوم فى هذا المعنى فى الماضى
والمستقبل وذلك انه اذا قدرنا وجود شىء ما مع عدم آخر قلنا كان
ولا كذا واذا قدرنا عدمه مع وجوده فى المستقبل قلنا يكون كذا

[Page 71] ولا كذا فتغير المفهومين يقتضى أن يكون ههنا معنى ثالث ولو
كان قولنا كان كذا ولا كذا لا يدل لفظ كان على معنى لكان
لا يفرق قولنا كان ويكون . [129] وهذا الذى قاله كله بين بنفسه
لكن هذا لا شك فيه عند مقايسة الموجودات بعضها الى بعض
فى التقدم والتأخر اذا كانت مما شأنها أن تكون فى زمان فاما اذا
لم تكن فى زمان فان لفظ كان وما اشبهه ليس يدل فى امثال هذه
القضايا الا على رباط الخبر بالمخبر مثل قولنا وكان ﷲ غفورا رحيما
وكذلك ان كان احدهما فى زمان والآخر ليس فى زمان مثل قولنا
كان ﷲ ولا عالم ثم كان ﷲ والعالم فلذلك لا يصح فى مثل هذه
الموجودات هذه المقايسة التى تمثل بها . [130] وانما تصح المقايسة صحة لا
شك فيها اذا ما قسنا عدم العالم مع وجوده لان عدمه مما يجب أن
يكون فى زمان ان كان العالم وجوده فى زمان فاذا لم يصح ان يكون
عدم العالم فى وقت وجود العالم نفسه فهو ضرورة قبله والعدم يتقدم
عليه والعالم متأخر عنه لان المتقدم والمتأخر فى الحركة لا يفهمان الا

[Page 72] مع الزمان . [131] والذى يدخل هذا القول من الاختلال هو ان اخذت
المقايسة بين ﷲ والعالم فمن هذه الجهة فقط يبطل هذا القول ولا
يكون برهانا أعنى الذى حكاه عن الفلاسفة
[132] ثم قال ابو حامد مجيبا للفلاسفة عن المتكلمين فى معارضة هذا القول
قلنا المفهوم الاصلىّ من اللفظين وجود ذات وعدم ذات . والامر الثالث الذى فيه
افتراق اللفظين نسبة لازمة بالاضافة الينا بدليل انّا لو قدّرنا عدم العالم فى المستقبل ثم قدرنا
لنا بعد ذلك وجودا ثانيا لكُنّا عند ذلك نقول كان ﷲ ولا عالم ويصح قولنا سواء
اردنا به العدم الاول أو العدم الثانى الذى هو بعد الوجود وآية ان هده نسبة ان المستقبل
يجوز أن يصير ماضيا فيعبّر عنه بلفظ الماضى . وهذا كله لعجز الوهم عن توهم موجود
مبتدأ إِلا مع تقدير قبل له وذلك القبل الذى لا ينفك الوهم عنه يظن أنه شىء محقق موجود
هو الزمان . وهو كعجز الوهم عن أن يقدّر تناهى الجسم فى جانب الرأس مثلًا الا على
سطح له فوق فيتوهم ان وراء العالم مكانا اما ملاء واما خلاء واذا قيل ليس فوق سطح
العالم فوق ولا بعد ابعد منه امتنع الوهم من الاذعان لقبوله كما اذا قيل ليس قبل وجود
العالم قبل هو وجود محقق نفر عن قبوله وكما جاز أن يكذب الوهم فى تقديره فوق
العالم خلاء هو بعد لا نهاية له بان يقال له الخلاء ليس مفهوما فى نفسه وأما البعد فهو

[Page 73] تابع للجسم الذى تتباعد أقطاره فاذا كان الجسم متناهيا كان البعدالذى هو تابع له
متناهيا وانقطع الملاء والخلاء غير مفهوم فثبت ان ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء وان
كان الوهم لا يذعن لقبوله . فكذلك يقال كما ان البعد المكانى تابع للجسم فكذلك البعد
الزمانى تابع للحركة فانه امتداد الحركة كما ان ذلك امتداد اقطار الجسم وكما ان قيام
الدليل على تناهى اقطار الجسم منع من اثبات بعد مكانى وراءَه فقيام الدليل على تناهى
الحركة من طرفيه يمنع من تقدير بعد زمانى وراءه وإِن كان الوهم متشبثًا بخياله
وتقديره ولا يرعوى عنه ولا فرق بين البعد الزمانى الذى تنقسم العبارة عنه عند الاضافة
الى قبل وبَعد وبين البعد المكانى الذى تنقسم العبارة عنه عند الاضافة الى فوق وتحت
فان جاز اثبات فوق لا فوق فوقه جاز اثبات قبل ليس قبله قبل محقّق، الا خيال وهمى
كما فى الفوق وهذا لازم فليتأمل فانهم اتفقوا على أن ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء
[133] قلت حاصل هذا القول معاندتان
احديهما ان توُّهم الماضى والمستقبل اللذين هما القبل والبعد
هما شيئان موجودان بالقياس الى وهمنا اذ قد يمكننا ان نتخيل
مستقبلا صار ماضيا وماضيا كان قبل مستقبلا واذا كان ذلك
كذلك فليس الماضى والمستقبل من الاشياء الموجودة بذاتها ولا لها
خارج النفس وجود وانما هى شىء تفعله النفس فاذا بطل وجود

[Page 74] الحركة يبطل مفهوم هذه النسبة والمقايسة
[134] والجواب ان تلازم الحركة والزمان صحيح وان الزمان هو
شىء يفعله الذهن فى الحركة لكن الحركة ليست تبطل ولا الزمان
لانه ليس يمتنع وجود الزمان الا مع الموجودات التى لا تقبل الحركة
وأما وجود الموجودات المتحركة أو تقدير وجودها فيلحقها الزمان
ضرورة فانه ليس ههنا الا موجودان موجود يقبل الحركة و موجود
ليس يقبل الحركة وليس يمكن ان ينقلب أحد الموجودين الى صاحبه
الا لو أمكن ان ينقلب الضرورى ممكنا فلو كانت الحركة غير
ممكنة ثم وجدت لوجب ان تنقلب طبيعة الموجودات التى لا تقبل
الحركة الى طبيعة التى تقبل الحركة وذلك مستحيل . [135] وانما كان
ذلك كذلك لان الحركة هى فى شىء ضرورة فلو كانت الحركة
ممكنة قبل وجود العالم فالاشياء القابلة هى فى زمان ضرورة لان
الحركة انما هى ممكنة فيما يقبل السكون لا فى العدم لان العدم
ليس فيه امكان أصلا الا لو أمكن ان يتحول العدم وجودا ولذلك
لا بد للحادث من ان يتقدمه العدم ولا بد ان يقتحرن عدم الحادث

[Page 75] بموضوع يقبل وجود الحادث ويرتفع عنه العدم كالحال فى سائر
الاضداد وذلك ان الحار اذا صار باردا فليس يتحول جوهر الحرارة
برودة وانما يتحول القابل للحرارة والحامل لها من الحرارة الى
البرودة
[136] واما العناد الثانى وهو أقوى هذه العنادات فانه سفسطانى خبيث
وحاصله ان توهم القبلية قبل ابتداء الحركة الاولى التى لم يكن قبلها
شىء متحرك هو مثل توهم الخيال ان آخر جسم العالم وهو الفوق مثلًا
ينتهى ضرورة إِما الى جسم آخر وإِما الى خلاء وذلك ان البعد هو شىء
يتبع الجسم كما ان الزمان هو شىء يتبع الحركة فان امتنع ان يوجد
جسم لا نهاية له امتنع بعد غير متناه واذا امتنع أن يوجد بعد غير
متناه امتنع ان ينتهى كل جسم الى جسم آخر أو الى شىء يقدر فيه
بعد وهو الخلاء مثلا ويمر ذلك الى غير نهاية وكذلك الحركة
والزمان هو شىء تابع لها فان امتنع ان توجد حركة ماضية غير
متناهية وكانت ههنا حركة أولى متناهية الطرف من جهة الابتداء
امتنع ان يوجد لها قبل اذ لو وجد لها قبل لوجدت قبل الحركة
الاولى حركة أخرى

[Page 76] [137] وهذه المعاندة هى كما قلنا خبيثة وهى من مواضع الابدال
المغلطة ان كنت قرأت كتاب السفسطة وذلك هو الحكم للكم
الذى لا وضع له ولا يوجد فيه كل وهو الزمان والحركة كحكم
الكم الذى له وضع وكل وهو الجسم وجعل امتناع عدم التناهى
فى الكم ذى الوضع دليلا على امتناعه فى الكم الذى لا وضع له
وجعل فعل النفس فى توهم الزيادة على ما كان يفرض بالفعل منهما
من باب واحد وذلك غلط بين فان توهم الزيادة على العظم الموجود
بالفعل وانه يجب ان ينتهى الى عظم آخر ليس هو شيئاً موجودًا فى
جوهر العظم ولا فى حده . وأما توهم القبلية والبعدية فى الحركة
المحدثة فشىء موجود فى جوهرها فانه ليس يمكن أن تكون حركة
محدثة الا فى زمان أعنى ان يفضل الزمان على ابتدائها. [138] وكذلك لا
يمكن ان يتصور زمان له طرف ليس هو نهاية لزمان آخر اذ كان حد
الآن انه الشىء الذى هو نهاية للماضى ومبدأ للمستقبل لان الآن
هو الحاضر والحاضر هو وسط ضرورة بين الماضى والمستقبل وتصور
حاضر ليس قبله ماض هو محال وليس كذلك الامر فى النقطة لان

[Page 77] النقطة نهاية الخط وتوجد معه لان الخط ساكن فيمكن ان تتوهم
نقطة هى مبدأ لخط وليست نهاية لآخر والآن ليس يمكن ان يوجد
لا مع الزمان الماضى ولا مع المستقبل فهو ضرورة بعد الماضى وقبل
المستقبل وما لا يمكن فيه ان يكون قائماً بذاته فليس يمكن ان
يوجد قبل وجود المستقبل من غير ان يكون نهاية لزمان ماض
فسبب هذا الغلط تشبيه الآن بالنقطة .
[139] وبرهان ان كل حركة محدثة
قبلها زمان ان كل حادث لا بد ان يكون معدوماً وليس يمكن ان
يكون فى الآن الذى يصدق عليه انه حادث معدوماً فبقى ان
يصدق عليه انه معدوم فى آن آخر غير الآن الذى يصدق عليه فيه
انه وجد وبين كل آنين زمان لانه لا يلى آن آنا كما لا تلى نقطة نقطة
وقد تبين ذلك فى العلوم فاذًا قبل الآن الذى حدثت فيه الحركة
زمان ضرورة لانه متى تصورنا آنين فى الوجود حدث بينهما زمان
ولا بد . [140] فالفوق لا يشبه القبل كما قيل فى هذا القول ولا الآن
يشبه النقطة ولا الكم ذو الوضع يشبه الذى لا وضع له فالذى يجوز
وجود آن ليس بحاضر او حاضر ليس قبله ماض فهو يرفع الزمان

[Page 78] والآن بوضعه آنا بهذه الصفة ثم يضع زمانا ليس له مبدأ فهذا الوضع
يبطل نفسه ولذلك ليس يصح ان ينسب وجود القبلية فى كل حادث
الى الوهم لان الذى يرفع القبلية يرفع المحدث . والذى يرفع ان يكون
للفوق فوق بعكس هذا لانه يرفع الفوق المطلق واذا ارتفع الفوق
المطلق ارتفع الاسفل المطلق واذا ارتفع هذان ارتفع الثقيل
والخفيف وليس فعل الوهم فى الجسم المستقيم الابعاد انه يجب ان
ينتهى الى جسم غيره باطلا بل هو واجب فان المستقيم الابعاد يمكن
فيه الزيادة وما يمكن فيه الزيادة فليس له حد بالطبع ولذلك وجب
ان تنتهى الاجسام المستقيمة الى محيط جسم كرى اذ كان هو
التام الذى لا يمكن فيه زيادة ولا نقصان ولذلك متى طلب
الذهن ان يتوهم فى الجسم الكرى انه يجب ان ينتهى الى شىء
غيره فقد توهم باطلا وهذه كلها أمور ليست محصلة عند المتكلمين
ولا عند من لم يشرع فى النظر على الترتيب الصناعى . [141] وأيضًا ليس
يتبع الزمان الحركة على ما تتبع النهاية العظم لان النهاية تتبع
العظم من قبل انها موجودة فيه كما يوجد العرض فى موضوعه

[Page 79] المتشخص بشخصه والمشار اليه بالاشارة الى موضوعه وكونه
موجودا فى المكان الذى فيه موضوعه . [142] وليس الامر كذلك فى لزوم
الزمان والحركة . بل لزوم الزمان عن الحركة أشبه شىء بلزوم العدد
عن المعدود أعنى انه كما لا يتعين العدد بتعين المعدود ولا يتكثر
بتكثره كذلك الامر فى الزمان مع الحركات ولذلك كان الزمان
واحدا لكل حركة ومتحرك وموجودًا فى كل مكان حتى لو توهمنا
قوماً حبسوا منذ الصبا فى مغارة من الارض لكنا نقطع ان هؤلاء
يدركون الزمان وإِن لم يدركوا شيئاً من الحركات المحسوسات
التى فى العالم . [143] ولذلك ما يرى ارسطو ان وجود الحركات فى الزمان
هى أشبه شىء بوجود المعدودات فى العدد وذلك ان العدد لا
يتكثر بتكثر المعدودات ولا يتعين له موضع بتعين مواضع
المعدودات ويرى ان لذلك كانت خاصته تقدير الحركات وتقدير
وجود الموجودات المتحركة من جهة ما هى متحركة كما يقدر
العدد اعيانها ولذلك يقول ارسطو فى حد الزمان انه عدد الحركة

[Page 80] بالمتقدم والمتأخر الذى فيها . [144] واذا كان هذا هكذا فكما انه ان فرضنا
معدودا ما حادثا ليس يلزم ان يكون العدد حادثا بل واجب ان كان
معدودا ان يكون قبله عدد كذلك واجب ان كان ههنا حركة
حادثة ان يكون قبلها زمان ولو حدث الزمان بوجود حركة مشار
اليها أى حركة كانت لكان الزمان انما يدرك مع تلك الحركة . فهذا
يفهم لك ان طبيعة الزمان أبعد شىء من طبيعة العظم
[145] قال ابو حامد مجيباً عن الفلاسفة
فان قيل هذه الموازنة معوجُّة لان العالم ليس له فوق ولا تحت لانه كرىّ وليس للكرة
فوق ولا تحت بل إِن سميت جهة فوقًا من حيث انها تلى رأسك والاخرى تحتا من حيث
انها تلى رجلك فهو اسم تجددله بالاضافة اليك والجهة التى هى تحت بالاضافة اليك هى
فوق بالاضافة الى غيرك اذا قدرته على الجانب الآخر من كرة الارض واقفا يحاذى أخمص
قدمه أخمص قدمك بل الجهة التى تقدرها فوقك من اجزاء السماء نهارا هو بعينه تحت
الارض ليلا وما هو تحت الارض يعود الى فوق الارض بالدور . وأما الاول لوجود العالم
لا يتصور ان ينقلب آخرا . وهو كما لو قدرنا خشبة أحد طرفيها غليظ والآخر رقيق
واصطلحنا على أن نسمى الجهة التى تلى الرقيق فوقا الى حيث ينتهى والجانب الآخر تحتًا لم
يظهر بهذا اختلاف ذاتى فى اجزاء العالم بل هى أسامى مختلفة قيامها بهيئة هذه الخشبة
حتى لو عكس وضعها لا نعكس الاسم والعالم لم يتبدل فالفوق والتحت نسبة محضة اليك

[Page 81] لا تختلف أجزاء العالم وسطوحه فيه وأما العدم المتقدم على العالم والنهاية الاولى لوجوده
فموجود ذاتى لا يتصور أن يتبدل فيصير آخرَا ولا العدم المقدر عند فناء العالم الذى هو
عدم لا حق يتصور ان يصير سابقا فطرفا نهاية وجود العالم الذى أحدهما أول والثانى آخر
طرفان ذاتيان ثابتان لا يتصور التبدّل فيهما بتبدّل الاضافة اليهما بخلاف الفوق والتحت
فاذًا امكننا ان نقول ليس للعالم فوق ولا تحت ولا يمكنكم أن تقولوا ليس لوجود
العالم قبل ولا بعد واذا ثبت القبل والبعد فلا معنى للزمان سوى ما يعبر عنه بالقبل والبعد
[146] قلت هذا الكلام الذى هو جواب عن الفلاسفة فى نهاية
السقوط وذلك ان حاصله ان الفوق والاسفل هما أمران مضافان
فلذلك عرض لهما التسلسل الوهمى واما التسلسل الذى فى القبل
والبعد فليس وهميا اذ لا اضافة هنالك وانما هو عقلى ومعنى هذا ان
الفوق المتوهم للشىء يمكن ان يتوهم سفلا لذلك الشىء والسفل
يمكن ان يتوهم فوقا وليس العدم الذى قبل الحادث وهو المسمى
قبلا يمكن ان يتوهم العدم الذى بعد الحادث المسمى بعدا . [147] فان

[Page 82] الشك بعد هذا باق عليهم لان الفلاسفة يرون ان ههنا فوقا بالطبع
وهو الذى يتحرك اليه الخفيف وأسفل بالطبع وهو الذى يتحرك اليه
الثقيل والا كان الثقيل والخفيف بالاضافة والوضع وترى ان نهاية
الجسم الذى هو فوق بالطبع يعرض له فى التخيل انتهاء اما الى خلاء
أو ملاء . [148] فهذا الدليل انما انكسر فى حق الفلاسفة من وجهين أحدهما
انهم يضعون فوقا باطلاق وأسفلا باطلاق ولا يضعون أولا باطلاق
ولا آخرا باطلاق . والثانى ان لخصومهم ان يقولوا انه ليس العلة فى
تخيل ان للفوق فوقا ومرور ذلك الى غير نهاية كونه مضافا بل انما
عرض ذلك للتخيل من قبل انه لم يشاهد عظما الا متصلا بعظم كما
لم يشاهد شيئا محدثا الا وله قبل
[149] ولذلك انتقل أبو حامد من لفظ الفوق والاسفل الى الوراء
والخارج فقال مجيباً للفلاسفة
قلنا لا فرق فانه لا غرض فى تعيين لفظ الفوق والتحت بل نعدل الى لفظ الوراء
والخارج ونقول للعالم داخل وخارج الى قوله فهذا هو سبب الغلط

[Page 83] [150] فانكسر بهذه النقلة ما عاند به الفلاسفة من تشبيه النهاية فى
الزمان بالنهاية فى العظم ونحن فقد بينا وجه الغلط فى ذلك التشبيه
بما فيه مقنع وبينا انها معاندة سفسطانية فلا معنى لاعادة القول فى
ذلك
[151] قال ابو حامد
صيغة ثانية لهم فى الزام قدم الزمان
قالوا لا شك عندكم فى ان ﷲ تعالى كان قادرا على ان يخلق العالم قبل ان خلقه بقدر سنة
ومائة سنة وألف سنة او ما لا نهاية له وان هذه التقديرات متفاوتة فى المقدار والكمية فلا

[Page 84] بد من اثبات شىء قبل وجود العالم ممتدّ مقدّر بعضه أمدّ وأطول من البعض فلا بد من
اثبات شىء من قبل وجود العالم الى قوله فاذا قبل العالم عندكم شىء ذو كمية متفاوتة
وهو الزمان فقبل العالم عندكم زمان
[152] قلت حاصل هذا القول انه متى توهمنا حركة وجدنا معها امتدادا
مقدِّرا لها كانه مكيال لها والحركة مكيلة له ونجد هذا المكيال
والامتداد يمكن ان نفرض فيه حركة اطول من الحركة المفروضة
الاولى وبما يساويها ويطابقها من هذا الامتداد نقول ان الحركة

[Page 85] الواحدة أطول من الثانية . [153] واذا كان ذلك كذلك وكان العالم له
امتداد ما عندكم من أوله الى الآن فلنفرض مثلا ان ذلك هو ألف
سنة ولان ﷲ تعالى هو قادر عند كم على ان يخلق قبل هذا العالم عالما
آخر يكون الامتداد الذى يقدره أطول من الامتداد الذى يقدر
العالم الاول بمقدار محدود وكذلك يمكن ان يخلق قبل هذا الثانى
ثالثا وكل واحد من هذه العوالم يجب ان يتقدم وجوده امتداد يمكن
ان يقدر به مقدار وجوده . [154] واذا كان هذا الامكان فى العوالم يمر
الى غير نهاية أى يمكن ان يكون قبل العالم عالم وقبل ذلك العالم
عالم ويمر الامر الى غير النهاية فهنا امتداد مقدم على جميع هذه
العوالم وهذا الامتداد المقدر لجميعها ليس يمكن ان يكون عدما
فان العدم ليس بمقدر ولا يكون الا كما ضرورة فان مقدر الكم

[Page 86] ضرورة كم فهذا الكم المقدر هو الذى نسميه الزمان . [155] وهو يظهر انه
متقدم بالوجود على كل شىء يتوهم حادثا كما ان الكيل ينبغى ان
يكون متقدما على المكيل فى الوجود وكما انه لو كان هذا الامتداد
الذى هو الزمان حادثا بحدوث حركة أولى لوجب ان يكون قبلها
امتداد هو المقدر له وفيه كان يحدث وهو كالكيل لها كذلك يجب
ان يكون قبل كل عالم يتوهم وجوده امتداد يقدره فاذًن ليس هذا
الامتداد حادثا لانه لو كان حادثا لكان له امتداد يقدره لان كل
حادث له امتداد يقدره هو الذى يسمى الزمان
[156] فهذا هو أوفق الجهات التى يخرج عليها هذا القول وهى طريقة
ابن سينا فى اثبات الزمان لكن فى تفهمها عسر من قبل انه مع
كل ممكن امتداد واحد ومع كل امتداد ممكن يقارنه وهو
موضع النزاع الا اذا سلم ان الامكانات التى قبل العالم من طبيعة
الممكن الموجود فى العالم أعنى انه كما ان هذا الممكن الذى فى
العالم من شأنه ان يلحقه الزمان كذلك الممكن الذى فى قبل العالم
فهذا بين فى الممكن الذى فى العالم ولذلك يمكن ان يتوهم منه
وجود الزمان

[Page 87] [157] قال ابو حامد الاعتراض ان هذا كله من عمل الوهم وأقرب طريق فى دفعه المقابلة
للزمان بالمكان فانا نقول هل كان فى قدرة ﷲ تعالى أن يخلق الفلك الاعلى فى سمكه
اكبر مما خلقه بذراع فان قالوا لا فهو تعجيز وان قالوا نعم فبذراعين وثلاثة أذرع وكذلك
يرتقى الامر الى غير نهاية فنقول فى هذا اثبات بعد وراء العالم له مقدار وكمية اذ الاكبر
بذراعين أو ثلاثة يشغل مكانا اكبر مما كان يشغل الآخر بذراعين أَو ثلاثة فوراء
العالم بحكم هذا كمية تستدعى ذا كم وهو الجسم أو الخلاء فوراء العالم خلاء او ملاء فما
الجواب عنه . وكذلك هل كان ﷲ قادر على أن يخلق كرة العالم أصغر مما خلقها بذراع أو
بذراعين وهل بين التقديرين تفاوت فيما ينتفى من الملاء ويتبقى والشغل للاحياز اذ الملاء
المنتفى عند نقصان ذراعين أكثر مما ينتفى عند نقصان ذراع فيكون الخلاء مقدرا والخلاء ليس
بشىء، فكيف يكون مقدرا وجوابنا فى تخيل الوهم تقدير الامكانات الزمانية قبل وجود
العالم كجوابكم فى تخيل الوهم تقدير الامكانات المكانية وراء وجود العالم ولا فرق
[158] قلت هذا الالزام صحيح اذا جوز تزايد مقدار جسم العالم الى غير
نهاية وذلك انه يلزم على هذا ان يوجد عن البارى سبحانه شىء متناه
يتقدمه امكانات كمية لا نهاية لها واذا جاز هذا فى امكان العظم

[Page 88] جاز فى امكان الزمان فيوجد زمان متناه من طرفه وان كان قبله
امكانات أزمنة لا نهاية لها . [159] والجواب عن هذا ان توهم كون العالم
أكبر أو أصغر ليس بصحيح بل هو ممتنع . وليس يلزم من كون
هذا ممتنعا ان يكون توهم امكان عالم قبل هذا العالم ممتنعا الا لو
كانت طبيعة الممكن قد حدثت ولم يكن قبل وجود العالم هناك
الا طبيعتان طبيعة الضرورى والممتنع وهو بين ان حكم العقل على
وجود الطبائع الثلاثة لم تزل ولا تزال كحكمه على وجود الضرورى
والممتنع . [160] وهذا العناد لا يلزم الفلاسفة لانهم يعتقدون ان العالم ليس
يمكن ان يكون أصغر مما هو ولا أكبر ولو جاز ان يكون عظم أكبر
من عظم ويمر ذلك الى غير نهاية لجاز ان يوجد عظم لا آخر له ولو جاز
ان يوجد عظم لا اخر له لوجد عظم بالفعل لا نهاية له وذلك مستحيل
وهذا شىء قد صرح به أرسطو اعنى ان التزيد فى العظم الى غير نهاية

[Page 89] مستحيل . [161] وأما على رأى من يجوز ذلك المكان ما يلحقه من عجز
الخالق فانه يصح له هذا العناد لان الامكان ههنا يكون عقليا كما
هو فى قبل العالم عند الفلاسفة ولذلك من يقول بحدوث العالم
حدوثا زمانيا ويقول ان كل جسم فى مكان يلزمه ان يكون قبله
مكان وذلك اما جسم يكون حدوثه فيه واما خلاء وذلك ان المكان
يلزم ان يتقدم المحدث ضرورة فمن يبطل وجود الخلاء ويقول بتناهى
الجسم ليس يقدر ان يضع العالم محدثا ولذلك من أنكر من متأخرى
الاشعرية وجود الخلاء فقد فارق أصول القوم ولم أر ذلك لهم ولكن
حدثنى بذلك بعض من يعتنى بمذاهب هؤلاء القوم . [162] ولو كان فعل
هذا الامتداد المقدر للحركة الذى هو كالكيل للحركة هو من فعل
الوهم الكاذب مثل توهم العالم أكبر أو أصغر مما هو عليه لكان
الزمان غير موجود لان الزمان ليس هو شيئا غير ما يدركه الذهن
من هذا الامتداد المقدر للحركة فان كان من المعروف بنفسه ان
الزمان موجود فينبغى ان يكون هذا الفعل للذهن من أفعاله الصادقة
المنسوبة الى العقل لا من الافعال المنسوبة الى الخيال
[163] قال ابو حامد

[Page 90]
[164] قلت هذا جواب لما شنعت به الاشعرية من أن وضع العالم لا
يمكن البارى ان يصيره أكبر ولا أصغر هو تعجيز للبارى سبحانه
لان العجز انما هو عجز عن المقدور لا عن المستحيل
[165] ثم قال ابو حامد رادّا عليهم
وهذا العذر باطل من ثلاثة أوجه ـ احدها ان هذا مكابرة العقل فان العقل فى
تقدير العالم أكبر أو أصغر مما هو عليه بذراع ليس هو كتقدير الجمع بين السواد والبياض
والوجود والعدم والممتنع هو الجمع بين النفى والاثبات واليه ترجع المحالات كلها فهو تحكم
بارد فاسد
[166] قلت القول بهذا هو كما قال مكابرة للعقل الذى هو فى بادئ
الرأى وأما عند العقل الحقيقى فليس هو مكابرة فان القول بامكان
هذا أو بعدم امكانه مما يحتاج الى برهان ولذلك صدق فى قوله انه
ليس امتناع هذا كتقدير الجمع بين السواد والبياض لان هذا
معروف بنفسه استحالته واما كون العالم لا يمكن فيه أن يكون
أصغر أو أكبر مما هو عليه فليس معروفا بنفسه والمحالات وان كانت
ترجع الى المحالات المعروفة بأنفسها فهى ترجع بنحوين احدهما أن

[Page 91] يكون ذلك معروفا بنفسه انه محال والثانى أن يكون يلزم عن
وضعه لزوما قريبا أو بعيدا محال من المحالات المعروفة بأنفسها انها
محال . مثال ذلك ان فرض العالم يمكن أن يكون أكبر أو أصغر يلزم
عنه أن يكون خارجة ملاء أو خلاء ووضع خارجه ملاء أو خلاء يلزم
عنه محال من المحالات أما الخلاء فوجود بعد مفارق وأما الجسم
فكونه متحركا اما الى فوق واما الى أسفل واما مستديرا فان كان
ذلك كذلك وجب أن يكون جزءًا من عالم آخر وقد تبرهن ان
وجود عالم آخر مع هذا العالم محال فى العلم الطبيعى وأقل ما يلزم عنه
الخلاء لان كل عالم لا بد له من اسطقسات أربعة وجسم مستدير يدور
حولها فمن أحب أن يقف على هذه فليضرب اليها بيده فى المواضع
التى وجب ذكرها وذلك بعد الشروط التى يجب أن يتقدم وجودها
فى الناظر نظرا برهانيا
[167] ثم ذكر الوجه الثانى فقال
انه ان كان العالم على ما هو عليه لا يمكن أن يكون أكبر منه ولا اصغر فوجوده
على ما هو عليه واجب لا ممكن والواجب مستغن عن علة فقولوا بما قاله الدهريون من نفى
الصانع ونفى سبب هو مسبب الاسباب وليس هذا مذهبكم

[Page 92] [168] قلت الجواب عن هذا أما بحسب مذهب ابن سينا فقريب وذلك
ان واجب الوجود عنده ضربان واجب الوجود بذاته وواجب
الوجود بغيره . [169] والجواب فى هذا عندى أقرب وذلك انه يجب فى
الاشياء الضرورية على هذا القول أن لا يكون لها فاعل ولا صانع
مثال ذلك ان الآلة التى ينشر بها الخشب هى آلة مقدرة فى الكمية
والكيفية والمادة أعنى انها لا يمكن أن تكون من غير حديد ولا
يمكن أن تكون بغير شكل المنشار ولا يمكن أن يكون المنشار باى
قدر اتفق وليس أحد يقول ان المنشار هو واجب الوجود فانظر ما
أخس هذه المغالطة ولو ارتفعت الضرورة عن كميات الاشياء
المصنوعة وكيفياتها وموادها كما تتوهمه الاشعرية فى المخلوقات
مع الخالق لارتفعت الحكمة الموجودة فى الصانع وفى المخلوقات
وكان يمكن أن يكون كل فاعل صانعا وكل مؤثر فى الموجودات
خالقا وهذا كله ابطال للعقل والحكمة
[170] قال ابو حامد الثالث هو ان هذا الفاسد لا يعجز الخصم عن مقابلته بمثله ونقول انه لم
يكن وجود العالم قبل وجوده ممكنا بل وافق الوجود الامكان من غير زيادة ولا نقصان .
فان قلتم فقد انتقل القديم من العجز الى القدرة قلنا لا لان الوجود لم يكن ممكنا فلم يكن

[Page 93] مقدورا وامتناع حصول ما ليس بممكن لا يدل على العجز . وان قلتم انه كيف كان ممتنعا
فصار ممكنا قلنا ولَم يستحيل ان يكون ممتنعا فى حال ممكنا فى حال . فان قلتم الاحوال
متساوية قيل لكم والمقادير متساوية فكيف يكون مقدار ممكنا وأكبر منه أو اصغر
بمقدار ظفر ممتنعا . فان لم يستحل هذا فهذا لا يستحيل فهذه طريقة المقاومة
والتحقيق فى الجواب ان ما ذكروه من تقدر الامكانات لا معنى لها وانما المسلم
ان ﷲ تعالى قديم قادر لا يمتنع عليه الفعل ابدًا لو اراده وليس فى هذا القدر ما يوجب
اثبات زمان ممتد الا ان يضيف الوهم اليه بتلبيسه اشياء اخر
[171] قلت حاصل هذا القول أن تقول الاشعرية للفلاسفة هذه المسئلة
عندنا مستحيلة اعنى قول القائل ان العالم يمكن ان يكون أكبر أو
أصغر وذلك ان هذا السؤال انما يتصوّر على مذهب من يرى ان
الامكان يتقدم خروج الشىء الى الفعل أعنى وجود الشىء الممكن
بل نقول ان الامكان وقع مع الفعل على ما هو عليه من غير زيادة
ولا نقصان . [172] قلت الا ان جحد تقدم الامكان للشىء الممكن جحد

[Page 94] للضروريات فان الممكن يقابله الممتنع من غير وسط بينهما فان كان
الشىء ليس ممكنا قبل وجوده فهو ممتنع ضرورة والممتنع انزاله
موجودا كذب محال وأما انزال الممكن موجودا فهو كذب ممكن
لا كذب مستحيل . وقولهم ان الامكان مع الفعل كذب فان
الامكان والفعل متناقضان لا يجتمعان فى آن واحد فهؤلاء يلزمهم
ألا يوجد امكان لا مع الفعل ولا قبله .
[173] والالزام الصحيح
للاشعرية فى هذا القول ليس هو أن ينتقل القديم من العجز الى
القدرة لانه لا يسمى عاجزا من لم يقدر على فعل الممتنع وانما
الالزام الصحيح أن يكون الشىء انتقل من طبيعة الامتناع الى
طبيعة الوجود وهو مثل انقلاب الضرورى ممكنا وانزال شىء ما
ممتنعا فى وقت ممكنا فى وقت لا يخرجه عن طبيعة الممكن فان هذه
حال كل ممكن . مثال ذلك ان كل ممكن فوجده مستحيل فى
حال وجود ضده فى موضوعه فاذا سلم الخصم ان شيئا ما ممتنع فى
وقت ممكن فى وقت آخر فقد سلم ان الشىء من طبيعة الممكن
المطلق لا طبيعة الممتنع ويلزم هذا اذا فرض ان العالم كان ممتنعا

[Page 95] قبل حدوثه دهرا لا نهاية له ان يكون اذا حدث انقلبت طبيعته من
الاستحالة الى الامكان . وهذه مسئلة غير التى كان الكلام فيها
وقد قلنا ان الخروج من مسئلة الى مسئلة من فعل السفسطانيين
[174] واما قوله والتحقيق فى الجواب ان ما ذكروه من تقدر الامكانات لا معنى لها وانما
المسلم ان ﷲ تعالى قديم قادر لا يمتنع عليه الفعل ابدًا لو اراده وليس فى هذا القدر ما
يوجب اثبات زمان ممتد الا أن يضيف الوهم اليه بتلبيسه اشياء اخر
فانه ان كان ليس فى هذا الوضع ما يوجب سرمدية الزمان كما
قال ففيه ما يوجب امكان وقوع العالم سرمديا وكذلك الزمان
وذلك ان ﷲ تعالى لم يزل قادرا على الفعل فليس ههنا ما يوجب امتناع
مقارنة فعله على الدوام لوجوده بل لعل مقابل هذا هو الذى يدل
على الامتناع وهو انه لا يكون قادرا فى وقت ويكون قادرا فى
وقت آخر ولا يقال فيه انه قادر الا فى أوقات محدودة متناهية وهو
موجود ازلى قديم . [175] فعادت المسئلة الى هل يجوز أن يكون العالم قديما
أو محدثا أو لا يجوز أن يكون قديما أو لا يجوز ان يكون محدثا أو

[Page 96] يجوز أن يكون محدثا ولا يجوز أن يكون قديما وان كان محدثا فهل
يجوز أن يكون فعلا أولًا أو لا اول فان لم يكن فى العقل امكان
للوقوف على واحد من هذه المتقابلات فليرجع الى السماع ولا تعد
هذه المسئلة من العقليات . [176] واذا قلنا ان الاول لا يجوز عليه ترك الفعل
الافضل وفعل الدنى لانه نقص فأى نقص أعظم من أن يوضع فعل
القديم متناهيا محدودا كفعل المحدث مع ان الفعل المحدود انما يتصور
من الفاعل المحدود لا من الفاعل القديم الغير محدود الوجود والفعل
فهذا كله كما ترى لا يخفى على من له أدنى بصر بالمعقولات . [177] فكيف
يمتنع على القديم ان يكون قبل الفعل الصادر عنه الآن فعل وقبل
ذلك الفعل فعل ويمر ذلك فى اذهاننا الى غير نهاية كما يستمر وجوده
أعنى الفاعل الى غير نهاية فان من لا يساوق وجوده الزمان ولا يحيط
به من طرفيه يلزم ضرورة ان يكون فعله لا يحيط به الزمان ولا يساوقه
زمان محدود وذلك ان كل موجود فلا يتراخى فعله عن وجوده الا
ان يكون ينقصه من وجوده شىء أعنى ان لا يكون على وجوده

[Page 97] الكامل أو يكون من ذوى الاختيار فيتراخى فعله عن وجوده عن
اختياره ومن يضع ان القديم لا يصدر عنه الا فعل حادث فقد وضع
ان فعله بجهة ما مضطر وانه لا اختيار له من تلك الجهة فى فعله

الدليل الثالث على قدم العالم

[178] قال ابو حامد تمسكوا بان قالوا وجود العالم ممكن قبل وجوده اذ يستحيل أن يكون
ممتنعا ثم يصير ممكنا وهذا الامكان لا اول له أى لم يزل ثابتا ولم يزل العالم ممكنا وجوده
اذ لا حال من الاحوال يمكن ان يوصف العالم فيه بانه ممتنع الوجود فاذا كان الامكان لم
يزل فالممكن على وفق الامكان أيضًا لم يزل فان معنى قولنا انه ممكن وجوده أنه ليس
محالا وجوده فاذا كان ممكنا وجوده أبدا لم يكن محالا وجوده أبدا والا فان كان محالا
وجوده أبدا بطل قولنا انه ممكن وجوده ابدا وان بطل قولنا انه ممكن وجوده ابدا بطل
قولنا ان الامكان لم يزل وان بطل قولنا الامكان لم يزل صح قولنا ان الامكان
له اول واذا صح ان له أولًا كان قبل ذلك غير ممكن فيؤدى الى اثبات حال لم يكن
العالم ممكنا ولا كان ﷲ عليه قادرا
[179] قلت اما من يسلم ان العالم كان قبل ان يوجد ممكنا امكانا لم
يزل فانه يلزمه ان يكون العالم ازليا لان ما لم يزل ممكنا ان وضع

[Page 98] انه لم يزل موجودا لم يكن يلزم عن انزاله محال وما كان ممكنا ان
يكون ازليا فواجب ان يكون ازليا لان الذى يمكن فيه ان يقبل
الازلية لا يمكن فيه ان يكون فاسدا الا لو أمكن ان يعود
الفاسد ازليا ولذلك ما يقول الحكيم ان الامكان فى الامور الازلية
هو ضرورى
[180] قال ابو حامد

الاعتراض
الاعتراض ان يقال العالم لم يزل ممكن الحدوث فلا جرم ما من وقت
الا ويتصور لحداثه فيه واذا قدر موجودا ابدا لم يكن حادثا فلم يكن الواقع على وفق
الامكان بل على خلافه وهذا كقولهم فى المكان وهو ان تقدير العالم أكبر مما هو أو
خلق جسم فوق العالم ممكن وكذا آخر فوق ذلك الآخر وهكذا الى غير نهاية ولا
نهاية لامكان الزيادة ومع ذلك فوجود ملاء مطلق لا نهاية له غير ممكن وكذلك وجود
لا ينتهى طرفه غير ممكن بل كما يقال إِن الممكن جسم متناهى السطح ولكن لا تتعين
مقاديره فى الكبر والصغر فكذلك الممكن الحدوث و مبادى الوجود لا تتعين فى التقدم
والتأخر وأصل كونه حادثا متعين فانه الممكن لا غير
[181] قلت أما من وضع ان قبل العالم امكانا واحدا بالعدد لم يزل فقد
يلزمه ان يكون العالم أزليا واما من وضع ان قبل العالم امكانات
للعالم غير متناهية بالعدد كما وضع ابو حامد فى الجواب فقد يلزمهم

[Page 99] ان يكون قبل هذا العالم عالم وقبل العالم الثانى عالم ثالث ويمر ذلك
الى غير نهاية كالحال فى اشخاص الناس وبخاصة اذا وضع فساد المتقدم
شرطا فى وجود المتأخر . مثال ذلك انه ان كان ﷲ سبحانه قادرا على
ان يخلق قبل هذا العالم عالما اخر وقبل ذلك الآخر اخر فقد لزم ان
يمر الامر الى غير نهاية والا لزم ان يوصل الى عالم ليس يمكن ان يخلق
قبله عالم آخر و ذلك لا يقول به المتكلمون ولا تعطيه حجتهم التى
يحتجون بها على حدوث العالم [182] واذا كان ممكنا ان يكون قبل هذا
العالم عالم آخر الى غير نهاية فانزاله كذلك قد يظن به انه ليس
محالا لكن انزاله كذلك اذا فحص عنه يظهر انه محال لانه يلزم
ان تكون طبيعة هذا العالم طبيعة الشخص الواحد الذى فى هذا
العالم الكائن الفاسد فيكون صدوره عن المبدأ الاول بالنحو الذى
صدر عنه الشخص وذلك بتوسط متحرك ازلى وحركة ازلية
فيكون هذا العالم جزءًا من عالم آخر كالحال فى الاشخاص الكائنة
الفاسدة فى هذا العالم فبالاضطرار اما ينتهى الامر الى عالم ازلى

[Page 100] بالشخص أو يتسلسل واذا وجب قطع التسلسل فقطعها بهذا العالم
أولى اعنى بانزاله واحدا بالعدد ازليا

دليل رابع

[183] وهو انهم قالوا كل حادث فالمادة التى فيه تسبقه اذ لا يستغنى الحادث عن مادة فلا
تكون المادة حادثة وانما الحادث الصور والاعراض والكيفيات على المواد الى قوله فلم
تكن المادة الاولى حادثة بحال الى قوله
[184] قلت حاصل هذا القول ان كل حادث فهو ممكن قبل حدوثه
وان الامكان يستدعى شيئا يقوم به وهو المحل القابل للشىء
الممكن وذلك ان الامكان الذى من قبل القابل ليس ينبغى ان
يعتقد فيه انه الامكان الذى من قبل الفاعل وذلك ان قولنا فى

[Page 101] زيد انه يمكن ان يفعل كذا غير قولنا فى المفعول انه يمكن ولذلك
يشترط فى امكان الفاعل امكان القابل اذ كان الفاعل لا يمكن ان
يفعل ممتنعا واذا لم يمكن ان يكون الامكان المتقدم على الحادث
فى غير موضوع اصلا ولا أمكن ان يكون الفاعل هو الموضوع
ولا الممكن لان الممكن اذا حصل بالفعل ارتفع الامكان فلم يبق
الا ان يكون الحامل للامكان هو الشىء القابل للممكن وهو
المادة . [185] والمادة لا تتكون بما هى مادة لانها كانت تحتاج الى مادة
ويمر الامر الى غير نهاية بل ان كانت مادة متكونة فمن جهة ما هى
مركبة من مادة وصورة وكل متكون فانما يتكون من شىء ما
فاما ان يمر ذلك الى غير نهاية على استقامة فى مادة غير متناهية
وذلك مستحيل وان قدرنا محركا ازليا لانه لا يوجد شىء بالفعل

[Page 102] غير متناه واما ان تكون الصور تتعاقب على موضوع غير كائن
ولا فاسد ويكون تعاقبها ازليا ودورا . [186] فان كان ذلك كذلك وجب
ان يكون ههنا حركة ازلية تفيد هذا التعاقب الذى فى الكائنات
الفاسدات الازلية وذلك انه يظهر ان كون كل واحد من المتكونات
هو فساد للآخر وفساده هو كون لغيره والا يتكون شىء من غير
شىء فان معنى التكون هو انقلاب الشىء وتغيره مما بالقوة الى
الفعل ولذلك فليس يمكن ان يكون عدم الشىء هو الذى يتحول
وجودا ولا هو الشىء الذى يوصف بالكون أعنى الذى نقول فيه
انه يتكون فبقى ان يكون ههنا شىء حامل للصور المتضادة وهى
التى تتعاقب الصور عليها
[187] قال ابو حامد الاعتراض ان يقال الامكان الذى ذكروه يرجع الى قضاء العقل
فكل ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع عليه تقديره سمّيناه ممكنًا وان امتنع سميناه مستحيلا
وان لم يقدر على تقدير عدمه سميناه واجبا فهذه قضايا عقلية لا تحتاج الى موجود حتى تجعل
وصفًا له . بدليل ثلاثة امور
أحدها ان الامكان لو استدعى شيئا موجودا يضاف اليه ويقال انه امكانه لاستدعى

[Page 103] الامتناعُ شيئا موجودا يقال انه امتناعه وليس للممتنع وجود فى ذاته ولا مادة يطرى
عليها المحال حتى يضاف الامتناع الى المادة
[188] قلت اما ان الامكان يستدعى مادة موجودة فذلك بين فان
سائر المعقولات الصادقة لا بد ان تستدعى أمرا موجودا خارج
النفس اذ كان الصادق كما قيل فى حده انه الذى يوجد فى النفس على
ما هو عليه خارج النفس فلا بد فى قولنا فى الشىء انه ممكن ان
يستدعى هذا الفهم شيئا يوجد فيه هذا الامكان . [189] واما الاستدلال
على انه لا يستدعى معقول الامكان موجودا يستند اليه بدليل
ان الممتنع لا يستدعى موجودا يستند اليه فقول سفسطانى . وتلك
ان الممتنع يستدعى موضوعا مثل ما يستدعى الامكان وذلك بين
لان الممتنع هو مقابل الممكن والاضداد المتقابلة تقتضى ولا بد
موضوعا فان الامتناع هو سلب الامكان فان كان الامكان
يستدعى موضوعا فان الامتناع الذى هو سلب ذلك الامكان
يقتضى موضوعا أيضا مثل قولنا ان وجود الخلاء ممتنع بان وجود
الابعاد مفارقة ممتنع خارج الاجسام الطبيعية أو داخلها ونقول ان

[Page 104] الضدين ممتنع وجودهما فى موضوع واحد . ونقول انه ممتنع ان يوجد
الاثنان واحدا ومعنى ذلك فى الوجود وهذا كله بين بنفسه فلا معنى
لاعتبار هذه المغالطة التى أتى بها ههنا
[190] قال ابو حامد والثانى ان السواد والبياض يقضى العقل فيهما قبل وجودهما بكونهما ممكني
فان كان هذا الامكان مضافا الى الجسم الذى يطريان عليه حتى يقال معناه ان هذا الجسم
يمكن ان يسودّ وان يبيضّ، فاذا ليس البياض فى نفسه ممكنا ولا له نعت الامكان وانما
الممكن الجسم والامكان مضاف اليه فنقول ما حكم نفس السواد فى ذاته أوَ هو ممكن او
واجب أو ممتنع ولا بد من القول بانه ممكن فدل ان العقل فى القضية بالامكان لا يفتقر
إلى وضع ذات موجودة يضيف اليها الامكان
[191] قلت هذه مغالطة فان الممكن يقال على القابل وعلى المقبول
والذى يقال على الموضوع يقابله الممتنع والذى يقال على المقبول
يقابله الضرورى . [192] والذى يتصف بالامكان الذى يقابله الممتنع ليس
هو الذى يخرج من الامكان الى الفعل من جهة ما يخرج الى الفعل
لانه اذا خرج ارتفع عنه الامكان وانما يتصف بالامكان من جهة
ما هو بالقوة والحامل لهذا الامكان هو الموضوع الذى ينتقل من

[Page 105] الوجود بالقوة الى الوجود بالفعل وذلك بين من حد الممكن فان
الممكن هو المعدوم الذى يتهيأ ان يوجد و الا يوجد وهذا المعدوم
الممكن ليس هو ممكنا من جهة ما هو معدوم ولا من جهة ما هو
موجود بالفعل وانما هو ممكن من جهة ما هو بالقوة ولهذا قالت
المعتزلة ان المعدوم هو ذات ما [ اعنى المعدوم فى نفسه . من جهة ما
هو بالقوة اعنى انه من جهة القوة والامكان الذى له يلزم ان يكون
ذاتا ما فى نفسه فان العدم ذات ما ] وذلك ان العدم يضاد الوجود
وكل واحد منهما يخلف صاحبه فاذا ارتفع عدم شىء ما خلفه وجوده
واذا ارتفع وجوده خلفه عدمه . [193] ولما كان نفس العدم ليس يمكن فيه
ان ينقلب وجودا ولا نفس الوجود ان ينقلب عدما وجب ان يكون
القابل لهما شيئا ثالثا غيرهما وهو الذى يتصف بالامكان والتكون
والانتقال من صفة العدم الى صفة الوجود فان العدم لا يتصف
بالتكون والتغير ولا الشىء الكائن بالفعل ايضا يتصف بذلك لان
الكائن اذا صار بالفعل ارتفع عنه وصف التكون والتغير والامكان
فلا بد اذا ضرورة من شىء يتصف بالتكون والتغير والانتقال من
العدم الى الوجود كالحال فى انتقال الاضداد بعضها الى بعض اعنى انه

[Page 106] يجب ان يكون لها موضوع تتعاقب عليه الا انه فى التغير الذى فى
سائر الاعراض بالفعل وهو فى الجوهر بالقوة . [194] ولسنا نقدر أيضاً ان
نجعل هذا الموصوف بالامكان والتغير الشىء الذى بالفعل أعنى الذى
منه الكون من جهة ما هو بالفعل لان ذلك ايضاً يذهب والذى
منه الكون يجب ان يكون جزءًا من المتكون فاذا ههنا موضوع
ضرورة هو القابل للامكان وهو الحامل للتغير والتكون وهو
الذى يقال فيه انه تكون وتغير وانتقل من العدم الى الوجود . [195] ولسنا
نقدر ايضاً ان نجعل هذا من طبيعة الشىء الخارج الى الفعل أعنى من
طبيعة الموجود بالفعل لانه لو كان ذلك كذلك لم يتكون الموجود
وذلك ان التكون هو من معدوم لا من موجود . [196] فهذه الطبيعة اتفق
الفلاسفة والمعتزلة على اثباتها الا ان الفلاسفة ترى انها لا تتعرى من
الصورة الموجودة بالفعل اعنى لا تتعرى من الوجود وانما تنتقل من
وجود الى وجود كانتقال النطفة مثلا الى الدم و انتقال الدم الى
الاعضاء التى للجنين وذلك انها لو تعرت من الوجود لكانت موجودة
بذاتها ولو كانت موجودة بذاتها لما كان منها كون فهذه الطبيعة

[Page 107] عندهم هى التى يسمونها بالهيولى وهى علة الكون والفساد وكل
موجود يتعرى من هذه الطبيعة فهو عندهم غير كائن ولا فاسد
[197] قال ابو حامد والثالث ان نفوس الآدميين عندهم جواهر قائمة بانفسها ليس بجسم ومادة
ولا منطبع فى مادة وهى حادثة على ما اختاره ابن سينا والمحققون منهم ولها امكان قبل
حدوثها وليس لها ذات ولا مادة فامكانها وصف اضافى ولا يرجع الى قدرة القادر والى
الفاعل فإِلى ما ذا يرجع فينقلب عليهم هذا الاشكال
[198] قلت لا أعلم احدا من الحكماء قال ان النفس حادثة حدوثا
حقيقيا ثم قال انها باقية الا ما حكاه عن ابن سينا وانما الجميع على
ان حدوثها هو اضافى وهو اتصالها بالامكانات الجسمية القابلة لذلك
الاتصال كالامكانات التى فى المرايا لاتصال شعاع الشمس بها وهذا
الامكان عندهم ليس هو من طبيعة امكان الصور الحادثة الفاسدة
بل هو امكان على نحو ما يزعمون ان البرهان ادى اليه وان الحامل
لهذا الامكان طبيعة غير طبيعة الهيولى ولا يقف على مذهبهم فى
هذه الاشياء إلا من نظر فى كتبهم على الشروط التى وضعوها مع

[Page 108] فطرة فائقة ومعلم عارف . [199] فتعرض أبى حامد الى مثل هذه الاشياء
هذا النحو من التعرض لا يليق بمثله فانه لا يخلو من احد امرين اما
أنه فهم هذه الاشياء على حقائقها فساقها ههنا على غير حقائقها وذلك
من فعل الاشرار واما انه لم يفهمها على حقيقتها فتعرض الى القول فيما
لم يحط به علما وذلك من فعل الجهال والرجل يجل عندنا عن هذين
الوصفين ولكن لا بد للجواد من كبوة فكبوة أبى حامد هى
وضعه هذا الكتاب ولعله اضطرَّ الى ذلك من أجل زمانه ومكانه
[200] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل ردّ الامكان الى قضاء العقل محال اذ لا معنى لقضاء العقل الا العلم بالامكان
فالامكان معلوم وهو غير العلم بل العلم يحيط به ويتبعه ويتعلق به على ما هو عليه والعلم لو
قدر عدمه لم ينعدم المعلوم والمعلوم اذا قدّر انتفاؤه انتفى العلم فالعلم والمعلوم امران اثنان
احدهما تابع والآخر متبوع ولو قدرنا إِعراض العقلاء عن تقدير الامكان وغفلتهم عنه
لكنا نقول لا يرتفع الامكان بل الممكنات فى انفسها ولكن العقول غفلت عنها او عدمت
العقول والعقلاء فيبقى الامكان لا محالة

[Page 109] واما الامور الثلاثة فلا حجة فيها فان الامتناع ايضًا وصف اضافى يستدعى موجودا يضاف
اليه ومعنى الممتنع الجمع بين الضدين فاذا كان المحل أبيض كان ممتنعا عليه ان يسودّ مع
وجود البياض فلا بد من موضوع يشار اليه موصوف بصفة فعند ذلك يقال ضده ممتنع عليه
فيكون الامتناع وصفا اضافيا قائما بموضوع مضافا اليه . واما الوجوب فلا يخفى انه مضاف الى
الوجود الواجب
واما الثانى وهو كون السواد فى نفسه ممكنا فغلط فانه ان أخذ مجردا دون محل يحل
كان ممتنعا لا ممكنا وانما يصير ممكنا اذا قدر هيئة فى جسم فالجسم مهيّأ لتبدل هيئة والتبدل
ممكن على الجسم والا فليس للسواد نفس مفردة حتى يوصف بامكان
وأما الثالث وهو النفس فهى قديمة عند فريق ولكن ممكن لها التعلق بالابدان فلا يلزم
على هذا ومن سلم حدوثه فقد اعتقد فريق منهم انه منطبع فى المادة تابع للمزاج على ما دل
عليه كلام جالينوس فى بعض المواضع فتكون فى مادة وامكانها مضاف الى مادتها وعلى
مذهب من سلم انها حادثة وليست منطبعة فمعناه ان المادة ممكن لها ان يدبرها نفس ناطقة
فيكون الامكان السابق على الحدوث مضافا الى المادة فانها وان لم تنطبع فيها فلها علاقة
معها اذ هى المدبرة والمستعملة لها فيكون الامكان راجعا اليها بهذا الطريق
[201] قلت ما أورده فى هذا الفصل هو كلام صحيح وانت تتبين ذلك
مما ذكرنا من تفهيم طبيعة الممكن
[202] ثم قال ابو حامد معاندا للحكماء
والجواب ان ردّ الامكان والوجوب و الامتناع الى قضايا عقلية صحيح وما ذكر
بان معنى قضايا العقل علمه والعلم يستدعى معلوما فيقال لهم كما ان اللونية والحيوانية وسائر

[Page 110] القضايا الكلية ثابتة فى العقل عندهم وهى علوم لا يقال لا معلوم لها ولكن لا وجود لمعلوماتها
فى الاعيان حتى صرح الفلاسفة بان الكليات موجودة فى الاذهان لا فى الاعيان وانما الموجود
فى الاعيان جزئيات شخصية وهى محسوسة غير معقولة ولكنها سبب لان ينتزع العقل منها
قضية مجردة عن المادة عقلية فاذا اللونية قضية مفردة فى العقل سوى السوادية والبياضية ولا
يتصور فى الوجود لون ليس بسواد ولا بياض ولا غيره من الالوان وثبت فى العقل صورة
اللونية من غير تفصيل ويقال هى صورة وجودها فى الأذهان لا فى الاعيان فان لم يمتنع هذا
لم يمتنع ما ذكرناه
[203] قلت هذا كلام سفسطانى لان الامكان هو كلى له جزئيات
موجودة خارج الذهن كسائر الكليات وليس العلم علما للمعنى
الكلى ولكنه علم للجزئيات بنحو كلى يفعله الذهن فى الجزئيات
عند ما يجرد منها الطبيعة الواحدة المشتركة التى انقسمت فى المواد
فالكلى ليست طبيعته طبيعة الاشياء التى هو لها كلى وهو فى هذا
القول غالط فاخذ ان طبيعة الامكان هى طبيعة الكلى دون ان
يكون هنالك جزئيات يستند اليها هذا الكلى أعنى الامكان
الكلى . [204] والكلى ليس بمعلوم بل به تعلم الاشياء وهو شىء موجود

[Page 111] فى طبيعة الاشياء المعلومة بالقوة ولو لا ذلك لكان ادراكه للجزئيات
من جهة ما هى كليات ادراكا كاذبا وانما كان يكون ذلك كذلك
لو كانت الطبيعة المعلومة جزئية بالذات لا بالعرض والامر بالعكس
أعنى انها جزئية بالعرض كلية بالذات ولذلك متى لم يدركها العقل
من جهة ما هى كلية غلط فيها وحكم عليها باحكام كاذبة فاذا
جرد تلك الطبائع التى فى الجزئيات من المواد وصيرها كلية أمكن
ان يحكم عليها حكما صادقا والا اختلطت عليه الطبائع والممكن
هو واحد من هذه الطبائع . [205] وأيضاً فان قول الفلاسفة الكليات
موجودة فى الاذهان لا فى الاعيان انما يريدون انها موجودة بالفعل
فى الاذهان لا فى الاعيان وليس يريدون انها ليست موجودة أصلا
فى الاعيان بل يريدون انها موجودة بالقوة غير موجودة بالفعل ولو
كانت غير موجودة اصلا لكانت كاذبة . [206] واذا كانت خارج الاذهان
موجودة بالقوة وكان الممكن خارج النفس بالقوة فاذا من هذه
الجهة تشبه طبيعتها طبيعة الممكن ومنها رام ان يغلط لانه شبه
الامكان بالكليات لكونهما يجتمعان فى الوجود الذى بالقوة ثم
وضع ان الفلاسفة يقولون انه ليس للكليات خارج النفس وجود
اصلا فانتج ان الامكان ليس له وجود خارج النفس فما اقبح هذه
المغالطة وأخبثها

[Page 112] [207] قال ابو حامد وأما قولهم لو قدر عدم العقلاء أو غفلتهم ما كان الامكان ينعدم فنقول
ولو قدر عدمهم هل كانت القضايا الكلية وهى الاجناس والانواع تنعدم فاذا قالوا نعم اذ
لا معنى لها الا قضية فى العقول فكذلك قولنا فى الامكان ولا فرق بين البابين وان زعموا انها
تكون باقية فى علم ﷲ تعالى فكذا القول فى الامكان فالالزام واقع و المقصود اظهار
تناقض كلامهم
[208] قلت الذى يظهر من هذا القول سخافته وتناقضه وذلك ان
اقنع ما امكن فيه ابتناء على مقدمتين احداهما انه بين ان الامكان
منه جزئى خارج النفس وكلى وهو معقول تلك الجزئيات فهو قول
غير صحيح وان قالوا ان طبيعة الجزئيات خارج النفس من
الممكنات هى طبيعة الكلى الذى فى الذهن فليس له لا طبيعة
الجزئى ولا الكلى او تكون طبيعة الجزئى هى طبيعة الكلى وهذا
كله سخافات وكيف ما كان فان الكلى له وجود ما خارج النفس
[209] قال ابو حامد وأما العذر عن الامتناع فانه يضاف الى المادة الموصوفة بالشىء اذ يمتنع
عليه ضده فليس كل محال كذلك فان وجود شريك ﷲ تعالى محال وليس ثم مادة يضاف اليها

[Page 113] الامتناع . فان زعموا ان معنى استحالة الشريك انفراد ﷲ تعالى بذاته وتوحده واجب والانفراد
مضاف اليه فنقول ليس بواجب فان العالم موجود معه فليس منفردا . فان زعموا ان انفراده
عن النظير واجب ونقيض الواجب ممتنع وهو اضافة اليه قلنا معنى انفراد ﷲ تعالى عنها
ليس كانفراده عن النظير فان انفراده عن النظير واجب وانفراده عن المخلوقات الممكنة
غير واجب
[210] قلت هذا كله كلام ساقط فانه لا يشك ان قضايا العقل انما هى
حكم له على طبائع الاشياء خارج النفس فلو لم يكن خارج النفس
لا ممكن ولا ممتنع لكان قضاء العقل بذلك كلا قضاء ولم يكن
فرق بين العقل والوهم . ووجود النظير ﷲ سبحانه ممتنع الوجود
فى الوجود كما انه وجوده واجب الوجود فى الوجود فلا معنى
لتكثير الكلام فى هذه المسئلة
[211] قال ابو حامد ثم العذر باطل بالنفوس الحادثة فان لها ذواتا مفردة وامكانا سابقا على
الحدوث وليس ثم ما يضاف اليه وقولهم ان المادة ممكن لها ان تدبرها النفوس فهذه اضافة
بعيدة فان اكتفيتم بهذا فلا يبعد ان يقال معنى امكان الحادث ان القادر عليها يمكن فى حقه

[Page 114] ان يحدثها فيكون اضافة الى الفاعل مع انه ليس منطبعا فيه كما انه اضافة الى البدن المنفعل
مع انه لا ينطبع فيه ولا فرق بين النسبة الى الفاعل و النسبة الى المنفعل اذا لم يكن انطباع فى
الموضعين
[212] قلت يريد انه يلزمهم ان وضعوا الامكان بحدوث النفس غير
منطبع فى المادة ان يكون الامكان الذى فى القابل كالامكان
الذى فى الفاعل لان يصدر عنه الفعل فيستوى الامكانان وذلك
شىء شنيع وذلك ان على هذا الوضع تأتى النفس كانها تدير البدن
من خارج كما يدبر الصانع المصنوع فلا تكون النفس هيئة فى
البدن كما لا يكون الصانع هيئة فى المصنوع
[213] والجواب انه لا يمتنع ان يوجد من الكمالات التى تجرى مجرى
الهيئات ما يفارق محله مثل الملاح فى السفينة والصانع مع الآلة التى
يفعل بها فان كان البدن كالآلة للنفس فهى هيئة مفارقة وليس
الامكان الذى فى الآلة كالامكان الذى فى الفاعل بل توجد الآلة
فى الحالتين جميعا أعنى الامكان الذى فى المنفعل والامكان الذى
فى الفاعل ولذلك كانت الآلات محركة ومتحركة فمن جهة انها
محركة يوجد فيها الامكان الذى فى الفاعل ومن جهة انها متحركة

[Page 115] يوجد فيها الامكان الذى فى القابل فليس يلزمهم من وضع النفس
مفارقة ان يوضع الامكان الذى فى القابل هو بعينه الامكان الذى
فى الفاعل . [214] وأيضًا الامكان الذى فى الفاعل عند الفلاسفة ليس حكما
عقليا فقط بل حكم على شىء خارج النفس، فلا منفعة للمعاندة
بتشبيه احد الامكانين بالآخر
[215] ولما شعر أبو حامد ان هذه الاقاويل كلها انما تفيد شكوكا
وحيرة عند من لا يقدر على حلها وهو من فعل الشرار السفسطانيين
قال
فان قيل فقد عوّلتم فى جميع الاعتراضات على مقابلة الإِشكالات بالإشكالات ولم
يخل ما اوردتموه من الاشكال
قلنا المعارضة تبين فساد الكلام لا محالة وينحل وجه الاشكال فى تقدير المعارضة
والمطالبة ونحن لم نلتزم فى هذا الكتاب الا تكدير مذهبهم والتغيير فى وجوه ادلتهم بما
نبين تهافتهم ولم نتطرق للذب عن مذهب معين فلذلك لا نخرج عن مقصود الكتاب ولا

[Page 116] نستقصى القول فى الادلة الدالة على الحدث اذ غرضنا ابطال دعواهم معرفة القدم . واما
اثبات المذهب الحق فسنضع فيه كتابًا بعد الفراغ من هذا ان شاء ﷲ ونسميه قواعد
العقائد ونعتنى فيه بالاثبات كما اعتنينا فى هذا الكتاب بالهدم
[216] قلت اما مقابلة الاشكالات بالاشكالات فليس تقتضى هدما
وانما تقتضى حيرة وشكوكا عند من عارض اشكالا باشكال ولم
يبن عنده أحد الاشكالين وبطلان الاشكال الذى يقابله وأكثر
الاقاويل التى عاندهم بها هذا الرجل هى شكوك تعرض عند ضرب
أقاويلهم بعضها ببعض وتشبيه المختلفات منها بعضها ببعض وتلك
معاندة غير تامة . [217] والمعاندة التامة انما هى التى تقتضى ابطال مذهبهم
بحسب الامر فى نفسه لا بحسب قول القائل به مثل انزاله انه يمكن
لخصومهم ان يدعوا ان الامكان حكم ذهنى مثل دعواهم ذلك فى
الكلى فانه لو سلم صحة الشبه بينهما لم يلزم عن ذلك ابطال كون
الامكان قضية مستندة الى الوجود وانما كان يلزم عنه أحد الامرين
اما ابطال كون الكلى فى الذهن فقط واما كون الامكان فى الذهن

[Page 117] فقط . [218] وقد كان واجبا عليه أن يبتدى بتقرير الحق قبل ان يبتدئ
بما يوجب حيرة الناظرين وتشككهم لئلا يموت الناظر قبل ان يقف
على ذلك الكتاب او يموت هو قبل وضعه وهذا الكتاب لم يصل
الينا بعد ولعله لم يؤلفه وقوله انه ليس يقصد فى هذا الكتاب نصرة
مذهب مخصوص انما قاله لئلا يظن به انه يقصد نصرة مذهب
الاشعرية . [219] والظاهر من الكتب المنسوبة اليه انه راجع فى العلوم
الالهية الى مذهب الفلاسفة ومن أبينها فى ذلك وأصحها ثبوتا له
كتابه المسمى بمشكاة الانوار

مسئلة فى ابطال قولهم فى ابدية العالم والزمان والحركة

[Page 118]

مسئلة
فى ابطال قولهم فى ابدية العالم
والزمان والحركة

[1] قال ابو حامد لتعلم ان هذه المسئلة فرع الاولى فان العالم عندهم كما انه أزلى لا بداية
لوجوده فهو أبدى لا نهاية لآخره ولا يتصور فناؤه وفساده بل لم يزل كذلك ولا يزال
أيضًا كذلك
وادلتهم الاربعة التى ذكرناها فى الازلية جارية فى الابدية والاعتراض كالاعتراض من
غير فرق . فانهم يقولون ان العالم معلول وعلته أزلية ابدية فكذلك المعلول مع العلة وتقول
اذا لم تتغير العلة لم يتغير المعلول وعليه بنوا منع الحدوث وهو بعينه جار فى الانقطاع وهذا
مسلكهم الاول
ومسلكهم الثانى ان العالم اذا عدم فيكون عدمه بعد وجوده فيكون له بعد ففيه اثبات
الزمان

[Page 119] ومسلكهم الثالث ان امكان الوجود لا ينقطع فكذلك الوجود الممكن يجوز ان
يكون على وفق الامكان . الا ان هذا الدليل لا يقوى فانا نحيل ان يكون أزليا ولا
نحيل أن يكون أبديا لو أبقاه ﷲ تعالى أبدا اذ ليس من ضرورة الحادث ان يكون له
آخر ومن ضرورة الفعل ان يكون حادثا وان يكون له أول . ولم يوجب ان يكون للعالم
لا محالة آخر الا أبو الهذيل العلاف فانه قال كما يستحيل فى الماضى دورات لا نهاية لها
فكذلك فى المستقبل وهو فاسد لان كل المستقبل قط لا يدخل فى الوجود لا متلاحقا ولا
متساوقا والماضى قد دخل كله فى الوجود متلاحقا وان لم يكن متساوقا . واذا تبين انا لا
نبعد بقاء العالم أبدا من حيث العقل بل نجوز ابقاءه وافناءه فانما يعرف الواقع من قسمَى
الممكن بالشرع فلا يتعلق النظر فيه بالمعقول
[2] قلت أما قوله انما يلزم عن دليلهم الاول من ازلية العالم فيما
مضى يلزم عنه فيما يستقبل فصحيح وكذلك دليلهم الثانى . [3] وأما قوله
انه ليس يلزم فى الدليل الثالث فى المستقبل مثل ما يلزم فى الماضى
على رأيهم فانا نحيل ان يكون العالم أزليا فيما مضى ولسنا نحيل ان
يكون أزليا فيما يستقبل الا أبو الهذيل العلاف فانه يرى ان كون
العالم أزليا من الطرفين محال فليس كما قال لانه اذا سلم لهم ان العالم لم
يزل امكانه وان امكانه يلحقه حالة ممتدة معه يقدر بها ذلك
الامكان كما يلحق الموجود الممكن اذا خرج الى الفعل تلك الحال

[Page 120] وكان يظهر من هذا الامتداد انه ليس له اول صح لهم ان الزمان
ليس له أول اذ ليس هذا الامتداد شيئا الا الزمان وتسمية من سماه
دهرا لا معنى له واذا كان الزمان مقارنا للامكان والامكان
مقارنا للوجود المتحرك فالوجود المتحرك لا أول له . [4] وأما قولهم ان
كل ما وجد فى الماضى فله أول فقضية باطلة لان الاول يوجد فى الماضى
أزليا كما يوجد فى المستقبل واما تفريقهم فى ذلك بين الاول وفعله
فدعوى تحتاج الى برهان لكون وجود ما وقع فى الماضى مما ليس
بازلى غير وجود ما وقع فى الماضى من الازلى وذلك ان ما يقع فى
الماضى من غير الازلى هو متناه من الطرفين أعني ان له ابتداء
وانقضاء وأما ما وقع فى الماضى من الازلى فليس له ابتداء ولا انقضاء
ولذلك لما كانت الفلاسفة لا يضعون للحركة الدورية ابتداء فليس
يلزمهم ان يكون لها انقضاء لانهم لا يضعون وجودها فى الماضى
وجود الكائن الفاسد ومن سلم ذلك منهم فقد تناقض ولذلك كانت
هذه القضية صحيحة ان كل ما له ابتداء فله انقضاء . [5] واما ان يكون
شىء له ابتداء وليس له انقضاء فلا يصح الا لو انقلب الممكن أزليا
لان كل ما له ابتداء فهو ممكن . وأما ان يكون شىء يمكن ان

[Page 121] يقبل الفساد ويقبل الازلية فشىء غير معروف وهو مما يجب ان
يفحص عنه وقد فحص عنه الاوائل فابو الهذيل موافق للفلاسفة
فى ان كل محدث فاسد واشد التزاما لاصل القول بالحدوث . [6] واما
من فرق بين الماضى والمستقبل بان ما كان فى الماضى قد دخل كله فى
الوجود وما فى المستقبل فلا يدخل كله فى الوجود وانما يدخل منه
شىء فشىء فكلام مُموَّهٌ وذلك ان ما فى الماضى بالحقيقة فقد دخل
فى الزمان وما دخل فى الزمان فالزمان يفضل عليه بطرفيه وله كل
وهو متناه ضرورة واما ما لم يدخل فى الماضى كدخول الحادث فلم
يدخل فى الماضى الا باشتراك الاسم بل هو مع الماضى ممتد الى غير
نهاية وليس له كل وانما الكل لاجزاءه . [7] وذلك ان الزمان إِن لم يوجد
له مبدأ اول حادث فى الماضى لان كل مبدأ حادث هو حاضر وكل
حاضر قبله ماض فما يوجد مساوقا للزمان والزمان مساوقا له فقد
يلزم ان يكون غير متناه والا يدخل منه فى الوجود الماضى الا
اجزاءه التى يحصرها الزمان من طرفيه كما لا يدخل فى الوجود

[Page 122] المتحرك من الزمان فى الحقيقة الا الآن ولا من الحركة الا
كون المتحرك على العظم الذى يتحرك عليه فى الآن الذى هو سيال
فانه كما ان الموجود الذى لم يزل فيما مضى لسنا نقول ان ما سلف من
وجوده قد دخل الآن فى الوجود لانه لو كان ذلك لكان وجوده
له مبدأ ولكان الزمان يحصره من طرفيه كذلك نقول فيما كان مع
الزمان لا فيه فالدورات الماضية انما دخل منها فى الوجود الوهمى ما
حصره منها الزمان واما التى هى مع الزمان فلم تدخل بعد فى الوجود
الماضى كما لم يدخل فى الوجود الماضى ما لم يزل موجودا اذ كان لا
يحصره الزمان .
[8] واذا تصور موجود أزلى افعاله غير متأخرة عنه على
ما هو شأن كل موجود تم وجوده ان يكون بهذه الصفة فانه ان
كان ازليا ولم يدخل فى الزمان الماضى فانه يلزم ضرورة الا تدخل
افعاله فى الزمان الماضى لانها لو دخلت لكانت متناهية فكان ذلك
الموجود الازلى لم يزل عادما الفعل وما لم يزل عادما الفعل فهو
ضرورة ممتنع والاليق بالموجود الذى لا يدخل وجوده فى الزمان

[Page 123] ولا يحصره الزمان أن تكون أفعاله كذلك لانه لا فرق بين وجود
الموجود وأفعاله فان كانت حركات الاجرام السماوية وما يلزم عنها
افعالا لموجود ازلى غير داخل وجوده فى الزمان الماضى فواجب أن
تكون افعاله غير داخلة فى الزمان الماضى . [9] فليس كل ما نقول فيه انه لم
يزل يجوز أن يقال فيه قد دخل فى الزمان الماضى ولا انه قد انقضى لان
ما له نهاية فله مبدأ وايضاً فان قولنا فيه لم يزل نفى لدخوله فى الزمان
الماضى ولان كان له مبدأ والذى يضع انه قد دخل فى الزمان
الماضى يضع له مبدأ فهو يصادر على المطلوب فاذًا ليس بصحيح
ان ما لم يزل مع الوجود الازلى فقد دخل فى الوجود الا لو دخل
الموجود الازلى فى الوجود بدخوله فى الزمان الماضى . [10] فاذًا قولنا
كل ما مضى فقد دخل فى الوجود يفهم منه معنيان احدهما ان كل
ما دخل فى الزمان الماضى فقد دخل فى الوجود وهو صحيح واما ما
مضى مقارنا للوجود الذى لم يزل أى لا ينفك عنه فليس يصح ان
نقول قد دخل فى الوجود لان قولنا فيه قد دخل ضد لقولنا انه
مقارن للوجود الازلى ولا فرق فى هذا بين الفعل والوجود اعنى

[Page 124] من سلم امكان وجود موجود لم يزل فيما مضى فقد ينبغى ان يسلم
ان ههنا افعالا لم تزل قبل فيما مضى وانه ليس يلزم ان تكون افعاله
ولا بد قد دخلت فى الوجود كما ليس يلزم فى استمرار ذاته فيما مضى
أن يكون قد دخل فى الوجود وهذا كله بين كما ترى . [11] وبهذا
الموجود الاول يمكن ان توجد افعال لم تزل ولا تزال ولو امتنع ذلك
فى الفعل لامتنع فى الوجود اذ كل موجود ففعله مقارن له فى
الوجود فهؤلاء القوم جعلوا امتناع الفعل عليه ازليا ووجوده أزليا
وذلك غاية الخطأ . [12] لكن اطلاق اسم الحدوث على العالم كما اطلقه
الشرع أخص به من اطلاق الاشعرية لان الفعل بما هو فعل فهو محدث
وانما يتصور القدم فيه لان هذا الاحداث والفعل المحدث ليس له
اول ولا آخر . قلت ولذلك عسر على أهل الاسلام أن يسمى العالم
قديما واللّه قديم وهم لا يفهمون من القديم الا ما لا علة له وقد رأيت
بعض علماء الاسلام قد مال الى هذا الرأى
[13] قال ابو حامد واما مسلكهم الرابع فهو جار لانهم يقولون اذا عدم العالم بقى امكان
وجوده اذ الممكن لا ينقلب مستحيلا وهو وصف اضافى فيفتقر كل حادث بزعمهم الى مادة

[Page 125] سابقة وكل منعدم فيفتقر الى مادة ينعدم عنها فالمواد والاصول لا تنعدم وانما تنعدم
الصور والاعراض الحالّة فيها
[14] قلت اما اذا وضع تعاقب الصور دورا على موضوع واحد
ووضع ان الفاعل لهذا التعاقب فاعل لم يزل فليس يلزم عن وضع
ذلك محال واما ان وضع هذا التعاقب على مواد لا نهاية لها أو صور
لا نهاية لها فى النوع فهو محال وكذلك ان وضع ذلك من غير فاعل
أزلى أو من فاعل غير ازلى لانه ان كانت هنالك مواد لا نهاية لها
وجد ما لا نهاية له بالفعل وذلك مستحيل وأبعد من ذلك ان يكون
هذا التعاقب عن فاعلات محدثة ولذلك لا يصح على هذه الجهة ان
انسانا يكون ولا بد عن انسان ان لم يوضع ذلك متعاقبا على مادة
واحدة حتى يكون فساد بعض الناس المتقدمين مادة للمتأخرين
ووجود بعض المتقدمين أيضا يجرى مجرى الفاعل والآلة المتأخرين
وذلك كله بالعرض لان كون هؤلاء كالآلة للفاعل الذى لم يزل
يكون انسانا بوساطة انسان ومن مادة انسان . [15] وهذا كله اذا لم
يفصل هذا التفصيل لم ينفك الناظر فى هذه الاشياء من شكوك لا
مخلص له منها فلعل اللّه أن يجعلك و ايانا ممن بلغ درجة العلماء الذين

[Page 126] بلغوا منتهى الحقيقة فى الجائز من افعاله والواجب التى لا تتناهى
وكلما قلته من هذا كله فليس يبين ههنا ويجب ان يفحص عنه
بعناية على الشروط التى بينها القدماء واشترطوها فى الفحص ولا بد
مع ذلك ان يسمع الانسان اقاويل المختلفين فى كل شىء يفحص عنه
ان كان يجب ان يكون من أهل الحق
[16] قال ابو حامد والجواب عن الكل ما سبق - وانما أفردنا هذه المسئلة لان لهم فيها
دليلين آخرين

الاوّل

ما تمسك به جالينوس اذ قال لو كان الشمس مثلا تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول فى
مدة مديدة والارصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف سنين لا تدل الا على هذا المقدار فلما لم
تذبل فى هذه الآماد الطويلة دل انها لا ت/hi>
الاعتراض عليه من وجوه - الاول ان شكل هذا الدليل ان يقال ان كان
الشمس تفسد فلا بد وان يلحقها ذبول لكن التالى محال فالمقدم محال وهو قياس يسمى
عندهم الشرطى المتصل وهذه النتيجة غير لازمة لان المقدم غير صحيح ما لم يُضَفْ اليه شرط
آخر وهو قوله ان كان تفسد فلا بدّ وان تذبل فهذا التالى لا يلزم هذا المقدم الا

[Page 127] بزيادة شرط وهو ان يقال ان كان تفسد فسادا ذبوليا فلا بد وان تذبل فى طول المدة
أو يبين انه لا فساد الا بطريق الذبول حتى يلزم التالى للمقدم ولا نسلم انه لا يفسد الشىء
الا بالذبول بل الذبول احد وجوه الفساد ولا يبعد ان يفسد الشىء بغتة وهو على
حال كماله
[17] قلت الذى عاند به هذا القول فى هذا الوجه هو ان اللزوم بين
المقدم والتالى غير صحيح وذلك ان الفاسد ليس يلزم ان يذبل اذ
كان الفساد قد يقع للشىء قبل الذبول واللزوم صحيح اذا وضع
الفساد على المجرى الطبيعى ولم يوضع قسرا وسلم ايضا ان الجرم
السماوى حيوان وذلك ان كل حيوان يفسد على المجرى الطبيعى
فهو يذبل قبل ان يفسد ضرورة لكن هذه المقدمات لا يسلمها
الخصوم فى السماء بغير برهان فلذلك كان قول جالينوس اقناعيا .
[18] والاوثق من هذا القول ان السماء لو كانت تفسد لفسدت اما الى
الاسطقسات التى تركبت منها واما الى صورة اخرى بان تخلع
صورتها وتقبل صورة أخرى كما يعرض لصور البسائط بان يتكون
بعضها من بعض أعنى الاسطقسات الاربعة ولو فسدت الى
الاسطقسات لكانت جزءًا من عالم آخر لانه لا يصح ان تكون من

[Page 128] الاسطقسات المحصورة فيها لان هذه الاسطقسات هى جزء لا
مقدار له بالاضافة اليها بل نسبته منها نسبة النقطة من الدائرة ولو
خلعت صورتها وقبلت صورة اخرى لكان ههنا جسم سادس مضاد
لها ليس هو لا سماء ولا أرضا ولا ماء ولا هواء ولا نارا وذلك
كله مستحيل . [19] واما قوله انه لم تذبل فهو قول مشهور وهو دون
الاوائل اليقينية وقد قيل من أى جنس هى هذه المقدمات فى كتاب
البرهان
[20] قال ابو حامد الثانى انه لو سلم له هذا وانه لا فساد الا بالذبول فمن أين عرف انه
ليس يعتريه الذبول واما التفاته الى الارصاد فمحال لانها لا تعرف مقاديرها الا بالتقريب
والشمس التى يقال انها كالارض مائة وسبعين مرة أو ما يقرب منه لو نقص منها مقدار جبال
مثلا لكان لا يبين للحس فلعلها فى الذبول و الى الآن قد نقص مقدار جبال أو أكثر
والحس لا يقدر على ان يدرك ذلك لان تقديره فى علم المناظر لم يعرف الا بالتقريب وهذا
كما ان الياقوت والذهب مركبان من العناصر عندهم وهى قابلة للفساد ثم لو وضع ياقوتة
مائة سنة لم يكن نقصانها محسوسا فلعل نسبة ما ينقص من الشمس فى مدة تاريخ الارصاد كنسبة
ما ينقص من الياقوت فى مائة سنة وذلك لا يظهر للحس فدل ان دليله فى غاية الفساد
وقد أعرضنا عن إِيراد أدلة كثيرة من هذا الجنس يستركّها العقلاء وأوردنا هذا الواحد

شبهها كما سبق

[Page 129] ليكون عبرة ومثالا لما تركناه واقتصرنا على الادلة الاربعة التى يحتاج الى تكلف فى حل
[21] قلت لو كانت الشمس تذبل وكان ما يتحلل منها فى مدة
الارصاد غير محسوس لعظم جرمها لكان ما يحدث من ذبولها فيما ههنا
من الاجرام له قدر محسوس وذلك ان ذبول كل ذابل انما يكون
بفساد اجزاء منه تتحلل ولا بد فى تلك الاجسام المتحللة من الذابل
ان تبقى باسرها فى العالم أو تتحلل الى اجزاء أخر وأى ذلك كان
يوجب فى العالم تغيرا بينا اما فى عدد اجزائه واما فى كيفيتها ولو
تغيرت كميات الاجرام لتغيرت افعالها وانفعالاتها ولو تغيرت افعالها
وانفعالاتها وبخاصة الكواكب لتغير ما ههنا من العالم فتوهم ان
الاضمحلال على الاجرام السماوية مخل بالنظام الالهى الذى ههنا
عند الفلاسفة وهذا القول لا يبلغ مرتبة البرهان

[Page 130]

الدليل الثانى

[22] لهم فى استحالة عدم العالم ان قالوا العالم لا تنعدم جواهره لانه لا يعقل سبب لذلك
وما لم يكن منعدما ثم انعدم فلا بد ان يكون لسبب وذلك السبب لا يخلو اما ان يكون
ارادة القديم وهو محال لانه اذا لم يكن مريدا لعدمه ثم صار مريدا فقد تغيّر أو يؤدى الى
ان يكون القديم وارادته على نعت واحد فى جميع الاحوال والمراد يتغير من العدم الى
الوجود ثم من الوجود الى العدم وما ذكرناه من استحالة وجود حادث بارادة قديمة يدل
على استحالة العدم
ويزيدها هنا اشكال اخر اقوى من هذا وهو ان المراد فعل المريد لا محالة
وكل من لم يكن فاعلا ثم صار فاعلا فان لم يتغير هو فى نفسه فلا بد وان يصير فعله موجودا
بعد ان لم يكن موجودا فانه لو بقى كما كان قبل لم يكن له فعل والان أيضا لا فعل له
فاذا لم يفعل شيئا والعدم ليس بشىء فكيف يكون فعلا واذا عدم العالم وتجدد له
فعل لم يكن فما ذلك الفعل أ هو وجود العالم وهو محال اذا انقطع الوجود أو فعله عدم العالم
وعدم العالم ليس بشىء حتى يكون فعلا فان أقل درجات الفعل ان يكون موجودا وعدم
العالم ليس شيئا موجودا حتى يقال هو الذى فعله الفاعل وأوجده الموجد
ولاشكال هذا زعموا افتراق المتكلمين فى التقصى عن هذا اربع فرق وكل فرقة
اقتحمت محالا

[Page 131] [23] قلت أما ما حكاه عن الفلاسفة انهم يلزمون خصومهم فى هذا
القول بجواز عدم العالم أن يكون القديم وهو المحدث يلزم عنه فعل
حادث وهو الاعدام كما ألزموهم فى الحدوث فقد تم القول فيه عند
القول فى حدث العالم وذلك ان الشكوك الواقعة فى ذلك فى الاحداث
هى بعينها الواقعة فى الاعدام فلا معنى لاعادة القول فى ذلك . [24] وأما
ما يخص هذا الموضع من أن كل من قال بحدوث العالم يلزمه ان
يكون فعل الفاعل قد تعلق بالعدم حتى يكون الفاعل انما فعل
عدما فهو امر قد شنع على جميع الفرق تسليمه فلجأوا الى
الاقاويل التى تذكر عنهم بعد . [25] وهذا أمر يلزم ضرورة من قال ان
الفاعل انما يتعلق فعله بايجاد مطلق أعنى بايجاد شىء لم يكن قبل لا
بالقوة ولا كان ممكنا فاخرجه الفاعل من القوة الى الفعل بل اخترعه
اختراعا وذلك ان فعل الفاعل عند الفلاسفة ليس شيئا غير اخراج
ما هو بالقوة الى ان يصيره بالفعل فهو يتعلق عندهم بموجود فى
الطرفين أما فى الايجاد فبنقله من الوجود بالقوة الى الوجود بالفعل
فيرتفع عدمه وأما فى الاعدام فبنقله من الوجود بالفعل الى الوجود

[Page 132] بالقوة فيعرض ان يحدث عدمه . وأما من لم يجعل فعل الفاعل من
هذا النحو فانه يلزمه هذا الشك أعنى ان يتعلق فعله بالعدم بالطرفين
جميعا اعنى فى الايجاد والاعدام الا انه لما كان فى الاعدام أبين لم يقدر
المتكلمون ان ينفصلوا عن خصومهم . [26] وذلك انه ظاهر انه يلزم قائل
هذا القول ان يفعل الفاعل عدما وذلك انه اذا نقل الشىء من
الوجود الى العدم المحض فقد فعل عدما محضا على القصد الاول
بخلاف ما اذا نقله من الوجود بالفعل الى الوجود بالقوة وذلك ان
حدوث العدم يكون فى هذا النقل أمرا تابعا وهذا بعينه يلزمهم فى
الايجاد الا انه أخفى وذلك انه اذا وجد الشىء فقد بطل عدمه
ضرورة واذا كان ذلك كذلك فليس الايجاد شيئا الا قلب عدم
الشىء الى الوجود الا انه لما كان غاية هذه الحركة هى الايجاد كان
لهم ان يقولوا ان فعله انما تعلق بالايجاد ولم يقدروا ان يقولوه فى
الاعدام اذ كانت الغاية فى هذه الحركة هى العدم ولذلك ليس لهم
ان يقولوا ان فعله ليس يتعلق بابطال العدم وانما يتعلق بالايجاد فلزم
عند ذلك بطلان العدم لكن يلزمهم ضرورة ان يتعلق فعله بالعدم .
[27] وذلك ان الموجود على مذهبهم ليس له الا حال هو فيها معدوم

[Page 133] باطلاق وحال هو فيها موجود بالفعل فاما اذا كان موجودا بالفعل
فليس يتعلق به فعل الفاعل ولا اذا كان عدما فقد بقى أحد أمرين
اما الا يتعلق به فعل الفاعل واما ان يتعلق بالعدم فيقلب عينه
الى الوجود فمن فهم من الفاعل هذا فهو ضرورة يجوز انقلاب عين
العدم وجودا وانقلاب عين الوجود عدما وان يتعلق فعل الفاعل
بانتقال عين كل واحد من هذين المتقابلين الى الثانى وذلك كله
مستحيل فى غاية الاستحالة فى سائر المتقابلات فضلا عن العدم
والوجود . [28] فهؤلاء القوم انما أدركوا من الفاعل ما يدركه ذو البصر
الضعيف من ظل الشىء بدل الشىء حتى يظن بظل الشىء انه الشىء
فهذا كما ترى امر لازم لمن لم يفهم من الايجاد اخراج الشىء من
الوجود الذى بالقوة الى الوجود الذى بالفعل وفى الاعدام عكس
هذا وهو تغيره من الفعل الى القوة ومن هنا يظهر ان الامكان
والمادة لازمان لكل حادث وانه ان وجد موجود قائم بذاته فليس
يمكن عليه العدم ولا الحدوث
[29] وأما ما حكاه ابو حامد عن الاشعرية من انهم يجوزون حدوث
جوهر قائم بذاته ولا يجوزون عدمه فمذهب فى غاية الضعف لان ما

[Page 134] يلزم فى الاعدام يلزم فى الايجاد لكنه فى الاعدام أبين ولذلك ظن
انهما يفترقان فى هذا المعنى
[30] ثم ذكر جواب الفرق فى هذا الشك المتوجه عليهم فى الاعدام
فقال
اما المعتزلة فانهم قالوا فعله الصادر منه موجود وهو الفناء يخلقه لا فى محل فينعدم
كل العالم دفعة واحدة وينعدم الفناء المخلوق بنفسه حتى لا يحتاج الى فناء آخر فيتسلسل الى
غير نهاية
[31] ولما ذكر هذا الجواب عنهم فى الشك قال
وهذا فاسد من وجوه أحدها ان الفناء ليس موجودا منقولا حتى يقدر خلقه ثم ان
كان موجودا فلم ينعدم بنفسه من غير معدم ثم لم يعدم العالم فانه ان خلق فى ذات العالم وحل
فيه فهو مُحالٌ لان الحالّ يلاقى المحلول فيجتمعان ولو فى لحظة فاذا جاز اجتماعهما لم يكن
ضدا فلم يفنِه وان خلقه لا فى العالم ولا فى محل فمن أين يضاد وجوده وجود العالم . ثم فى هذا
المذهب شناعة اخرى وهو ان ﷲ تعالى لا يقدر على اعدام بعض اجزاء هذا العالم دون
بعض بل لا يقدر الا على احداث فناء يعدم العالم كله لانه اذا لم يكن فى محل كان
نسبته إلى الكل على وتيرة واحدة

[Page 135] [32] قلت هذا القول أسخف من أن يشتغل بالرد عليه لان الفناء
والعدم اسمان مترادفان فان لم يخلق عدما لم يخلق فناء، ولو قدرنا الفناء
موجودا لكان اقصى مراتبه ان يكون عرضا ووجود عرض فى
غير محل مستحيل وايضا فكيف يتصور أن يكون العدم يفعل
عدما وهذا كله شبه بقول المبرسمين
[33] قال ابو حامد الفرقة الثانية الكرامية حيث قالوا ان فعله الاعدام والاعدام عبارة
عن موجود يحدثه فى ذاته تعالى عن قولهم فيصير العالم به معدوما وكذلك الوجود عندهم
بايجاد يحدثه فى ذاته فيصير الموجود به موجودا . وهذا أيضا فاسد اذ فيه كون القديم محل
الحوادث ثم خروج عن المعقول اذ لا يعقل من الايجاد الا وجود منسوب الى ارادة وقدرة
فاثبات شىء آخر سوى الارادة والقدرة ووجود المقدور وهو العالم لا يعقل وكذا الاعدام
[34] قلت أما الكرامية فيرون ان ههنا ثلثة اشياء فاعل وفعل
وهو الذى يسمونه ايجادا ومفعول وهو الذى به تعلق الفعل
وكذلك يرون ان ههنا معدما وفعلا يسمى اعداما وشيئا معدوما
ويرون ان الفعل هو شىء قائم بذات الفاعل وليس يوجب عندهم

[Page 136] حدوث مثل هذه الحال فى الفاعل ان يكون محدثا لان هذا من
باب النسبة والاضافة وحدوث النسبة والاضافة لا يوجب حدوث
محلها وانما الحوادث التى توجب تغير المحل الحوادث التى تغير ذات
المحل مثل تغير الشىء من البياض الى السواد . [35] ولكن قولهم ان
الفعل يقوم بذات الفاعل خطأ وانما هى اضافة موجودة بين الفاعل
والمفعول اذا نسبت الى الفاعل سميت فعلا واذا نسبت الى المفعول
سميت انفعالا لكن الكرامية بهذا الوضع ليس يلزمهم ان يكون
القديم يفعل محدثا ولا ان يكون القديم ليس بقديم كما ظنت
الاشعرية لكن الذى يلزمهم ان يكون هنالك سبب أقدم من
القديم وذلك ان الفاعل اذا لم يفعل ثم فعل من غير ان ينقصه فى
الحال التى لم يفعل فيها شرط من شروط وجود المفعول فهو بين انه
قد حدث فى وقت الفعل صفة لم تكن قبل الفعل فى الفاعل وكل
حادث فله محدث فيلزم ان يكون قبل السبب الاول سبب ويمر
ذلك الى غير نهاية وقد تقدم ذلك
[36] قال ابو حامد الفرقة الثالثة الاشعرية اذ قالوا اما الاعراض فانها تغنى بانفسها ولا
يتصور بقاؤها اذ لو تصوّر بقاؤها لم يتصور فناؤها لهذا المعنى وأما الجواهر فليست باقية

[Page 137] بانفسها ولكنها باقية ببقاء زائد على وجودها فاذا لم يخلق ﷲ تعالى البقاء انعدم الجوهر
لعدم البقاء . وهو ايضا فاسد لما فيه من مناكرة المحسوس فى ان السواد لا يبقى والبياض
كذلك وانه متجدد الوجود والعقل ينبو عن هذا كما ينبو عن قول القائل ان الجسم
متجدد الوجود فى كل حالة والعقل القاضى بان الشعر الذى على رأس الانسان فى اليوم هو
الشعر الذى كان بالامس لا مثله يقضى أيضا بذلك فى سواد الشعر . ثم فيه إِشكال آخر وهو
ان الباقى اذا بقى ببقاء فيلزم ان تبقى صفات ﷲ تعالى ببقاء وذلك البقاء يكون باقيا
ببقاء فيحتاج الى بقاء آخر ويتسلسل الى غير نهاية
[37] قلت هذا القول فى غاية السقوط وان كان قد قال به كثير من
القدماء أعنى ان الموجودات فى سيلان دائم وتكاد لا تتناهى
المحالات التى تلزمه . [38] وكيف يوجد موجود يفنى بنفسه فيفنى الوجود
بفنائه فانه ان كان يفنى بنفسه فسيوجد بنفسه وان كان ذلك كذلك
لزم ان يكون الشىء الذى به صار موجودا به بعينه كان فانيا
وذلك مستحيل وذلك ان الوجود ضد الفناء وليس يمكن ان يوجد
الضدان لشىء من جهة واحدة ولذلك ما كان موجودا محضا لم يتصور

[Page 138] عليه فناء وذلك لانه ان كان وجوده يقتضى عدمه فسيكون
موجودا معدوما فى آن واحد وذلك مستحيل . [39] وايضا فان كانت
الموجودات انما تبقى بصفة باقية فى نفسها فهل عدمها انتقالها من
جهة ما هى موجودة أو معدومة ومحال ان يكون لها ذلك من جهة
انها معدومة فقد بقى ان يكون البقاء لها من جهة ما هى موجودة
فاذا كل موجود يلزم ان يكون باقيا من جهة ما هو موجود والعدم
أمر طار عليه فما الحاجة ليت شعرى ان تبقى الموجودات ببقاء وهذا
كله شبيه بالفساد الذى يكون فى العقل ولنخل عن هذه الفرقة
فاستحالة قولهم أبين من ان يحتاج الى معاندة
[40] قال ابو حامد الفرقة الرابعة طائفة من الاشعرية قالوا ان الاعراض تفنى بأنفسها
وأما الجواهر فانها تفنى بان لا يخلق ﷲ تعالى فيها حركة ولا سكونا ولا اجتماعا ولا افتراقا
فيستحيل ان يبقى جسم ليس بمتحرك ولا ساكن فينعدم . وكأنّ فرقتىَ الاشعرية مالوا
الى ان الإِعدام ليس بفعل انما هو كفّ عن الفعل لما لم يعقلوا كون العدم فعلا

[Page 139] قالت الفلاسفة واذا بطلت هذه الطرق لم يبق وجه للقول بجواز اعدام العالم
هذا لو قيل بان العالم حادث فانهم مع تسليمهم حدوث النفس الانسانية يدّعون
استحالة انعدامها بطرق تقرب مما ذكرنا . وبالجملة فعندهم ان كل قائم بنفسه لا فى محل
لا يتصوّر انعدامه بعد وجوده سواء كان قديما أو حادثا واذا قيل لهم فاذا اغلى النار
تحت الماء انعدم الماء قالوا لم ينعدم ولكن انقلب بخارا ثم ماء فالمادة الاولى وهى الهيولى
باقية فى الهواء وهى المادة التى كانت لصورة الماء وانما خلعت الهيولى صورة المائية ولبست
صورة الهوائية واذا اصاب الهواء برد كثف وانقلب ماء لا ان مادة تجددت بل المادة
مشتركة بين العناصر وانما يتبدل عليها صورها
[41] قلت اما من يقول بان الاعراض لا تبقى زمانين وان وجودها
فى الجواهر هو شرط فى بقاء الجواهر فهو لا يفهم ما فى قوله من
التناقض وذلك انه ان كانت الجواهر شرطا فى وجودها اذ كان لا
يمكن ان توجد الاعراض دون جواهر تقوم بها فوضع الاعراض
شرطا فى وجود الجواهر يوجب ان تكون الجواهر شرط فى وجود
أنفسها ومحا ان يكون الشىء شرطا فى وجود نفسه .
[42] وأيضا فكيف
تكون شرطا وهى لا تبقى زمانين وذلك ان الآن الذى يكون

[Page 140] نهاية لعدم الموجود منها ومبدأ لوجود الجزء الموجو منها قد كان
يجب ان يفسد فى ذلك الآن الجوهر فان ذلك الآن ليس فيه شىء من
الجزء المعدوم ولا شىء من الجزء الموجود وذلك انه لو كان فيه جزء
من الشىء المعدوم لما كان نهاية له وكذلك لو كان فيه جزء من
الشىء الموجود . وبالجملة ان يجعل ما لا يبقى زمانين شرطا فى بقاء
وجود ما يبقى زمانين بعيد فان الذى يبقى زمانين أحرى بالبقاء
من الذى لا يبقى زمانين لان الذى لا يبقى زمانين وجوده فى
الآن وهو السيال والذى يبقى زمانين وجوده ثابت وكيف يكون
السيال شرطا فى وجود الثابت أو كيف يكون ما هو باق بالنوع
شرطا فى بقاء ما هو باق بالشخص هذا كله هذيان . [43] وينبغى ان يعلم
ان من ليس يضع هيولى للشىء الكائن يلزمه ان يكون الموجود
بسيطا فلا يمكن فيه عدم لان البسيط لا يتغير ولا ينقلب جوهره
الى جوهر آخر ولذلك يقول ابقراط لو كان الانسان من شىء واحد
لما كان يألم بدنه أى لما كان يفسد ويتغير وكذلك كان يلزم ان لا
يتكون بل كان يكون موجودا لم يزل ولا يزال

[Page 141] [44] وأما ما حكاه عن ابن سينا من الفرق فى ذلك بين الحدوث
والفساد فى النفس لا معنى له
[45] قال ابو حامد مجيبا للفلاسفة
والجواب ان ما ذكرتموه من الاقسام وان أمكن ان نذب عن كل واحد ونبين
ان إِبطاله على اصلكم لا يستقيم لاشتمال اصولكم على ما هو من جنسه ولكنَّا لا نطول به
ونقتصر على قسم واحد ونقول بمَ تنكرون على من يقول الايجاد والاعدام بارادة ﷲ
تعالى فاذا أراد ﷲ أوجد واذا أراد اعدم وهو معنى كونه تعالى قادرا على الكمال وهو فى
جملة ذلك لا يتغير فى نفسه وانما يتغير الفعل . وامّا قولكم ان الفاعل لا بد وان يصدر منه فعل
فما الصادر منه قلنا الصادر منه ما تجدد وهو العدم اذ لم يكن عدم ثم تجدد العدم فهو الصادر عنه
فان قلتم انه ليس بشىء فكيف صدر عنه
قلنا وهو ليس بشىء فكيف وقع وليس معنى صدوره منه الا أن ما وقع مضاف الى
قدرته فاذا عقل وقوعه لمَ لا تعقل اضافته الى القدرة
[46] قلت هذا كله قول سفسطانى خبيث فان الفلاسفة لا ينكرون
وقوع عدم الشىء عند افساد المفسد له لكن لا بان المفسد له تعلق

[Page 142] فعله بعدمه بما هو عدم وانما تعلق فعله بنقله من الوجود الذى بالفعل
الى الوجود الذى بالقوة فتبعه وقوع العدم وحدوثه فعلى هذه الجهة
ينسب العدم الى الفاعل وليس يلزم من وقوع العدم اثر فعل الفاعل
فى الموجود ان يكون الفاعل فاعلا له أولا وبالذات . [47] فهو لما سلم له
فى هذا القول انه يقع العدم ولا بد اثر فعل المفسد فى الفاسد ألزم
ان يقع العدم بالذات وأولا من فعله وذلك لا يمكن فان الفاعل لا
يتعلق فعله بالعدم بما هو عدم اعنى أولا وبالذات وكذلك لو كانت
الموجودات المحسوسة بسيطة لما تكونت ولا فسدت الا لو تعلق
فعل الفاعل أولا وبالذات بالعدم وانما يتعلق فعل الفاعل بالعدم بالعرض
وثانيا وذلك بنقله المفعول من الوجود الذى بالفعل الى وجود آخر
فيلحق عن هذا الفعل العدم مثل تغير النار الى الهواء فانه يلحق ذلك
عدم النار وهكذا هو الامر عند الفلاسفة فى الوجود والعدم
[48] قال ابو حامد وما الفرق بينكم وبين من ينكر طريان العدم أصلا على الاعراض والصور
ويقول العدم ليس بشىء فكيف يطرا وكيف يوصف بالطريان والتجدد ولا شك فى ان
العدم يتصور طريانه على الاعراض فالموصوف بالطريان معقول وقوعه سمى شيئا أو لم يسم
فاضافة ذلك الواقع المعقول الى قدرة القادر أيضا معقول

[Page 143] [49] قلت طريان العدم على هذه الصفة صحيح وهو الذى تضعه
الفلاسفة لانه صادر عن الفاعل بالقصد الثانى وبالعرض وليس يلزم
من كونه صادرا أو معقولا ان يكون بالذات وأولًا والفرق بين
الفلاسفة وبين من ينكر وقوع العدم ان الفلاسفة ليس ينكرون
وقوع العدم أصلا وانما ينكرون وقوعه أولا وبالذات عن الفاعل
فان الفاعل لا يتعلق فعله بالعدم ضرورة اولا وبالذات وانما وقوع
العدم عندهم تابعا لفعل الفاعل فى الوجود وهو الذى يلزم من قال
ان العالم ينعدم الى لا موجود أصلا
[50] قال ابو حامد فان قيل هذا انما يلزم على مذهب من يجوز عدم الشىء بعد وجوده فيقال
له ما الذى طرا وعندنا لا ينعدم الشىء الموجود وانما نعنى بانعدام الاعراض طريان اضدادها
التى هى موجودات لا طريان العدم المجرد الذى ليس بشىء فان ما ليس بشىء كيف يوصف
بالطريان فاذا ابيضّ الشعر فالطارى هو البياض فقط وهو موجود ولا يقال الطارى عدم
السواد
[51] قلت هذا جواب عن الفلاسفة فاسد لان الفلاسفة لا ينكرون
ان العدم طار وواقع عن الفاعل لكن لا بالقصد الاول كما يلزم من
يضع ان الشىء ينتقل الى العدم المحض بل العدم عندهم طار عند

[Page 144] ذهاب صورة المعدوم وحدوث الصورة التى هى ضد ولذلك كانت
معاندة أبى حامد لهذا القول معاندة صحيحة
[52] قال ابو حامد وهذا فاسد من وجهين
أحدهما ان طريان البياض هل يتضمن عدم السواد أم لا فان قالوا لا فقد كابروا المعقول
وان قالوا نعم فالمتضمن عين المتضمن أم غيره فان قالوا هو عينه كان متناقضا اذ الشىء لا
يتضمن نفسه وان قالوا غيره فذلك الغير معقول أم لا فان قالوا لا قلنا فيم عرفتم انه متضمن
والحكم عليه بكونه متضمنا اعتراف بكونه معقولا وان قالوا نعم فذلك المتضمن المعقول
وهو عدم السواد قديم او حادث فان قالوا قديم فهو محال وان قالوا حادث فالموصوف
بالحدوث كيف لا يكون معقولا وان قالوا لا قديم ولا حادث فهو محال لانه قبل طريان
البياض لو قيل السواد معدوم لكان كذبا وبعده اذا قيل انه معدوم كان صادق فهو طار
لا محالة فهذا الطارى معقول فيجب ان ينسب الى قادر
[53] قلت هو طار معقول وينسب الى قادر لكن بالعرض لا بالذات
لانه لا يتعلق فعل الفاعل بالعدم المطلق ولا بعدم شىء ما لانه ليس
يقدر القادر ان يصير الموجود معدوما اولا وبذاته أى يقلب عين
الوجود الى عين العدم . [54] وكل من لا يضع مادة فلا ينفك عن هذا
الشك اعنى انه يلزمه ان يتعلق فعل الفاعل بالعدم أولا وبالذات

[Page 145] وهذا كله بين فلا معنى للاكثار فيه ولهذا قالت الحكماء ان المبادى
للامور الكائنة الفاسدة اثنان بالذات وهما المادة والصورة وواحد
بالعرض وهو العدم لانه شرط فى حدوث الحادث أعنى ان يتقدمه
فاذا وجد الحادث ارتفع العدم واذا فسد وقع العدم
[55] الوجه الثانى من الاعتراض ان من الاعراض ما ينعدم عندهم لا بضده فان الحركة لا
ضد لها وانما التقابل بينها وبين السكون عندهم تقابل الملكة والعدم أى تقابل الوجود
والعدم لا تقابل وجود لوجود ومعنى السكون عدم الحركة فاذا عدمت الحركة لم يطر
سكون هو ضده بل هو عدم محض وكذلك الصفات التى هى من قبيل الاستكمال كانطباع
أشباح المحسوسات فى الرطوبة الجليدية من العين بل انطباع صور المعقولات فى النفس فانها
ترجع الى استفتاح وجود من غير زوال ضده واذا عدم كان معناها زوال الوجود من
غير استعقاب ضده فزوالها عبارة عن عدم محض قد طرا فعقل وقوع العدم الطارى وما
عقل وقوعه بنفسه وان لم يكن شيئا عقل ان ينسب الى قدرة القادر
فتبين بهذا انه مهما تصوّر وقوع حادث بارادة قديمة لم يفترق الحال بين أن يكون
الواقع الحادث عدما او وجودا
[56] قلت بل يفترق أشد الافتراق اذا وضع العدم صادرا عن الفاعل
كصدور الوجود عنه واما اذا وضع الوجود أولا والعدم ثانيا أى
وضع حادثا عن الفاعل بتوسط ضرب من الوجود عنه وهو تصييره

[Page 146] الوجود الذى بالفعل الى القوة بإِبطال الفعل الذى هو الملكة فى
المحل فهو صحيح ولا يمتنع عند الفلاسفة من هذه الجهة ان يعدم
العالم بان ينتقل الى صورة أخرى لان العدم يكون ههنا تابعا
وبالعرض وانما الذى يمتنع عندهم ان ينعدم الشىء الى لا موجود أصلا
لانه لو كان ذلك كذلك لكان الفاعل يتعلق فعله بالعدم أولًا
وبالذات
[57] فهذا القول كله أخذ فيه بالعرض على انه بالذات فالزم الفلاسفة
منه ما قالوا بامتناعه وأكثر الاقاويل التى ضمن هذا الكتاب هى
من هذا القبيل ولذلك كان احق الاسماء بهذا الكتاب كتاب
التهافت المطلق أو تهافت أبى حامد لا تهافت الفلاسفة وكان احق
الاسماء بهذا الكتاب كتاب التفرقة بين الحق والتهافت من
الاقاويل

[Page 147]

المسئلة الثالثة فى بيان تلبيسهم بقولهم ان ﷲ فاعل العالم وصانعه وان العالم صنعه وفعله وبيان ان ذلك مجاز عندهم وليس بحقيقة

[1] الى قوله والعالم مركب من مختلفات فكيف يصدر عنه

[Page 148] [2] قلت قوله اما الذى فى الفاعل فهو انه لا بد وان يكون مريدا مختارا عالما لما يريده حتى
يكون فاعلا لما يريده
فكلام غير معروف بنفسه وحد غير معترف به فى فاعل العالم الا لو
قام عليه برهان أو صح نقل حكم الشاهد فيه الى الغائب . [3] وذلك انا
نشاهد الاشياء الفاعلة المؤثرة صنفين صنف لا يفعل إِلا شيئا واحدا
فقط وذلك بالذات مثل الحرارة تفعل حرارة والبرودة تفعل برودة
وهذه هى التى تسميها الفلاسفة فاعلات بالطبع والصنف الثانى
أشياء لها ان تفعل الشىء فى وقت وتفعل ضده فى وقت آخر وهذه
هى التى تسميها مريدة ومختارة وهذه انما تفعل عن علم ورويّة .
[4] والفاعل الاول سبحانه منزه عن الوصف باحد هذين الفعلين على
الجهة التى يوصف بها الكائن الفاسد عند الفلاسفة وذلك ان المختار
والمريد هو الذى ينقصه المراد وﷲ سبحانه لا ينقصه شىء يريده
والمختار هو الذى يختار احد الافضلين لنفسه وﷲ لا يعوزه حالة
فاضلة والمريد هو الذى اذا حصل المراد كفت ارادته وبالجملة
فالارادة هى انفعال وتغير وﷲ سبحانه منزه عن الانفعال والتغير .
وكذلك هو أكثر تنزيها عن الفعل الطبيعى لان فعل الشىء الطبيعى

[Page 149] هو ضرورى فى جوهره وليس ضروريا فى جوهر المريد ولكنه من
تتمته وأيضا فان الفعل الطبيعى ليس يكون عن علم وﷲ تعالى قد
تبرهن ان فعله صادر عن علم . فالجهة التى بها صار ﷲ فاعلا مريدا
ليس بينا فى هذا الموضع اذ كان لا نظير لارادته فى الشاهد . [5] فكيف
يقال انه لا يفهم من الفاعل الا ما يفعل عن روية واختيار ويجعل
هذا الحد له مطردا فى الشاهد والغائب والفلاسفة لا يعترفون باطراد
هذا الحد فيلزمهم اذا نفوا هذا الحد من الفاعل الاول ان ينفوا عنه
الفعل هذا بين بنفسه وقائل هذا هو الملبس لا الفلاسفة فان الملبس
هو الذى يقصد التغليط لا الحق واذا أخطأ فى الحق فليس يقال فيه
انه ملبس والفلاسفة معلوم من أمرهم انهم يطلبون الحق فهم غير
ملبسين أصلا ولا فرق بين من يقول ان ﷲ مريد بارادة لا تشبه
ارادة البشر وبين من يقول انه عالم بعلم لا يشبه علم البشر وانه كما لا
تدرك كيفية علمه كذلك لا تدرك كيفية ارادته
[6] قال ابو حامد ولنحقق كل واحد من هذه الوجوده الثلاثة مع خيالهم فى دفع

[Page 150]

اما الاول

فنقول الفاعل عبارة عمَّن يصدر منه الفعل مع الارادة للفعل على سبيل الاختيار ومع العلم
بالمراد وعندكم ان العالم من ﷲ تعالى كالمعلول من العلة يلزم لزوما ضروريا لا يتصور من ﷲ
دفعه لزوم الظل من الشخص والنور من الشمس الى قوله فان كل ذلك صادر منه
وهذا محال
[7] قلت حاصل هذا القول امران اثنان احدهما انه لا يعد فى
الاسباب الفاعلة الا من فعل بروية واختيار فان فعل الفاعل بالطبع
لغيره لا يعد فى الاسباب الفاعلة والثانى ان الجهة التى بها يرون ان
العالم صادر عن ﷲ هى مثل لزوم الظل للشخص والضياء للشمس
والهوى الى أسفل للحجر وهذا ليس يسمى فعلا لان الفعل غير
منفصل من الفاعل . قلت وهذا كله كذب . [8] وذلك ان الفلاسفة
يرون ان الاسباب أربعة الفاعل والمادة والصورة والغاية وان الفاعل
هو الذى يخرج غيره من القوة الى الفعل ومن العدم الى الوجود وان
هذا الاخراج ربما كان عن روية واختيار وربما كان بالطبع وانهم

[Page 151] ليس يسمون الشخص بفعله لظله فاعلا الا مجازا لانه غير منفصل
عنه والفاعل ينفصل عن المفعول باتفاق وهم يعتقدون ان البارى
سبحانه منفصل عن العالم فليس هو عندهم من هذا الجنس ولا هو
ايضا فاعل بمعنى الفاعل الذى فى الشاهد لا ذو الاختيار ولا غير ذى
الاختيار بل هو فاعل هذه الاسباب مخرج الكل من العدم الى
الوجود وحافظه على وجه أتم وأشرف مما هو فى الفاعلات المشاهدة
[9] فلا يلزمهم شىء من هذا الاعتراض وذلك انهم يرون ان فعله صادر
عن علم ومن غير ضرورة داعية اليه لا من ذاته ولا لشىء من خارج
بل لمكان فضله وجوده وهو ضرورة مريد مختار فى اعلى مراتب
المريدين المختارين اذ لا يلحقه النقص الذى يلحق المريد فى
الشاهد . [10] وهذا هو نص كلام الحكيم امام القوم فى بعض مقالاته
المكتوبة فى علم ما بعد الطبيعة ان قوما قالوا كيف أبدع ﷲ العالم
لا من شىء وفعله شيئا من لا شىء . قلنا فى جواب ذلك ان الفاعل

[Page 152] لا يخلو من أن تكون قوته كنحو قدرته وقدرته كنحو ارادته
وارادته كنحو حكمته أو تكون القوة أضعف من القدرة والقدرة
أضعف من الارادة والارادة أضعف من الحكمة فان كانت بعض
هذه القوى اضعف من بعض فالعلة الاولى لا محالة ليس بينها وبيننا
فرق وقد لزمها النقص كما لزمنا وهذا قبيح جدا او يكون كل واحد
من هذه القوى فى غاية التمام متى أراد قدر ومتى قدر قوى وكلها
بغاية الحكمة فقد وجد يفعل ما يشاء كما يشاء من لا شىء وانما
يتعجب من هذا النقص الذى فينا . وقال كل ما فى هذا العالم فانما
هو مربوط بالقوة التى فيه من ﷲ تعالى ولو لا تلك القوة التى للاشياء
لم تثبت طرفة عين . [11] قلت الموجود المركب ضربان ضرب التركيب
فيه معنى زائد على وجود المركبات وضرب وجود المركبات فى
تركيبها مثل وجود المادة مع الصورة وهذا النحو من الموجودات
ليس يوجد فى العقل تقدم وجودها على التركيب بل التركيب هو
علة الوجود وهو متقدم على الوجود فان كان الاول سبحانه علة
تركيب اجزاء العالم التى وجودها فى التركيب فهو علة وجودها ولا
بد و كل من هو علة وجود شىء ما فهو فاعل له هكذا ينبغى ان يفهم
الامر على مذهب القوم ان صح عند الناظر مذهبهم

[Page 153] [12] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل كل موجود ليس بواجب الوجود بذاته بل هو موجود بغيره فانَّا نسمى
ذلك الشىء مفعولا ونسمى سببه فاعلا ولا نبالى كان السبب فاعلا بالطبع أو بالارادة كما
انكم لا تبالون أنه كان فاعلا بآلة أو بغير آلة الى قوله
[13] قلت حاصل هذا الكلام جوابان احدهما ان كل ما كان واجبا
بغيره فهو مفعول للواجب بذاته وهذا الجواب معترض لان الواجب
بغيره ليس يلزم ان يكون الذى به وجب وجوده فاعلا الا ان يطلق
عليه حقيقة الفاعل وهو المخرج من القوة الى الفعل . واما الجواب
الثانى وهو ان اسم الفاعل كالجنس لما يفعل بالاختيار والروية ولما
يفعل بالطبع فهو كلام صحيح ويدل عليه ما حددنا به اسم الفاعل

[Page 154] لكن هذا الكلام يوهم ان الفلاسفة لا يرون انه مريد . وهذه القسمة
غير معروفة بنفسها أعنى ان كل موجود اما ان يكون واجب
الوجود بذاته أو موجودا بغيره
[14] قال ابو حامد رادا على الفلاسفة
قلنا هذه التسمية فاسدة فانا ليس نسمى كل سبب باى وجه كان فاعلا ولا كل مسبب
مفعولا ولو كان كذلك لما صح ان يقال ان الجماد لا فعل له وانما الفعل للحيوان وهذا من
الكلمات المشهور الصادقة
[15] قلت اما قوله انه ليس يسمى كل سبب فاعلا فحق واما
احتجاجه على ذلك بان الجماد لا يسمى فاعلا فكذب لان الجماد اذا
نفى عنه الفعل فانما ينفى عنه الفعل الذى يكون عن العقل والارادة
لا الفعل المطلق اذ نجد لبعض الجمادات الحادثة ايجادات تخرج
امثالها من القوة الى الفعل مثل النار التى تقلب كل رطب ويابس نارا
أخرى مثلها وذلك بان تخرجها عن الشىء الذى هى فيه بالقوة الى
الفعل ولذلك كل ما ليس فيه قوة ولا استعداد لقبول فعل النار فيه

[Page 155] فليس النار فاعلة فيه مثلها وهم يجحدون ان تكون النار فاعلة
وستأتى هذه المسئلة وايضاً فلا يشك أحد ان فى أبدان الحيوان قوى
طبيعية تصير الغذاء جزءًا من المتغذى وبالجملة تدبر بدون الحيوان
تدبيرا لو توهمناه مرتفعا لهلك الحيوان كما يقول جالينوس وبهذا
التدبير نسميه حيا وبعدم هذه القوى فيه يسمى ميتا
[16] ثم قال فان سمى الجماد فاعلا فباستعارة كما قد يسمى طالبا مريدا على سبيل
المجاز
[17] قلت أما اذا سمى فاعلا يراد به انه يفعل فعل المريد فهو مجاز
كما انه اذا قيل انه يطلب وانه مريد واما اذا أريد به انه يخرج
غيره من القوة الى الفعل فهو فاعل حقيقة بالمعنى التام
[18] ثم قال وأما قولكم ان قولنا فعل عام وينقسم الى ما هو بالطبع والى ما هو بالارادة
غير مسلم وهو كقول القائل قولنا أراد عامّ وينقسم الى مريد مع العلم بالمراد والى من

[Page 156] يريد ولا يعلم ما يريد وهو فاسد اذ الارادة تتضمن العلم بالضرورة فكذلك الفعل يتضمن
الارادة بالضرورة
[19] قلت اما قولهم ان الفاعل ينقسم الى مريد والى غير مريد فحق
ويدل عليه حد الفاعل واما تشبيهه اياه بقسمة الارادة الى ما يكون
بعلم وبغير علم فباطل لان الفعل بالارادة يؤخذ فى حده العالم فكانت
القسمة هدرا واما قسمة الفعل فليس يتضمن العلم اذ قد يخرج من
العدم الى الوجود غيره من لا علم له وهذا بين ولذلك قال العلماء فى
قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض انه استعارة
[20] ثم قال أما قولكم ان قولنا فعل بالطبع ليس ينقض للاوّل فليس كذلك فانه نقض
له من حيث الحقيقة ولكن لا يسبق الى الفهم التناقض ولا يشتد نفور الطبع عنه لانه يبقى
مجازا فانه لما أن كان سببا بوجه ما والفاعل أيضا سبب سمى فعلا مجازا. واذا قال فعل
بالاختيار فهو تكرير على التحقيق كقوله اراد وهو عالم بما أراده
[21] قلت هذا كلام لا يشك احد فى خطإِه فان ما اخرج غيره من
العدم الى الوجود أى فعل فيه شيئا لا يقال فيه انه فاعل بمعنى

[Page 157] التشبيه بغيره بل هو فاعل بالحقيقة لكون حد الفاعل منطبقا عليه
وقسمة الفاعل الى ما يفعل بطبعه والى ما يفعل باختياره ليس بقسمة
اسم مشترك وانما هى قسمة جنس ولمكان هذا كان قول القائل
الفاعل فاعلان فاعل بالطبع وفاعل بالرادة قسمة صحيحة اذ المخرج
من القوة الى الفعل غيره ينقسم الى هذين القسمين
[22] قال ابو حامد الا انه لما تصور ان يقال فعل وهو مجاز ويقال فعل وهو حقيقة لم تنفر
النفس عن قوله فعل بالاختيار وكان معناه فعَل فعلا حقيقيا لا مجازا كقول القائل تكلم
بلسانه ونظر بعينه فانه لما جاز ان يستعمل النظر فى القلب مجازا والكلام فى تحريك الرأس
واليد مجازا اذ يقال قال برأسه أى نعم لم يستقبح ان يقال قال بلسانه ونظر بعينه ويكون
معناه نفى احتمال المجاز فهذه مزلة القدم فليتنبه لمحل انخداع هؤلاء الاغبياء
[23] قلت هذه مزلة ممن ينسب الى العلم ان يأتى بمثل هذا التشبيه
الباطل والعلة الكاذبة فى كون النفوس مستشنعة لقسمة الفعل
الى الطبع والى الارادة فان احدا لا يقول نظر بعينه وبغير عينه
وهو يعتقد ان هذا قسمة للنظر وانما يقول نظر بعينه تقريرا للنظر
الحقيقى وتبعيدا له من ان يفهم منه النظر المجازى ولذلك قد يرى

[Page 158] العقل انه اذا فهم من رآه انه المعنى الحقيقى من أول الامر ان
تقييده النظر بالعين قريب من ان يكون هدرا واما اذا قال فعل
بطبعه وفعل باختياره فلا يختلف أحد من العقلاء ان هذه قسمة للفعل
[24] ولو كان قوله فعل بارادته مثل قوله نظر بعينه لكان قوله فعل
بطبعه مجازا والفاعل بالطبع اثبت فعلا فى المشهور من الفاعل بالارادة
لان الفاعل بالطبع لا يخل بفعله وهو يفعل دائماً والفاعل بالارادة
ليس كذلك ولذلك لخصومهم ان يعكسوا عليهم فيقولوا بل قوله
فعل بطبعه هو مثل قوله نظر بعينه وقوله فعل بارادته مجاز سيما
على مذهب الاشعرية الذين يرون ان الانسان ليس له اكتساب ولا
له فعل مؤثر فى الموجودات فان كان الفاعل الذى فى الشاهد هكذا
فمن اين ليت شعرى قيل ان رسم الفاعل الحقيقى فى الغائب هو ان
يكون عن علم وارادة
[25] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل تسمية الفاعل فاعلا انما يعرف من اللغة الى قوله فان قلتم ان ذلك كله
مجاز كنتم متحكمين فيه من غير مستند الى قوله

[Page 159] [26] قلت حاصل هذا القول هو احتجاج مشهور وهو ان العرب
تسمى من يؤثر فى الشىء وان لم يكن له اختيار فاعلا حقيقيا لا
مجازا فهو جواب جدلى فلا يعتبر فى الجواب
[27] قال ابو حامد مجيبا لهم
والجواب ان كل ذلك بطريق المجاز وانما الفعل الحقيقى ما يكون بالارادة . والدليل
عليه انا لو فرضنا حادثا توقف فى حصوله على أمرين أحدهما ارادى والآخر غير ارادى
أضاف العقل الفعل الى الارادى . فكذلك اللغة فان من ألقى انسانا فى نار فمات يقال هو
القاتل دون النار حتى اذا قيل ما قتله الا فلان صدق قائله الى قوله لم يكن صانعا ولا
فاعلا الا مجازا الى قوله
[28] قلت هذا الجواب هو من أفعال البطالين الذين ينتقلون من
تغليط الى تغليط وأبو حامد أعظم مقاما من هذا ولكن لعل أهل

[Page 160] زمانه اضطروه الى هذا الكتاب لينفى عن نفسه الظنة بانه يرى
رأى الحكماء وذلك ان الفعل ليس ينسبه أحد الى الآلة وانما ينسبه
الى المحرك الاول والذى قتل بالنار هو الفاعل بالحقيقة والنار هى
آلة القتلة ومن أحرقته النار من غير ان يكون لانسان فى ذلك
اختيار ليس يقول أحد انه أحرقته النار مجازا فوجه التغليط فى هذا
انه احتج بما يصدق مركبا على ما هو بسيط ومفرد غير مركب وهو
من مواضع السفسطانيين مثل من يقول فى الزنجى انه أبيض
الاسنان فهو أبيض باطلاق والفلاسفة لا يقولون ان ﷲ ليس مريدا
باطلاق لانه فاعل بعلم وعن علم وفاعل أفضل الفعلين المتقابلين
مع ان كليهما ممكن وانما يقولون انه ليس مريدا بالارادة الانسانية
[29] قال ابو حامد مجاوبا عن الفلاسفة
فان قيل نحن نعنى بكون ﷲ تعالى فاعلا انه سبب لوجود كل موجود سواه وان
العالم قوامه به ولو لا وجود البارى لما تصور وجود العالم الى قوله فلا مشاحة فى الاسم
بعد ظهور المعنى الى قوله

[Page 161] [30] قلت حاصله تسليم القول لخصومهم ان ﷲ تعالى ليس هو فاعلا
وانما هو سبب من الاسباب التى لا يتم الشىء الا به وهو جواب ردىء
لانه يلزم الفلاسفة منه ان يكون الاول مبدأ على طريق الصورة
للكل على جهة ما النفس مبدأ للجسد وهذا ليس يقوله أحد منهم
[31] ثم قال ابو حامد > مجيبا لهم
قلنا غرضنا ان نبين ان هذا المعنى لا يسمى فعلا وصنعا وانما المعنى بالفعل والصنع ما
يصدر عن الارادة حقيقة وقد نفيتم حقيقة معنى الفعل الى قوله ومقصود هذه المسئلة الكشف
عن هذا التلبيس فقط الى قوله
[32] قلت اما هذا القول فلازم للفلاسفة لو كانوا يقولون ما قوّلهم اياه
وذلك انه يلزمهم على هذا الوضع ان لا يكون للعالم فاعل لا بالطبع
ولا بالارادة ولا شىء هو فاعل بغير هذين النحوين فليس ما قاله
كشفا عن تلبيسهم وانما التلبيس انه ينسب الى الفلاسفة ما ليس
من قولهم

[Page 162] [33] قال ابو حامد

الوجه الثانى

فى ابطال كون العالم فعلا ﷲ سبحانه على اصلهم بشرط فى الفعل وهو ان الفعل عبارة
عن الاحداث والعالم عندهم قديم وليس بحادث ومعنى الفعل اخراج الشىء من العدم الى الوجود
باحداثه وذلك لا يتصور فى القديم اذ الموجود لا يمكن ايجاده فاذّا شرط الفعل ان يكون
حادثا والعالم قديم عندهم فكيف يكون فعلا ﷲ تعالى
[34] قلت اما ان كان العالم قديما بذاته وموجودا لا من حيث هو
متحرك لان كل حركة مؤلفة من اجزاء حادثة فليس له فاعل أصلا
واما ان كان قديما بمعنى انه فى حدوث دائم وانه ليس لحدوثه أول ولا
منتهى فان الذى افاد الحدوث الدائم أحق باسم الاحداث من الذى
افاد الاحداث المنقطع وعلى هذه الجهة فالعالم محدث ﷲ سبحانه واسم
الحدوث به أولى من اسم القدم وانما سمت الحكماء العالم قديما تحفظا
من المحدث الذى هو من شىء وفى زمان وبعد العدم
[35] ثم قال مجيبا عن الفلاسفة

[Page 163] الصادر منه المتعلق به الوجود المجرد أو العدم المجرد أو كلاهما وباطل ان يقال ان المتعلق
به العدم السابق اذ لا تأثير للفاعل فى العدم وباطل ان يقال كلاهما اذ بان أن العدم لا
يتعلق به أصلا وان العدم فى كونه عدما لا يحتاج الى فاعل البتة فبقى انه متعلق به من حيث انه
موجود فان الصادر منه مجرد الوجود وانه لا نسبة له اليه الا الوجود فان فرض الوجود
دائما فرضت النسبة دائمة واذا دامت هذه النسبة كان المنسوب اليه أفضل وادوم تأثيرا
لانه لم يتعلق العدم بالفاعل بحال . فبقى ان يقال انه متعلق به من حيث انه حادث ولا
معنى لكونه حادثا الا انه موجود بعد عدم والعدم لم يتعلق به
[36] قلت هذا القول هو من جواب ابن سينا فى هذه المسئلة عن
الفلاسفة وهو قول سفسطائى فانه أسقط منه أحد ما يقتضيه التقسيم
الحاصر وذلك انه قال ان فعل الفاعل لا يخلو ان يتعلق من الحادث
بالوجود أو بالعدم السابق له ومن حيث هو عدم أو بكليهما جميعا

[Page 164] ومحال ان يتعلق بالعدم فان الفاعل لا يفعل عدما ولذلك يستحيل
ان يتعلق بكليهما فقد بقى انه انما يتعلق بالوجود والاحداث ليس
شيئا غير تعلق الفعل بالوجود أعنى ان فعل الفاعل انما هو ايجاد
فاستوى فى ذلك الوجود المسبوق بعدم والوجود الغير مسبوق
بعدم . [37] ووجه الغلط فى هذا القول ان فعل الفاعل لا يتعلق بالوجود
الا فى حال العدم وهو الوجود الذى بالقوة ولا يتعلق بالوجود الذى
بالفعل من حيث هو بالفعل ولا بالعدم من حيث هو عدم بل بالوجود
الناقص الذى لحقه العدم ففعل الفاعل لا يتعلق بالعدم لان العدم ليس
بفعل ولا يتعلق بالوجود الذى لا يقارنه عدم لانه كل ما كان من
الوجود على كماله الآخر فليس يحتاج الى ايجاد ولا الى موجد والوجود
الذى يقارنه عدم لا يوجد الا فى حال حدوث المحدث . [38] فلذلك لا
ينفك من هذا الشك إلا أن ينزل أن العالم لم يزل يقترن بوجوده عدم
ولا يزال بعد يقترن به كالحال فى وجود الحركة وذلك انها دائما
تحتاج الى المحرك . والمحققون من الفلاسفة يعتقدون ان هذه هى

[Page 165] حال العالم الأعلى مع البارى سبحانه فضلًا عما دون العالم العلوى وبهذا
تفارق المخلوقات المصنوعات فان المصنوعات اذا وجدت لا يقترن
بها عدم تحتاج من أجله الى فاعل به يستمر وجودها
[39] قال ابو حامد وأما قولكم ان الموجود لا يمكن ايجاده ان عنيتم انه لا يستأنف له
وجود بعد عدم فصحيح وان عنيتم به انه فى حال كونه موجودا لا يكون موجدا فقد
بينا انه لا يكون موجدا الا فى حال كونه موجودا لا فى حال كونه معدوما فانه انما
يكون الشىء موجودا اذا كان الفاعل له موجدا ولا يكون الفاعل موجدا فى حال
العدم بل فى حال وجود الشىء منه والايجاد مقارن لكون الفاعل موجدا وكون المفعول
موجدا لانه عبارة عن نسبة الموجد الى الموجد وكل ذلك مع الوجود لا قبله فاذا لا ايجاد
الا لموجود ان كان المراد بالايجاد النسبة التى بها يكون الفاعل موجدا والمفعول موجدا .
قالوا ولهذا قضينا بان العالم فعل ﷲ أزلا وأبدا وما من حال الا وهو تعالى فاعل له
لان المرتبط بالفاعل الوجود فان دام الارتباط دام الوجود وان انقطع انقطع لا كما
تخيلتموه من ان البارى تعالى لو قدر عدمه لبقى العالم اذ ظننتم انه كالبنّاء مع البناء فانه
ينعدم ويبقى البناء فان بقاء البناء ليس هو بالبنَّاء بل هو باليبوسة الممسكة لتركيبه اذ
لو لم يكن فيه قوة ماسكة كالماء مثلا لم يتصور بقاء الشكل الحادث بفعل الفاعل فيه

[Page 166] [40] قلت ولعل العالم بهذه الصفة وبالجملة فلا يصح هذا القول وهو
ان يكون الايجاد من الفاعل الموجد يتعلق بالموجود من جهة ما هو
موجود بالفعل الذى ليس فيه نقص اصلا ولا قوة من القوى الا ان
يتوهم ان جوهر الموجود هو فى كونه موجدا فان الموجد المفعول
لا يكون موجدا الا بموجد فاعل فان كان كونه موجدا عن موجد
امرا زائدا على جوهره لم يلزم ان يبطل الوجود اذا بطلت هذه
النسبة التى بين الموجِد الفاعل والموجَد المفعول وان لم يكن أمرا
زائدا بل كان جوهره فى الاضافة أعنى فى كونه موجدا صح ما يقوله
ابن سينا وهذا لا يصح فى العالم لان العالم ليس موجودا فى باب
الاضافة وانما هو موجود فى باب الجوهر والاضافة عارضة له ولعل
هذا الذى قاله ابن سينا هو صحيح فى صور الاجرام السماوية مع ما
تدركه من الصور المفارقة للمواد فان الفلاسفة يزعمون ذلك لانه
قد تبين ان ههنا صورا مفارقة للمواد وجودها هو تصورها وان
العلم انما غاير المعلوم ههنا من قبل ان المعلوم هو فى مادة
[41] قال ابو حامد مجيبا للفلاسفة
والجواب ان الفعل يتعلق بالفاعل من حيث حدوثه لا من حيث حدوثه لا من حدوثه عدمه السابق ولا
من حيث كونه موجودا فقط فانه لا يتعلق به فى ثانى حال الحدوث عندنا وهو موجود بل قال ابو حامد

[Page 167] يتعلق به فى حال حدوثه من حيث انه حدوث وخروج من العدم الى الوجود فان نفى منه
معنى الحدوث لم يعقل كونه فعلا ولا تعلقه بالفاعل . وقولكم ان كونه حادثا يرجع الى
كونه مسبوقا بالعدم وكونه مسبوقا بالعدم ليس من فعل الفاعل وجعل الجاعل فهو كذلك
ولكنه شرط فى كون الوجود فعل الفاعل أعنى كونه مسبوقا بالعدم فالوجود الذى ليس
مسبوقا بعدم بل هو دائم لا يصلح لان يكون فعلا لفاعل وليس كل ما يشترط فى كون
الفعل فعلا ينبغى ان يكون بفعل الفاعل فان ذات الفاعل وقدرته وارادته وعلمه شرط فى
كونه فاعلا وليس ذلك من اثر الفاعل ولكن لا يعقل فعل الا من موجود فكان
وجود الفاعل شرطا وارادته و قدرته وعلمه ليكون فاعلا وان لم يكن من اثر الفاعل
[42] قلت هذا الكلام كله صحيح فان فعل الفاعل انما يتعلق بالمفعول
من حيث هو متحرك والحركة من الوجود الذى بالقوة الى الوجود
الذى بالفعل هى التى تسمى حدوثا وكما قال العدم هو شرط من
شروط وجود الحركة عن المحرك وليس ما كان شرطا فى فعل الفاعل
يلزم اذا لم يتعلق به فعل الفاعل ان يتعلق بضده كما ألزم ابن سينا
[43] لكن الفلاسفة تزعم ان من الموجودات ما فصولها الجوهرية فى
الحركة كالرياح وغير ذلك وانما السماوات وما دونها هى من هذا
الجنس من الموجودات التى وجودها فى الحركة واذا كان ذلك

[Page 168] كذلك فهى فى حدوث دائم لم يزل ولا يزال وعلى هذا فكما ان
الموجود الازلى احق بالوجود من الغير الازلى كذلك ما كان حدوثه
ازليا أولى باسم الحادث مما حدوثه فى وقت ما. [44] ولو لا كون العالم
بهذه الصفة أعنى ان جوهره فى الحركة لم يحتج العالم بعد وجوده الى
البارئ سبحانه كما لا يحتاج البيت الى وجود البناء بعد تمامه والفراغ
منه الا لو كان العالم من باب المضاف كما رام ابن سينا ان يبينه فى
القول المتقدم وقد قلنا نحن ان ما رام من ذلك هو صادق على صور
الاجرام السماوية . [45] وان كان هذا هكذا فالعالم مفتقر الى حضور
الفاعل له فى حال وجوده من جهة ما هو فاعل بالوجهين جميعا أعنى
لكون جوهر العالم كائنا فى الحركة وكون صورته التى بها قوامه
ووجوده من طبيعة المضاف لا من طبيعة الكيف اعنى الهيئات
والملكات المعدودة فى باب الكيف فان كل ما كانت صورته داخلة
فى هذا الجنس ومعدودة فيه فهو اذا وجد وفرغ وجوده مستغن عن
الفاعل فهذا كله يحل لك هذا الاشتباه ويرفع عنك الحيرة التى تنشأ
للناس من هذه الاقاويل المتضادة

[Page 169] [46] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل ان اعترفتم بجواز كون الفعل مع الفاعل غير متأخر عنه فيلزم منه ان يكون
الفعل حادثا ان كان الفاعل حادثا وقديما ان كان قديما . وان شرطتم ان يتأخر الفعل عن
الفاعل بالزمان فهذا محال اذ من حرك اليد فى قدح ماء تحرك الماء مع حركة اليد لا قبلها
ولا بعدها اذ لو تحرك بعدها لكان اليد مع الماء قبل تنحيه فى حيز واحد ولو تحرك قبلها
لا نفصل الماء عن اليد وهو مع كونه معها معلوله وفعل من جهته فان فرضنا اليد قديمة فى
الماء متحركة كانت حركة الماء أيضًا دائمة وهى مع دوامها معلولة ومفعولة ولا يمتنع ذلك
بفرض الدوام فكذلك نسبة العالم الى ﷲ
[47] قلت اما فى الحركة مع المحرك فصحيح واما فى الموجود الساكن
مع الموجد له او فى ما ليس شأنه ان يسكن او يتحرك ان فرض
موجودا بهذه الصفة فغير صحيح فليكن هذه النسبة انما وجدت
بين الفاعل والعالم من جهة ما هو متحرك واما ان كل موجود يلزم
ان يكون فعله مقارنا لوجوده فصحيح الا أن يعرض للموجود امر
خارج عن الطبع أو عارض من العوارض وسواء كان الفعل طبيعيا
أو اراديا فانظر كيف وضعت الاشعرية موجودا قديما ومنعوا عليه
الفعل فى وجوده القديم ثم اجازوه عليه حتى كان وجوده القديم

[Page 170] انقسم الى وجودين قديمين ماض ومستقبل وهذا كله عند الفلاسفة
هوس وتخليط
[48] قال ابو حامد مجيبا للفلاسفة فى القول المتقدم
قلنا لا نحيل ان يكون الفعل مع الفاعل بعد كون الفعل حادثا كحركة الماء فانها
حادثة عن عدم فجاز ان يكون فعلا ثم سواء كان متأخرا عن ذات الفاعل أو مقارنا له .
وانما نحيل الفعل القديم فان ما ليس حادثا عن عدم فتسميته فعلا مجاز مجرد لا حقيقة له .
واما المعلول مع العلة فيجوز ان يكونا حادثين وان يكونا قديمين كما يقال ان العلم القديم
علة لكون القديم عالما ولا كلام فيه وانما الكلام فيما يسمى فعلا ومعلول العلة لا يسمى فعل العلة
الا مجازا بل يسمى فعلا بشرط ان يكون حادثا عن عدم فان تجوز متجوز بتسمية القديم
الدائم الوجود فعلا لغيره كان متجوزا فى الاستعارة . وقولكم لو قدرنا حركة الماء مع الاصبع
قديمة دائما لم يخرج حركة الماء عن كونها فعلا تلبيس لان الاصبع لا فعل له وانما الفاعل
ذو الاصبع وهو المريد ولو قدر قديما لكانت حركة الاصبع فعلا له من حيث ان كل
جزء من الحركة فحادث عن عدم فهذا الاعتبار كان فعلا واما حركة الماء فقد لا نقول
انه من فعله بل هو من فعل ﷲ وعلى أى وجه كان فكونه فعلا من حيث انه حادث الا
انه دائم الحدوث وهو فعل من حيث انه حادث
[49] ثم قال
فان قيل فان اعترفتم بان نسبة الفعل الى الفاعل من حيث انه موجود كنسبة المعلول
الى العلة ثم سلمتم تصور الدوام فى نسبة العلة فنحن لا نعنى بكون العالم فعلا الا كونه معلولا
دائم النسبة الى ﷲ تعالى فان لم تسموا هذا فعلا فلا مضايقة فى الاسماء بعد ظهور المعانى
قلنا ولا غرض من هذه المسئلة الا بيان انكم تتجملون بهذه الاسماء من غير تحقيق
وان ﷲ تعالى عندكم ليس فاعلا تحقيقا ولا العالم فعله تحقيقا وان اطلاق هذا الاسم مجاز
منكم لا تحقيق له وقد ظهر هذا

[Page 171]
[50] قلت هذا القول يضع فيه أن الفلاسفة قد سلموا له انهم انما
يعنون بان ﷲ فاعل انه علة له فقط وان العلة مع المعلول وهذا
انصراف منهم عن قولهم الاول لان المعلول انما يلزم عن العلة التى
هى له علة على طريق الصورة أو على طريق الغاية واما المعلول فليس
يلزم عن العلة التى هى علة فاعلة بل قد توجد العلة الفاعلة ولا يوجد
المعلول فكان ابو حامد كالوكيل الذى يقر على موكله بما لم يأذن
له فيه . بل الفلاسفة ترى ان العالم له فاعل لم يزل فاعلا ولا يزال أى
لم يزل مخرجا له من العدم الى الوجود ولا يزال مخرجا . [51] وقد كانت
هذه المسئلة قديما دارت بين آل أرسطاطاليس وآل افلاطون وذلك
ان افلاطون لما قال بحدوث العالم لم يكن فى قوله شك فى انه يضع
للعالم صانعا فاعلا واما ارسطاطاليس فلما وضع انه قديم شك عليه

[Page 172] اصحاب افلاطون بمثل هذا الشك وقالوا انه لا يرى ان للعالم صانعا
فاحتاج اصحاب ارسطو ان يجيبوا عنه باجوبة تقتضى ان ارسطو
يرى ان للعالم صانعا وفاعلا وهذا يبين على الحقيقة فى موضعه . [52] والاصل
فيه هو ان الحركة عندهم فى الاجرام السماوية بها يتقوم وجودها
فمعطى الحركة هو فاعل للحركة حقيقة واذا كانت الاجرام السماوية
لا يتم وجودها الا بالحركة فمعطى الحركة هو فاعل الاجرام السماوية .
[53] وأيضا قد تبين عندهم انه معطى الوحدانية التى بها صار العالم
واحدا ومعطى الواحدانية التى هى شرط فى وجود الشىء المركب
هو معطى وجود الاجزاء التى وقع منها التركيب لان التركيب هو
علة لها على ما تبين وهذه هى حال المبدأ الاول سبحانه مع العالم
كله . [54] واما قولهم ان الفعل حادث فصحيح لانه حركة وانما معنى
القدم فيه انه لا اول له ولا آخر ولذلك ليس يعنون بقولهم ان العالم
قديم انه متقوم باشياء قديمة لكونها حركة وهذا هو الذى لما لم
تفهمه الاشعرية عسر عليهم ان يقولوا ان ﷲ قديم وان العالم قديم
ولذلك كان اسم الحدوث الدائم أحق به من اسم القدم

[Page 173] [55] قال ابو حامد

الوجه الثالث

فى استحالة كون العالم فعلا ﷲ تعالى على اصلهم بشرط مشترك بين الفاعل والفعل وهو
انهم قالوا لا يصدر من الواحد الا شىء واحد والمبدأ واحد من كل وجه والعالم مركب من
مختلفات فلا يتصور ان يكون فعلا ﷲ تعالى بموجب اصلهم
[56] قلت اما اذا سلم هذا الاصل والتزم فيعسر الجواب عنه لكنه
شىء لم يقله الا المتأخرة من فلاسفة الاسلام
[57] قال قال مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل العالم بجملته ليس صادرا من ﷲ تعالى بغير واسطة بل الصادر منه موجود
واحد وهو اول المخلوقات وهو عقل مجرد اى هو جوهر قائم بنفسه غير متحيز يعرف نفسه
ويعرف مبدأه ويعبر عنه فى لسان الشرع بالملك ثم منه يصدر الثالث ومن الثالث رابع
وتكثر الموجودات بالتوسط . فان اختلاف الفعل وكثرته اما ان يكون لاختلاف القوى
الفاعلة كما انا نفعل بقوة الشهوة خلاف ما نفعل بقوة الغضب وإِما ان يكون لاختلاف
المراد كما ان الشمس تبيض الثوب المغسول وتسود وجه الانسان وتذيب بعض الجواهر
وتصلب بعضها وإِما لاختلاف الآلات كالنجار الواحد ينشر بالميشار وينحت بالقدوم ويثقب
بالمثقب وإِثما ان يكون كثرة الفعل بالتوسط بان يفعل فعلا واحدا ثم ذلك الفعل يفعل غيره
فيكثر الفعل . وهذه الاقسام كلها محال فى المبدأ الاول اذ ليس فى ذاته اختلاف ولا اثنينية

[Page 174] ولا كثرة كما سيأتى فى أدلة التوحيد ولا ثم اختلاف مواد فان الكلام فى المعلول الاول
الذى هو المادة الاولى مثلا ولا ثم اختلاف آلة اذ لا موجود مع ﷲ تعالى فى رتبته
فالكلام فى حدوث الآلة الاولى فلم يبق الا ان تكون الكثرة فى العالم صادرة من ﷲ
تعالى بطريق التوسط كما سبق
[58] قلت حاصل هذا الكلام ان الاول اذا كان بسيطا واحدا لا
يصدر عنه الا واحد وانما يختلف فعل الفاعل ويكثر اما من قبل
المواد ولا مواد معه أو من قبل الآلة ولا آلة معه فلم يبق الا ان
يكون من قبل المتوسط بان يصدر عنه أولًا واحد وعن ذلك الواحد
واحد وعن ذلك الواحد واحد فيوجد الكثرة
[59] ثم قال رادا عليهم
قلنا فيلزم من هذا الا يكون فى العالم شىء واحد مركب من افراد بل تكون
الموجودات كلها آحادا وكل واحد معلول لواحد آخر فوقه وعلة لآخر تحته الى ان ينتهى
الى معلول لا معلول له كما انتهى فى جهة التصاعد الى علة لا علة لها وليس كذلك فان

[Page 175] الجسم عندهم مركب من صورة وهيولى وقد صار باجتماعها شيئا واحدا والانسان مركب
من جسم ونفس وليس وجود احدهما من الآخر بل وجود هما جميعا من علة أخرى والفلك
عندهم كذلك فانه جرم ذو نفس لم تحدث النفس بالجرم ولا الجرم بالنفس بل كلا هما
صادران من علة سواهما . فكيف وجدت هذه المركبات أمن علة واحدة فيبطل قولهم
لا يصدر من الواحد الا واحد او من علة مركبة فيتوجه السؤال فى تلك العلة الى ان
يلتقى بالضرورة مركب وبسيط فان المبدأ بسيط وفى الاخر تركيب ولا يتصور ذلك
الا بالالتقاء وحيث يقع الالتقاء يبطل قولهم ان الواحد لا يصدر منه الا واحد
[60] قلت هذا لازم لهم اذا وضعوا الفاعل الاول كالفاعل البسيط
الذى فى الشاهد أعنى ان تكون الموجودات كلها بسيطة لكن هذا
انما يلزم من جعل هذا الطلب عاما فى جميع الموجودات واما من
قسم الموجود الى الموجود المفارق والموجود الهيولانى المحسوس
فانه جعل المبادى التى يرتقى اليها الموجود المحسوس غير المبادى التى
يرتقى اليها الموجود المعقول فجعل مبادى الموجودات المحسوسة
المادة والصورة وجعل بعضها لبعض فاعلات الى ان يرتقى الى
الجرم السماوى وجعل الجواهر المعقولة ترتقى الى مبدأ أول هو لها

[Page 176] مبدأ على جهة تشبه الصورة وتشبه الغاية وتشبه الفاعل وذلك كله
مبين فى كتبهم فتأتى المقدمة مشتركة فليس تلزمهم هذه الشكوك
وهذا هو مذهب ارسطو
[61] وهذه القضية القائلة ان الواحد لا يصدر عنه الا واحد هى
قضية اتفق عليها القدماء حين كانوا يفحصون عن المبدأ الاول للعالم
بالفحص الجدلى وهم يظنونه الفحص البرهانى فاستقر رأى الجميع
منهم على ان المبدأ واحد للجميع وان الواحد يجب الا يصدر عنه الا
واحد فلما استقر عندهم هذان الاصلان طلبوا من اين جاءت الكثرة .
[62] وذلك بعد ان بطل عندهم الرأى الاقدم من هذا وهو ان المبادى
الاول اثنان احدهما للخير والآخر للشر وذلك انه لا يمكن عندهم
ان تكون مبادى الاضداد واحدة ورأوا ان المتضادة العامة التى
تعم جميع الاضداد هى الخير والشر فظنوا انه يجب ان تكون
المبادى اثنين فلما تأمل القدماء الموجودات ورأوا انها كلها تؤم غاية
واحدة وهو النظام الموجود فى العالم كالنظام الموجود فى العسكر
من قبل قائد العسكر والنظام الموجود فى المدن من قبل مدبرى

[Page 177] المدن اعتقدوا ان العالم يجب أن يكون بهذه الصفة وهذا هو معنى
قوله سبحانه لو كان فيهمٰا آلهة الا ﷲ لفسدتا . [63] واعتقدوا لمكان
وجود الخير فى كل موجود ان الشر حادث بالعرض مثل العقوبات التى
يضعها مدبروا المدن الفاضلون فانها شرور وضعت من اجل الخير لا
على القصد الاول وذلك ان ههنا من الخيرات خيرات ليس يمكن ان
توجد الا يشوبها شر كالحال فى وجود الانسان الذى هو مركب من
نفس ناطقة ونفس بهيمية فكان الحكمة اقتضت عندهم ان يوجد
الخير الكثير وان كان يشوبه شر يسير لان وجود الخير الكثير مع
الشر اليسير آثر من عدم الخير الكثير لمكان الشر اليسير . [64] فلما تقرر
بالآخرة عندهم ان المبدأ الاول يجب ان يكون واحدا ووقع هذا
الشك فى الواحد جاوبوا فيه باجوبة ثلاثة فبعضهم زعم ان الكثرة
انما جاءت من قبل الهيولى وهو انكساغورس وآله وبعضهم زعم
ان الكثرة انما جاءت من قبل كثرة الآلات وبعضهم زعم ان
الكثرة انما جاءت من قبل المتوسطات وأول من وضع هذا
افلاطون . وهو أقنعها رأيا لان السؤال يأتى فى الجوابين الآخرين
وهو من اين جاءت كثرة المواد وكثرة الآلات فمن اعترف بهذه

[Page 178] المقدمة فالشك مشترك بينهم والكلام فى الوجه الذى به لزمت
الكثرة عن الواحد لازم لها اعنى فيمن اعترف ان الواحد لا يصدر
عنه الا واحد . [65] واما المشهور اليوم فهو ضد هذا وهو ان الواحد
الاول صدر عنه صدورًا اولا جميع الموجودات المتغايرة فالكلام
فى هذا الوقت مع أهل هذا الزمان انما هو فى هذه المقدمة
[66] وأما ما اعترض به ابو حامد على المشائين فليس يلزمهم وهو انه
ان كانت الكثرة لا حقة من جهة المتوسطات فليس يلزم عن ذلك
الا كثرة بسيطة كل واحد منها مركب من كثرة فان الفلاسفة يرون
تن ههنا كثرة بهاتين الجهتين كثرة لامور بسيطة وهى الموجودات
البسيطة التى ليست فى هيولى وان هذه بعضها أسباب لبعض
وترتقى كلها الى سبب واحد هو من جنسها وهو اول فى ذلك الجنس
وان كثرة الاجرام السماوية انما جاءت عن كثرة هذه المبادى وان
الكثرة التى دون الاجرام السماوية انما جاءت من قبل الهيولى
والصورة والاجرام السماوية فلم يلزمهم شىء من هذا الشك . [67] فالاجرام
السماوية متحركة اولا من المحركين لها الذين ليس هم فى مادة
اصلا وصورها اعنى الاجرام السماوية مستفادة من اولئك المحركين

[Page 179] وصور ما دون الاجرام السماوية مستفادة من الاجرام السماوية
وبعضها من بعض سواء كانت صور الاجسام البسائط التى فى المادة
الاولى الغير كائنة ولا فاسدة أو صورا لاجسام مركبة من
الاجسام البسيطة وان التركيب فى هذه هو من قبل الاجرام
السماوية هذا هو اعتقادهم فى النظام الذى ههنا . واما الاشياء التى
حركتهم اعنى الفلاسفة لهذا الاعتقاد فليس يمكن ان تبين ههنا اذ
كان بنوه على اصول ومقدمات كثيرة تبين فى صنائع كثيرة
وبصنائع كثيرة بعضها مرتب على بعض . [68] واما الفلاسفة من أهل
الاسلام كابى نصر وابن سينا فلما سلموا لخصومهم ان الفاعل فى
الغائب كالفاعل فى الشاهد وان الفاعل الواحد لا يكون منه الا
مفعول واحد وكان الاول عند الجميع واحدا بسيطا عسر عليهم
كيفية وجود الكثرة عنه حتى اضطرهم الامر ان لم يجعلوا الاول
هو المحرك الحركة اليومية بل قالوا ان الاول هو موجود بسيط
صدر عنه محرك الفلك الاعظم وصدر عن محرك الفلك الاعظم الفلك
الاعظم ومحرك الفلك الثانى الذى تحت الاعظم اذ كان هذا المحرك

[Page 180] مركبا من ما يعقل من الاول وما يعقل من ذاته . وهذا خطأ على
أصولهم لان العاقل والمعقول هو شىء واحد فى العقل الانسانى
فضلا عن العقول المفارقة . [69] وهذا كله ليس يلزم قول ارسطو فان
الفاعل الواحد الذى وجد فى الشاهد يصدر عنه فعل واحد ليس
يقال مع الفاعل الاول الا باشتراك الاسم وذلك ان الفاعل الاول
الذى فى الغائب فاعل مطلق والذى فى الشاهد فاعل مقيد والفاعل
المطلق ليس يصدر عنه الا فعل مطلق والفعل المطلق ليس يختص
بمفعول دون مفعول وبهذا استدل ارسطاليس على ان الفاعل
للمعقولات الانسانية عقل متبرى عن المادة اعنى من كونه يعقل
كل شىء وكذلك استدل على العقل المنفعل انه لا كائن ولا فاسد من
قبل انه يعقل كل شىء
[70] والجواب فى هذا على مذهب الحكيم ان الاشياء التى لا يصح
وجودها الا بارتباط بعضها مع بعض مثل ارتباط المادة مع الصورة
وارتباط اجزاء العالم البسيطة بعضها مع بعض فان وجودها تابع
لارتباطها واذا كان ذلك كذلك فمعطى الرباط هو معطى الوجود

[Page 181] واذا كان كل مرتبط انما يرتبط بمعنى فيه واحد والواحد الذى به
يرتبط انما يلزم عن واحد هو معه قائم بذاته فواجب ان يكون ههنا
واحد مفرد قائم بذاته وواجب ان يكون هذا الواحد انما يعطى معنى
واحدا بذاته وهذه الوحدة تتنوع على الموجودات بحسب طبائعها
ويحصل عن تلك الوحدة المعطاة فى موجود موجود وجود ذلك
الموجود وتترقى كلها الى الوحدة الاولى كما تحصل الحرارة التى فى
موجود موجود من الاشياء الحارة عن الحار الاول الذى هو النار
وتترقى اليها . [71] وبهذا جمع ارسطو بين الوجود المحسوس والوجود
المعقول وقال ان العالم واحد صدر عن واحد وان الواحد هو سبب
الوحدة من جهة وسبب الكثرة من جهة ولما لم يكون من قبله وقف
على هذا ولعسر هذا المعنى لم يفهمه كثير ممن جاء بعده كما ذكرنا .
واذا كان ذلك كذلك فبين ان ههنا موجودا واحدا تفيض منه
قوة واحدة بها توجد جميع الموجودات ولانها كثيرة فاذًا عن
الواحد بما هو واحد واجب ان توجد الكثرة أو تصدر او كيف ما

[Page 182] شئت ان تقول وهذا هو معنى قوله وذلك بخلاف ما ظن من قال
ان الواحد يصدر عنه واحد
[72] فانظر هذا الغلط ما اكثره على الحكماء فعليك ان تتبين قولهم
هذا هل هو برهان ام لا اعنى فى كتب القدماء لا فى كتب ابن
سينا و يره الذين غيروا مذهب القوم فى العلم الالهى حتى صار ظنيا
[73] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل اذا عرف مذهبنا اندفع الاشكال فان الموجودات تنقسم الى ما هى فى
محل كالاعراض والصور والى ما هى ليست فى محل وهذا ينقسم الى ما هى محل لغيرها
كالاجسام والى ما هى ليست بمحل كالموجودات التى هى جواهر قائمة بانفسها وهى تنقسم الى
ما تؤثر فى الاجسام ونسميها نفوسا والى ما لا تؤثر فى الاجسام بل فى النفوس ونسميها عقولا
مجردة . فاما الموجودات التى تحل فى المحل كالاعراض فهى حادثة ولها علل حادثة وتنتهى
الى مبدأ هو حادث من وجه دائم من وجه وهى الحركة الدورية وليس الكلام فيها . وانما
الكلام فى الاصول القائمة بانفسها لا فى محل وهى ثلاثة اجسام وهى اخسها وعقول مجردة
وهى التى لا تعلق لها بالاجسام لا بالعلاقة الفعلية ولا بالانطباع فيها وهى اشرفها ونفوس
وهى اوسطها فانها تتعلق بالاجسام نوعا من التعلق وهو التأثير والفعل فيها فهى متوسطة فى
الشرف فانها تتأثر من العقول وتؤثر فى الاجسام ثم الاجسام عشرة تسع سماوات والعاشر

[Page 183] المادة التى هى حشو مقعر فلك القمر والسماوات التسع حيوانات لها اجرام ونفوس ولها
ترتيب فى الوجود كما نذكره . وهو ان المبدأ الاول فاض من وجوده العقل الاول وهو
موجود قائم بنفسه ليس بجسم ولا منطبع فى جسم يعرف نفسه ويعرف مبدأه وقد سميناه العقل
الاول ولا مشاحة فى الاسامى سمى ملكا أو عقلا أو ما أُريد ويلزم عن وجوده ثلاثة امور
عقل ونفس الفلك الاقصى وهى السماء التاسعة وجرم الفلك الاقصى ثم لزم من العقل الثانى عقل
ثالث ونفس فلك الكواكب وجرمه ثم لزم من العقل الثالث عقل رابع ونفس فلك زحل وجرمه
ولزم من العقل الرابع عقل خامس ونفس فلك المشترى وجرمه وهكذا حتى انتهى الى العقل
الذى لزم منه عقل ونفس فلك القمر وجرمه . والعقل الاخير هو الذى يسمى العقل الفَعّال
ثم لزم حشو فلك القمر وهى المادة القابلة للكون والفساد من العقل الفعال وطبائع الافلاك
ثم ان المواد تمتزج بسبب حركات الافلاك والكواكب امتزاجات مختلفة تحصل منها المعادن
والنبات والحيوان ولا يلزم ان يلزم من كل عقل عقل الى غير نهاية لان هذه العقول مختلفة
الانواع فما ثبت لواحد لا يلزم للآخر . فخرج منه ان العقول بعد المبدأ الاول عشرة
والافلاك تسعة ومجموع هذه المبادى الشريفة بعد الاول تسعة عشر وحصل منه أن تحت كل
عقل من العقول الاول ثلاثة اشياء عقل ونفس فلك وجرمه فلا بد وان يكون فى مبداه
تثليث لا محالة ولا يتصور كثرة فى المعلول الاول الا من وجه واحد وهو انه يعقل مبدأه
ويعقل نفسه وهو باعتبار ذاته ممكن الوجود لان وجوب وجوده بغيره لا بنفْسه وهذه معان
ثلاثة مختلفة فالاشرف من المعلولات الثلاثة ينبغى ان ينسب الى الاشرف من هذه المعانى
فيصدر منه العقل من حيث انه يعقل مبدأه ويصدر نفس الفلك من حيث انه يعقل نفسه ويصدر
جرم الفلك من حيث انه ممكن الوجود بذاته . فيبقى ان يقال هذا التثليث من أين حصل فى
المعلوم الاول ومبداه واحد فنقول لم يصدر من المبدأ الاول الا واحد وهو ذات هذا
العقل الذى به يعقل نفسه ولزمه ضرورة لا من جهة المبدأ ان عقل المبدأ وهو فى ذاته ممكن

[Page 184] الوجود وليس له الامكان من المبدأ الأول بل هو لذاته ونحن لا نبعد ان يوجد من
الواحد واحد يلزم ذلك المعلول لا من جهة المبدأ امور ضرورية اضافية أو غير اضافية
فيحصل بسببه كثرة ويصير بذلك مبدأ الوجود الكثرة فعل هذا الوجه يمكن ان يلتقى
المركب بالبسيط اذ لا بد من الالتقاء ولا يمكن الا كذلك فهو الذى يجب الحكم به .
فهذا هو القول فى تفهيم مذهبهم
[74] قلت هذا كله تخرص على الفلاسفة من ابن سينا وأبى نصر
وغيره
[75] ومذهب القوم القديم هو ان ههنا مبادى هى الاجرام السماوية
ومبادى الاجرام السماوية موجودات مفارقة للمواد هى المحركة
للاجرام السماوية والاجرام السماوية تتحرك اليها على جهة الطاعة لها
والمحبة فيها والامتثال لامرها اياها بالحركة والفهم عنها وانها انما
خلقت من اجل الحركة . [76] وذلك انه لما صح ان المبادى التى تحرك
الاجرام السماوية هى مفارقة للمواد وانها ليست باجسام لم يبق وجه
به يحرك الاجسام ما هذا شأنه الا من جهة ان المحرك امر بالحركة
ولذلك لزم عندهم ان تكون الاجسام السماوية حية ناطقة تعقل

[Page 185] ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها على جهة الامر لها ولما تقرر انه لا
فرق بين العلم والمعلوم الا ان المعلوم فى مادة والعلم ليس فى مادة
وذلك فى كتاب النفس فاذا وجدت موجودات ليست فى مادة
وجب ان يكون جوهرها علما او عقلا او كيف شئت ان تسميها
[77] وصح عندهم ان هذه المبادى مفارقة للمواد من قبل انها التى
افادت الاجرام السماوية والحركة الدائمة التى لا يلحقها فيها كلال ولا
تعب وان كل ما يفيد حركة دائمة بهذه الصفة فانه ليس جسما ولا
قوة فى جسم وان الجسم السماوى انما استفاده البقاء من قبل المفارقات
[78] وصح عندهم ان هذه المبادى المفارقة وجودها مرتبط بمبدأ اول
فيها ولو لا ذلك لم يكن ههنا نظام موجود واقاويلهم مسطورة فى
ذلك فينبغى لمن أراد معرفة الحق ان يقف عليها من عندهم
[79] وما يظهر ايضاً من كون جميع الافلاك تتحرك الحركة اليومية مع
انها تتحرك بها المحركات التى تخصها مما صح عندهم ان الآمر بهذه
الحركة هو المبدأ الاول وهو ﷲ سبحانه وانه امر سائر المبادى ان
تأمر سائر الافلاك بسائر الحركات وان بهذا الامر قامت السماوات
والارض كما ان بأمر الملك الاول فى المدينة قامت جميع الاوامر

[Page 186] الصادرة ممن جعل له الملك ولاية امر من الامور من المدينة الى
جميع من فيها من اصناف الناس كما قال سبحانه وأوحى فى كل سماء
امرها وهذا التكليف والطاعة هى الاصل فى التكليف والطاعة
التى وجبت على الانسان لكونه حيوانا ناطقا . [80] واما ما حكاه ابن
سينا من صدور هذه المبادى بعضها من بعض فهو شىء لا يعرفه
القوم وانما الذى عندهم ان لها من المبدأ الاول مقامات معلومة لا
يتم لها وجود الا بذلك المقام منه كما قال سبحانه وما منا الا له
[81] مقام معلوم وان الارتباط الذى بينها هو الذى يوجب كونها معلولة
بعضها عن بعض وجميعها عن المبدأ الاول ولنه ليس يفهم من الفاعل
والمفعول والخالق والمخلوق فى ذلك الوجود إِلا هذا المعنى فقط وما
قلناه من ارتباط وجود كل موجود بالواحد فذلك خلاف ما يفهم
ههنا من الفاعل والمفعول والصانع والمصنوع فلو تخيلت آمرا له
مامورون كثيرون واولئك المأمورون لهم مأمورون آخر ولا
وجود للمأمورين الا فى قبول الامر وطاعة الامر ولا وجود لمن
دون المأمورين الا بالمامورين لوجب ان يكون الآمر الاول هو الذى

[Page 187] اعطى جميع الموجودات المعنى الذى به صارت موجودة فانه ان
كان شىء وجوده فى انه مامور فلا وجود له الا من قبل الآمر
الاول . وهذا المعنى هو الذى يرى الفلاسفة انه عبرت عنه الشرائع
بالخلق والاختراع والتكليف . [82] فهذا هو اقرب تعليم يمكن ان يفهم
به مذهب هؤلاء القوم من غير ان يلحق ذلك الشنعة التى تلحق من
سمع مذاهب القوم على التفصيل الذى ذكره أبو حامد ههنا
[83] وهذا كله يزعمون انه قد تبين فى كتبهم فمن امكنه ان ينظر فى
كتبهم على الشروط التى ذكروها فهو الذى يقف على صحة ما يزعمون
أو ضده وليس يفهم من مذهب أرسطو غير هذا ولا من مذهب
افلاطون وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الانسانية . وقد يمكن
الانسان ان يقف على هذه المعانى من اقاويل عرض لها أن كانت
مشهورة مع انها معقولة وذلك ان ما شأنه ذلك الشأن من التعليم
فهو لذيذ محبوب عند الجميع . [84] واحد المقدمات التى يظهر منها هذا
المعنى هو ان الانسان اذا تأمل ما ههنا ظهر له ان الاشياء التى
تسمى حية عالمة هى الاشياء المتحركة من ذاتها بحركات محدودة
نحو اغراض وافعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة ولذلك قال

[Page 188] المتكلمون ان كل فعل فانما يصدر عن حى عالم فاذا حصل له هذا
ااصل وهو ان كل ما يتحرك حركات محدودة فيلزم عنها افعال
محدودة منتظمة فهو حيوان عالم واضاف الى ذلك ما هو مشاهد
بالحس وهو ان السماوات تتحرك من ذاتها حركات محدودة يلزم عن
ذلك فى الموجودات التى دونها افعال محدودة ونظام وترتيب به قوام
ما دونها من الموجودات تولد اصل ثالث لا شك فيه وهو ان
السماوات اجسام حية مدركة . [85] فاما ان حركاتها يلزم عنها افعال
محدودة بها قوام ما ههنا وحفظه من الحيوان والنبات والجماد فذلك
معروف بنفسه عند التأمل فانه لو لا قرب الشمس وبعدها فى فلكها
المائل لم يكن ههنا فصول اربعة ولو لم يكن ههنا فصول اربعة
لما كان نبات ولا حيوان ولا جرى الكون على نظام فى كون
الاسطقسات بعضها من بعض على السواء لينحفظ لها الوجود مثال
ذلك انه اذا بعدت الشمس الى جهة الجنوب برد الهواء فى جهة
الشمال فكانت الامطار وكثر كون الاسطقس المائى وكثر فى
جهة الجنوب تولد الاسطقس الهوائى وفى الصيف بالعكس اعنى اذا

[Page 189] صارت الشمس قرب سمت رؤسنا وهذه الافعال التى تلفى للشمس
من قبل القرب والبعد الذى لها دائما من موجود موجود من
المكان الواحد بعينه تلفى للقمر ولجميع الكواكب فان لكلها
افلاكا مائلة وهى تفعل فصولا اربعة فى حركاتها الدورية واعظم من
هذه كلها فى ضرورة وجود المخلوقات وحفظها الحركة العظمى
اليومية الفاعلة لليل والنهار وقد نبه الكتاب العزيز على العناية
بالانسان لتسخير جميع السماوات له فى غير ما آية مثل قوله سبحانه
سخر لكم الليل والنهار الآية . [86] فاذا تأمل الانسان هذه الافعال
والتدبيرات اللازمة المتقنة عن حركات الكواكب ورأى
الكواكب تتحرك هذه الحركات وهى ذوات اشكال محدودة ومن
جهات محدودة ونحو افعال محدودة وحركات متضادة علم ان هذه
الافعال المحدودة انما هى عن موجودات مدركة حية ذوات اختيار
وارادة . ويزيده اقناعا فى ذلك اذ يرى ان كثيرا من الاجسام
الصغيرة الحقيرة الخسيسة المظلمة الاجساد التى ههنا لم تعدم الحياة

[Page 190] بالجملة على صغر أجرامها وخساسة اقدارها وقصر اعمارها واظلام
اجسادها وان الجواد الالهى افاض عليها الحياة والادراك التى بها
دبرت ذاتها وحفظت وجودها علم على القطع ان الاجسام السماوية
احرى أن تكون حية مدركة من هذه الاجسام لعظم اجرامها
وشرف وجودها وكثرة انوارها كما قال سبحانه لخلق السمٰاوٰات
والارض اكبر من خلق الناس ولٰكنّ اكثر الناس لاٰ يعلمون .
وبخاصة اذا اعتبر تدبيرها للاجسام الحية التى ههنا علم على القطع
انها حية فان الحى لا يدبره الا حى اكمل حيوة منه . [87] فاذا تأمل
الانسان هذه الاجسام العظيمة الحية الناطقة المختارة المحيطة بنا
ونظر الى اصل ثالث وهو ان عنايتها بما ههنا هى غير محتاجة اليها
فى وجودها علم انها مأمورة بهذه الحركات ومسخرة لما دونها من
الحيوانات والنبات والجمادات وان الآمر لها غيرها وهو غير جسم
ضرورة لانه لو كان جسما لكان واحدا منها . وكل واحد منها مسخر
لما دونه ههنا من الموجودات وخادم لما ليس يحتاج الى خدمته فى
وجوده وانه لو لا مكان هذا الآمر لما اعتنت بما ههنا على الدوام

[Page 191] والاتصال لانها مريدة ولا منفعة لها خاصة فى هذا الفعل فاذا انما
يتحرك من قبل الامر والتكليف الجرم المتوجه اليها لحفظ ما
ههنا واقامة وجوده والآمر هو ﷲ سبحانه وهذا كله معنى قوله
تعالى اتينا طائعين . ومثال هذا فى الاستدلال لو ان انسانا رأى جمعاً
عظيماً من الناس ذوى خطر وفضل مكبين على افعال محدودة لا
يخلون بها طرفه عين مع ان تلك الافعال غير ضرورية فى وجودهم
وهم غير محتاجين اليها لأيقن على القطع انهم مكلفون ومأمورون
بتلك الافعال وان لهم أميرا هو الذى أوجب لهم تلك الخدمة
الدائمة للعناية بغير هم المستمرة هو أعلى قدرا منهم وأرفع رتبة وانهم
كالعبيد المسخرين له وهذا المعنى هو الذى اشار اليه الكتاب العزيز
فى قوله سبحانه وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السماوات والارض
الآية . [88] واذا اعتبر الانسان أمرا آخر وهو ان كل واحد من
الكواكب السبعة له حركات خادمة لحركته الكلية ذوات اجسام
تخدم جسمه الكلى كانها خدمة يعتنون بخادم واحد علم ايضا على
القطع ان لجماعة كل كوكب منها آمرا خاصا بهم رقيبا عليهم من قبل

[Page 192] الآمر الاول مثل ما يعرض عند تدبير الجيوش ان يكون منها
جماعة جماعة كل واحد منها تحت آمر واحد واولئك الآمرون وهم
المسمون العرفاء يرجعون الى أمير واحد وهو امير الجيش كذلك
الامر فى حركات الاجرام السماوية التى ادرك القدماء من هذه
الحركات وهى نيف على الاربعين ترجع كلها الى سبع آمرين وترجع
السبع او الثمانية على اختلاف بين القدماء فى عدد الحركات الى
الآمر الاول سبحانه . [89] وهذه المعرفة تحصل للانسان بهذا الوجه
سواء علم كيف مبدأ خلقة هذه الاجسام اعنى السماوية أو لم يعلم
وكيف ارتباط وجود سائر الآمرين بالآمر الاول او لم يعلم فانه لا
شك انها لو كانت موجودة من ذاتها أعنى قديمة من غير علة ولا
موجد لجاز عليها الا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير والا تطيعه
وكذلك حال الآمرين مع الامر الاول واذا لم يجز ذلك عليها فهنالك
نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من
انها ملك له فى عين وجودها لا فى عرض من اعراضها كحال السيد
مع عبيده بل فى نفس وجودها فانه ليس هنالك عبودية زائدة على
الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية وهذا هو معنى قوله

[Page 193] سبحانه ان كل من فى السموات والارض الا آتى الرحمن عبدا
وهذا الملك هو ملكوت السموات والارض الذى اطلع ﷲ تعالى
عليه ابراهيم عليه السلام فى قوله تعالى وكذلك نرى ابراهيم
ملكوت السموات والارض . [90] وانت تعلم انه اذا كان الامر
هكذا فانه يجب الا تكون خلقة هذه الاجسام ومبدأ كونها على
نحو كون الاجسام التى ههنا وان العقل الانسانى يقصر عن ادراك
كيفية ذلك الفعل وان كان يعترف بالوجود فمن رام ان يشبه
الوجودين احدهما بالآخر وان الفاعل لها فاعل بالنحو الذى توجد
الفاعلات ههنا فهو شديد الغفلة عظيم الزلة كثير الوهلة
[91] فهذا هو اقصى ما يفهم به مذاهب القدماء فى الاجرام السماوية
وفى اثبات الخالق لها وفى انه ليس بجسم واثبات ما دونه من
الموجودات التى ليست باجسام واحدها هى النفس . [92] واما اثبات
وجوده من كونها محدثة على نحو حدوث الاجسام التى نشاهدها كما
رام المتكلمون فعسير جدا والمقدمات المستعملة فى ذلك هى غير

[Page 194] مفضية بهم الى ما قصدوا بيانه وسنبين هذا من قولنا فيما بعد عند
التكلم فى طرق اثبات وجود ﷲ سبحانه
[93] واذ قد تقرر هذا فلنرجع الى ذكر شىء مما يقوله ابو حامد
فى مناقضة ما حكاه عن الفلاسفة ونعرف مرتبته فى الحق اذ كان
ذلك هو المقصود الاول فى هذا الكتاب
[94] قال ابو حامد رادا على الفلاسفة
قلنا ما ذكرتموه تحكمات وهى على التحقيق ظلمات فوق ظلمات لو حكاه الانسان عن
منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه أو اورد جنسه فى الفقهيات التى قصارى المطلب فيها
تخمينات لقيل انها ترهات لا تفيد غلبات الظنون
[95] قلت لا يبعد ان يعرض مثل هذا للجهال مع العلماء وللجمهور
مع الخواص كما يعرض ذلك لهم فى المصنوعات فان الصناع اذا
أوردوا صفات كثيرة من مصنوعاتهم على العوام وتضمنوا الافعال
العجيبة عنها هذىء بهم الجمهور وظنوا انهم مبرسمين وهم فى الحقيقة

[Page 195] الذين ينزلون منزلة المبرسمين من العقلاء والجهال من العلماء وامثال
هذه الاقاويل لا ينبغى ان يتلقى بها اراء العلماء واهل النظر . [96] وقد
كان الواجب عليه اذ ذكر هذه الاشياء ان يذكر الاراء التى
حركتهم الى هذه الاشياء حتى يقايس السامع بينها وبين الاقاويل
التى يروم بها هو ابطالها
[97] قال أبو حامد ومداخل الاعتراض على مثله لا تنحصر ولكنا نورد وجوها معدودة
الاول من هذا انا نقول ادعيتم ان أحد معانى الكثرة فى المعلول الاول انه ممكن
الوجود فنقول كونه ممكن الوجود عين وجوده أو غيره فان كان عينه فلا ينشأ منه كثرة
وان كان غيره فهلا قلتم فى المبدا الاول كثرة لانه موجود وهو مع ذلك واجب الوجود
فوجوب الوجود غير نفس الوجود فليجز صدور المختلفات منه لهذه الكثرة . وان قيل
لا معنى لوجوب الوجود الا الوجود فلا معنى لامكان الوجود الا الوجود . فان قلتم يمكن
ان يعرف كونه موجودا ولا يعرف كونه ممكنا فهو غيره فكذا واجب الوجود يمكن ان
يعرف وجوده ولا يعرف وجوبه الا بعد دليل آخر فليكن غيره . وبالجملة الوجود أمر عام
ينقسم الى واجب والى ممكن فان كان فصل احد القسمين زائدا على العام فكذلك الفصل
الثانى ولا فرق

[Page 196] فان قيل امكان الوجود له من ذاته ووجوده من غيره فكيف يكون ما له من ذاته
وما له من غيره واحدا
قلنا وكيف يكون وجوب الوجود هو عين الوجود ويمكن أن ينفى وجوب الوجود
و يثبت الوجود والواحد الحق من كل وجه هو الذى لا يتسع المنفى والاثبات اذ لا يمكن ان
يقال موجود وليس بموجود او واجب الوجود وليس بواجب الوجود ويمكن ان يقال
موجود وليس بواجب الوجود كما يمكن ان يقال موجود وليس بممكن الوجود وانما
يعرف الوحدة بهذا فلا يستقيم تقدير ذلك فى الاول ان صح ما ذكروه من كون امكان
الوجود غير الوجود الممكن
[98] قلت اما قوله ان قولنا فى الشىء انه ممكن الوجود لا يخلو اما
ان يكون عين الوجود أو غيره اى معنى زائدا على الوجود فان كان
عينه فليس بكثرة فلا معنى لقولهم ان ممكن الوجود هو الذى فيه
كثرة وان كان غيره لزمكم ذلك فى واجب الوجود فيكون واجب
الوجود فيه كثرة وذلك خلاف ما يضعون فانه كلام غير صحيح .
[99] وقد ترك قسماً ثالثاً وذلك ان واجب الوجود ليس هو معنى زائدا على
الوجود خارج النفس وانما هو حالة للموجود الواجب الوجود ليست
زائدة على ذاته وكانها راجعة الى نفى العلة اعنى ان يكون وجوده
معلولا عن غيره فكانه ما أثبت لغيره سلب عنه بمنزلة قولنا فى الموجود
انه واحد وذلك ان الوحدة ليست تفهم فى الموجود معنى زائدا على

[Page 197] ذاته خارج النفس فى الوجود مثل ما يفهم من قولنا موجود ابيض
وانما يفهم منه حالة عدمية وهى عدم الانقسام وكذلك واجب الوجود
انما يفهم من وجوب الوجود حالة عدمية اقتضتها ذاته وهو ان يكون
وجوب وجوده بنفسه لا بغيره . [100] وكذلك قولنا ممكن الوجود من
ذاته ليس يمكن ان يفهم منه صفة زائدة على الذات خارج النفس كما
فهم من الممكن الحقيقى وانما يفهم منه ان ذاته تقتضى الا يكون
وجوده واجبا الا بعلة فهو يدل على ذات اذا سلب عنه علته لم يكن
واجب الوجود بذاته بل كان غير واجب الوجود أى مسلوبا عنه
صفة وجوب الوجود فكانه قال ان الواجب الوجود منه ما هو
واجب لنفسه ومنه ما هو واجب لعلة والذى هو واجب لعلة ليس
واجبا لنفسه فلا يشك احد ان هذه الفصول ليست فصولا
جوهرية اى قاسمة للذات ولا زائدة على الذات وانما هى احوال
[101] سلبية او اضافية مثل قولنا فى الشىء انه موجود فانه ليس يدل على
معنى زائد على جوهره خارج النفس كقولنا فى الشىء انه مبيض
ومن هذا غلط ابن سينا فظن ان الواحد معنى زائد على الذات
وكذلك الوجود على الشىء فى قولنا ان الشىء موجود وستأتى هذه

[Page 198] المسئلة . [102] واول من استنبط هذه العبارة هو ابن سينا اعنى قوله
ممكن الوجود من ذاته واجب من غيره وذلك ان الامكان هو
صفة فى الشىء غير الشىء الذى فيه الامكان فيقتضى ظاهر هذا اللفظ
ان يكون ما دون الاول مركبا من شيئين اثنين احدهما المتصف
بالامكان والثانى المتصف بوجوب الوجود فهى عبارة ردية . [103] ولكن
تذا فهم منه المعنى الذى قلناه لم يلحق الشك الذى الزمه اياه ابو حامد
وانما يبقى عليه هل اذا فهم من المعلول الاول امكان وجوده هل
يقتضى له ان يكون مركبا ام لا لانه ان كانت الصفة اضافية لم
تقتض له التركيب وليس كل شىء يعقل فيه احوال متغايرة يقتضى
ان تكون الاحوال صفات زائدة على ذاته خارج النفس فان هذا
حال الأعدام وحال الاضافات ولذلك لم يَرَ قوم من القدماء ان
يعدوا مقولة الاضافة فى الموجودات خارج النفس اعنى العشر
مقولات وابو حامد يوجب فى قوله ان كل ما كان له مفهوم زائد انه
يقتضى معنى زائدا خارج النفس بالفعل وهو غلط وقول سفسطانى
وذلك بين من قوله
وبالجملة الوجود امر عام ينقسم الى واجب والى ممكن فان كان فصل احد القسمين
زائدا على العام فكذلك الفصل الثانى لا فرق

[Page 199] [104] فان قسمة الوجود الى ممكن وواجب ليس كقسمة الحيوان
الى ناطق وغير ناطق او الى مشاء وسابح وطائر لان هذه امور
زائدة على الجنس توجب انواعا زائدة والحيوانية معنى مشترك لها
وهذه الفصول زائدة عليها واما الممكن الذى قسم اليه ابن سينا
الموجود فليس معنى خارج النفس بالفعل وهو عبارة ردية كما قلنا
وذلك ان الموجود الذى له علة فى وجوده ليس له مفهوم من ذاته الا
العدم اعنى ان كل ما هو موجود من غيره فليس له من ذاته الا
العدم الا ان تكون طبيعته طبيعة الممكن الحقيقى ولذلك كانت
قسمة الموجود الى واجب الوجود وممكن الوجود قسمة غير معروفة
اذا لم يرد بالممكن الممكن الحقيقى وسياتى هذا بعد . [105] وتحصيل هذا
الموضع ان الموجود اذا قسم فاما ان ينقسم الى فصول ذاتية او
احوال اضافية او اعراض زائدة على الذات فقسمته الى فصول ذاتية
تقتضى ولا بد تكثر الافعال عنه واما قسمته الى احوال اضافية او
عرضية فليس تقتضى تكثر افعال مختلفة فان ادعى مدع ان قسمته
الى صفات حالية تقتضى له افعالا فالمبدأ الاول تصدر منه كثرة
ضرورةً ليس تحتاج الى معلول عنه هو مبدأ الكثرة وان قال انه

[Page 200] ليس تقتضى كثرة الصفات الحالية صدور افعال مختلفة فولا الصفات
الحالية التى فى المعلول الاول تقتضى عنه صدور افعال مختلفة فوضع
من وضع المعلول الاول على هذا افضل
[106] وقوله
وقد كان هذا الرجل زعم ان الامكان ليس له وجود الا فى الاذهان
فهلا يلزم هذا القول فى هذا المكان وليس يمتنع فى الذات الواحدة
ان يلزمها النفى والاثبات فى احوالها من غير ان يلزم تكثر فى تلك
الذات كما منعه ابو حامد واذا فهمت هذا قدرت ان تاتى بحل ما يقوله
فى هذا الفصل
[107] فان قيل يلزم على هذا الا يكن تركيب لا فى واجب
الوجود بذاته ولا فى واجب الوجود بغيره قلنا اما واجب الوجود
بغيره فان العقل يدرك فيه تركيبا من علة ومعلول فان كان جسما لزم
ان يكون فيه اتحاد من جهة وكثرة من اخرى اعنى الاجسام الغير
الكائنة الفاسدة اعنى اتحادا بالفعل وكثرة بالقوة وان كان غير جسم
لم يدرك العقل كثرة لا بالقوة ولا بالفعل بل اتحادا من جميع الوجوه
ولذلك يطلق القوم على هذا النوع من الموجودات انها بسيطة
لكنهم يقولون فى هذه الموجودات ان العلة فيها ابسط من المعلول

[Page 201] ولذلك يرون ان الاول هو ابسطها لان الاول لا يفهم منه علة
ومعلول اصلا وما بعد الاول يفهم العقل فيه التركيب ولذلك كان
الثانى عندهم ابسط من الثالث هكذا ينبغى ان يفهم مذهب القوم
فيكون معنى العلة والمعلول فى هذه الموجودات كانّ فيها كثرة
بالقوة تظهر فى المعلول اعنى ان يصدر عنه معلولات كثيرة لا فيه
فى وقت من الاوقات فاذا فهم هذا من قولهم وسلم لهم لم يلحقهم
الاعتراض الذى الحقهم ابو حامد . [108] واما اذا فهم من قولهم ان الثانى
يعقل ذاته ويعقل مبدأه فهو بما يعقل من ذاته يصدر عنه شىء وبما
يعقل من مبدأه يصدر عنه شىء آخر لانه ذو صورتين او وجودين
كما فهمه ابو حامد عنهم فهو قول باطل لانه لو كان ذلك كذلك كان
مركبا من اكثر من صورة واحدة وكانت تكون تلك الصورة
واحدة بالموضوع كثيرة بالحد كالحال فى النفس لكن اكد هذا
الظن بهم ما يزعمون من صدور بعضها عن بعض وكانهم ارادوا ان
يفهموا الامر هنالك بتشبيه ذلك بالفاعلات المحسوسة وبحق
صارت العلوم الالهية لما حشيت بهذه الاقاويل اكثر ظنية من صناعة
الفقه . [109] فقد تبين لك من هذا القول ان ما رام ابو حامد من ان
يلزمهم الكثرة فى واجب الوجود من اجل الزامهم اياها فى ممكن

[Page 202] الوجود انه ليس بصحيح لانه ان فهم من الامكان الامكان الحقيقى
كان هنالك تركيب ولا بد وان كان ذلك مستحيلا على ما قلناه
وسنقوله بعد لم يلزم مثل ذلك فى واجب الوجود وان فهم من
الامكان معنى ذهنيا لم يلزم ان يكون ولا واحد منهما مركبا من
هذه الجهة وانما يفهم منه التركيب من جهة ما هو علة ومعلول
[110] قال ابو حامد هو ان نقول أعقله مبدأَه عين وجوده وعين
عقله نفسه ام غيره فان كان عينه فلا كثرة فى ذاته الا فى العبارة عن ذاته وان كان غيره
فهذه الكثرة موجودة فى الاول فانه يعقل ذاته ويعقل غيره
[111] قلت الصحيح ان ما يعقل من مبدأه هو عين ذاته وانه فى
طبيعة المضاف وبذلك نقص عن مرتبة الاول والاول فى طبيعة
الموجود بذاته والصحيح عندهم ان الاول لا يعقل من ذاته الا ذاته
لا امرا مضافا وهو كونه مبدأ لكن ذاته عندهم هى جميع العقول
بل جميع الموجودات بوجه اشرف واتم من جميعها على ما سنقوله بعد
ولذلك ليس يلزم هذا القول الشناعات التى يلزمونها اياه

[Page 203] [112] قال ابو حامد فان زعموا ان عقله ذاته عين ذاته ولا يعقل ذاته ما لم يعقل انه مبدأ لغيره
فان العقل يطابق المعقول فيكون راجعا الى ذاته
[113] قلت هذا كلام مختل فان كونه مبدأ هو معنى مضاف فلا
يصح ن يكون عين ذاته ولو عقل كونه مبدأ لَعَقَل ما هو له مبدأ
على النحو من الوجود الذى هو عليه ولو كان ذلك كذلك لاستكمل
الاشرف بالاخس فان المعقول هو كمال العاقل عندهم على ما يظهر
فى علوم العقل الانسانى
[114] قال ابو حامد فنقول والمعلول عقله ذاته عين ذاته فانه عقل بجوهره فيعقل نفسه والعقل
والعاقل والمعقول منه أيضا واحد ثم ان كان عقله ذاته عين ذاته فليعقل ذاته معلولا لعلة فانه
كذلك والعقل يطابق المعقول فيرجع الكل الى ذاته فالكثرة اذًا غير موجودة وان كانت
هذه كثرة فهى موجودة فى الاول فليصدر منه المختلفات
[115] قلت ما حكاه ههنا عن الفلاسفة فى وجود الكثرة فقط دون
المبدأ الاول هو كلام فاسد غير جار على أصولهم فانه لا كثرة فى
تلك العقول أصلا عندهم وليس تتباين عندهم من جهة البساطة

[Page 204] والكثرة وانما تتباين من جهة العلة والمعلول والفرق بين عقل الاول
ذاته وسائر العقول ذواتها عندهم ان العقل الاول يعقل من ذاته
معنى موجودا بذاته لا معنى ما مضافا الى علة وسائر العقول تعقل
من ذواتها معنى مضافا الى علتها فيدخلها الكثرة من هذه الجهة فليس
يلزم ان تكون كلها فى مرتبة واحدة من البساطة اذ كانت ليست
فى مرتبة واحدة من الاضافة الى المبدأ الاول ولا واحد منها يوجد
بسيطا بالمعنى الذى به الاول بسيط لان الاول معدود فى الوجود
بذاته وهى فى الوجود المضاف
[116] واما قوله ثم ان كان عقله ذاته عين ذاته فليعقل ذاته معلولة لعلة فانه كذلك والعقل يطابق
المعقول فيرجع الكل الى ذاته فلا كثرة اذًا وان كانت هذه كثرة فهى موجودة فى الاول
فانه ليس يلزم من كون العقل والمعقول فى العقول المفارقة معنى
واحدا بعينه ان تكون كلها تستوى فى البساطة فانهم يضعون ان
هذا المعنى تتفاضل فيه العقول بالاقل والازيد وهو لا يوجد بالحقيقة
الا فى العقل الاول والسبب فى ذلك ان العقل الاول ذاته قائمة
بنفسها وسائر العقول تعقل من ذواتها انها قائمة به فلو كان العقل
والمعقول فى واحد واحد منها من الاتحاد فى المرتبة الذى هو فى

[Page 205] الاول لكانت الذات الموجودة بذاتها توافق الموجودة بغيرها أو
لكان العقل لا يطابق طبيعة الشىء المعقول وذلك كله مستحيل
عندهم . [117] وهذا الكلام كله والجواب هو جدلى وانما يمكن ان
يتكلم فى هذا كلاما برهانيا مع قصور نظر فى الانسان فى هذه
المعانى اذا تقدم الانسان فعرف ما هو العقل ولا يعرف ما هو العقل
حتى يعرف ما هى النفس ولا يعرف ما هى النفس حتى يعرف ما هو
المتنفس فلا معنى للكلام فى هذه المعانى ببادئ الرأى وبالمعارف
العامة التى ليست بخاصة ولا مناسبة واذا تكلم الانسان فى هذه
المعانى قبل أن يعلم طبيعة العقل كان كلامه فيها أشبه شىء بمن يهذى
ولذلك صارت الاشعرية اذا حكت آراء الفلاسفة اتت فى غاية
الشناعة والبعد من النظر الاول الذى للانسان فى الموجودات
[118] قال ابو حامد ولنترك دعوى وحدانيته من كل وجه ان كانت الوحدانية تزول بهذا
النوع من الكثرة
[119] قلت يريد انهم اذا وضعوا ان الاول يعقل ذاته ويعقل من ذاته
انه علة لغيره فلهم أن ينزلوا انه ليس واحدا من كل جهة اذ كان لم

[Page 206] يتبين بعد انه يجب ان يكون واحدا من كل جهة وهذا الذى قاله
هو مذهب بعض المشائين ويتأولون انه مذهب ارسطاطاليس
[120] قال ابو حامد فان قيل الاول لا يعقل الا ذاته وعقله ذاته هو عين ذاته فالعقل والعاقل
والمعقول واحد ولا يعقل غيره
فالجواب من وجهين
احدهما ان هذا المذهب لشناعته هجره ابن سينا وسائر المحققين وزعموا ان الاول
يعقل نفسه مبدأ لفيضان ما يفيض منه ويعقل الموجودات كلها بانواعها عقلا كليا لا جزئيا
اذ استقبحوا قول القائل المبدأ الاول لا يصدر منه الا عقل واحد ثم لا يعقل ما يصدر منه
ومعلوله عقل ويفيض منه عقل ونفس فلك وجرم فلك ويعقل نفسه ومعلولاته الثلاث وعلته
ومبدأه لا يعقل الا نفسه فيكون المعلول اشرف من العلة من حيث ان العلة ما فاض منها الا
واحد وقد فاض من هذا ثلاثة أُمور والاول ما عقل الا نفسه وهذا عقل نفسه ونفس المبدأ
ونفس المعلولات ومن قنع ان يكون قوله فى ﷲ سبحانه راجعا الى هذه الرتبة فقد جعله
احقر من كل موجود يعقل نفسه ويعقله فان ما يعقله ويعقل نفسه أشرف منزلة منه اذ
كان هو لا يعقل الا نفسه
وقد انتهى منهم التعمق فى التعظيم الى ان أبطلوا كل ما يفهم من العظمة وقربوا حاله
تعالى من حال الميت الذى لا خبر له بما يجرى فى العالم الا انه فارق الميت فى شعوره بنفسه
فقط . وهكذا يفعل ﷲ بالزائغين عن سبيله والناكبين لطريق الهدى المنكرين لقوله ما اشهدتهم
خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم الظانين بالله ظن السوء المعتقدين ان الامور الربوبية
يستولى على كنهها القوى البشرية المغرورين بعقولهم زاعمين ان فيها مندوحة عن تقليد

[Page 207] الرسل واتباعهم فلا جرم اضطروا فى الاعتراف بان لباب معقولاتهم رجعت الى ما لو
حكى فى منام لتعجب منه
[121] قلت انه ينبغى للذى يريد ان يخوض فى هذه الاشياء ان يعلم
ان كثيرا من الامور التى تثبت فى العلوم النظرية اذا عرضت على
بادئ الرأى والى ما يعقله الجمهور من ذلك كانت بالاضافة اليهم
شبيها بما يدرك النائم فى نومه كما قال وان كثيرا من هذه ليس تلفى
لها مقدمات من نوع المقدمات التى هى معقولة عند الجمهور يقنعون
بها فى أمثال هذه المعانى بل لا سبيل الى أن يقع بها لاحد اقناع وانما
سبيلها أن يحصل بها اليقين لمن يسلك فى معرفتها سبيل اليقين . مثال
ذلك انه لو قيل للجمهور ولمن هو ارفع رتبة فى الكلام منهم ان
الشمس التى تظهر للعين فى قدر قدم هى نحو من مائة وسبعين
ضعفا من الارض لقالوا هذا من المستحيل ولكان من يتخيل ذلك
عندهم كالنائم ولعسر علينا اقناعهم فى هذا المعنى بمقدمات يقع لهم
التصديق بها من قرب فى زمان يسير بل لا سبيل ان يتحصل مثل
هذا العلم الا بطريق البرهان لمن سلك طريق البرهان . [122] واذا كان هذا
موجودا فى مطالب الامور الهندسية وبالجملة فى الامور التعاليمية

[Page 208] فاحرى ان يكون ذلك موجودا فى العلوم الالهية أعنى ما اذا صرح
به للجمهور كان شنيعا وقبيحا فى بادئ الرأى وشبيها بالاحلام اذ
ليس يوجد فى هذا النوع من المعارف مقدمات محمودة يتأتى من
قبلها الاقناع فيها للعقل الذى فى بادئ الرأى اعنى عقل الجمهور فانه
يشبه ان يكون ما يظهر بآخره للعقل هو عنده من قبيل المستحيل
فى أول امره . [123] وليس يعرض هذا فى الامور العلمية بل وفى العملية
ولذلك لو قدرنا أن صناعة من الصنائع قد دثرت ثم توهم وجودها
لكان فى بادئ الرأى من المستحيل ولذلك يرى كثير من الناس ان
هذه الصنائع هى من مدارك ليست بانسانية فبعضهم ينسبها الى الجن
وبعضهم ينسبها الى الانبياء حتى لقد زعم ابن حزم ان اقوى الادلة
على وجود النبوة هو وجود هذه الصنائع . [124] واذا كان هذا هكذا
فينبغى لمن آثر طلب الحق اذا وجد قولا شنيعا ولم يجد مقدمات
محمودة تزيل عنه تلك الشنعة الا يعتقد ان ذلك القول باطل وان
يطلبه من الطريق الذى زعم المدعى له انه يوقف منها عليه
ويستعمل فى تعلم ذلك من طول الزمان والترتيب ما تقتضيه طبيعة
ذلك الامر المتعلم واذا كان هذا موجودا فى غير العلوم الالهية فهذا
المعنى فى العلوم الالهية احرى ان يكون موجودا لعبد هذه العلوم

[Page 209] عن العلوم التى فى بادئ الرأى . [125] واذا كان هذا هكذا فينبغى ان يعلم
انه ليس يمكن ان يقع فى هذا الجنس مخاطبة جدلية مثل ما وقعت فى
سائر المسائل والجدل نافع مباح فى سائر العلوم ومحرم فى هذا العلم
ولذلك لجأ اكثر الناظرين فى هذا العلم الى ان هذا كله من باب
التكليف فى الجوهر الذى لا تكيفه العقول لانه لو كيفته لكان
العقل الازلى والكائن الفاسد واحدا واذا كان هذا هكذا فﷲ
يأخذ الحق ممن تكلم فى هذه الاشياء الكلام العام ويجادل فى ﷲ
بغير علم ولذلك يظن ان الفلاسفة فى غاية الضعف فى هذه العلوم
ولذلك يقول أبو حامد ان علومهم الالهية هى ظنية
[126] ولكن على حال فنحن نروم أن نبين من أمور محمودة ومقدمات
معلومة وان كانت ليست برهانية - ولم نك نستخير ذلك الا لان
هذا الرجل أوقع هذا الخيال فى هذا العلم العظيم وأبطل على الناس

[Page 210] الوصول الى سعادتهم بالاعمال الفاضلة وﷲ سائله وحسيبه - الامور
التى حركت الفلاسفة الى اعتقاد هذه الاشياء فى المبدأ الاول وسائر
الموجودات ومقدار ما انتهت اليه من ذلك العقول الانسانية
والشكوك الواقعة فى ذلك ونبين ايضا الطرق التى حركت
المتكلمين من أهل الاسلام الى ما حركتهم اليه من الاعتقاد فى
المبدأ الاول وفى سائر الموجودات والشكوك الداخلة عليهم فى ذلك
ومقدار ما انتهت اليه حكمتهم ليكون ذلك مما يحرك من أحب
الوقوف على الحق ويحرضه على النظر فى علوم الفريقين ويعمل فى
هذا كله على ما وفقه ﷲ تعالى اليه
[127] فنقول فاما الفلاسفة فانهم طلبوا معرفة الموجودات بعقولهم لا
مستندين الى قول من يدعوهم الى قبول قوله من غير برهان بل ربما

[Page 211] خالفوا الامور المحسوسة وذلك انهم وجدوا الاشياء المحسوسة التى
دون الفلك ضربين متنفسه وغير متنفسة ووجدوا جميع هذه
يكون المتكون منها متكونا بشىء سموه صورة وهو المعنى الذى
به صار موجودا بعد ان كان معدوما ومن شىء سموه مادة وهو
الذى منه تكون وذلك أنهم ألفوا كل ما يتكون ههنا انما يتكون
من موجود غيره فسموا هذه مادة ووجدوه أيضاً يتكون عن شىء
فسموه فاعلا ومن أجل شىء سموه أيضا غاية فاثبتوا أسبابا
أربعة . [128] ووجدوا الشىء الذى يتكون به المتكون أعنى صورة
المتكون والشىء الذى عنه يتكون وهو الفاعل القريب له واحدا
إِما بالنوع وإِما بالجنس أما بالنوع فمثل ان الانسان يولد انسانا
والفرس فرسا وأما بالجنس فمثل تولد البغل عن الفرس والحمار ولما
كانت الاسباب لا تمر عندهم الى غير نهاية ادخلوا سببا فاعلا اولا
باقيا . [129] فمنهم من قال هذا السبب الذى بهذه الصفة هو الاجرام السماوية
ومنهم من جعله مبدأ مفارقا مع الاجرام السماوية ومنهم من جعل
هذا المبدأ هو المبدأ الاول ومنهم من جعله دونه واكتفوا فى

[Page 212] تكون الاجرام البسيطة بالسماوات ومبادى الاجرام لانه وجب
عندهم أيضا ان يجعلوا لها أيضا سببا فاعلا وأما ما دون الاجرام
البسيطة من الامور المكونة بعضها بعضا المتنفسة فوجب ان
يدخلوا من أجل التنفس مبدأ آخر وهو معطى النفس ومعطى
الصورة والحكمة التى تظهر فى الموجودات وهو الذى يسميه
جالينوس القوة المصورة وبعض هؤلاء جعلوا هذه القوة هى مبدأ
مفارق فبعض جعله عقلا وبعض جعله نفسا وبعض جعله الجرم
السماوى وبعض جعله الاول وسمى جالينوس هذه القوة الخالق
وشك هل هى الاله أو غيره هذا فى الحيوان والنبات المتناسل
وأما فى غير ذلك من النبات ومن الحيوان الغير المتناسل فانه ظهر
لهم ان الحاجة فيه الى ادخال هذا المبدأ أكثر فهذا مقدار ما انتهى
اليه فحصهم عن الموجودات التى دون السماء . [130] وفحصوا ايضا عن
السماوات بعد ما اتفقوا انها مبادى الاجرام المحسوسة فاتفقوا على
ان الاجرام السماوية هى مبادى الاجرام المحسوسة المتغيرة التى ههنا

[Page 213] ومبادى الانواع اما مفردة واما مع مبدأ مفارق . [131] ولما فحصوا عن
الاجرام السماوية ظهر لهم انها غير متكونة بالمعنى الذى به هذه
الاشياء كائنة فاسدة أعنى ما دون الاجرام السماوية و ذلك ان
المتكون بما هو متكون يظهر من أمره انه جزء من هذا العالم المحسوس
وانه لا يتم تكونه الا من حيث هو جزء وذلك ان المتكون منها
انما يتكون من شىء عن شىء وبشىء وفى مكان وزمان والفوا
الاجرام السماوية شرطا فى تكونها من قبل انها اسباب فاعلة بعيدة
فلو كانت الاجرام السماوية متكونة مثل هذا التكون لكانت
ههنا أجسام أقدم منها هى شرط فى تكونها حتى تكون هى جزءًا
من عالم آخر فيكون ههنا أجسام سماوية مثل هذه الاجسام وان
كانت أيضا تلك متكونة لزم ان يكون قبلها أجسام سماوية أخر
ويمر ذلك الى غير نهاية . [132] فلما تقرر عندهم بهذا النحو من النظر
وبانحاء كثيرة هذا أقربها ان الاجرام السماوية غير متكونة ولا
فاسدة بالمعنى الذى به هذه متكونة وفاسدة لان المتكون ليس له
حد ولا رسم ولا شرح ولا مفهوم غير هذا ظهر لهم ان هذه أيضا
اعنى الاجسام السماوية لها مبادى تتحرك بها وعنها. [133] ولما فحصوا عن
مبادى هذه ظهر لهم انه يجب ان تكون مبادئها المحركة لها

[Page 214] موجودات ليست باجسام ولا قوى فى أجسام أما كون مبادئها
ليست باجسام فلانها مبادى أول للاجسام المحيطة بالعالم وأما كونها
ليست قوى فى اجسام الاجسام شرط فى وجودها كالحال فى المبادى
المركبة ههنا للحيوانات فلان كل قوة فى جسم عندهم هى متناهية
اذ كانت منقسمة بانقسام الجسم وكل جسم هو بهذه الصفة فهو كائن
فاسد اعنى مركبا من هيولى وصورة الهيولى شرط فى وجود
الصورة وايضا لو كانت مبادئها على نحو مبادى هذه لكانت الاجرام
السماوية مثل هذه فكانت تحتاج الى أجرام أخر اقدم منها . [134] ولما
تقرر لهم وجود مبادى بهذه الصفة اعنى ليست أجساما ولا قوى فى
جسم وكان قد تقرر لهم من امر العقل الانسانى ان للصورة وجودين
وجود معقول اذا تجردت من الهيولى ووجود محسوس اذا كانت فى
هيولى مثال ذلك ان الحجر له صورة جمادية وهى فى الهيولى خارج
النفس وصورة هى ادراك وعقل وهى المجردة من الهيولى فى النفس
وجب عندهم ان تكون هذه الموجودات المفارقة باطلاق عقولا
محضة لانه اذا كان عقلا بما هو مفارق لغيره فما هو مفارق باطلاق

[Page 215] أحرى ان يكون عقلا . [135] وكذلك وجب عندهم أن يكون ما تعقله
هذه العقول هى صور الموجودات والنظام الذى فى العالم كالحال فى
العقل الانسانى اذ كان العقل ليس شيئا غير ادراك صور الموجودات
من حيث هى فى غير هيولى فصح عندهم من قبل هذا ان
للموجودات وجودين وجود محسوس ووجود معقول وان نسبة
الوجود المحسوس من الوجود المعقول هى نسبة المصنوعات من
علوم الصانع واعتقدوا لمكان هذا ان الاجرام السماوية عاقلة لهذه
المبادى وان تدبيرها لما ههنا من الموجودات انما هو من قبل انها
ذوات نفوس . [136] ولما قايسوا بين هذه العقول المفارقة وبين العقل
الانسانى رأوا ان هذه العقول أشرف من العقل الانسانى وان كانت
تشترك مع العقل الانسانى فى ان معقولاتها هى صور الموجودات
وان صورة واحد واحد منها هو ما يدركه هو من صور الموجودات
ونظامها كما ان العقل الانسانى انما هو ما يدركه من صور الموجودات
ونظامها لكن الفرق بينهما ان صور الموجودات هى علة للعقل
الانسانى اذ كان يستكمل بها على جهة ما يستكمل الشىء الموجود

[Page 216] بصورته واما تلك فمعقولاتها هى العلة فى صور الموجودات وذلك
ان النظام والترتيب فى الموجودات انما هو شىء تابع ولازم للترتيب
الذى فى تلك العقول المفارقة واما الترتيب الذى فى العقل الذى
فينا فانما هو تابع لما يدركه من ترتيب الموجودات ونظامها
ولذلك كان ناقصا جدا لان كثيرا من الترتيب والنظام الذى فى
الموجودات لا يدركه العقل الذى فينا . [137] فاذا كان ذلك كذلك
فلصور الموجودات المحسوسة مراتب فى الوجود اخسها وجودها فى
المواد ثم وجودها فى العقل الانسانى أشرف من وجودها فى المواد ثم
وجودها فى العقول المفارقة أشرف من وجودها فى العقل الانسانى ثم
لها ايضا فى تلك العقول مراتب متفاضلة فى الوجود بحسب تفاضل
تلك العقول فى انفسها . [138] ولما نظروا ايضا الى الجرم السماوى ورأوا فى
الحقيقة جسما واحدا شبيها بالحيوان الواحد له حركة واحدة كلية
شبيهة بحركة الحيوان الكلية وهى نقلته بجميع جسده وهذه
الحركة هى الحركة اليومية وراوا ان سائر الاجرام السماوية
وحركاتها الجزئية شبيهة باعضاء الحيوان الواحد الجزئية وحركاتها

[Page 217] الجزئية فاعتقدوا لمكان ارتباط هذه الاجسام بعضها ببعض ورجوعها
الى جسم واحد وغاية واحدة وتعاونها على فعل واحد وهو العالم
باسره انها ترجع الى مبدأ واحد كالحال فى الصنائع الكثيرة التى
تؤم مصنوعا واحدا فانها ترجع الى صناعة واحدة رئيسة . [139] فاعتقدوا
لمكان هذا ان تلك المبادى المفارقة ترجع الى مبدأ واحد مفارق هو
السبب فى جميعها وان الصور التى فى هذا المبدأ والنظام والترتيب
الذى فيه هو افضل الوجودات التى للصور والنظام والترتيب الذى
فى جميع الموجودات وان هذا النظام والترتيب هو السبب فى سائر
النظامات والترتيبات التى فيما دونه وان العقول تتفاضل فى ذلك
بحسب حالها منه فى القرب والبعد . [140] والاول عندهم لا يعقل الا ذاته
وهو بعقله ذاته يعقل جميع الموجودات بافضل وجود وافضل ترتيب
وافضل نظام وما دونه فجوهره انما هو بحسب ما يعقله من الصور
والترتيب والنظام الذى فى العقل الاول وان تفاضلها انما هو فى
تفاضلها فى هذا المعنى ولزم على هذا عندهم أن لا يكون الاقل شرفا
يعقل من الاشرف ما يعقل الاشرف من نفسه ولا الاشرف يعقل

[Page 218] ما يعقل الاقل شرفا من ذاته أعنى أن يكون ما يعقل كل واحد منهما
من الموجودات فى مرتبة واحدة لانه لو كان ذلك كذلك لكانا
متحدين ولم يكونا متعددين فمن هذه الجهة قالوا ان الاول لا يعقل
الا ذاته وان الذى يليه انما يعقل الاول ولا يعقل ما دونه لانه معلول
ولو عقله لعاد المعلول علة واعتقدوا ان ما يعقل الاول من ذاته فهو
علة لجميع الموجودات وما يعقله كل واحد من العقول التى دونه
فمنه ما هو علة الموجودات الخاصة بذلك العقل اعنى بتخليقها ومنه
ما هو علة لذاته وهو العقل الانسانى بجملته
[141] فعلى هذا ينبغى ان يفهم مذهب الفلاسفة فى هذه الاشياء
والاشياء التى حركتهم الى مثل هذا الاعتقاد فى العالم فاذا تؤملت
فليست باقل اقناعا من الاشياء التى حركت المتكلمين من اهل الملة
اعنى المعتزلة أولًا والاشعرية ثانيا الى ان اعتقدوا فى المبدأ الاول ما
اعتقدوه
[142] أعنى انهم اعتقدوا ان ههنا ذاتا غير جسمانية ولا هى فى جسم
حية عالمة مريدة قادرة متكلمة سميعة بصيرة الا ان الاشعرية دون
المعتزلة اعتقدوا ان هذه الذات هى الفاعلة لجميع الموجودات بلا
واسطة والعالمة لها بعلم غير متناه اذ كانت الموجودات غير متناهية

[Page 219] ونفوا العلل التى ههنا وان هذه الذات الحية العالمة المريدة السميعة
البصيرة القادرة المتكلمة موجودة مع كل شىء وفى كل شىء أعنى
متصلة به اتصال وجود . [143] وهذا الوضع يظن به انه تلحقه شناعات
وذلك ان ما هذا صفته من الموجودات فهو ضرورة من جنس النفس
لان النفس هى ذات ليست بجسم حية عالمة قادرة مريدة سميعة
بصيرة متكلمة فهؤلاء وضعوا مبدأ الموجودات نفساً كلية مفارقة
للمادة من حيث لم يشعروا
[144] وسنذكر الشكوك التى تلزم هذا الوضع واظهرها على القول
بالصفات أن يكون ههنا ذات مركبة قديمة فيكون ههنا تركيب
قديم وهو خلاف ما تضعه الاشعرية من ان كل تركيب محدث لانه
عرض وكل عرض عندهم محدث . [145] ووضعوا مع هذا جميع
الموجودات افعالا جائزة ولم يروا ان فيها ترتيبا ولا نظاما ولا حكمة
اقتضتها طبيعة الموجودات بل اعتقدوا ان كل موجود فيمكن ان
يكون بخلاف ما هو عليه وهذا يلزمهم فى العقل ضرورة وهم مع
هذا يرون فى المصنوعات التى شبهوا بها المطبوعات نظاما وترتيبا

[Page 220] وهذا يسمى حكمة ويسمون الصانع حكيما . [146] والذى اقنعوا به فى
ان فى الكل مثل هذا المبدأ هو انهم شبهوا الافعال الطبيعية
بالافعال الارادية فقالوا كل فعل بما هو فعل فهو صادر عن فاعل
مريد قادر مختار حى عالم وان طبيعة الفعل بما هو فعل تقتضى
هذا وأقنعوا فى هذا بان قالوا ما سوى الحى فهو جماد وميت والميت
لا يصدر عنه فعل فما سوى الحى لا يصدر عنه فعل فجحدوا الافعال
الصادرة عن الامور الطبيعية ونفوا مع ذلك أن يكون للأشياء
الحية التى فى الشاهد أفعال وقالوا ان هذه الافعال تظهر مقترنة بالحى
فى الشاهد وانما فاعلها الحى الذى فى الغائب فلزمهم ان لا يكون
فى الشاهد حياة لان الحياة انما تثبت للشاهد من افعاله وايضا فمن
اين ليت شعرى حصل لهم هذا الحكم على الغائب . [147] والطريق الذى
سلكوا فى اثبات هذا الصانع هو ان وضعوا ان المحدث له محدث
وان هذا لا يمر الى غير نهاية فسيمر الامر ضرورة الى محدث قديم
وهذا صحيح لكن ليس ببين من هذا ان هذا القديم ليس هو

[Page 221] جسما فلذلك يحتاج ان يضاف الى هذا ان كل جسم ليس قديما فتلحقهم
شكوك كثيرة . [148] وليس يكفى فى ذلك بيانهم ان العالم محدث اذ
قد يمكن أن يقال ان المحدث له هو جسم قديم ليس فيه شىء من
الاعراض التى استدللتم منها على ان السماوات محدثة لا من
الدورات ولا من غير ذلك مع انكم تضعون مركبا قديما . [149] ولما
وضعوا ان الجسم السماوى مكون وضعوه على غير الصفة التى تفهم
من الكون فى الشاهد وهو ان يكون من شىء وفى زمان ومكان
وفى صفة من الصفات لا فى كليته فانه ليس فى الشاهد جسم
يتكون من لا جسم ولا وضعوا الفاعل له كالفاعل فى الشاهد
وذلك ان الفاعل الذى فى الشاهد انما فعله ان يغير الموجود من صفة
الى صفة لا ان يغير العدم الى الوجود بل يحوله اعنى الموجود الى
الصورة والصفة النفسية التى ينتقل بها ذلك الشىء من موجود ما
الى موجود ما مخالف له بالجوهر والحد والاسم والفعل كما قال ﷲ
تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى
قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الآية

[Page 222] ولذلك كان القدماء يرون أن الموجود باطلاق لا يتكون ولا يفسد
فلذلك اذا سلم لهم ان السماوات محدثة لم يقدروا ان يبينوا انها أول
المحدثات وهو ظاهر ما فى الكتاب العزيز فى غير ما آية مثل قوله
تعالى أو لم يرَ الذين كفروا ان السمٰاوٰات والارض كانتا رتقا
الآية وقوله سبحانه وكان عرشه على الماء وقوله سبحانه
ثم استوىٰ الى السمٰاء وهى دخان الآية . [150] واما الفاعل عندهم فيفعل
مادة المتكون وصورته ان اعتقدوا ان له مادة أو يفعله بجملته ان
اعتقدوا انه بسيط كما يعتقدون فى الجوهر الذى لا يتجزا وان
كان ذلك كذلك فهذا النوع من الفاعل انما يغير العدم الى الوجود
عند الكون أعنى كون الجوهر الغير المنقسم الذى هو عندهم
اسطقس الاجسام او يغير الوجود الى العدم عند الفساد أعنى عند
فساد الجزء الذى لا يتجزا وبين انه لا ينقلب الضد الى ضده فانه لا
يعود نفس العدم وجودا ولا نفس الحرارة برودة ولكن المعدوم هو
الذى يعود موجودا والحار باردا والبارد حارا ولذلك قالت المعتزلة
ان العدم ذات ما الا انهم جعلوا هذه الذات متعرية من صفة الوجود
قبل كون العالم . [151] والاقاويل التى ظنوا من قبلها انه يلزم عنها انه

[Page 223] لا يكون شىء من شىء هى أقاويل غير صحيحة واقنعها انهم قالوا
لو كان شىء عن شىء لمر الامر الى غير نهاية . [152] والجواب ان هذا انما
يمتنع من ذلك ما كان على الاستقامة لانه يوجب وجود ما لا نهاية
له بالفعل وأما دورا فليس يمتنع مثل ان يكون من الهواء نار
ومن النار هواء الى غير نهاية والموضوع أزليا . [153] فان معتمدهم فى
حدوث الكل هو ان ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث والكل
الموضوع للحوادث لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وأحدّ ما
يلزمهم من الفساد فى هذا الاستدلال اذا سلمت لهم هذه المقدمة هو
انهم لم يطردوا الحكم لان ما لا يخلو عن الحوادث فى الشاهد هو
حادث على انه حادث من شىء لا من لا شىء وهم يضعون ان الكل
حادث من لا شىء وأيضا فان هذا الموضوع عند الفلاسفة وهو الذى
يسمونه المادة الاولى ليس يخلو عن الجسمية والجسمية المطلقة عندهم
غير حادثة والمقدمة القائلة ان ما لا يخلو عن الحوادث حادث ليست
صحيحة الا ما لا يخلو عن حادث واحد بعينه واما ما لا يخلو عن
حوادث هى واحدة بالجنس ليس لها اول فمن اين يلزم ان يكون
الموضوع لها حادثا . [154] ولهذا لما شعر بهذا المتكلمون من الاشعرية
اضافوا الى هذه المقدمة مقدمة ثانية وهو انه لا يمكن ان توجد

[Page 224] حوادث لا نهاية لها أى لا اول لها ولا آخر وذلك هو واجب عند
الفلاسفة . [155] فهذه ونحوها هى الشناعات التى تلزم وضع هؤلاء وهى
أكثر كثيرا من الشناعات التى تلزم الفلاسفة . [156] ووضعهم أيضا ان
الفاعل الواحد بعينه الذى هو المبدأ الاول هو فاعل لجميع ما فى
العالم من غير وسط وذلك ان هذا الوضع يخالف ما يحس من فعل
الاشياء بعضها فى بعض واقوى ما أقنعوا به فى هذا المعنى ان الفاعل
لو كان مفعولا لمر الامر الى غير نهاية وانما كان يلزم ذلك لو كان
الفاعل انما هو فاعل من جهة ما هو مفعول والمحرك محرك من جهة
ما هو متحرك وليس الامر كذلك بل الفاعل انما هو فاعل من جهة
ما هو موجود بالفعل لان المعدوم لا يفعل شيئًا والذى يلزم عن هذا
هو أن تنتهى الفاعلات المفعولة الى فاعل غير مفعول أصلا لا ان
ترتفع الفاعلات المفعولة كما ظن القوم . [157] وايضا فان الذى يلزم نتيجتهم
من المحال اكثر من الذى يلزم مقدماتهم التى منها صاروا الى
نتيجتهم وذلك انه ان كان مبدأ الموجودات ذاتا ذات حياة وعلم
وقدرة وارادة وكانت هذه الصفات زائدة على الذات وتلك الذات
غير جسمانية فليس بين النفس وهذا الموجود فرق الا ان النفس هى
فى جسم وهذا الموجود هو نفس ليس فى جسم وما كان بهذه الصفة
فهو ضرورة مركب من ذات وصفات وكل مركب فهو ضرورة

[Page 225] يحتاج الى مركب اذ ليس يمكن ان يوجد شىء مركب من ذاته كما
انه ليس يمكن ان يوجد متكون من ذاته لان التكوين الذى هو
فعل المكون ليس هو شيئا غير تركيب المتكون والمكون ليس
شيئا غير المركب وبالجملة فكما ان لكل مفعول فاعلا كذلك
لكل مركب مركبا فاعلا لان التركيب شرط فى وجود المركب
ولا يمكن ان يكون الشىء هو علة فى شرط وجوده لانه كان يلزم
ان يكون الشىء علة نفسه . [158] ولذلك كانت المعتزلة فى وضعهم هذه
الصفات فى المبدأ الاول راجعة الى الذات لا زائدة عليها على نحو ما
يوجد عليه كثير من الصفات الذاتية لكثير من الموجودات مثل
كون الشىء موجودا وواحدا وازليا وغير ذلك أقرب الى الحق
من الاشعرية ومذهب الفلاسفة فى المبدأ الاول هو قريب من
مذهب المعتزلة
[159] فقد ذكرنا الامور التى حركت الفريقين الى مثل هذه
الاعتقادات فى المبدأ الاول والشناعات التى تلزم الفريقين اما التى
تلزم الفلاسفة فقد استوفاها ابو حامد وقد تقدم الجواب عن بعضها
وسيأتى بعد واما التى تلزم المتكلمين من الشناعات فقد اشرنا نحن
فى هذا الكلام الى اعيانها

[Page 226] [160] ولنرجع الى تمييز مرتبة قول قول من الاقاويل التى يقولها هذا
الرجل فى هذا الكتاب من الاقناع ومقدار ما يفيده من التصديق
على ما شرطنا وانما اضطررنا الى ذكر الاقاويل المحمودة التى حركت
الفلاسفة الى تلك الاعتقادات فى مبادى الكل لان منها يتأتى
جوابهم لخصومهم فيما يلزمونهم من الشناعات وذكرنا الشناعات التى
تلزم المتكلمين أيضا لان من العدل ان يقام بحجتهم فى ذلك و يناب
عنهم اذ لهم ان يحتجوا بها ومن العدل كما يقول الحكيم ان ياتى الرجل
من الحجج لخصومه بمثل ما يأتى لنفسه أعنى ان يجهد نفسه فى طلب
الحجج لخصومه كما يجهد نفسه فى طلب الحجج لمذهبه وان يقبل لهم
من الحجج النوع الذى يقبله لنفسه
[161] فنقول اما ما شنعوا به من ان المبدأ الاول اذا كان لا يعقل الا
ذاته فهو جاهل بجميع ما خلق فانما كان يلزم ذلك لو كان ما يعقل
من ذاته شيئا هو غير الموجودات باطلاق وانما الذى يضعون ان الذى
يعقله من ذاته هو الموجودات باشرف وجود وانه العقل الذى هو علة
للموجودات لا بانه يعقل الموجودات من جهة انها علة لعقله كالحال

[Page 227] فى العقل منا فمعنى قولهم انه لا يعقل ما دونه من الموجودات اى انه
لا يعقلها بالجهة التى نعقلها نحن بها بل بالجهة التى لا يعقلها بها عاقل
موجود سواه سبحانه لانه لو عقلها موجود بالجهة التى يعقلها هو
لشاركه فى علمه تعالى ﷲ عن ذلك وهذه هى الصفة المختصة به
سبحانه ولذلك ذهب بعض المتكلمين ان له صفة تخصه سوى
الصفات السبع التى أثبتوها له . [162] ولذلك لا يجوز فى علمه ان يوصف
بانه كلى ولا جزئى لان الكلى والجزئى معلولان عن الموجودات
وكلا العلمين كائن فاسد وسنبين هذا اكثر عند التكلم هل يعلم
الجزئيات أو لا يعلمها على ما جرت به عادتهم فى فرض هذه المسئلة
وسنبين انها مسألة مستحيلة فى حق ﷲ تبارك وتعالى . [163] وهذه المسئلة
انحصرت بين قسمين ضروريين احدهما ان ﷲ تعالى لو عقل
الموجودات على انها علة لعلمه للزم ان يكون عقله كائنا فاسدا
وان يستكمل الاشرف بالاخس . [164] ولو كانت ذاته غير معقولات
الاشياء ونظامها لكان ههنا عقل آخر ليس هو ادراك صور الموجودات
على ما هى عليه من الترتيب والنظام واذا كان هذان الوجهان

[Page 228] يستحيلان لزم ان يكون ما يعقله ذاته هو الموجودات بوجود
اشرف من الوجود الذى صارت به موجودة . [165] والشاهد على ان
الموجود الواحد بعينه يوجد له مراتب فى الوجود هو ما يظهر من
امر النفس فان اللون نجد له مراتب فى الوجود بعضها أشرف من
بعض وذلك ان احسن مراتبه هو وجوده فى الهيولى وله وجود اشرف
من هذا وهو وجوده فى البصر وذلك ان هذا الوجود هو وجود
للون مدرك لذاته والذى له فى الهيولى هو وجود جمادى غير مدرك
لذاته وقد تبين ايضا فى علم النفس ان للون وجودا ايضا فى القوة
الخيالية وانه اشرف من وجوده فى القوة الباصرة وكذلك تبين
ان له فى القوة الذاكرة وجودا أشرف من وجوده فى القوة
الخيالية وله فى العقل وجودا اشرف من جميع هذه الوجودات
وكذلك نعتقد ان له فى ذات العلم الاول وجودا اشرف من
جميع وجوداته وهو الوجود الذى لا يمكن ان يوجد وجود أشرف
منه

[Page 229] [166] واما ما حكاه عن الفلاسفة فى ترتيب فيضان المبادى المفارقة
عنه وفى عدد ما يفيض عن مبدأ مندأ من تلك المبادى فشىء لا يقوم
برهان على تحصيل ذلك وتحديده ولذلك لا يلفى التحديد الذى
ذكره فى كتب القدماء . [167] واما كون جميع المبادى المفارقة وغير
المفارقة فائضة عن المبدأ الاول وان بفيضان هذه القوة الواحدة صار
العالم باسره واحدا وبها ارتبطت جميع اجزائه حتى صار الكل يؤم
فعلا واحدا كالحال فى بدن الحيوان الواحد المختلف القوى والاعضاء
والافعال فانه انما صار عند العلماء واحدا وموجودا بقوة واحدة فيه
[168] فاضت عن الاول فامر اجمعوا عليه لان السماء عندهم باسرها هى
بمنزلة حيوان واحد والحركة اليومية التى لجميعها هى كالحركة
الكلية فى المكان للحيوان والحركات التى لاجزاء السماء هى
كالحركات الجزئية التى لاعضاء الحيوان وقد قام عندهم البرهان على
ان فى الحيوان قوة واحدة بها صار واحدا وبها صارت جميع القوى
التى فيه تؤم فعلا واحدا وهو سلامة الحيوان وهذه القوى مرتبطة
بالقوة الفائضة عن المبدأ الاول ولو لا ذلك لافترقت اجزاؤه ولم يبق
طرفة عين فان كان واجبا ان يكون فى الحيوان الواحد قوة واحدة

[Page 230] روحانية سارية فى جميع اجزائه بها صارت الكثرة الموجودة فيه من
القوى والاجسام واحدة حتى قيل فى الاجسام الموجودة فيه انها جسم
واحد وقيل فى القوى الموجودة فيه انها قوة واحدة وكانت نسبة
اجزاء الموجودات من العالم كله نسبة اجزاء الحيوان الواحد من
الحيوان الواحد فباضطرار ان يكون حالها فى اجزائه الحيوانية وفى
قواها المحركة النفسانية والعقلية هذه الحال أعنى ان فيها قوة واحدة
روحانية بها ارتبطت جميع القوى الروحانية والجسمانية وهى سارية
فى الكل سريانا واحدا ولو لا ذلك لما كان ههنا نظام وترتيب وعلى
هذا يصح القول ان ﷲ خالق كل شىء وممسكه وحافظه كما قال سبحانه
ان ﷲ يمسك السمٰاوٰات والارض ان تزولاٰ الآية . [169] وليس
يلزم من سريان القوة الواحدة فى اشياء كثيرة ان يكون فى تلك
القوة كثرة كما ظن من قال ان المبدأ الواحد انما فاض عنه اولا
واحد ثم فاض من ذلك الواحد كثرة فان هذا انما يظن به انه لازم
اذا شبه الفاعل الذى فى غير هيولى بالفاعل الذى فى الهيولى ولذلك
ان قيل اسم الفاعل على الذى فى غير هيولى والذى فى هيولى
فباشتراك الاسم فهذا يبين لك جواز صدور الكثرة عن الواحد .

[Page 231] [170] وايضا فان وجود سائر المبادى المفارقة انما هو فيما يتصور منه وليس
يمتنع ان يكون هو شيئا واحدا بعينه يتصور منه اشياء كثيرة
تصورات مختلفة كما انه ليس يمتنع فى الكثرة ان تتصور تصورا
واحدا وقد نجد الاجرام السماوية كلها فى حركتها اليومية تتصور
هى وفلك الكواكب الثابتة تصورا واحدا بعينه فانها تتحرك
باجمعها فى هذه الحركة عن محرك واحد وهو محرك فلك الكواكب
الثابتة ونجد لها ايضا حركات تخصها مختلفة فوجب ان تكون
حركاتها عن محركين مختلفين من جهة متحدين من جهة وهو من جهة
ارتباط حركاتها بحركة الفلك الاول فانه كما انه لو توهم متوهم ان
العضو المشترك لاعضاء الحيوان او القوة المشتركة قد ارتفع
لارتفعت جميع اعضاء ذلك الحيوان وجميع قواه كذلك الامر فى
الفلك فى اجزائه وقواه المحركة وبالجملة فى مبادى العالم واجزائه
مع المبدأ الاول وبعضها مع بعض . [171] والعالم أشبه شىء عندهم بالمدينة
الواحدة وذلك انه كما ان المدينة تتقوم برئيس واحد ورئاسات
كثيرة تحت الرئيس الاول كذلك الامر عندهم فى العالم وذلك انه
كما ان سائر الرئاسات التى فى المدينة انما ارتبطت بالرئيس الاول من

[Page 232] جهة ان الرئيس الاول هو الموجب لواحدة واحدة من تلك الرئاسات
على الغايات التى من اجلها كانت تلك الرئاسات وعلى ترتيب الافعال
الموجبة لتلك الغايات كذلك الامر فى الرئاسة الاولى التى فى العالم
مع سائر الرئاسات . [172] وتبين عندهم ان الذى يعطى الغاية فى الموجودات
المفارقة للمادة هو الذى يعطى الوجود لان الصورة والغاية هى
واحدة فى هذا النوع من الموجودات فالذى يعطى الغاية فى هذه
الموجودات هو الذى يعطى الصورة والذى يعطى الصورة هو
الفاعل فالذى يعطى الغاية فى هذه الموجودات هو الفاعل ولذلك
يظهر ان المبدأ الاول هو مبدأ لجميع هذه المبادى فانه فاعل وصورة
وغاية . [173] واما حاله من الموجودات المحسوسة فلما كان هو الذى
يعطيها الوحدانية وكانت الوحدانية التى فيها هى سبب وجود
الكثرة التى تربطها تلك الوحدانية صار مبدأ لهذه كلها على انه فاعل
وصورة وغاية وصارت جميع الموجودات تطلب غايتها بالحركة نحوه
وهى الحركة التى تطلب بها غاياتها التى من اجلها خلقت وذلك أما
لجميع الموجودات فبالطبع وأما للانسان فبالارادة ولذلك كان
مكلفا من بين سائر الموجودات ومؤتمنا من بينها وهو معنى قوله

[Page 233] سبحانه انا عرضنا الامانة على السماوٰات والارض والجبال الآية .
[174] وانما عرض للقوم ان يقولوا ان هذه الرئاسات التى فى العالم وان كانت
كلها صادرة عن المبدأ الاول ان بعضها صدر عنه بلا واسطة وبعضها
صدر منه بواسطة عند السلوك والترقى من العالم الاسفل الى العالم
الاعلى وذلك انهم وجدوا اجزاء الفلك بعضها من اجل حركات
بعض فنسبوها الى الاول فالاول حتى وصلوا الى الاول باطلاق فلاح
لهم نظام آخر وفعل اشتركت فيه جميع الموجودات اشتراكا واحدا
والوقوف على الترتيب الذى ادركه النظار فى الموجودات عند الترقى
الى معرفة الاول عسير والذى تدركه العقول الانسانية منه انما هو
مجمل لكن الذى حرك القوم ان اعتقدوا انها مرتبة عن المبدأ
الاول بحسب ترتيب افلاكها فى الموضع هو انهم رأوا ان الفلك
الاعلى فيما يظهر من امره انه اشرف مما تحته وان سائر الافلاك تابعة
له فى حركته فاعتقدوا لمكان هذا ما حكى عنهم من الترتيب
بحسب المكان . [175] ولقائل ان يقول لعل الترتيب الذى فى هذه انما هو
من أجل الفعل لا من أجل الترتيب فى المكان وذلك انه لما كان يظهر
من افعال هذه الكواكب أعنى السيارة حركاتها من اجل حركة

[Page 234] الشمس فلعل المحركين لها انما يقتدون فى تحريكاتهم بحركة
الشمس وتحرك الشمس عن الاول فلذلك ليس يلفى فى هذا المطلب
مقدمات يقينية بل من جهة الاولى والاخلق
[176] واذ قد تقرر هذا فلنرجع الى ما كنا بسبيله
[177] قال ابو حامد هو ان من ذهب الى ان الاول لا يعقل الا نفسه انما خاف
من لزوم الكثرة اذ لو قال فيه يعقل غيره للزم ان يقال عقله غير عقله نفسه وهذا
لازم فى المعلول الاول فينبغى ان لا يعقل الا نفسه لانه لو عقل غيره لكان ذلك غير ذاته
ولافتقر الى علة غير علة ذاته ولا علة الا علة ذاته وهو المبدأ الاول فينبغى ان لا يعلم الا
ذاته وتبطل الكثرة التى نشأت من هذا الوجه
فان قيل لما وجد وعقل ذاته لزمه ان يعقل انه مبدأ
قلنا لزمه ذلك لعلة او لغير علة فان كان لعلة فلا علة الا المبدأ الاول وهو واحد
ولا يتصور ان يصدر منه الا واحد وقد صدر وهو ذات المعلول فالثانى كيف يصدر منه .
وان لزم بغير علة فليلزم وجود الاول موجودات بلا علة كثيرة وليلزم منها الكثرة . فان
لم يعقل هذا من حيث ان واجب الوجود لا يكون الا واحدا والزائد على الواحد ممكن
والممكن يفتقر الى علة فهذا اللازم فى حق المعلول ان كان واجب الوجود بذاته فقد بطل
قولهم واجب الوجود واحد وان كان ممكنا فلا بد له من علة ولا علة له فلا يعقل وجوده .

[Page 235] وليس هو من ضرورة المعلول الاول لكونه ممكن الوجود فان امكان الوجود ضرورى
فى كل معلول أما كون المعلول عالما بالعلة ليس ضروريا فى وجود ذاته كما ان كون
العلة عالما بالمعلول ليس ضروريا فى وجود ذاته بل لزوم العلم بالمعلول اظهر من لزوم العلم
بالعلة فبان ان الكثرة الحاصلة من علمه بالمبدإ محال فانه لا مبدأ له وليس هو من ضرورة
وجود ذات المعلول وهذا ايضا لا مخرج عنه
[178] قلت هذه حجة من يوجب ان يكون الاول يعقل من ذاته ما
هو له علة لانه يقول ان لم يعقل من ذاته انه مبدأ فقد عقل ذاته
عقلا ناقصا
[179] واما اعتراض أبى حامد على هذا فمعناه إِن كان عقل ما هو له
مبدأ فلا يخلو ان يكون ذلك لعلة أو لغير علة فان كان لعلة لزم ان
يكون للأول علة ولا علة للاول وان كان لغير علة وجب ان يلزم
عنه كثرة وان لم يعلمها فان لزمت عنه كثرة لم يكن واجب الوجود
لان واجب الوجود لا يكون الا واحدا والذى يصدر عنه أكثر
من واحد هو ممكن الوجود والممكن الوجود مفتقر الى علة فقد
بطل قولهم ان يكون الاول واجب الوجود وان يعلم معلوله .
قال واذا كان كون المعلول عالما بالعلة ليس من ضرورة وجوده فاحرى
ألا يكون من ضرورة كون العلة ان تكون عارفة بمعلولها

[Page 236] [180] قلت هذا كلام سفسطانى فانه اذا فرضنا العلة عقلا ويعقل
معلولة فانه ليس يلزم عن ذلك ان يكون ذلك لعلة زائدة على ذاته
بل لنفس ذاته اذ كان صدور المعلول عنه شيئا تابعا لذاته ولا ان كان
صدور المعلول عنه لا لعلة بل لذاته يلزم ان يكون يصدر عنه كثرة
لان ذلك على اصلهم راجع لذاته ان كانت ذاته واحدة صدر عنها
واحد وان كانت كثيرة صدر عنها كثرة . [181] وما وضع فى هذا القول
من ان كل معلول فهو ممكن الوجود فان هذا انما هو صادق فى
المعلول المركب فليس يمكن ان يوجد شىء مركب وهو ازلى فكل
ممكن الوجود عند الفلاسفة فهو محدث وهذا شىء قد صرح به
ارسطو فى غير ما موضع من كتبه وسيبين هذا من قولنا بعد بيانا
اكثر عند التكلم فى واجب الوجود واما الذى يسميه ابن سينا
ممكن الوجود فهو والممكن الوجود مقول باشتراك الاسم ولذلك
ليس كونه محتاجا الى الفاعل ظاهرا من الجهة التى منها ظهر حاجة
الممكن

[Page 237] [182] قال ابو حامد هو ان عقل المعلول الاول ذات نفسه عين ذاته أو

فى الهواس
[183] قلت الكلام ههنا فى العقول هو فى موضعين أحدهما فيما يعقل
وما لا يعقل وهى مسألة خاض فيها القدماء . واما الكلام فيما صدر
عنها فانفرد ابن سينا بالقول الذى حكاه ههنا عن الفلاسفة وتجرد
هو للرد عليهم ليوهم انه رد على جميعهم وهذا كما قال تعمق ممن قاله
فى الهوس . [184] وليس يلفى هذا القول لاحد من القدماء وهو قول ليس
يقوم عليه برهان الا ما ظنوا من ان الواحد لا يصدر عنه الا واحد
وهذه القضية ليست فى الفاعلات التى هى صور فى مواد كالحال فى
الفاعلات التى هى صور مجردة من المادة فانه ليس ذات العقل
المعلول عندهم الا ما يعقل من مبداه ولا ههنا شيئان احدهما ذات غيره فان كان غيره فليكن كذلك فى المبدأ الاول فيلزم منه كثرة وان كان ليسه غيره
... فيه تربيع ولا تثليث بزعمهم فانه ذاته وعقله نفسه وعقله مبدأه وانه ممكن الوجود
بذاته ويمكن ان يزاد انه واجب الوجود بغيره فيظهر تخميس وبهذا يظهر تعمق هؤلاء قلت

[Page 238] الاخر معنى زائد على الذات لانه لو كان ذلك كذلك لكان مركبا
والبسيط لا يكون مركبا . [185] والفرق بين العلة والمعلول ان العلة الاولى
وجودها بذاتها اعنى فى الصور المفارقة والعلة الثانية وجودها
بالاضافة الى العلة الاولى لان كونها معلولة هو نفس جوهرها وليس
هو معنى زائدا عليها كالحال فى المعلولات المادية مثال ذلك ان
اللون هو شىء موجود بذاته فى الجسم وكونه علة للبصر هو من
حيث هو مضاف والبصر ليس له وجود الا فى هذه الاضافة ولذلك
كانت المجردة من الهيولى جواهر من طبيعة المضاف ولذلك اتحدت
العلة والمعلول فى الصور المفارقة للمواد ولذلك كانت الصور الحسية
من طبيعة المضاف كما تبين فى كتاب النفس
[186] الاعتراض الرابع ان يقال التثليث لا يكفى فى المعلول الاول فان جرم السماء
الاول لزم عندهم من معنى واحد من ذات المبدأ وفيه تركيب من ثلاثة أوجه
احدها انه مركب من صورة وهيولى وهكذا كل جسم عندهم فلا بد لكل واحد من
مبدأ اذ الصورة تخالف الهيولى وليست كل واحدة على مذهبهم علة مستقلة للاخرى حتى
يكون أحدهما بواسطة الآخر من غير علة أُخرى زائدة عليها

[Page 239] [187] قلت الذى يقوله ان الجسم السماوى هو عندهم مركب من مادة
وصورة ونفس فيجب ان يكون فى العقل الثانى الذى صدر عنه
الفلك اربعة معان معنى تصدر عنه الصورة ومعنى تصدر عنه
الهيولى اذ ليس احد هذين علة مستقلة للثانية بل المادة علة للصورة
بوجه والصورة علة للمادة بوجه ومعنى صدر عنه النفس ومعنى صدر
عنه المحرك للفلك الثانى فيكون فيه تربيع ضرورة . [188] والقول بان الجسم
السماوى مركب من صورة وهيولى كسائر الاجسام هو شىء غلط
فيه ابن سينا على المشائين بل الجرم السماوى عندهم جسم بسيط ولو
كان مركبا لفسد عندهم ولذلك قالوا فيه انه غير كائن ولا فاسد
ولا فيه قوة على المتناقضين ولو كان كما قال ابن سينا لكان مركبا
كالحيوان ولو سلم هذا لكان التربيع لازما لمن يقول ان الواحد لا
يصدر عنه الا واحد . [189] وقد قلنا ان الوجه الذى به هذه الصور بعضها
اسباب لبعض وكونها اسبابا للاجرام السماوية ولما دونها وكون
السبب الاول سببا لجميعها هو غير هذا كله
[190] قال ابو حامد
بذلك القدر من بين سائر المقادير زائد على وجود ذاته اذ كان ذاته ممكنا اصغر منه أو
اكبر فلا بد له من مخصص بذلك المقدار زائد على المعنى البسيط الموجب لوجوده لا
كوجود العقل فانه وجود محض لا يختص بمقدار مقابل لسائر المقادير فيجوز ان يقال لا
يحتاج الا الى علة بسيطة

[Page 240]
[191] قلت معنى هذا القول انهم اذا قالوا ان جسم الفلك هو معنى
ثالث صدر وهو فى نفسه غير بسيط اعنى انه جسم ذو كمية ففيه اذا
معنيان احدهما يعطى الجسمية الجوهرية والثانى الكمية المحدودة
فيجب ان يكون فى ذلك العقل الذى صدر عنه جسم الفلك اكثر
من معنى واحد فلا تكون العلة الثانية مثلثة بل مربعة . [192] وهذا كله
وضع فاسد فان الفلاسفة لا يعتقدون ان الجسم باسره يصدر عن
مفارق وان صدر عندهم فانما يصدر الصورة الجوهرية ومقادير
اجزائها عندهم تابعة للصور لكن هذا كله عندهم فى الصور
الهيولانية والاجرام السماوية عندهم من حيث هى بسيطة لا تقبل
الصغر والكبر ثم وضع الصورة والمادة صادرتين عن مبدأ مفارق
خارج عن اصولهم وبعيدا جدا والفاعل بالحقيقة عند الفلاسفة الذى
فى الكائنات الفاسدات ليس يفعل الصورة ولا الهيولى وانما يفعل
من الهيولى والصورة المركب منهما جميعا اعنى المركب من الهيولى

[Page 241] والصورة لانه لو كان الفاعل يفعل الصورة فى الهيولى لكان يفعلها
فى شىء من لا شىء وهذا كله ليس رأيا للفلاسفة فلا معنى لرده على
انه رأى الفلاسفة
[193] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل سببه انه لو كان اكبر منه لكان مستغنى عنه فى تحصيل النظام الكلى ولو كان
أصغر منه لم يصلح للنظام المقصود
[194] قلت يريد بهذا القول ان الفلاسفة ليس يرون ان جرم الفلك مثلا
جائز ان يكون اكبر او اصغر مما هو عليه لانه لو كان باحد الوصفين
لم يحصل النظام المقصود ههنا ولا كان تحريكه لما ههنا تحريكا
طبيعيا بل كان اما زائدا على هذا التحريك واما ناقصا وكلاهما
يقتضى فساد الموجودات ههنا لا أن الكبر كان يكون فضلا كما قال
ابو حامد بل الكبر والصغر كلاهما كانا يقتضيان فساد العالم عندهما
[195] قال ابو حامد رادا على الفلاسفة
فنقول وتعين جهة النظام هل هو كاف فى وجود ما به النظام أم يفتقر الى علة موجدة
فان كان كافيا فقد استغنيتم عن وضع العلل فاحكموا بان كون النظام فى هذه الموجودات
اقتضى هذه الموجودات بلا علة زائدة وان كان ذلك لا يكفى بل افتقر الى علة فذلك
ايضا لا يكفى للاختصاص بالمقادير بل يحتاج ايضا الى علة التركيب

[Page 234]
[196] قلت حاصل هذا القول انه يلزمهم ان فى الجسم اشياء كثيرة
ليس يمكن ان تصدر عن فاعل واحد الا ان يقولوا ان الفاعل
الواحد يصدر عنه افعال كثيرة او يعتقدوا ان كثيرا من لواحق
الجسم يلزم عن صورة الجسم وصورة الجسم عن الفاعل وعلى هذا
الرأى فليس تصدر الاعراض التابعة للجسم المتكون عن الفاعل
له صدورا أولًا بل بتوسط صدور الصورة عنه وهذا القول سائغ
على اصول الفلاسفة لا على اصول المتكلمين واظن ان المعتزلة ترى
ان ههنا اشياء لا تصدر عن الفاعل للشىء صدورا اوليا كما تراه
الفلاسفة . [197] واما نحن فقد تقدم من قولنا كيف الواحد سبب لوجود
النظام ووجود الاشياء الحاملة للنظام فلا معنى لاعادة ذلك
[198] الوجه الثالث قال ابو حامد هو ان الفلك الاقصى انقسم الى نقطتين هما القطبان وهما
ثابتا الوضع لا يفارقان وضعهما واجزاء المنطقة يختلف وضعها فلا يخلو اما ان يكون جميع
اجزاء الفلك الاقصى متشابها فلم يلزم تعين نقطتين من بين سائر النقط لكونهما قطبين أو
أجزاؤها مختلفة ففى بعضها خواص ليس فى البعض فما مبدأ تلك الاختلافات والجرم الاقصى
لم يصدر الا عن معنى واحد بسيط والبسيط لا يوجب الا بسيطا فى الشكل وهو الكرى
ومتشابها فى المعنى وهو الخلو عن الخواص المميزة وهو ايضا لا مخرج عنه

[Page 243]
[199] قلت البسيط يقال على معنيين احدهما ما ليس مركبا من اجزاء
كثيرة وهو مركب من صورة ومادة وبهذا يقولون فى الاجسام
الاربعة انها بسيطة والثانى يقال على ما ليس مؤلفا من صورة ومادة
مغايرة للصورة بالقوة وهى الاجرام السماوية والبسيط أيضا يقال
على ما حدّ الكل والجزء منه واحد وان كان مركبا من الاسطقسات
الاربعة . [200] والبسيط بالمعنى المقول على الاجرام السماوية لا يبعد ان
توجد اجزاؤه مختلفة بالطبع كاليمين والشمال للفلك والاقطاب
والكرة بما هى كرة يجب ان يكون لها اقطاب محدودة ومركز محدود
به تختلف كرة كرة وليس يلزم من كون الكرة لها جهات محدودة
أن تكون غير بسيطة بل هى بسيطة من حيث انها غير مركبة من
صورة ومادة فيها قوة وغير متشابهة من جهة ان الجزء القابل لموضع
النقطتين ليس هو اى جزء اتفق من الكرة بل هو جزء محدود

[Page 244] بالطبع فى كرة كرة ولو لا ذلك لم يكن للاكر مراكز بالطبع بها
تختلف فهى غير متشابهة فى هذا المعنى وليس يلزم من انزالها انها غير
متشابهة فى هذا المعنى ان تكون مركبة من اجسام مختلفة الطبائع
ولا ان يكون الفاعل لها مركبا من قوى كثيرة لان كل كرة فهى
واحدة . [201] ولا يصح القول عندهم أيضا بان كل نقطة من اى كرة
اتفقت يمكن ان تكون مركزا وانما يخصصها الفاعل فان هذا انما
يصح فى الاكر الصناعية لا فى الاكر الطبيعية . [202] وليس يلزم عن
وضع أن كل نقطة من الكرة يصلح ان تكون مركزا وان الفاعل
هو الذى يخصصها ان يكون الفاعل كثيرا الا ان يوضع انه
ليس فى الشاهد شىء واحد يصدر عن فاعل واحد لان ما فى الشاهد
هو مركب من المقولات العشر فكان يلزم ان يكون كل واحد مما
ههنا يلزم عن عشر فاعلين وهذا كله سخافات وهذيانات أدى اليه
هذا النظر الذى هو شبيه بالهذيان فى العلم الالهى والمصنوع الواحد
فى الشاهد انما يصنعه صانع واحد وان كان يوجد فيه المقولات
العشر فما أكذب هذه القضية ان الواحد لا يصنع الا واحدا اذا فهم

[Page 245] ما فهم ابن سينا وأبو نصر وابو حامد فى المشكاة فانه عول على
مذهبهم فى المبدأ الاول
[203] قال ابو حامد فان قيل لعل فى المبدأ انواع من الكثرة لازمة لا من جهة المبدأ وانما
ظهر لنا ثلاثة او اربعة والباقى لم نطلع عليه وعدم عثورنا على عينة لا يشككنا فى ان مبدأ
الكثرة كثرة وان الواحد لا يصدر منه كثير
[204] قلت هذا القول لو قالت به الفلاسفة للزمهم ان يعتقدوا ان فى
المعلول الاول كثرة لا نهاية لها وقد كان يلزمهم ضرورة ان يقال لهم
من اين جاءت فى المعلول الاول كثرة وكما يقولون ان الواحد لا
يصدر عنه كثير كذلك يلزمهم ان الكثير لا يصدر عن الواحد
فقولكم ان الواحد لا يصدر عنه الا واحد يناقض قولكم ان الذى
صدر عن الواحد الاول شىء فيه كثرة لانه يلزم ان يصدر عن الواحد
واحد الا ان يقولوا ان الكثرة التى فى المعلول الاول كل واحد منها
أول فيلزمهم ان تكون الاوائل كثيرة . [205] والعجب كل العجب كيف
خفى هذا على أبى نصر وابن سينا لانهما اول من قال هذه الخرافات

[Page 246] فقلد هما الناس ونسبوا هذا القول الى الفلاسفة لانهم اذا قالوا ان
الكثرة التى فى المبدأ الثانى انما هى مما يعقل من ذاته وما يعقل من
غيره لزم عندهم ان تكون ذاته ذات طبيعتين أعنى صورتين فاى
ليت شعرى هى الصادرة عن المبدأ الاول واى هى الغير صادرة
وكذلك يلزمهم اذا قالوا فيه انه ممكن من ذاته واجب من غيره لان
الطبيعة الممكنة يلزم ضرورة ان تكون غير الطبيعة الواجبة التى
استفادها من واجب الوجود فان الطبيعة الممكنة ليس يمكن ان
تعود واجبة الا لو امكن ان تنقلب طبيعة الممكن ضرورية ولذلك
ليس فى الطبائع الضرورية امكان أصلا كانت ضرورية بذاتها أو
بغيرها . [206] وهذه كلها خرافات وأقاويل أضعف من اقاويل المتكلمين
وهى كلها أمور دخيلة فى الفلسفة ليست جارية على اصولهم وكلها
اقاويل ليست تبلغ مرتبة الاقناع الخطابى فضلا عن الجدلى ولذلك
يحق ما يقول ابو حامد فى غير ما موضع من كتبه ان علومهم
الالهية هى ظنية
[207] قال ابو حامد قلنا فاذا جوزتم هذا فقولوا ان الموجودات كلها على كثرتها وقد بلغت
آلافا صدرت من المعلول الاول فلا يحتاج ان يقتصر على جرم الفلك الاقصى ونفسه بل يجوز
ان يكون قد صدر منه جميع النفوس الفلكية والانسانية وجميع الاجسام الارضية والسماوية
بانواع كثيرة لازمة فيها لم يطلعوا عليها فيقع الاستغناء بالمعلول الاول

[Page 247]
[208] قلت هذا اللزوم هو صحيح وبخاصة ان صيّروا الفعل الصادر
عن المبدأ الاول هى الوحدانية التى بها صار المعلول الاول موجودا
واحدا مع الكثرة الموجودة فيه فانهم ان جوزوا كثرة فى المعلول
الاول غير محدودة لم يخل ان تكون اقل من عدد الموجودات أو
أكثر منها او مساوية لها فان كانت اقل فحينئذ يلزم ان يدخلوا
ثالثا أو يكون شىء بلا علة وان كانت مساوية او اكثر لم يلزمهم
أن يدخلوا مبدأ ثالثا ولكن تكون الكثرة الواردة فيه فضلا
[209] قال ابو حامد ثم يلزم عنه الاستغناء بالعلة الاولى فانه اذا جاز تولد كثرة يقال انها
لازمة لا بعلة مع انها ليست ضرورية فى وجود المعلول الاول جاز ان يقدر ذلك مع العلة
الاولى ويكون وجودها لا بعلة ويقال انها لزمت ولا يدرى عددها وكلما تخيل وجودها بلا
علة مع الاول تخيل ذلك بلا علة مع الثانى بل لا معنى لقولنا مع الاول والثانى اذ ليس بينهما
مفارقة فى زمان ولا مكان فما لا يفارقهما فى مكان وزمان ويجوز ان يكون موجودا بلا
علة لم يختص أحدهما بالاضافة اليه

[Page 248]
[210] قلت يقول انه اذا جاز ان يوجد كثرة فى المعلول الاول عن غير
علة لان العلة الاولى لا يلزم عنها كثرة جاز تقدير كثرة مع العلة
الاولى واستغنى عن وضع علة ثانية ومعلول اول فان كان مستحيلا
وجود شىء مع العلة الاولى بلا علة فهو مستحيل ايضا مع العلة الثانية
بل لا معنى لقولنا علة ثانية اذ هى متحدة فى المعنى وليس يفترق
احدهما من الآخر بزمان ولا مكان فاذا جاز ان يوجد شىء بلا علة
لم تختص احدى العلتين به اعنى الاولى أو الثانية بل يكفى فى ذلك
ان يوجد مع احداهما ويستغنى عن وضعه مع العلة الثانية
[211] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل لقد كثرت ااشياء حتى زادت على الف ويبعد ان تبعد ان تبلغ الكثرة فى المعلول
الاوا الى هذا الحد فلذلك اكثرنا الوسائط قال ابو حامد
[212] ثم قال رادا على الفلاسفة
قلنا قول القائل يبعد هذا رجم ظن لا يحكم به فى المعقولات الا ان يقول انه

[Page 249] يستحيل فنقول لم يستحيل وما المرادّ والفيصل فمهما جاوزنا الواحد واعتقدنا انه يجوز ان
يلزم المعلول الاول لا من جهة العلة لازم واحد واثنان وثلاثة فما المحيل لاربعة وخمسة
وهكذا الى الف والا فمن يتحكم بمقدار دون مقدار فليس بعد مجاوزة الواحد مرد
وهذا ايضا قاطع
[213] قلت لو جاوب ابن سينا وسائرُ الفلاسفة ان المعلول الاول فيه
كثرة ولا بد وان كل كثرة انما يكون منها واحد بوحدانية اقتضت
ان ترجع الكثرة الى الواحد وان تلك الوحدانية التى صارت بها
الكثرة واحدا هى معنى بسيط صدرت عن واحد مفرد بسيط
لاستراحوا من هذه اللوازم التى ألزمهم ابو حامد وخرجوا من هذه
الشناعات . [214] فابو حامد لما ظفر ههنا بوضع فاسد منسوب الى الفلاسفة
ولم يجد مجيبا يجاوبه بجواب صحيح سر بذلك وكثر المحالات
اللازمة لهم وكل مجرٍ بالخلاء يسر ولو علم انه لا يرد به على الفلاسفة
لما فرح به . [215] وأصل فساد هذا الوضع قولهم ان الواحد لا يصدر عنه

[Page 250] الا واحد ثم وضعوا فى ذلك الواحد الصادر كثرة فلزمهم ان تكون
تلك الكثرة عن غير علة ووضعهم تلك الكثرة محدودة تحتاج الى
ادخال مبدأ ثالث ورابع لوجود الموجودات شىء وضعى لا يضطر
اليه برهان وبالجملة هذا الوضع غير وضع مبدأ أول وثان وذلك انه
يقال لم اختصت العلة الثانية ان يوجد فيها كثرة من دون العلة الاولى
فهذا كله هذيان وخرافات وأصل هذا انهم لم يفهموا كيف يكون
الواحد علة على مذهب ارسطوطاليس ومذهب من تبعه من
المشائين وقد تمدح هو فى آخر مقالة اللام بهذا المعنى واخبر ان كل
من كان قبله من القدماء لم يقدروا ان يقولوا فى ذلك شيئا . [216] وعلى هذا
الوجه الذى حكيناه عنهم تكون القضية القائلة ان الواحد لا
يصدر عنه الا واحد قضية صادقة وان الواحد يصدر عنه كثرة قضية
صادقة أيضا
[217] قال أبو حامد ثم نقول هذا باطل بالمعلول الثانى فانه صدر منه فلك الكواكب وفيه ألف
ونيف ومئتا كوكب وهى مختلفة العظم والشكل والوضع واللون و التأثير والنحوس
والسعود فبعضها على صورة الحمل والثور والاسد وبعضها على صورة الانسان ويختلف تأثيرها
فى محل واحد من العالم السفلى فى التبريد والتسخين والسعادة والنحوس وتختلف مقاديرها فى
ذاتها . فلا يمكن ان يقال الكل نوع واحد مع هذا الاختلاف ولو جاز هذا لجاز ان يقال
كل اجسام العالم نوع واحد فى الجسمية فيكفيها علة واحدة فان كان اختلاف صفاتها
وجواهرها وطبائعها دل على اختلافها فكذا الكواكب مختلفة لا محالة ويفتقر كل واحد
الى علة لصورته وعلة لهيولاه وعلة لاختصاصه بطبيعته المسخنة او المبردة او السعيدة أو
النحسة ولاختصاصه بموضعه ثم لاختصاص جملها باشكال البهائم المختلفة وهذا الكثرة ان
تصوّر ان تعقل فى العقل الثانى تصور فى الاول ووقع الاستغناء

[Page 251]
[218] قلت هذا الشك قد فرغ منه وهو من معنى ما كثر به فى هذا
الباب واذا قدرت الجواب الذى ذكرناه عنهم لم يلزم شىء من هذه
المحالات واما اذا فهم من القول ان الواحد بالعدد البسيط لا يصدر
عنه الا واحد بسيط بالعدد لا واحد بالعدد من جهة وكثير من جهة
وان الوحدانية منه هى علة وجود الكثرة فلن ينفك من هذه
الشكوك أبدا . [219] وايضا فان الاشياء انما تكثر عند الفلاسفة بالفصول
الجوهرية واما اختلاف الاشياء من قبل اعراضها فليس يوجب
عندهم اختلافا فى الجوهر كمية كانت أو كيفية أو غير ذلك من
انواع المقولات والاجسام السماوية كما قلنا ليست مركبة من هيولى

[Page 252] وصورة ولا هى مختلفة بالنوع اذ ليست تشترك عندهم فى جنس
واحد لانها لو اشتركت فى جنس لكانت مركبة ولم تكن بسيطة
وقد تقدم القول فى هذه الاشياء فلا معنى لتكثير القول فيه
[220] قال ابو حامد الاعتراض الخامس هو انا نقول ان سلمنا هذه الاوضاع الباردة
والتحكمات الفاسدة ولكن كيف لا يستحيون من قولهم ان كون المعلول الاول ممكن
الوجود اقتضى وجود جرم الفلك الاقصى منه وعقله نفسه اقتضى وجود نفس الفلك منه وعقله
الاول يقتضى وجود عقل منه وما الفصل بين هذا وبين قائل عرف وجود انسان غائب وانه
ممكن الوجود وانه يعقل نفسه وصانعه فقال يلزم من كونه ممكن الوجود وجود فلك فيقال
له وأى مناسبة بين كونه ممكن الوجود وبين وجود فلك منه وكذلك يلزم من كونه
عاقلا لنفسه ولصانعه شيئا آخران وهذا اذا قيل فى انسان ضحك منه وكذا فى موجود
آخر اذ إِمكان الوجود قضية لا تختلف باختلاف ذات الممكن انسانا كان او ملكا أو
فلكا فلست ادرى كيف يقنع المجنون نفسه بمثل هذه الاوضاع فضلا عن العقلاء الذين
يشقون الشعر بزعمهم فى المعقولات
[221] قلت اما هذه الاقاويل كلها التى هى اقاويل ابن سينا ومن قال
بمثل قوله فهى اقاويل غير صادقة ليست جارية على اصول الفلاسفة
ولكن ليست تبلغ من عدم الاقناع المبلغ الذى ذكره هذا الرجل

[Page 253] ولا الصورة التى صور فيها هى صورة حقيقية . [222] وذلك ان الانسان
الذى فرضه ممكن الوجود من ذاته واجبا من غيره عاقلا لنفسه
ولفاعله انما يصح تمثيله بالعلة الثانية اذا وضع هذا الانسان فعالا
للموجودات من جهة ذاته ومن جهة علمه كما يضع المبدأ الثانى من
قال بقول ابن سينا وكما من شأن الكل ان يضعوا المبدأ الاول
سبحانه فانه اذا وضع هكذا لزم ان يصدر عن هذا الانسان شيئان
اثنان احدهما من حيث يعلم ذاته والآخر من حيث يعلم صانعه لانه
انما فرض فعالا من حيث العلم ولا يبعد ايضا ان فرض فعالا من
جهة ذاته ان يقول ان الذى يلزم عنه من حيث هو ممكن الوجود
غير الذى يلزم عنه من حيث هو واجب الوجود اذ كان هذان
الوصفان موجودين لذاته . [223] فاذا ليس هذا القول من الشناعة فى
الصورة التى أراد ان يصورها هذا الرجل حتى ينفر بذلك النفوس
عن اقوال الفلاسفة ويخسسهم فى اعين النظار ولا فرق بين هذا وبين
من يقول اذا وضعتم موجودا حيا بحياة مريدا بارادة عالما بعلم سميعا
بصيرا متكلما بسمع وبصر وكلام ولزم عنه جميع العالم لزم ان

[Page 254] يكون الانسان الحى العالم السميع البصير المتكلم يلزم عنه جميع
العالم لانه ان كانت هذه الصفات هى التى تقتضى وجود العالم فيجب
ان يكون لا فرق فيما يوجب فى كل موجود يوصف بها . [224] فان كان
الرجل قصد قول الحق فى هذه الاشياء فغلط فهو معذور وان كان
علم التمويه فيها فقصده فان لم يكن هنالك ضرورة داعية له فهو
غير معذور وان كان انما قصد بهذا ليعرف انه ليس عنده قول برهانى
يعتمد عليه فى هذه المسئلة أعنى المسئلة التى هى من أين جاءت
الكثرة كما يظهر بعد من قوله فهو صادق فى ذلك اذ لم يبلغ الرجل
المرتبة من العلم المحيط بهذه المسئلة وهذا هو الظاهر من حاله فيما
بعد وسبب ذلك انه لم ينظر الرجل الا فى كتب ابن سينا فلحقه
القصور فى الحكمة من هذه الجهة
[225] قال ابو حامد فان قال قائل فاذا ابطلتم مذهبهم فما ذا تقولون انتم اتزعمون انه
يصدر من الشىء الواحد من كل وجه شيئان مختلفان فتكابرون العقول ام تقولون المبدأ
الاول فيه كثرة فتتركون التوحيد او تقولون لا كثرة فى العالم فتنكرون الحس او
تقولون لزمت بالوسائط فتضطرون الى الاعتراف بما قالوه
قلنا نحن لم نخض فى هذا الكتاب خوض ممهد وانما غرضنا ان نشوش دعاويهم وقد
حصل . على أنا نقول ومن زعم ان المصير الى صدور اثنين من واحد مكابرة للعقول او
اتصاف المبدأ بصفات قديمة أزلية مناقض للتوحيد فهاتان دعوتان باطلتان لا برهان لهم
عليهما فانه ليس يعرف استحالة صدور اثنين من واحد كما يعرف استحالة كون الشخص
الواحد فى مكانين وعلى الجملة لا يعرف بالضرورة ولا بالنظر . وما المانع من ان يقال المبدأ
الاول عالم قادر مريد يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يخلق المختلفات والمتجانسات كما يريد
وعلى ما يريد فاستحالة هذا لا يعرف بضرورة ولا نظر وقد ورد به الانبياء المؤيدون
بالمعجزات فيجب قبوله . وأما البحث عن كيفية صدور الفعل من ﷲ تعالى بالارادة
ففضول وطمع فى غير مطمع والذين طمعوا فى طلب مناسبته ومعرفته رجع حاصل نظر هم الى
ان المعلول الاول من حيث انه ممكن الوجود صدر منه فلك ومن حيث انه يعقل نفسه صدر
منه نفس الفلك فهذه حماقة لا اظهار مناسبة
فلنقبل مبادى هذه الامور من الانبياء صلوات ﷲ عليهم وليصدقوا فيها اذ العقل لا
يحيلها ولنترك البحث عن الكيفية والكمية والماهية فليس ذلك مما يتسع له القوى البشرية
ولذلك قال صاحب الشرع تفكروا فى خلق ﷲ ولا تتفكروا فى ذات ﷲ

[Page 255]
[226] قلت قوله ان كل ما قصرت عن ادراكه العقول الانسانية
فواجب ان نرجع فيه الى الشرع حق . [227] وذلك ان العلم المتلقى من
قبل الوحى انما جاء متمما لعلوم العقل أعنى ان كل ما عجز عنه
العقل افاده ﷲ تعالى الانسان من قبل الوحى والعجز عن المدارك

[Page 256] الضروري علمها فى حياة الانسان ووجوده منها ما هو عجز باطلاق
أى ليس فى طبيعة العقل ان يدرك بما هو عقل ومنها ما هو عجز
بحسب طبيعة صنف من الناس وهذا العجز اما ان يكون فى اصل
الفطرة واما ان يكون لامر عارض من خارج من عدم تعلم وعلم
الوحى رحمة لجميع هذه الاصناف
[228] واما قوله
فانه لا يليق هذا الغرض به وهى هفوة من هفوات العالم فان العالم
بما هو عالم انما قصده طلب الحق لا ايقاع الشكوك وتحيير العقول
[229] وقوله فانه ليس يعرف استحالة صدور اثنين عن واحد كما يعرف استحالة كون
الشخص الواحد فى مكانين
فانه وان لم يكن هاتان المقدمتان فى مرتبة واحدة من التصديق
فليس يخرج كون المقدمة القائلة ان الواحد البسيط لا يصدر عنه الا
واحد بسيط من ان تكون يقينية فى الشاهد . [230] والمقدمات اليقينية
تتفاضل على ما تبين فى كتاب البرهان والسبب فى ذلك ان المقدمات
اليقينية اذا ساعدها الخيال قوى التصديق فيها واذا لم يساعدها
الخيال ضعف والخيال غير معتبر الا عند الجمهور ولذلك من ارتاض

[Page 257] بالمعقولات واطرح التخيلات فالمقدمتان فى مرتبة واحدة عنده من
التصديق
[231] وأكثر ما يقع اليقين بمثل هذه المقدمات اذا تصفح الانسان
الموجودات الكائنة الفاسدة فرأى انها انما تختلف اسماؤها
وحدودها من قبل أفعالها وانه لو صدر أى موجود اتفق عن أى فعل
اتفق وعن اى فاعل اتفق لاختلطت الذوات والحدود وبطلت
المعارف فالنفس مثلا انما تميزت من الجمادات بافعالها الخاصة الصادرة
عنها والجمادات انما تميزت بعضها عن بعض بافعال تخصها وكذلك
النفوس . [232] ولو كان يصدر عن قوة واحدة افعال كثيرة كما يصدر عن
القوى المركبة افعال كثيرة لم يكن فرق بين الذات البسيطة
والمركبة ولا تميزت لنا . وأيضا ان امكن ان يصدر عن ذات واحدة
أفعال كثيرة فقد أمكن فعل من غير فاعل وذلك ان الموجود انما
يوجد عن موجود لا عن معدوم ولذلك ليس يمكن ان يوجد المعدوم
من ذاته فاذا كان المحرك للمعدوم والمخرج له من القوة الى الفعل
انما يخرجه من جهة ما هو بالفعل فواجب ان يكون نحو الفعل الذى
فيه على نحو الفعل المخرج له من العدم الى الوجود فانه ان خرج اى

[Page 258] مفعول اتفق من اى فاعل اتفق لم يمتنع ان تخرج المفعولات الى
الفعل من ذاتها لا من قبل فاعل يفعلها فان تخرج انحاء كثيرة من
القوة الى الفعل عن فاعل واحد فواجب ان تكون فيه اعنى تلك
الانحاء او ما يناسبها لانه ان لم يكن فيه الا نحو واحد منها فما خرج
من سائر الانحاء انما خرج من نفسه من غير مخرج له . [233] وليس لقائل ان
يقول ان شرط الفاعل انما هو ان يوجد فاعلا فقط بالفعل المطلق
فقط لا بنحو من الفعل مخصوص فانه لو كان ذلك كذلك لفعل
أى موجود اتفق اى فعل اتفق واختلطت الموجودات وايضا فان
الموجود المطلق اعنى الكلى أقرب الى العدم من الموجود الحقيقى
ولذلك نفى القول بموجود مطلق ولون مطلق القائلون بنفى
الاحوال وقال القائلون باثباتها انها لا موجودة ولا معدومة فلو صح
هذا لصح ان تكون الاحوال علة للموجودات . [234] وكون الفعل
الواحد يصدر عن واحد هو فى العالم الذى فى الشاهد أبين منه فى
غير ذلك العالم فان العلم يتكثر بتكثر المعقولات للعالم لانه انما
يعقلها على النحو الذى هى عليه موجودة وهى علة علمه وليس

[Page 259] يمكن ان تكون المعلومات الكثيرة تعلم بعلم واحد ولا يكون
العلم الواحد علة لصدور معلولات كثيرة عنه فى الشاهد مثال ذلك
ان علم الصانع الصادر عنه مثلا الخزانة غير العلم الصادر عنه الكرسي .
[235] لكن العلم القديم مخالف فى هذا العلم المحدث والفاعل القديم للفاعل
المحدث


[236] فان قيل فما تقول انت فى هذه المسئلة وقد ابطلت مذهب ابن
سينا فى علة الكثرة فما تقول انت فى ذلك فانه قد قيل ان فرق
الفلاسفة كانوا يجيبون فى ذلك بواحد من ثلاثة أجوبة أحدها قول
من قال ان الكثرة انما جاءت من قبل الهيولى والثانى قول من قال
انما جاءت من قبل الآلات والثالث قول من قال من قبل الوسائط
وحكى عن آل ارسطو انهم صححوا القول الذى يجعل السبب فى
ذلك التوسط
[237] قلت ان هذا لا يمكن الجواب فيه فى هذا الكتاب بجواب
برهانى ولكن لسنا نجد لارسطو ولا لمن شهر من قدماء المشائين

[Page 260] هذا القول الذى نسب اليهم الا لفرفوريوس الصورى صاحب مدخل
علم المنطق والرجل لم يكن من حذاقهم والذى يجرى عندى على
اصولهم او سبب الكثرة هو مجموع الثلاثة الاسباب اعنى المتوسطات
والاستعدادات والآلات وهذه كلها قد بينا كيف تستند الى
الواحد وترجع اليه اذ كان وجود كل واحد منها بوحدة محضة هى
سبب الكثرة . [238] وذلك انه يشبه ان يكون السبب فى كثرة العقول
المفارقة اختلاف طبائعها القابلة فيما تعقل من المبدأ الاول وفيما
تستفيد منه من الوحدانية الذى هو فعل واحد فى نفسه كثير
بكثرة القوابل له كالحال فى الرئيس الذى تحت يده رئاسات كثيرة
والصناعة التى تحتها صنائع كثيرة وهذا يفحص عنه فى غير هذا
الموضع فان تبين شىء منه والا رجع الى الوحى . [239] واما ان الاختلاف
يقع من قبل اختلاف الاسباب الاربعة فبين وذلك ان اختلاف
الافلاك يكون من قبل اختلاف محركيها واختلاف صورها
وموادها ان كان لها مواد وافعالها المخصوصة فى العالم وان كانت

[Page 261] ليست من أجل هذه الافعال عندهم . [240] واما الاختلاف الذى يعرض
أولا بما دون الفلك من الاجسام البسيطة فهو اختلاف المادة مع
اختلافها فى القرب والبعد من المحركين لها وهى الاجرام السماوية
مثل اختلاف النار والارض وبالجملة المتضادات واما السبب فى
اختلاف الحركتين العظيمتين اللتين احداهما فاعلة الكون والثانية
الفساد فاختلاف الاجرام السماوية واختلاف حركاتها على ما تبين فى
كتاب الكون والفساد فسبب الاختلاف الذى يكون من قبل
الاجرام السماوية هو شبيه بالاختلاف الذى يكون من قبل
اختلاف الآلات واذا كان ذلك كذلك فاسباب الكثرة عند
ارسطو من الفاعل الواحد هى الثلاثة الاسباب ورجوعه الى
الواحد هو بالمعنى المتقدم وهو كون الواحد سبب الكثرة . [241] واما ما
دون فلك القمر فانه يوجد الاختلاف فيه من قبل الاربعة الاسباب
اعنى اختلاف الفاعلين واختلاف المواد واختلاف الآلات وكون
الافعال تقع من الفاعل الاول بواسطة غيره وهذا كانه قريب من
الآلات

[Page 262] [242] ومثال الاختلاف الذى يكون من قبل اختلاف القوابل
وكون المختلفات بعضها أسبابا لبعض اللون فان اللون الذى يحدث
فى الهواء غير الذى يحدث فى الجسم والذى يحدث فى البصر اعنى فى
العين غير الذى يحدث فى الهواء والذى يحدث فى الحس المشترك غير
الذى يحدث فى العين والذى يحدث فى الخيال غير الذى يحدث فى
الحس المشترك والذى يحدث فى القوة الحافظة والذاكرة غير الذى
فى الخيال وهذا كله على ما تبين فى كتاب النفس

[Page 263]

مسئلة فى بيان عجزهم عن الاستدلال على وجود صانع العالم

[1] قال ابو حامد فنقول الناس فرقتان فرقة اهل الحقّ وقد رأوا ان العالم حادث
وعلموا ضرورة ان الحادث لا يوجد بنفسه فافتقر الى صانع فعقل مذهبهم فى القول بالصانع
وفرقة أُخرى وهم الدهرية وقد رأوا ان العالم قديم كما هو عليه ولم يثبتوا له صانعا ومعتقدهم
مفهوم وان كان الدليل يدل على بطلانه . وأما الفلاسفة فقد رأوا أن العالم قديم ثم أثبتوا له
مع ذلك صانعا وهذا المذهب بوضعه متناقض لا يحتاج فيه الى ابطال

[Page 264] [2] قلت بل مذهب الفلاسفة مفهوم من الشاهد اكثر من المذهبين
جميعا . [3] وذلك ان الفاعل قد يلفى صنفين صنف يصدر منه مفعول
يتعلق به فعله فى حال كونه وهذا اذا تم كونه استغنى عن الفاعل
كوجود البيت عن البناء والصنف الثانى انما يصدر عنه فعل فقط
يتعلق بمفعول لا وجود لذلك المفعول الا بتعلق الفعل به وهذا الفاعل
يخصه ان فعله مساوق لوجود ذلك المفعول اعنى انه اذا عدم ذلك
الفعل عدم المفعول واذا وجد ذلك الفعل وجد المفعول اى هما معا
وهذا الفاعل اشرف وادخل فى باب الفاعلية من الاول لانه يوجد
مفعوله ويحفظه والفاعل الآخر يوجد مفعوله ويحتاج الى فاعل آخر
يحفظه بعد الايجاد وهذه حال المحرك مع الحركة والاشياء التى وجودها
[4] انما هو فى الحركة فالفلاسفة لما كانوا يعتقدون ان الحركة فعل الفاعل
وان العالم لا يتم وجوده الا بالحركة قالوا ان الفاعل للحركة هو
الفاعل للعالم وانه لو كف فعله طرفة عين عن التحريك لبطل العالم
فعملوا قياسهم هكذا العالم فعل أو شىء وجوده تابع لفعل وكل فعل
لا بد له من فاعل موجود بوجوده فأنتجوا من ذلك ان العالم له فاعل
موجود بوجوده فمن لزم عنده ان يكون الفعل الصادر عن فاعل
العالم حادثا قال العالم حادث عن فاعل قديم ومن كان فعل القديم عنده

[Page 265] قديما قال العالم حادث عن فاعل لم يزل قديما وفعله قديم اى لا اول له
ولا آخر لا انه موجود قديم بذاته كما تخيل لمن يصفه بالقدم
[5] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل نحن اذا قلنا للعالم صانع لم نعن به فاعلا مختارا يفعل بعد ان لم يفعل كما
نشاهد فى اصناف الفاعلين من الخياط والنساج والبناء بل نعنى به علة العالم ونسميه المبدأ
الاول على معنى انه لا علة لوجوه وهو علة لوجود غيره فان سميناه صانعا فبهذا التأوتل .
وثبوت موجود لا علة لوجوده يقوم عليه البرهان القاطع على قرب فانا نقول العالم
وموجوداته اما ان يكون له علة أو لا علة له فان كان له علة فتلك العلة لها علة ام لا
علة لها وكذلك نقول فى علة العلة فاما ان يتسلسل الى غير نهاية وهو محال واما ان
ينتهى الى طرف فالاخير علة أولى لا علة لوجودها فنسميه المبدأ الاول وان كان العالم
موجودا بنفسه لا علة له فقد ظهر المبدأ الاول فانا لم نعن به الا موجودا لا علة له وهو
ثابت بالضرورة . نعم لا يجوز ان يكون المبدأ الاول هى السماوات لانها عدد ودليل التوحيد
يمنعه فيظهر بطلانه بالنظر فى صفة المبدأ ولا يجوز ان يقال انه سماء واحد او جسم واحد
او شمس او غيره لانه جسم والجسم مركب من هيولى وصورة و المبدأ الاول لا يجوز
ان يكون مركبا وذلك يعرف بنظر ثان والمقصود ان موجودا لا علة لوجوده ثابت
بالضرورة والاتفاق وانما الخلاف فى الصفات وهو الذى نعنيه بالمبدأ الاول قال ابو حامد

[Page 266] [6] قلت هذا كلام مقنع غير صحيح فان اسم العلة يقال باشتراك
الاسم على العلل الاربعة أعنى الفاعل والصورة والهيولى والغاية
ولذلك لو كان هذا جواب الفلاسفة لكان جوابا مختلا فانهم كانوا
يسألون عن اى علة ارادوا بقولهم ان العالم له علة أولى فلو قالوا أردنا
بذلك السبب الفاعل الذى فعله لم يزل ولا يزال ومفعوله هو فعله
لكان جوابا صحيحاً على مذهبهم على ما قلناه غير معترض عليه ولو
[قالوا اردنا به السبب المادى لكان قوله معترضا وكذلك لو] قالوا
اردنا به السبب الصورى لكان ايضا معترضا ان فرضوا صورة العالم
قائمة به وان قالوا اردنا صورة مفارقة للمادة جرى قولهم على مذهبهم
وان قالوا صورة هيولانية لم يكن المبدأ عندهم شيئا غير جسم من
الاجسام وهذا لا يقولون به وكذلك ان قالوا هو سبب على طريق
الغاية كان جاريا ايضاً على اصولهم واذا كان هذا الكلام فيه من
الاحتمال ما يرى فكيف يصح ان يجعل جوابا للفلاسفة
[7] وقوله ونسميه المبدأ الاول على معنى انه لا علة لوجوده وهو علة لوجود غيره
كلام ايضاً مختل فان هذه التسمية تصدق على الفلك الاول او على
السماء باسرها وبالجملة على أى نوع كان من الموجودات اذا فرض لا
علة له ولا فرق بين هذا الاعتقاد واعتقاد الدهرية

[Page 267] [8] وقوله عنهم أيضاً

كلام مختل ايضا فانه يحتاج ان يفصل العلل الاربعة ويبين ان فى
كل واحد منها أولا لا علة له اعنى ان العلل الفاعلية ترتقى الى فاعل
اول والصورية الى صورة اولى والمادية الى مادة اولى والغائية الى
غاية اولى ويبقى بعد هذا بيان ان هذه العلل الاربعة الاخيرة
ترتقى الى علة اولى وهذا كله غير ظاهر من هذا القول الذى حكاه
عنهم
[9] وكذلك القول الذى أتى به فى بيان ان ههنا علة أولى كلام
مختل وذلك ان قوله
الى اخر قوله
وذلك ان اسم العلة يقال باشتراك الاسم . [10] وكذلك مرور الاسباب
الى غير نهاية هو من جهة ما عندهم ممتنع ومن جهة ما واجب عند
الفلاسفة وذلك انه ممتنع عندهم اذا كانت بالذات وعلى استقامة

[Page 268] ان كان المتقدم منها شرطا فى وجود المتأخر وغير ممتنع عندهم اذا
كانت بالعرض ودورا واذا لم يكن المتقدم شرطا فى وجود
المتأخر وكان هنالك فاعل أول مثل وجود المطر عن الغيم والغيم عن
البخار والبخار عن المطر فان هذا يمر عندهم دورا الى غير نهاية
لكن ذلك ضرورة بسبب أول . [11] وكذلك وجود انسان عن انسان
الى غير نهاية لان وجود المتقدمات عندهم فى امثال هذه ليس هو
شرطا فى وجود المتأخرات بل ربما كان الشرط فساد بعضها وامثال
هذه العلل هى عندهم مرتقية لعلة اولى أزلية تنتهى الحركة اليها
فى علة علة من هذه العلل فى وقت حدوث المعلول الاخير مثال ذلك
ان سقراط اذا ولد أفلاطون فان المحرك الاقصى للتحريك عندهم
فى حين توليده اياه هو الفلك او النفس او العقل أو جميعها او البارى
سبحانه ولذلك ما يقول ارسطو ان الانسان يولده انسان والشمس
وبين ان الشمس ترتقى الى محركها ومحركها إلى المبدأ الاول فاذًا

[Page 269] ليس الانسان الماضى شرطا فى وجود الانسان الآتى . [12] كما ان الصانع
اذا صنع مصنوعات متتابعة فى اوقات متتابعة بآلات مختلفة وصنع
تلك الآلات بآلات وتلك بآلات أخر فان كون هذه الآلات بعضها
عن بعض هو بالعرض وليس منها واحدة شرطا فى وجود المصنوع
الا الآلة الاولى اعنى المباشرة فالاب ضرورى فى كون الابن كما
ان الآلة التى يباشر بها المصنوع ضرورية فى كون المصنوع واما
الآلة التى صنع بها تلك الآلة فهى ضرورية فى كون الآلة الباشرة
وليست ضرورية فى كون المصنوع الذى صنع الا بالعرض ولذلك
ربما كان فساد الآلة المتقدمة شرطا فى وجود المتأخرة اذا فعل المتأخرة
من مادة المتقدمة مثل ان يكون انسان من انسان فسد بتوسط
كونه نباتا والنبات منيّا أو دم طمث وقد تقدم القول فى هذا
[13] واما التى تجوّز مرور العلل الى غير نهاية بالذات فهى الدهرية
ومن يسلم هذا يلزمه الا يعترف بعلة فاعلة ولا خلاف عند الفلاسفة
فى وجود علة فاعلة
[14] وقوله
يريد ان الدهريين وغير هم معترفون بمبدأ أول لا علة له وانما

[Page 270] اختلافهم فى هذا المبدأ فالدهريون يقولون انه الفلك الكلى وغير
الدهريين يقولون انه شىء خارج عن الفلك وان الفلك معلول وهؤلاء
فرقتان فرقة تزعم ان الفلك فعل محدث وفرقة تزعم انه فعل قديم
[15] ولما كان هذا البيان مشتركا للدهريين وغير هم قال

يريد ان النظام الذى فى العالم يظهر منه ان المدبر له واحد كما ان
النظام الذى فى الجيش يظهر منه ان المدبر له واحد وهو قائد الجيش
وهذا كله كلام صحيح
[16] وقوله ولا يجوز ان يقال انه سماء واحد أو جسم واحد أو شمس أو غيره لانه جسم
والجسم مركب من هيولى و صورة والمبدأ الاول لا يجوز ان يكون مركبا
[17] قلت اما قوله ان كل جسم مركب من هيولى وصورة فليس هو
مذهب الفلاسفة فى الجرم السماوى الا ان يكون هنالك هيولى
باشتراك الاسم وانما هو شىء انفرد به ابن سينا لان كل مركب
عندهم من هيولى و صورة محدث مثل حدوث البيت والخزانة
والسماء ليست عندهم محدثة بهذا النوع من الحدوث ولذلك سموها

[Page 271] أزلية أى ان وجودها مع الازلى . [18] وذلك انه لما كان سبب الفساد
عندهم هو الهيولى كان ما ليس بفاسد ليس بذى هيولى بل هو معنى
بسيط ولو لا الكون والفساد الذى فى هذه الاجرام لما لزم ان تكون
مركبة من هيولى وصورة لان الاصل ان الجسم واحد فى الوجود
كما هو فى الحس فلولا فساد هذه الاجسام لقضينا انها بسيطة وان
الهيولى هى الجسم فالجسم السماوى لما كان لا يفسد دل على ان
الهيولى فيه هى الجسمية الموجودة بالفعل وان النفس التى فيه
ليس لها قوام بهذا الجسم لان هذا الجسم ليس يحتاج فى بقائه الى
النفس كما يحتاج اجسام الحيوانات وانما يحتاج الى النفس لا لان من
ضرورة وجودها ان تكون متنفسة بل لان الافضل من ضرورته
ان يكون بالحالة الافضل والمتنفسة افضل من غير المتنفسة والاجرام
السماوية لا خلاف عندهم انه ليس فيها قوة الجوهر فليست
ضرورة ذات مادة كما هى الاجرام الكائنة فاما ان تكون كما
يقول ثامسطيوس صورا واما ان يكون لها مواد باشتراك وانا
أقول واما ان تكون هى المواد أنفسها او تكون مواد حية بذاتها
لا حية بحياة

[Page 272] [19] قال ابو حامد والجواب من وجهين
احدهما انه يلزم على مساق مذهبهم ان تكون اجسام العالم قديمة كذلك لا علة لها
وقولهم ان بطلان ذلك يعلم بنظر ثان فسيبطل ذلك عليهم فى مسألة التوحيد وفى نفى
الصفات بعد هذه المسئلة المتقدمة الذكر
[20] قلت يريد انهم اذا لم يقدروا ان يثبتوا الوحدانية ولا قدروا ان
يثبتوا ان الواحد ليس بجسم لانهم اذا لم يقدروا على نفى الصفات
كان ذلك الاول عندهم ذاتا بصفات وما كان على هذه الصفة فهو
جسم أو قوة فى جسم لزمهم ان تكون الاول التى لا علة لها هى
الاجرام السماوية . [21] وهذا القول لازم لمن يقول بالقول الذى حكاه
عن الفلاسفة والفلاسفة ليس يحتجون على وجود الاول الذى لا علة
له بما نسبه اليهم من الاحتجاج ولا يزعمون ايضاً انهم يعجزون عن
دليل التوحيد ولا عن دليل نفى الجسمية عن المبدأ الاول وستأتى
هذه المسئلة فيما بعد

[Page 273] [22] قال ابو حامد والوجه الثانى وهو الخاص بهذه المسئلة هو ان يقال ثبت تقديرا
ان هذه الموجودات لها علة ولكن لعل لها علة ولعلة العلة علة وهكذا الى غير نهاية .
وقولهم انه يستحيل اثبات علل لا نهاية لها لا يستقيم منهم فانا نقول عرفتم ذلك ضرورة
بغير وسط او عرفتموه بوسط ولا سبيل الى دعوى الضرورة وكل مسلك ذكرتموه فى النظر
يبطل عليكم بتجويز دورات لا اول لها واذا جاز ان يدخل فى الوجود ما لا نهاية له
فلم يبعد ان يكون بعضها علة لبعض وينتهى من الطرف الاخير الى معلول لا معلول له
ولا ينتهى من الجانب الآخر الى علة لا علة لها كما ان الزمان السابق له آخر وهو الآن
الراهن ولا اول له . فان زعمتم ان الحوادث الماضية ليست موجودة معًا فى الحال ولا فى
بعض الاحوال والمعدوم لا يوصف بالتناهى وعدم التناهى فيلزمكم فى النفوس البشرية
المفارقة للابدان فانها لا تغنى عندكم والموجود المفارق للبدن من النفوس لا نهاية لاعدادها اذ
لم تزل نطفة من انسان وانسان من نطفة الى غير نهاية ثم كل انسان مات فقد بقيت نفسه
وهو بالعدد غير نفس من مات قبله ومعه وبعده وان كان الكل بالنوع واحدا فعندكم فى
الوجود فى كل حال نفوس لا نهاية لاعدادها
فان قيل النفوس ليس لبعضها ارتباط بالبعض ولا ترتيب لها بالطبع ولا بالوضع وانما
نحيل نحن موجودات لا نهاية لها اذا كان لها ترتيب بالوضع كالاجسام فانها مرتبة بعضها فوق
البعض او كان لها ترتيب بالطبع كالعلل والمعلولات وأما النفوس فليست كذلك
قلنا وهذا الحكم فى الوضع ليس طرده بأولى من عكسه فلم أحلتم أحد القسمين دون
الآخر وما البرهان المفرق ولم تنكرون على من يقول ان هذه النفوس التى لا نهاية لها

[Page 274] لا تخلو عن ترتيب اذ وجود بعضها قبل البمض فان الايام والليالى الماضية اها واذا
قدرنا وجود نفس واحدة فى كل يوم وليلة كان الحاصل فى الوجود الآن خارجا عن
النهاية واقعا على ترتيب فى الوجود اى بعضها بعد بعض والعلة غايتها ان يقال انها قبل
المعلول بالطبع كما يقال انها فوق المعلول بالذات لا بالمكان فاذا لم يستحل ذلك فى القبل
الحقيقى الزمانى فينبغى ان لا يستحيل فى القبل الذاتى الطبيعى وما بالهم لم يجوّزوا أجساما بعضها
فوق بعض بالمكان الى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل بعض بالزمان الى
غير نهاية وهل هذا الا تحكم بارد لا أصل له
[23] قلت
قوله الى قوله وكل مسلك
ذكرتموه فى النظر يبطل عليكم بتجويز دورات لا اول لها
شك قد تقدم الجواب فيه حين قلنا ان الفلاسفة لا يجوّز عللا
ومعلولات لا نهاية لها لانه يؤدى الى معلول لا علة له ويوجبونها
بالعرض من قبل علة قديمة ولكن لا اذا كانت مستقيمة ومعا ولا فى
مواد لا نهاية لها بل اذا كانت دورا
[24] واما ما يحكيه عن ابن سينا انه يجوز نفوسا لا نهاية لها وان
ذلك انما يمتنع فيما له وضع فكلام غير صحيح ولا يقول به احد من

[Page 275] الفلاسفة وامتناعه يظهر من البرهان العام الذى ذكرناه عنهم فلا يلزم
الفلاسفة شىء مما ألزمهم من قبل هذا الوضع اعنى القول بوجود
نفوس لا نهاية لها بالفعل ومن اجل هذا قال بالتناسخ من قال ان
النفوس متعددة بتعدد الاشخاص وانها باقية
[25] واما قوله وما بالهم لم يجوّزوا اجساما بعضها فوق بعض بالمكان الى غير نهاية وجوزوا

فان الفرق بينهما عند الفلاسفة ظاهر جدا وذلك ان وضع اجسام لا
نهاية لها معا يلزم عنه ان يوجد لما لا نهاية له كل وان يكون بالفعل
وذلك مستحيل والزمان ليس بذى وضع فليس يلزم من وجود
اجسام بعضها قبل بعض الى غير نهاية وجود ما لا نهاية له بالفعل
وهو الذى امتنع عندهم
[26] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل البرهان القاطع على استحالة علل الى غير نهاية ان يقال كل واحد من آحاد
العلل اما ان تكون ممكنة فى نفسها او واجبة فان كانت واجبة فلم تفتقر الى علة وان كانت
ممكنة فالكل موصوف بالامكان وكل ممكن مفتقر الى علة زائدة على ذاته فيفتقر الكل
الى علة خارجة عنها

[Page 276] [27] قلت هذا البرهان الذى حكاه عن الفلاسفة اول من نقله الى
الفلسفة ابن سينا على انه طريق خير من طريق القدماء لانه زعم
انه من جوهر الموجود وان طرق القوم من اعراض تابعة للمبدأ
الاول . وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين وذلك ان
المتكلمين ترى ان من المعلوم بنفسه ان الموجود ينقسم الى ممكن
وضرورى ووضعوا ان الممكن يجب ان يكون له فاعل وان العالم
باسره لما كان ممكنا وجب ان يكون الفاعل له واجب الوجود هذا
هو اعتقاد المعتزلة قبل الاشعرية وهو قول جيد ليس فيه كذب الا
ما وضعوا من ان العالم باسره ممكن فان هذا ليس معروفا بنفسه .
فاراد ابن سينا ان يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له
علة كما ذكر ابو حامد . [28] واذا سومح فى هذه التسمية لم تنته به
القسمة الى ما اراد لان قسمة الموجود اولًا الى ما له علة والى ما لا
علة له ليس معروفا بنفسه ثم ما له علة ينقسم الى ممكن والى ضرورى
فان فهمنا منه الممكن الحقيقى أفضى الى ممكن ضرورى ولم يفض

[Page 277] للى ضرورى لا علة له وان فهمنا من الممكن ما له علة وهو
ضرورى لم يلزم عن ذلك الا ان ما له علة فله علة وامكن ان نضع
ان تلك لها علة وان يمر ذلك الى غير نهاية فلا ينتهى الامر الى
موجود لا علة له وهو الذى يعنونه بواجب الوجود الا ان يفهم من
الممكن الذى وضعه بازاء ما لا علة له الممكن الحقيقى فان هذه
الممكنات هى التى يستحيل وجود العلل فيها الى غير نهاية واما ان
عنى بالممكن ما له علة من الاشياء الضرورية فلم يتبين بعد ان ذلك
مستحيل بالوجه الذى تبين فى الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا
يتبين بعد ان ههنا ضروريا يحتاج الى علة فيجب عن وضع هذا ان
ينتهى الامر الى ضرورى بغير علة الا ان يبين ان الامر فى الجملة
الضرورية التى من علة ومعلول كالامر فى الجملة الممكنة
[29] قال ابو حامد قلنا لفظ الممكن والواجب لفظ مبهم الا ان يراد بالواجب ما لا علة
لوجوده ويراد بالممكن ما لوجوده علة وان كان المراد هذا فلنرجع الى هذه اللفظة فنقول
كل واحد ممكن على معنى ان له علة زائدة على ذاته والكل ليس بممكن على معنى انه ليس له
علة زائدة على ذاته خارجة منه وان أُريد بلفظ الممكن غير ما اردنا فهو ليس بمفهوم
فان قيل فهذا يؤدى الى ان يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود وهو محال
قلنا ان اردتم بالواجب والممكن ما ذكرناه فهو نفس المطلوب فلا نسلم انه محال وهو
كقول القائل يستحيل ان يتقوم القديم بالحوادث والزمان عندهم قديم وآحاد الدورات

[Page 278] هادثة وهى ذوات أوائل والمجموع لا أول له فقد تقدم ما لا أول له بذوات أَوائل وصدق
ذوات الاوائل على الآحاد ولم يصدق على المجموع فكذلك يقال على كل واحد ان له علة
ولا يقال للمجموع علة وليس كل ما صدق على الآحاد يلزم ان يصدق على المجموع اذ
يصدق على كل واحد انه واحد وانه بعض وانه جزء ولا يصدق على المجموع وكل موضع
عيناه من الارض فانه قد استضاء بالشمس فى النهار وأظلم بالليل وكل واحد حادث بعد ان
لم يكن اى له أول والمجموع عندهم ما له أول
فتبين ان من يجوز حوادث لا أول لها وهى صور العناصر الاربعة فلا يتمكن من
انكار علل لا نهاية لها ويخرج من هذا انه لا سبيل لهم الى الوصول الى اثبات المبدأ الاول
لهذا الاشكال وترجع فرقهم الى التحكم المحض
[30] قلت وضع اسباب ممكنة لا نهاية لها يلزم عنه وضع ممكن لا
فاعل له واما وضع أشياء ضرورية لها علل غير متناهية فانما يلزم عن
ذلك ان يكون ما وضع ان له علة ليس له علة وهو صحيح الا ان
المحال اللازم عن اسباب بهذه الصفة غير اللازم عن اسباب من
طبيعة الممكن . [31] فلذلك ان أراد مريد ان يخرج هذا القول الذى
استعمله ابن سينا مخرج برهان ان يستعمل هكذا الموجودات
الممكنة لا بد لها من علل تتقدم عليها فان كانت العلل ممكنة
لزم ان يكون لها علل ومر الامر الى غير نهاية وان مرّ الامر الى

[Page 279] غير نهاية لم يكن هنالك علة فلزم وجود الممكن بلا علة وذلك
مستحيل فلا بد ان ينتهى الامر الى علة ضرورية فاذا انتهى الامر
الى علة ضرورية لم تخل هذه العلة الضرورية ان تكون ضرورية
بسبب أو بغير سبب فان كانت بسبب سئل أيضاً فى ذلك السبب
فاما ان تمر الاسباب الى غير نهاية فيلزم ان يوجد بغير سبب ما
وضع انه موجود بسبب وذلك محال فلا بد ان ينتهى الامر الى سبب
ضرورى بلا سبب أى بنفسه وهذا هو واجب الوجود ضرورة
فبهذا النوع من التفصيل يكون البرهان صحيحاً . [32] واما اذا اخرج
المخرج الذى أخرجه ابن سينا فليس بصحيح من وجوه احدها ان
الممكن المستعمل فيه هو باشتراك الاسم وقسمة الموجود أولًا فيه
الى ما هو ممكن والى ما هو غير ممكن ليس بصحيح أعنى انها ليست
قسمة تحصر الموجود بما هو موجود
[33] واما قوله فى الرد على الفلاسفة
فنقول كل واحد ممكن على معنى ان له علة زائدة على ذاته والكل ليس بممكن على
معنى ان ليس له علة زائدة على ذاته خارجة منه
يريد واذا سلم الفلاسفة انهم يعنون بممكن الوجود ماله علة

[Page 280] وبواجب الوجود ما ليس له علة قيل لهم لا يمتنع على اصولكم
ان تكون علل ومعلولات لا نهاية لها وتكون الجملة واجبة
الوجود فان من اصولهم انهم يجوزون ان يكون حكم الجزء غير
حكم الكل والجميع . [34] وهذا القول الاختلال فيه من وجوه احدها
انهم لا يجوزون عللا بالذات غير متناهية على ما تقدم وسواء كانت
العلل والمعلولات من طبيعة الممكن او من طبيعة الضرورى على ما
تبين من قولنا . [35] والاختلال الذى لزم ابن سينا فى هذا القول انه قيل
له اذا قسمت الموجود الى ممكن الوجود وواجب الوجود وعنيت
بالممكن الوجود ما له علة وبالواجب ما ليس له علة لم يمكنك ان
تبرهن على امتناع وجود علل لا نهاية لها لانه يلزم عن وجودها غير
متناهية ان تكون من الموجودات التى لا علة لها فتكون من جنس
واجب الوجود لا سيما انه يجوز عندكم ان يتقوم الازلى من اسباب
لا نهاية لها كل واحد منها حادث وانما عرض لهذا القول هذا
الاختلال بقسمه الموجود الى ما لا علة له وزلى ما له علة ولو قسمه
على النحو الذى قسمناه لم يكن عليه شىء من هذه الاعتراضات

[Page 281] [36] وقوله ان القدماء يسلمون انه قد يتقوم قديم مما لا نهاية له
لتجويزهم دورات لا نهاية لها هو قول فاسد فان هذا انما يقال عليه
اسم القديم مع القديم الذى هو واحد باشتراك
[37] وقوله فان قيل فهذا يؤدى الى ان يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود ـ قلنا ان
اردتم بالواجب والممكن ما ذكرناه فهو نفس المطلوب فلا نسلم انه محال
يريد انهم ان ارادوا بالواجب ما لا علة له وبالممكن ما له علة فلا نسلم
انه يستحيل أن يتقوم ما ليس له علة بعلل لا نهاية لها لان انزالنا ان
ذلك مستحيل هو رفع لعلل لا نهاية لها وانزالكم واجب الوجود
هى نتيجتكم التى رمتم انتاجها
[38] ثم قال وهو كقول القائل يستحيل ان يتقوم القديم بالحوادث والزمان عندهم قديم
وآحاد الدورات حادثة وهى ذوات أَوائل والمجموع لا أول له فقد تقوم ما لا أول له
بذوات اوائل وصدق انها ذوات اوائل على الآحاد ولم يصدق على المجموع [فكذلك
يقال على كل واحد ان له علة ولا يقال للمجموع علة وليس كل ما صدق على الآحاد يلزم
ان يصدق على المجموع] اذ يصدق على كل واحد انه واحد وانه بعض وانه جزء ولا
يصدق على المجموع

[Page 282] [39] يريد انه لا يستحيل ان يتقوم ما لا علة له بمعلولات غير متناهية كما
يتقوم القديم عندكم بالحوادث التى لا نهاية لها فان الزمان عندهم
قديم وهو يتقوم بازمنة محدثة وكذلك حركة الفلك عندهم قديمة
والدورات التى تقومت منها غير متناهية . [40] والجواب ان الفلاسفة ليس
من اصولهم وجود قديم قائم من اجزاء محدثة من جهة ما هى غير
متناهية بل هم اشد الناس انكارا لهذا وانما هذا من قول الدهرية
وذلك ان المجموع لا يخلو ان يكون من اشخاص متناهية كائنة
فاسدة او غير متناهية فان كان من متناهية فالكل متفق على ان
الجنس كائن فاسد وان كان من أشخاص غير متناهية فان الدهرية
تضع انه ممكن وواجب ان يكون المجموع أزليا من غير علة
[41] توجد عنها واما الفلاسفة فانهم يجوزون ذلك ويرون ان مثل هذه
الاجناس من جهة ما تتقوم باشخاص ممكنة كائنة فاسدة انه لا بد
لها من سبب خارج جنسها دائم أزلى هو الذى من قبله استفادت
هذه الاجناس الازلية ولا يزعمون ايضا ان استحالة علل لا نهاية لها
هى من قبل استحالة تقوم القديم بما لا نهاية له فهم يقولون ان كون
الحركات المختلفة بالجنس ههنا دائمة لا تخل هو ان ههنا حركة واحدة

[Page 283] بالعدد أزلية وان السبب فى ان ههنا اجساما كائنة فاسدة بالاجزاء
أزلية بالكل ان ههنا موجودا ازليا بالجزء والكل وهو الجرم السماوى
والحركات التى لا نهاية لها انما صارت أبدية بالجنس من قبل حركة
واحدة بالعدد متصلة دائمة وهى حركة الجرم السماوى وليس حركة
السماء مؤلفة من دورات كثيرة الا فى الذهن فقط وحركة الجرم
السماوى انما استفادت الدوام وان كانت كائنة فاسدة بالاجزاء من
قبل محرك لا يمكن فيه ان يحرك تارة ولا يحرك اخرى ومن قبل
متحرك لا يمكن فيه ايضا ان يتحرك حينا ويسكن حينا من جهة ما
هو متحرك كما يلفى ذلك فى المتحركات التى لدينا
[42] ومذهب الناس فى الاجناس ثلاثة مذاهب مذهب من يرى
ان كل جنس فهو كائن فاسد من قبل انه متناهى الاشخاص ومذهب
من يرى ان من الاجناس ما هى ازلية أى لا اول لها ولا آخر من
قبل انه يظهر من امرها انها من اشخاص غير متناهية وهؤلاء
قسمان قسم قالوا ان أمثال هذه الاجناس انما يصح لها الدوام من علة
ضرورية واحدة بالعدد والا لحقها ان تعدم مرات لا نهاية لها فى الزمان
الذى لا نهاية له وهؤلاء هم الفلاسفة وقوم اعتقدوا ان وجود
اشخاصها غير متناهية كاف فى كونها ازلية وهم الدهرية .

[Page 284] فقف على هذه الثلاثة الاراء . [43] فجملة الاختلاف هو راجع الى هذه
الثلاث الاصول فى كون العالم أزليا أو غير ازلى وهل له فاعل او لا
فاعل له وقول المتكلمين ومن يقول بحدوث العالم طرف وقول
الدهرية طرف آخر وقول الفلاسفة متوسط بينهما
[44] واذا تقرر هذا كله فقد تبين لك ان من يقول ان من يجوز
عللا لا نهاية لها ليس يمكن ان يثبت علة اولى قول كاذب بل الذى
يظهر ضد هذا وهو انه من لا يعترف بوجود علل لا نهاية لها لا
يقدر ان يثبت علة اولى ازلية لان وجود معلولات لا نهاية لها هى
التى اقتضت وجوب علة ازلية من قبلها استفاد وجودا ما لا نهاية
له والا فقد كان يجب ان تتناهى الاجناس التى كل واحد من
اشخاصها محدث وبهذا الوجه فقط امكن ان يكون القديم علة
للحوادث وأوجب وجود الحوادث التى لا نهاية لها وجود اول قديم
واحد سبحانه لا اله الا هو
[45] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة فى الاعتراض الذى وجهه عليهم

[Page 285] صورة واحدة بالفعل وما لا وجود له لا يوصف بالتناهى وعدم التناهى الا اذا قدّر فى الوهم
وجودها ولا يبعد ما يقدر فى الوهم وان كانت المقدرات بعضها عللا لبعض فالانسان قد
يفرض ذلك فى وهمه وانما الكلام فى الموجودات فى الاعيان لا فى الاذهان . فلا يبقى
الا نفوس الاموات وقد ذهب بعض الفلاسفة الى انها كانت واحدة أزلية قبل التعلق بالابدان
وعند مفارقة الابدان تتحد فلا يكون فيه عدد فضلا من ان توصف بانه لا نهاية لها وقال
آخرون النفس تابعة للمزاج وانما معنى الموت عدمها ولا قوام لها بجوهرها دون الجسم فاذا
لا وجود للنفوس الا فى حق الاحياء والاحياء الموجودون محصورون ولا تنتفى النهاية
عنهم والمعدومون لا يوصفون أصلا لا بوجود النهاية ولا بعدمها الا فى الوهم اذا فرضوا
موجودين
[46] ثم قال والجواب ان هذا الاشكال فى النفوس اوردناه عن ابن سينا والفارابى والمحققين
منهم اذ حكموا بان النفس جوهر قائم بنفسه وهو اختيار ارسطو والمعتبرين من الاوائل .
ومن عدل عن هذا المسلك فنقول له هل يتصوّر ان يحدث مع كل آن شىء يبقى أم لا فان
قالوا لا فهو محال وان قالوا نعم قلنا فاذا قدرنا كل يوم حدوث شىء وبقاءه اجتمع الى
الآن لا محالة موجودات لا نهاية لها فالدورة وان كانت منقضية فحصول موجود فيها يبقى
ولا ينقضى غير مستحيل وبهذا التقدير يتقرر الاشكال ولا غرض فى ان يكون ذلك
الباقى نفس آدمى او جنى او شيطان او ملك او ما شئت من الموجودات وهو لازم على
كل مذهب لهم اذا اثبتوا دورات لا نهاية لها

[Page 286] [47] قلت اما جوابه عن الفلاسفة بان ما سلف من الدورات معدومة
وكذلك ما سلف من صور العناصر المتكون بعضها عن بعض
معدومات والمعدوم لا يتصف لا بالتناهى ولا بعدم التناهى فليس
بجواب صحيح وقد تقدم ذلك . [48] وما تشكك به عليهم من امر
اعتقادهم فى النفوس فليس شىء من ذلك من مذاهب القوم والنقلة
من مسألة الى مسألة فعل سفسطانى

[Page 287]

مسئلة فى بيان عجزهم عن اقامة الدليل على ان ﷲ تعالى واحد وانه لا يجوز فرض اثنين واجبى الوجود كل واحد منهما لا علة له

[1] واستدلالهم على هذا بمسلكين
قالوا انهما لو كانا اثنين لكان نوع وجود الوجود مقولا
على كل واحد منهما وما قيل عليه انه واجب الوجود فلا يخلو اما ان يكون وجوب
وجوده لذاته فلا يتصور ان يكون لغيره او وجوب الوجود له علة فيكون ذات
واجب الوجود معلولا وقد اقتضت علة له وجوب الوجود به ونحن لا نريد بواجب
الوجود الا ما لا ارتباط لوجوده بعلة بجهة من الجهات . وزعموا ان نوع الانسان مقول على
زيد وعلى عمرو وليس زيد انسانا لذاته اذ لو كان انسانا لذاته لما كان عمرو انسانا بل لعلة
جعلته انسانا وقد جعلت عمرا ايضا انسانا فتكثرت الانسانية بتكثر المادة الحاملة لها
ويعلقها بالمادة معلول ليس لذات الانسانية وكذلك ثبوت وجوب الوجود لواجب الوجود
ان كان لذاته فلا يكون الا له وان كان لعلة فهو اذا معلول وليس بواجب الوجود فقد
ظهر بهذا ان واجب الوجود لا بد ان يكون واحدا

[Page 288]
فهذا القول الذى اورده ابو حامد
[2] ثم قال ابو حامد مجيبا لهم على طريق المناقضة
قلنا قولكم نوع وجوب الوجود لواجب الوجود لذاته او لعلة تقسيم خطأ فى وضعه
فانا قد بينا ان لفظ وجوب الوجوب فيه اجمال الا ان يراد به نفى العلة فلتستعمل هذه
العبارة فنقول لم يستحيل ثبوت موجودين لا علة لهما وليس احدهما علة للآخر . فقولكم
ان الذى لا علة له لا علة له اما لذاته واما لسبب تقسيم خطأ لان نفى العلة واستغناء
الوجود عن العلة لا يطلب له علة فاى معنى لقول القائل ان ما لا علة له لا علة له اما لذاته
أو لعلة اذ قولنا لا علة له سلب محض والسلب المحض لا يكون له سبب ولا يقال فيه
انه لذاته أو لا لذاته . وان عنيتم بوجوب الوجود وصفا ثابتا لواجب الوجود سوى انه
موجود لا علة لوجوده فهو غير مفهوم فى نفسه والذى ينسبك من لفظه نفى العلة لوجوده
وهو سلب محض لا يقال فيه انه لذاته أو لعلة حتى يبنى على وضع هذا التقسيم غرض فدل
ان هذا برهان من خرف لا اصل له . بل نقول معنى انه واجب الوجود انه لا علة لوجوده
ولا علة لكونه بل لا علة اصلا وليس كونه بلا علة مطلا أيضا بذاته بل لا علة لوجوده ولا
علة لكونه بلا علة اصلا . وهذا التقسيم لا يتطرق الى بعض صفات الاثبات فضلا عما يرجع
الى السلب اذ لو قال قائل السواد لون لذاته أو لعلة فان كان لذاته فينبغى ان لا تكون

[Page 289] الحمرة لونا وان لا يكون هذا النوع أعنى اللونية الا لذات السواد وان كان السواد لونا
لعلة جعلته لونا فينبغى ان يعقل سواد ليس بلون اى لم تجعله العلة لونا فان ما يثبت للذات
زائدا على الذات لعلة يمكن تقدير عدمه فى الوهم وان لم يتحقق فى الوجود ولكن يقال
هذا التقسيم خطأ فى الوضع فلا يقال فى السواد انه لون لذاته قولا يمنع ان يكون لغير ذاته
فكذلك لا يقال ان هذا الموجود واجب لذاته اى لا علة له لذاته قولا يمنع ان
يكون ذلك لغير ذاته مجال
[3] قلت هذا المسلك فى التوحيد هو مسلك انفرد به ابن سينا وليس
هو مسلك لاحد من قدماء الفلاسفة وهو مؤلف من مقدمات عامة
يكاد ان تكون معانيها مقولة باشتراك فيدخلها من أجل ذلك
المعاندة كثيرا ولكن اذا فصّلت تلك المعانى وعين المقصود منها
قرب من الاقاويل البرهانية
[4] فقول أبى حامد فى التقسيم الاول انه تقسيم فاسد قول غير
صحيح وذلك انه قال ان المفهوم من واجب الوجود ما لا علة له ولو
قال قائل فيما لا علة له اما ان يكون لا علة له لذاته او لعلة لكان
قولا مستحيلا فكذلك قول القائل واجب الوجود لا يخلو ان يكون
واجب الوجود اما لذاته واما لعلة . [5] وليس الامر كذلك وانما معنى القول

[Page 290] هل كونه واجب الوجود لطبيعة تخصه من حيث هو واحد بالعدد
أو لطبيعة مشتركة له ولغيره . مثال ذلك ان نقول هل عمرو انسان
من جهة انه عمرو او من جهة طبيعة مشتركة له ولخالد فان كان
انسانا من جهة ما هو عمرو فليس توجد الانسانية لغيره وان كان من
جهة طبيعة مشتركة فهو مركب من طبيعتين عامة وخاصة والمركب
معلول وواجب الوجود ليس له علة فواجب الوجود واحد فانه اذا
أخرج القول هذا المخرج كان قول ابن سينا صحيحا
[6] وقوله
كلام غير صحيح ايضا لان الشىء قد يسلب عن الشىء اما لمعنى
بسيط يخصه وهو الذى ينبغى ان يفهم ههنا من ذاته واما لصفة غير
خاصة له وهو الذى ينبغى ان يفهم ههنا من اسم العلة
[7] وقوله ان هذا ليس يصدق فى الصفات التى على طريق الايجاب
فضلا عن التى تكون على طريق السلب ومعاندته ذلك بالمثال
الذى اتى به من السواد واللونية وذلك ان معنى قوله هو ان قولنا
فى السواد انه لون لا يقتسم الصدق والكذب عليه قول القائل اما

[Page 291] ان يكون لونا لذاته او لعلة بل كلا القولين كاذبان وذلك انه ان
كان لونا لذاته لزم الا تكون الحمرة لونا كما ان كان عمرو انسانا
لذاته لزم الا يكون خالد انسانا وان كان لونا لعلة لزم ان تكون
تلك الصفة زائدة على الذات وكل ما هو زائد على الذات امكن ان
يتصور بنفسه دون الزائد فيلزم هذا الوضع ان يتصور السواد من
غير اللونية وذلك مستحيل وهو كلام مغلط سفسطانى للاشتراك
الذى فى اسم العلة وفى قولنا لذاته . [8] وذلك انه اذا فهم من الذات
مقابل ما بالعرض كان صادقا قولنا ان اللون موجود للسواد بذاته
ولم يمتنع ان يكون موجودا لغيره اى للحمرة واذا فهم من قولنا
انه موجود للسواد لعلة اى لمعنى زائد على السواد اعنى لعلة خارجة
عن الشىء لم يلزم عنه ان يتصور السواد دون اللونية لان الجنس
معنى زائد على الفصل والنوع وليس يمكن ان يتصور النوع او
الفصل دون الجنس وانما يمكن ذلك فى الزائد الذى هو عرضى لا فى
الزائد الجوهرى وعلى هذا يقتسم الصدق والكذب قولنا ان اللون
موجود للسواد بذاته او لعلة اى ان اللون لا يخلو ان يكون موجودا
للسواد بما هو نفس السواد او بما هو معنى زائد على السواد .

[Page 292] [9] وهذا هو الذى اراد ابن سينا بقوله ان واجب الوجود لا يخلو ان يكون
واجب الوجود لمعنى يخصه فى نفسه او لمعنى زائد على نفسه لا يخصه
فان كان لمعنى يخصه لم يتصور هنالك موجودان اثنان كل واحد
منهما واجب الوجود وان كان لمعنى يعم كان كل واحد منهما مركبا
من معنى يعم ومعنى يخص والمركب غير واجب الوجود من ذاته .
[10] واذا كان هذا هكذا فقول ابى حامد فما الذى يمنع ان يتصور
موجودان اثنان كل واحد منهما واجب الوجود كلام مستحيل
[11] فان قيل انه قد قلت ان هذا هو قريب من البرهان والظاهر
منه البرهان . قلنا انما قلنا ذلك لان قوة هذا البرهان هى قوة قول
القائل ان المغايرة بين الاثنين المفروضين واجبى الوجود لا يخلو ان
تكون مغايرة اما بالشخص فيشتركان فى الصفة النوعية واما بالنوع
فيشتركان فى الصفة الجنسية وكلا المغايرتين انما توجد للمركبات
ونقصان هذا عن البرهان انه قد تبين ان ههنا موجودات تتغاير
وهى بسائط لا تغاير النوع ولا تغاير الاشخاص وهى العقول المفارقة
لكن تبين من امرهم انه يجب ان يكون فيها المتأخر فى الوجود فقول

[Page 293] والمتقدم والا لم يعقل هنالك تغاير اصلا . [12] وبرهان ابن سينا يتم على
هذا الوجه واجب الوجود ان كان اثنين فلا يخلو ان تكون المغايرة
التى بينهما بالعدد او بالنوع او بالتقديم والتاخير فان كانت المغايرة
التى بينهما بالعدد كانا متفقين بالنوع وان كان التغاير بالنوع كانا
متفقين بالجنس وعلى هذين النوعين يلزم ان يكون واجب الوجود
مركباوان كان التغاير الذى بينهما بالتقديم والتأخيز وجب ان
يكون واجب الوجود واحدا وهو لعلة جميعها وهذا هو الصحيح
فواجب الوجود اذًا واحدا اذ لم يكن ههنا غير هذا الثلاثة الاقسام
بطل منها الاثنان وصح القسم الذى يوجب انفراد واجب الوجود
بالوحدانية

مسلكهم الثانى

[13] ان قالوا لو فرضنا واجبى الوجود لكانا متماثلين من كل وجه
او مختلفين فان كانا متماثلين من كل وجه فلا يعقل التعدد والاثنينية اذ السوادان هما اثنان اذا
كانا فى محلين أو فى محل واحد ولكن فى وقتين اذ السواد والحركة فى محل واحد فى وقت
واحد هما اثنان لاختلاف ذاتيهما واما اذا لم يختلف الذاتان كالسوادين مع اتحاد الزمان

[Page 294] والمكان لم يعقل التعدد ولو جاز ان يقال فى وقت واحد فى محل واحد سوادان لجاز ان يقال
فى حق كل شخص انه شخصان ولكن ليس يبين بينهما مغايرة . واذا استحال التماثل من
كل وجه ولا بد من الاختلاف ولم يمكن بالزمان ولا بالمكان فلم يبق الا الاختلاف فى
الذات ومهما اختلفا فى شىء فلا يخلو اما ان اشتركا فى شىء أو لا يشتركا فى شىء فان لم
يشتركا فى شىء فهو محال اذ يلزم الا يشتركا فى الوجود ولا فى وجوب الوجود ولا فى
كون كل واحد قائما بنفسه لا فى موضوع واذا اشتركا فى شىء واختلفا فى شىء كان ما فيه
الاشتراك غير ما فيه الاختلاف فيكون ثم تركيب وانقسام بالقول . وواجب الوجود لا
تركيب فيه وكما لا ينقسم بالكمية فلا ينقسم ايضًا بالقول الشارح اذ لا يتركب ذاته من
أُمور يدل القول الشارح على تعددها كدلالة الحيوان والناطق على ما تقوم به ماهية
الانسان فانه حيوان وناطق ومدلول لفظ الحيوان من الانسان غير مدلول لفظ الناطق
فيكون الانسان مركبا من اجزاء تنتظم فى الحد بالفاظ تدل على تلك الاجزاء ويكون
اسم الانسان لمجموعة وهذا لا يتصور ودون هذا لا تتصور التثنية
والجواب انه مسلم انه لا تتصور التثنية الا بالمغايرة فى شىء ما وان المتماثلين
من كل وجه لا يتصور تغاير هما ولكن قولكم ان هذا النوع من التركيب محال فى المبدأ
الاول تحكم محض فما البرهان عليه
ولنرسم هذه المسئلة على حيالها فان من كلامهم المشهور ان المبدأ الاول لا ي نقسم
بالقول الشارح كما لا ينقسم بالكمية وعليه يبنى اثبات وحدانية الله سبحانه عندهم

[Page 295] قلت لم يشعر ابو حامد بالاختلال الذى فى هذا المسلك الثانى
فاخذ يتكلم معهم فى تجويز الكثرة بالحد على واجب الوجود التى
نفوها عنه ورأى ان يجعلها مسألة على حدتها لان المتكلمين من
الاشعرية يجوزون على المبدأ الاول الكثرة اذ يجعلونه ذاتا وصفاتا
والاختلال الذى فى هذا المسلك الثانى ان المتباينين قد تباينا
فى جوهريهما من غير ان يتفقا فى شىء الا فى اللفظ فقط وذلك اذا
لم يكونا متفقين فى جنس اصلا لا قريب ولا بعيد مثل اسم الجسم
عند الفلاسفة المقول على الجسم السماوى والجسم الفاسد ومثل اسم
العقل المقول على عقل الانسان وعلى العقول المفارقة ومثل اسم
الموجود المقول على الامور الكائنة الفاسدة والازلية فان اشباه
هذه الالفاظ هى اشبه ان تدخل فى الاسماء المشتركة منها فى
الاسماء المتواطئة فاذا ليس يلزم فى الموجودات المتباينة ان تكون
مركبة
ولما اقتصر ابو حامد فى جوابهم فى هذا المسلك على هذا القدر
الذى ذكره اخذ يقرر اولا مذهبهم فى التوحيد ثم يروم معاندتهم

[Page 296] قال ابو حامد حكاية عن الفلاسفة
بل زعموا ان التوحيد لا يتم الا باثبات الوحدة لذات البارى من كل وجه واثبات
الوحدة بنفى الكثرة من كل وجه و الكثرة تتطرق الى الذوات من خمسة اوجه
الاول بقبول الانقسام فعلا أو وهما فلذلك لم يكن الجسم الواحد واحدا مطلقا فانه
واحد بالاتصال القائم القابل للزوال فهو منقسم فى الوهم بالكمية . وهذا محال فى المبدأ الاول
الثانى ان ينقسم الشىء فى العقل الى معنيين مختلفىن لا بطريق الكمية كانقسام الجسم الى
الهيولى والصورة فان كل واحد من الهيولى والصورة وان كان لا يتصور أن يقوم بنفسه
دون الآخر فهما شيئان مختلفان بالحد والحقيقة يحصل بمجموعهما واحد هو الجسم . وهذا
ايضا منفى عن الله تعالى فلا يجوز ان يكون البارى صورة فى جسم ولا مادة فى هيولى لجسم
ولا مجموعهما . أما مجموعهما فلعلتين احديهما انه منقسم بالكمية عند التجزئة فعلا أو وهما
والثانية انه منقسم بالمعنى الى الصورة والهيولى ولا يكون مادة لانها تحتاج الى الصورة
وواجب الوجود مستغنٍ من كل وجه فلا يجوز ان يرتبط وجوده بشرط آخر سواه ولا
يكون صورة لانها تحتاج الى مادة
الثالث الكثرة بالصفات بتقدير العلم والقدرة والارادة فان هذه الصفات ان كانت
واجبة الوجود كان وجوب الوجود مشتركا بين الذات وبين هذه الصفات ولزمت كثرة
فى واجب الوجود وانتفت الوحدة
الرابع كثرة عقلية تحصل بتركيب الجنس والنوع فان السواد سواد ولون
والسوادية غير اللونية فى حق العقل بل اللونية جنس والسوادية فصل فهو مركب من جنس
وفصل والحيوانية غير الانسانية فى العقل فان الانسان حيوان ناطق والحيوان جنس والناطق
فصل وهو مركب من الجنس والفصل وهذا نوع كثرة . فزعموا ان هذا أيضاً منفى عن
المبدأ الاول
الخامس كثرة تلزم من جهة تقدير ماهية وتقدير وجود لتلك الماهية فان للانسان
ماهية قبل الوجود والوجود يرد عليها ويضاف اليها وكذلك المثلث له ماهية وهو انه
شكل يحيط به ثلاثة اضلاع وليس الوجود جزءا من ذات هذه الماهية مقوما لها ولذلك يجوز
ان يدرك العاقل ماهية الانسان وماهية المثلث وليس يدرى ان لهما وجودا فى الاعيان أَم لا
ولو كان الوجود مقوّما لماهيته لما تصور ثبوت ماهيته فى العقل قبل وجوده فالوجود
مضاف الى الماهية سواء كان لازما بحيث لا تكون تلك الماهية الا موجودة كالسماء أو عارضا
بعد ما لم يكن كماهية الانسان من زيد و عمرو وماهية الاعراض والصور الحادثة [بعمرو]
فزعموا ان هذه الكثرة أيضًا يجب ان تنفى عن الاول . فيقال ليس له ماهية الوجود مضاف
اليها بل الوجود الواجب له كالماهية لغيره فالوجود الواجب ماهية وحقيقة كلية وطبيعة
حقيقية كما ان الانسان والشجر والسماء ماهية اذ لو ثبت له ماهية لكان الوجود
الواجب لازما لتلك الماهية غير مقوّم لها واللازم تابع ومعلول فيكون الوجود الواجب
معلولا ومناقضا لكونه واجبا

[Page 297]
[17] قلت فهذا ما حكاه ابو حامد من اقاويل الفلاسفة فى نفى
الكثرة عن الواحد وهو بعد ذلك يشرع فى تقرير ما ناقضوا به
انفسهم فى هذا المعنى
[18] وينبغى نحن ان ننظر اولا فى هذه الاقاويل التى ينسبها اليهم

[Page 298] وبين مرتبتها فى التصديق ثم نشير الى النظر فيما يذكره من
مناقضتهم ثم الى النظر فى عناداتهم التى استعمل معهم فى هذه المسئلة
[19] فاول ضروب الانقسام التى ذكر ان الفلاسفة ينفونها عن الاول
هو الانقسام بالكمية تقديرا او وجودا وهو متفق عليه عند كل
من يعتقد ان المبدأ الاول ليس بجسم سواء من اعتقد ان الجسم
مركب من اجزاء لا تتجزى أو انه غير مركب منها والبرهان على
هذا هو البرهان على انه ليس بجسم وسياتى الكلام على هذا البرهان
[20] واما النوع الثانى فهو الانقسام بالكيفية كانقسام الجسم الى
الهيولى والصورة وهذا على مذهب من يرى ان الاجسام مركبة من
مادة وصورة وهو مذهب الفلاسفة وليس هذا موضع التكلم على
تصحيح احد المذهبين وهذا الانقسام ينتفى عن الاول ايضاً عند
كل من اعتقد انه ليس بجسم . [21] واما انتفاء الجسمية عن الاول من
جهة ما هو واجب الوجود بذاته فسياتى الكلام فى تعريف مرتبة
القول المستعمل فى ذلك على التمام . وذلك ان قوله واجب
الوجود مستغن عن غيره أعنى انه لا يتقوم بغيره والجسم يتقوم
بالصورة والهيولى وكل واحد من هذينت ليسا بواجب الوجود لان
الصورة غير مستغنية عن الهيولى والهيولى ايضا غير مستغنية عن

[Page 299] الصورة هذا وفيه نظر . [22] وذلك ان الجسم السماوى عند الفلاسفة ليس
مركبا من مادة و صورة وانما هو عندهم بسيط فقد يظن انه يصدق
عليه انه واجب الوجود بجوهره وستأتى هذه المسئلة . ولسنا نعرف
أحدا من الفلاسفة اعتقد ان الجسم السماوى مركب من مادة وصورة
كالاجسام البسيطة التى دونه الا ابن سينا فقط وقد تكلمنا فى هذه
المسئلة فى غير ما موضع وسنتكلم فيها فيما يستأنف
[23] واما البيان الثالث وهو نفى كثرة الصفات عن واجب الوجود لان
هذه الصفات ان كانت واجبة الوجود والذات واجبة الوجود كان
واجب الوجود اكثر من موجود واحد وان كانت معلولة عن الذات
لزم الا تكون واجبة الوجود فيكون من صفات واجب الوجود
ما ليس واجب الوجود او يكون هذا الاسم يشتمل على ما هو
واجب الوجود وغير واجب الوجود وذلك ممتنع ومستحيل فانه
بيان قريب من ان يكون حقا اذا سلم ان واجب الوجود يدل ولا
بد على موجود فى غير مادة فان الموجودات التى ليست فى مادة وهى
القائمة بذاتها من غير ان تكون اجساما ليس يمكن ان يتصور فيها
صفات ذاتية تتقوم بها الذات فضلًا عن ان يتصور فيها صفات زائدة
على الذات وهى الصفات التى تسمى اعراضا لانها اذا توهمت مرتفعة

[Page 300] لم ترتفع الذات بخلاف الصفات الذاتية ولذلك يصدق حمل الصفات
الذاتية على الموصوف على انها هى هى ولا يصدق حمل الصفات
الغير ذاتية عليه الا باشتقاق الاسم فلا نقول فى الانسان انه علم
كما نقول فيه انه حيوان وانما نقول فيه انه عالم فوجود امثال هذه
الصفات فيما ليس بجسم مستحيل لان طبيعتها طبيعة غريبة عن
الموصوف بها ولذلك سميت اعراضا وتميزت عن الموصوف فى
النفس وخارج النفس
[24] فان قيل ان الفلاسفة يعتقدون ان النفس فيها امثال هذه
الصفات وذلك انهم يعتقدون انها دراكة مريدة محركة وهم
يعتقدون مع هذا انها ليست بجسم
[25] فالجواب انهم ليس يريدون ان هذه الصفات هى للنفس زائدة
على الذات بل يرون انها صفات ذاتية ومن شأن الصفات الذاتية الا
يتكثر بها الموضوع الحامل لها بالفعل بل انما يتكثر بالجهة التى يتكثر
المحدود باجزاء الحدود وذلك انها هى كثرة ذهنية عندهم لا كثرة
بالفعل خارج النفس . ومثال ذلك ان حد الانسان حيوان ناطق وليس

[Page 301] النطق والحياة كل واحد منهما متميزا عن صاحبه فيه خارج النفس
بالفعل واللون والشكل فيه خارج النفس ولذلك يلزم من يسلم
ان النفس ليس من شروط وجودها المادة ان يسلم انه يوجد فى
الموجودات المفارقة ما هو واحد بالفعل خارج النفس كثير بالحد .
[26] وهذا هو مذهب النصارى فى الاقاليم الثلاث وذلك انهم ليس يرون
انها صفات زائدة على الذات وانما هى عندهم متكثرة بالحد وهى
كثيرة بالقوة لا بالفعل ولذلك يقولون انه ثلاثة واحد اى واحد
بالفعل ثلاثة بالقوة [27] . وسنعدد الشناعات والمحالات التى تلحق من
يضع ان المبدأ الاول ذو صفات زائدة على ذاته
[28] واما الكثرة الرابعة وهى الكثرة التى تكون للشىء من قبل
جنسه وفصله فهى قريبة من الكثرة التى تكون للشىء من اجل
مادته وصورته وذلك ان الحدود انما توجد للمركبات من المادة
والصورة لا للبسائط فلا ينبغى ان يختلف فى انتفاء الكثرة الحدية
عن المبدأ الاول سبحانه

[Page 302] [29] واما الكثرة الخامسة وهى تعدد الماهية والاّنّية فان الاّنّية فى
الحقيقة فى الموجودات هى معنى ذهنى وهو كون الشىء خارج النفس
على ما هو عليه فى النفس وما يدل عليه فهو مرادف للصادق وهى
التى تدل عليه الرابطة الوجودية فى القضايا الحملية فان لفظ الوجود
يقال على معنيين احدهما ما يدل عليه الصادق مثل قولنا هل الشىء
موجود أم ليس بموجود وهل كذا يوجد كذا او لا يوجد كذا والثانى
ما يتنزل من الموجودات منزلة الجنس مثل قسمة الموجود الى
المقولات العشر والى الجوهر والعرض واذا فهم من الموجود ما يفهم
من الصادق لم يكن خارج النفس كثرة واذا فهم منه ما يفهم من
الذات والشىء كان اسم الموجود مقولا على واجب الوجود وعلى ما
سواه بتقديم وتأخير مثل اسم الحرارة المقول على النار وعلى الاشياء
الحارة هذا هو مذهب الفلاسفة
[30] واما هذا الرجل فانما بنى القول فيها على مذهب ابن سينا وهو
مذهب خطأ وذلك انه يعتقد ان الانية وهو كون الشىء موجودا
شىء زائد على الماهية خارج النفس وكانه عرض فيها واذا وضع
انها شرط فى وجود الماهية فلو كان واجب الوجود له انية هى شرط

[Page 303] فى ماهيته لكان واجب الوجود مركبا من شرط ومشروط فكان
يكون ممكن الوجود وايضاً فان عند ابن سينا أن ما وجوده زائد
على ذاته فله علة واما الوجود عند ابن سينا فهو عرض لا حق
[31] للماهية وعليه يدل قول أبى حامد ههنا . وذلك ان قوله
فان للانسان ماهية قبل الوجود والوجود يرد عليها ويضاف اليها وكذلك المثلث له
ماهية وهو انه شكل يحيط به ثلاثة اضلاع وليس الوجود جزءا من ذات هذه الماهية مقوما
لها ولذلك يجوز ان يدرك العاقل ماهية الانسان وماهية المثلث وليس يدرى ان لهما وجودا
فى الاعيان ام لا
فدل على ان الوجود الذى استعمل ههنا ليس هو الوجود الذى يدل
على ذوات الاشياء اعنى الذى هو كالجنس لها ولا على الذى يدل
على ان الشىء خارج النفس . [32] وذلك ان اسم الموجود يقال على معنيين
احدهما على الصادق والآخر على الذى يقابله العدم وهذا هو الذى
ينقسم الى الاجناس العشرة وهو كالجنس لها وهذا هو متقدم على
الموجودات بالوجه الثانى اعنى الامور التى هى خارج الذهن وهذا
هو الذى يقال بتقديم وتأخير على المقولات العشر وبهذا المعنى نقول
فى الجوهر انه موجود بذاته وفى العرض انه موجود بوجوده فى
الموجود بذاته واما الموجود الذى بمعنى الصادق فيشترك فيه جميع

[Page 304] المقولات على السواء والموجود الذى بمعنى الصادق هو معنى فى
الاذهان وهو كون الشىء خارج النفس على ما هو عليه فى النفس
وهذا العلم يتقدم العلم بماهية الشىء اعنى انه ليس يطلب معرفة
ماهية الشىء حتى يعلم انه موجود واما الماهية التى تتقدم علم
الموجود فى اذهاننا فليست فى الحقيقة ماهية وانما هى شرح معنى
اسم من الاسماء فاذا علم ان ذلك المعنى موجود خارج النفس علم
انها ماهية وحد وبهذا المعنى قيل فى كتاب المقولات ان كليات
الاشياء المعقولة انما صارت موجودة باشخاصها واشخاصها معقولة
بكلياتها وقيل فى كتاب النفس ان القوة التى بها يدرك ان الشىء
مشار اليه وموجود غير القوة التى يدرك بها ماهية الشىء المشار
اليه وبهذا المعنى قيل ان الاشخاص موجودة فى الاعيان والكليات
فى الاذهان فلا فرق فى معنى الصادق فى الموجودات الهيولانية
والمفارقة . [33] وأما قول القائل ان الوجود امر زائد على الماهية وليس
يتقوم به الموجود فى جوهره فقول مغلّط جدا لان هذا يلزمه ان
يكون اسم الموجود يدل على عرض مشترك للمقولات العشر خارج
النفس وهو مذهب ابن سينا ويسأل عن ذلك العرض اذا قيل فيه

[Page 305] انه موجود هل يدل على معنى الصادق أو على عرض موجود فى ذلك
العرض فتوجد اعراض لا نهاية لها وذلك مستحيل وقد بينا هذا فى
غير ما موضع . [34] واظن ان هذا المعنى هو الذى رام ابو حامد ان ينفيه
عن المبدأ الاول وهو منفى عن جميع الموجودات فضلًا عن الاول
اذ هو اعتقاد باطل
[35] ولما ذكر هذا المعنى من الاتحاد من قولهم اخذ يذكر ما
ناقضوا به أنفسهم فى هذا المعنى مما يظن بهم فقال
ومع هذا فانهم يقولون للبارى تعالى انه مبدأ وأول وموجود وجوهر وواحد وقديم
وباق وعالم وعقل وعاقل ومعقول وفاعل وخالق ومريد وقادر وحى وعاشق ومعشوق
ولذيذ وملتذ وجواد وخير محض و زعموا ان كل ذلك عبارة عن معنى واحد لا كثرة فىه
وهذا من العجائب
[36] ثم قال فينبغى ان نحقق مذهبهم لتفهمه أولا ثم نشتغل بالاعتراض فان الاعتراض على
المذهب قبل تمام التفهم رمى فى غاية البعد
والعمدة فى فهم مذهبهم انهم يقولون ذات المبدأ واحد وانما تكثر الاسامى باضافة شىء
اليه أو اضافته الى شىء أو سلب شىء عنه والسلب لا يوجب كثرة فى ذات المسلوب عنه

[Page 306] ولا الاضافة توجب كثرة فلا ينكرون اذن كثرة السلوب وكثرة الاضافات ولكن الشأن
فى رد هذه الامور كلها الى السلب والاضافة
فقالوا اذا قيل له اول فهو اضافة الى الموجودات بعده . واذا قيل مبدأ فهو اشارة الى
ان وجود غيره منه وهو سبب له فهو اضافة الى معلولاته . واذا قيل موجود فمعناه معلوم .
واذا قيل جوهر فمعناه الوجود مسلوبا عنه الحلول فى موضوع وهذا سلب . واذا قيل قديم
فمعناه سلب العدم عنه أولا واذا قيل باق فمعناه سلب العدم عنه آخرا ويرجع حاصل القديم
والباقى الى وجود ليس مسبوقا بعدم ولا ملحوقا بعدم . واذا قيل واجب الوجود فمعناه انه
موجود لا علة له وهو علة لغيره فيكون جمعا بين السلب والاضافة اذ نفى علة له سلب
وجعله علة لغيره اضافة . واذا قيل عقل فمعناه انه موجود برىء عن المادة وكل موجود هذا
صفته فهو عقل أى يعقل ذاته ويشعر به ويعقل غيره وذات الله هذا صفته أى هو برىء عن
المادة فاذن هو عقل وهما عبارتان عن معنى واحد . واذا قيل عاقل فمعناه ان ذاته الذى هو
عقل فله معقول هو ذاته فانه يشعر بنفسه ويعقل نفسه فذاته معقول وذاته عاقل والكل
واحد اذ هو معقول من حيث انه ماهية مجردة عن المادة غير مستورة عن ذاته الذى هو
عقل بمعنى انه ماهية مجردة عن المادة لا يكون شىء مستورا عنه ولما عقل نفسه كان عاقلا
ولما كان نفسه معقولا لنفسه كان معقولا ولما كان عقله لذاته لا بزائد على ذاته كان عقلا
ولا يبعد ان يتحد العاقل والمعقول فان العاقل اذا عقل كونه عاقلا عقله لكونه عاقلا فيكون
العاقل والمعقول واحدا بوجه ما وان كان عقلنا فى ذلك يفارق عقل الاول فان ما للاول
بالفعل أبدا وما لنا يكون بالقوة تارة وبالفعل أُخرى . واذا قيل خالق وفاعل وبارئ وسائر
صفات الفعل فمعناه ان وجوده وجود شريف يفىض عنه وجود الكل فيضانا لازما وان
وجود غيره حاصل منه وتابع لوجوده كما يتبع النور الشمس والاسخان النار . ولا تشبه
نسبة العالم اليه نسبة النور الى الشمس الا فى كونه معلولا فقط والا فليس هو كذلك فان
الشمس لا تشعر بفىضان النور عنها ولا النار بفىضان الاسخان فهو طبع محض بل الاول عالم
بذاته وان ذاته مبدأ لوجود غيره ففيضان ما يفيض عنه معلوم له فليس به غفلة عما يصدر منه .

[Page 307] ولا هو ايضًا كالواحد منا اذا وقف بين مريض وبين الشمس فاندفع حر الشمس عن المريض
بسببه لا باختياره ولكنه عالم به وهو غير كاره أيضا له فان المظل الفاعل للظل شخصه
وجسمه والعالم الراضى بوقوع الظل نفسه لا جسمه وفى حق الاول ليس كذلك فان الفاعل
منه هو العالم وهو الراضى أى انه غير كاره وانه عالم بان كماله فى ان يفيض منه غيره .
بل لو أمكن ان يفرض كون الجسم المظل بعينه هو العالم بعينه بوقوع الظل وهو الراضى لم
يكن ايضا مساويا للاول فان الاول هو العالم وهو الفاعل وعلمه هو مبدأ فعله فان علمه
بنفسه فى كونه مبدأ للكل علة فيضان الكل فان النظام الموجود تبع للنظام المعقول بمعنى انه
واقع به فكونه فاعلا للكل غير زائد على كونه عالما بالكل اذ علمه بالكل علة فيضان
الكل عنه وكونه عالما بالكل لا يزيد على علمه بذاته فانه لا يعلم ذاته ما لم يعلم انه مبدأ
للكل فيكون المعلوم بالقصد الاول ذاته ويكون الكل معلوما عنده بالقصد الثانى فهذا
معنى كونه فاعلا . واذا قيل قادر لم يعن به الا كونه فاعلا على الوجه الذى قررناه وهو
ان وجوده وجود يفيض عنه المقدورات التى بفيضانها ينتظم الترتيب فى الكل على أبلغ
وجوه الامكان فى الكمال والحسن . واذا قيل مريد لم يعن به الا ان ما يفىض عنه ليس
هو غافلا عنه وليس كارها له بل هو عالم بان كماله فى فيضان الكل عنه فيجوز بهذا المعنى
ان يقال هو راض وجاز ان يقال للراضى انه مريد فلا تكون الارادة الا عين القدرة ولا
القدرة الا عين العلم ولا العلم الا عين الذات فالكل اذن يرجع الى عين الذات . وهذا لان
علمه بالاشياء ليس مأخوذا من الاشياء والا لكان مستفيدا وصفا وكمالا من غيره وهو
محال فى واجب الوجود ولكن علمنا على قسمين علم شىء حصل من صورة ذلك الشىء
كعلمنا بصورة السماء والارض وعلم اخترعناه كشىء لم نشاهد صورته ولكن صورناه فى
أنفسنا ثم أحدثناه فيكون وجود الصورة مستفادا من العلم لا العلم من الوجود وعلم
الاول بحسب القسم الثانى فان تمثل النظام فى ذاته سبب لفىضان النظام عن ذاته . نعم لو كان
مجرد حضور صورة نقش او كتابة خط فى نفوسنا كافيا فى حدوث تلك الصورة لكان
العلم بعينه منا هو القدرة بعينها والارادة بعينها ولكنا لقصورنا فليس يكفى تصوّرنا لايجاد
الصورة بل نحتاج مع ذلك الى ارادة متجددة تنبعث من قوّة شوقية ليتحرك منهما القوة

[Page 308] المحركة للعضل والاعصاب فى الاعضاء الآلية فيتحرك بحركة العضل والاعصاب اليد او
غيره ويتحرك بحركته القلم او آلة أُخرى خارجة وتتحرك المادة بحركة القلم كالمداد او
غيره ثم تحصل الصورة المتصورة فى نفوسنا فلذلك لم يكن نفس وجود هذه الصورة فى
نفوسنا قدرة ولا ارادة بل كانت القدرة فينا عند المبدأ المحرك للعضل وهذه الصورة
محركة لذلك المحرك الذى هو مبدأ القدرة وليس كذلك فى واجب الوجود فانه ليس
مركبا من اجسام تنبث القوى فى اطرافه فكانت القدرة والارادة والعلم والذات منه
واحدا . واذا قيل حى لم يرد به الا انه عالم علما يفيض عنه الموجود الذى يسمى فعلا له
فان الحى هو الفعال الدراك فيكون المراد به ذاته مع اضافة الى الافعال على الوجه الذى
ذكرناه لا كحياتنا فانها لا تتم الا بقوتين مختلفتين ينبعث عنهما الادراك والفعل فحياته عين
ذاته ايضا. واذا قيل له جواد اريد به انه يفيض عنه الكل لا لغرض يرجع اليه والجود يتم
بشيئين احدهما ان يكون للمنعم عليه فائدة فيما وهب منه فلعل من يهب شيئاً ممن هو
مستغن عنه لا يوصف بالجود والثانى ان لا يحتاج الجواد الى الجود فيكون اقدامه على الجود
لحاجة نفسه وكل من يجود ليمدح أو يثنى عليه او يتخلص من مذمة فهو مستعيض وليس بجواد
وانما الجود الحقيقى لله تعالى فانه ليس يبغى به خلاصا عن ذم ولا كمالا مستفادا بمدح فيكون
الجواد اسما منبئا عن وجوده مع اضافة الى الفعل وسلب للغرض فلا يؤدى الى الكثرة فى
ذاته . واذا قيل خير محض فاما ان يراد وجوده بريئا عن النقص وامكان العدم فان
الشر لا ذات له بل يرجع الى عدم جوهر او عدم صلاح الجوهر والا فالوجود من حيث
انه وجود خير فترجع هذه الاسماء الى السلب لامكان النقص والشر وقد يقال خير لما
هو سبب لنظام الاشياء والاول مبدأ النظام كل شىء فهو خير ويكون الاسم دالا على الوجود
مع نوع اضافة . واذا قيل واجب الوجود فمعناه هذا الوجود مع سلب علة لوجوده واحالة
علة لعدمه أَولًا وآخرا . واذا قيل عاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ فمعناه هو ان كل جمال وبهاء

[Page 309] وكمال فهو محبوب ومعشوق لذى الكمال ولا معنى للذة الا ادراك الكمال الملائم ومن عرف
كمال نفسه فى احاطته بالمعلومات لو احاط بها وفى جمال صورته وكمال قدرته وقوّة
اعضائه وبالجملة ادراكه لحضور كل كمال هو ممكن له لو امكن ان يتصوّر ذلك فى انسان
واحد لكان محبا لكماله وملتذا به وانما تنتقض لذته بتقدير العدم والنقصان فان السرور لا
يتم بما يزول أو يخشى زواله والاول له البهاء الاكمل والجمال الاتم اذ كل كمال هو ممكن
له فهو حاضر له وهو مدرك لذلك الكمال مع الامن من امكان النقصان والزوال والكمال
الحاصل له فوق كل كمال فاحبابه وعشقه لذلك الكمال فوق كل احباب والتذاذه به
فوق كل التذاذ بل لا نسبة للذاتنا اليها البتة بل هى أجل من ان يعبر عنها باللذة والسرور
والطيبة . الا ان تلك المعانى ليس لها عبارات عندنا فلا بد من الابعاد فى الاستعارة كما نستعير
له لفظ المريد والمختار والفاعل منا مع القطع يبعد ارادته عن ارادتنا وبعد قدرته وعلمه عن
قدرتنا وعلمنا ولا بعد فى ان يستبشع عبارة اللذة فىستعمل غيره . والمقصود ان حالته
أشرف من أَحوال الملائمة وأحرى بان يكون مغبوطا وحالة الملائكة أشرف من احوالنا
ولو لم تكن لذة الا فى شهوة البطن والفرج لكان حال الحمار والخنزير أشرف من حال
الملائكة وليس لها لذة أى للمبادى من الملائكة المجردة عن المادة الا فى السرور بالشعور
بما خص بها من الكمال والجمال الذى لا يخشى زواله ولكن الذى للاول فوق الذى
للملائكة فان وجود الملائكة التى هى العقول المجردة وجود ممكن فى ذاته واجب الوجود
بغيره وامكان العدم نوع شر ونقص فليس شىء بريئا عن كل شرّ مطلقا سوى الاول فهو
الخير المحض وله البهاء والجمال الاكمل ثم هو معشوق عشقه غيره او لم يعشقه كما انه
عاقل ومعقول عقله غيره أو لم يعقله وكل هذه المعانى راجعة الى ذاته والى ادراكه لذاته
وعقله له وعقله لذاته هو عين ذاته فانه عقل مجرد فيرجع الكل الى معنى واحد
فهذا طريق تفهيم مذهبهم وهذه الامور منقسمة الى ما يجوز اعتقاده فنبين انه لا يصح
على اصولهم والى ما لا يصح اعتقاده فنبين فساده . ولنعد الى المراتب الخمسة فى

[Page 310] اقسام الكثرة ودعواهم نفيها ولنبين عجزهم عن اقامة الدليل ولنرسم كل واحد
مسألة على حيالها
[37] قلت قد اجاد فى اكثر ما ذكره من وصف مذاهب الفلاسفة
فى كون البارى سبحانه واحدا مع وصفه باوصاف كثيرة فلا كلام
معه فى هذا الا ما ذكره من تسميته عقلًا انه يدل على معنى سلبى
وليس كذلك بل هو الاسم الاخص بذاته عند الفلاسفة المشائين
بخلاف ما يراه افلاطون من ان العقل غير المبدأ الاول وانه لا
يوصف بانه عقل وكذلك قوله فى العقول المفارقة ان فيها امكانا
وعدما وشرا ليس هو من قولهم
[38] فلنرجع الى ما ذكره فى الرد عليهم فى المسائل الخمس

[Page 311]

مسئلة

[1] قال ابو حامد اتفقت الفلاسفة على استحالة اثبات العلم والقدرة والارادة للمبدأ الاول
كما اتفقت عليه المعتزلة وزعموا ان هذه الاسامى وردت شرعًا ويجوز اطلاقها لغة ولكن
ترجع الى ذات واحدة كما سبق ولا يجوز اثبات صفة زائدة على ذاته كما يجوز فى حقنا ان
يكون علمنا وقدرتنا وارادتنا وصفًا لنا زائدا على ذاتنا . وزعموا ان ذلك يوجب كثرة
لان هذه الصفات لو طرت علينا لكنا نعلم انها زائدة على الذات اذ تجردت ولو قدرت
مقارنة لوجودنا من غير تأخر لما خرجت عن كونها زائدة على الذات بالمقارنة فكل
شيئين اذا طرى احدهما على الآخر وعلم ان هذا ليس ذاك وذاك ليس هذا فلو اقترنا أَيضا
عقل كونهما شيئين فاذًا لا تخرج هذه الصفات بان تكون مقارنة لذات الاول عن ان
تكون أشياء سوى الذات فىوجب ذلك كثرة فى واجب الوجود وهذا محال فلهذا
اجمعوا على نفى الصفات

[Page 312]
[2] قلت الذى يعسر على من قال بنفى تعدد الصفات هو ان تكون
الصفات المختلفة ترجع الى ذات واحدة حتى يكون مفهوم العلم مثلًا
والارادة والقدرة مفهوماً واحدا وانها ذات واحدة وان يكون ايضا
العلم والعالم والقدرة والقادر والارادة والمريد معنى واحدا . [3] والذى
يعسر على من قال ان ههنا ذاتا وصفات زائدة على الذات ان تكون
الذات شرطا فى وجود الصفات والصفات شرطا فى كمال الذات
ويكون المجموع من ذلك شيئاً واجب الوجود أى موجودا واحدا
ليس فيه علة ولا معلول . [4] لكن هذا لا جواب عنه فى الحقيقة اذا
وضع ان ههنا شيئا واجب الوجود بذاته فانه يجب ان يكون واحدا
من جميع الوجوه وغير مركب اصلا من شرط ومشروط وعلة
ومعلول لان كل موجود بهذه الصفة فاما ان يكون تركيبه واجبا
واما ان يكون ممكنا فان كان واجبا كان واجبا بغيره لا بذاته
لانه يعسر انزال مركب قديم من ذاته أعنى من غير ان يكون له
مركب وبخاصة على قول من انزل ان كل عرض حادث لان التركيب

[Page 313] فيه يكون عرضا قديما وان كان ممكنا فهو محتاج الى ما يوجب
اقتران العلة بالمعلول . [5] واما هل يوجد شىء مركب من ذاته على اصول
الفلاسفة وان جوزوا اعراضاً قديما فغير ممكن وذلك ان التركيب
شرط فى وجوده وليس يمكن ان تكون الاجزاء هى فاعلة للتركيب
لان التركيب شرط فى وجودها ولذلك اجزاء كل مركب من
الامور الطبيعية اذا انحلت لم يكن الاسم المقول عليها الا باشتراك
مثل اسم اليد المقولة على التى هى جزء من الانسان الحى واليد
المقطوعة بل كل تركيب عند ارسطاطاليس فهو كائن فاسد فضلًا على
ان يكون لا علة له . [6] واما هل تفضى الطريقة التى سلكها ابن سينا فى
واجب الوجود وممكن الوجود الى نفى مركب قديم فليس تفضى الى
ذلك لانه اذا فرضنا ان الممكن ينتهى الى علة ضرورية والضرورية لا
تخلو اما ان يكون لها علة أو لا علة لها وانه ان كانت لها علة فانها
تنتهى الى ضرورى لا علة له فان هذا القول انما يؤدى من جهة
امتناع التسلسل الى وجود ضرورى لا علة له فاعلة لا الى موجود
ليس له علة اصلا لانه يمكن ان يكون له علة صورية او مادية الا

[Page 314] ان يوضع ان كل ماله مادة وصورة وبالجملة كل مركب فواجب
ان يكون له فاعل خارج عنه وهذا يحتاج الى بيان ولم يتضمنه
القول المسلوك فى بيان واجب الوجود مع ما ذكرنا ان فيه من
الاختلال . [7] ولهذا بعينه لا يفضى دليل الاشعرية وهو ان كل حادث
له محدث الى أول قديم ليس بمركب وانما يفضى الى اول ليس بحادث
واما ان يكون العالم والعلم شيئاً واحدا فليس ممتنعا بل واجب ان
ينتهى الامر فى امثال هذه الاشياء الى ان يتحد المفهوم فيهما وذلك
ان العالم ان كان عالما بعلم فالذى به يكون العالم عالما أحرى ان يكون
عالما . وذلك أن كل ما استفاد صفة من غيره فتلك الصفة أولى بذلك
المعنى المستفاد . مثال ذلك ان هذه الاجسام الحية التى لدينا ان كانت
ليست حية من ذاتها بل من قبل حياة تحلها فواجب ان تكون تلك
الحياة التى استفاد منها ما ليس بحى الحياة حية بذاتها او يفضى الامر
فيها الى غير نهاية وكذلك يعرض فى العلم وسائر الصفات
[8] واما كون الذات الواحدة ذات صفات كثيرة مضافة أو
مسلوبة او متوهمة بانحاء مختلفة من غير ان تكون تلك الذات
متكثرة بتكثر تلك الصفات فذلك امر لا ينكر وجوده مثل كون

[Page 315] الشىء موجودا وواحدا وممكناً وواجبا فان الشىء الواحد بعينه اذا
اعتبر من جهة ما يصدر عنه شىء غيره سمى قادرا وفاعلا واذا اعتبر
من جهة تخصيصه أحد الفعلين المتقابلين سمى مريدا واذا اعتبر من
جهة ادراكه لمفعوله سمى عالما واذا اعتبر العلم من حيث هو ادراك
وسبب للحركة سمى حيا اذ كان الحى هو المدرك المتحرك من
ذاته . [9] وانما الذى يمتنع وجود واحد بسيط ذى صفات كثيرة قائمة
بذاتها وبخاصة ان كانت تلك الصفات جوهرية وموجودة بالفعل واما
ان كانت بالقوة فليس يمتنع عند الفلاسفة ان يكون الشىء واحدا
بالفعل كثيرا بالقوة وهذه هى عندهم حال اجزاء الحدود مع
المحدود
[10] قوله الى قوله
يريد ان كون هذه الصفات مقارنة للذات ليس يمنع ذلك من وجوب
كونها كثيرة فى نفسها كما لو تأخر وجودها عن الذات أو تأخر
وجود بعضها عن بعض لما كان المفهوم عند العقل من ذلك واحدا

[Page 316] [11] ولما حكى ابو حامد قول الفلاسفة قال
فيقال لهم بم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه وانتم مخالفون من كافة المسلمين
سوى المعتزلة فما البرهان عليه فان قول القائل الكثرة محال فى واجب الوجود مع كون
الذات الموصوفة واحدة يرجع الى انه يستحيل كثرة الصفات وفيه النزاع وليس استحالته
معلوما بالضرورة فلا بد من البرهان
قولهم البرهان عليه ان كل واحد من الصفة والموصوف اذا لم يكن هذا ذلك
ولا ذلك هذا فاما ان يستغنى كل واحد عن الآخر فى وجوده او يفتقر كل واحد الى الآخر
أو يستغنى واحد عن الآخر ويحتاج اليه الآخر . فان فرض كل واحد مستغنيا فهما واجبا
الوجود وهو التثنية المطلقة وهو محال . واما ان يحتاج كل واحد منهما الى الآخر قد يكون
واحد منهما واجب الوجود اذ معنى واجب الوجود ما قوامه بذاته وهو مستغن من كل وجه
عن غيره فما احتاج الى غيره فذلك الغير علته اذ لو رفع ذلك الغير لامتنع وجوده فلا
يكون وجوده من ذاته بل من غيره . فان قيل احدهما يحتاج دون الآخر فالذى يحتاج
معلول والواجب الوجود هو الآخر وايهما كان معلولا افتقر الى سبب فىؤدى الى ان ترتبط
ذات واجب الوجود بسبب
[12] قلت اما اذا سلم الخصوم للفلاسفة ان ههنا موجودا هو واجب
الوجود من ذاته وان معنى واجب الوجود انه لا علة له اصلا لا فى
ذاته مما بها قوامه ولا من خارج فلا انفكاك لهم عما ألزمتم الفلاسفة
وذلك انه ان كانت الصفات متقومة بالذات فالذات هى الواجبة

[Page 317] الوجود بذاتها والصفات بغيرها فيكون واجب الوجود بذاته هى
الذات والصفات واجبة بغيرها ويكون المجموع منهما مركبا لكن
الاشعرية ليس تسلم لهم ان واجب الوجود بذاته يدل على هذا لان
برهانهم لا يفضى اليه اذ كان برهانهم انما يؤدى الى لا علة له فاعلة
زائدة عليها
[13] قال ابو حامد والاعتراض على هذا ان يقال المختار من هذه الاقسام هو القسم
الاخير . ولكن ابطالكم القسم الاول وهو التثنية المطلقة قد بينا انه لا برهان لكم عليها فى
المسئلة التى قبل هذه وانها لا تتم الا بالبناء على نفى الكثرة فى هذه المسئلة وما بعدها فما هو
نوع هذه المسئلة كيف تنبنى هذه المسئلة عليها . ولكن المختار ان يقال الذات فى قوامها
غير محتاجة الى الصفات والصفات محتاجة الى الموصوف كما فى حقنا
فيبقى قولهم ان المحتاج الى غيره لا يكون واجب الوجود
فيقال ان اردتم بواجب الوجود انه ليس له علة فاعلية فلم قلتم ذلك ولم استحال
ان يقال كما ان ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفته قديمة معه ولا فاعل
لها وان اردتم بواجب الوجود ان لا يكون له علة قابلية فهو ليس بواجب الوجود على
هذا التأويل ولكنه مع هذا قديم ولا فاعل له فما المحيل لذلك
فان قيل واجب الوجود المطلق هو الذى ليس له علة فاعلية ولا قابلية فاذا سلم ان له
علة قابلية فقد سلم كونه معلولا

[Page 318] قلنا تسمية الذات القابلة علة قابلية من اصطلاحكم والدليل لم يدل على ثبوت واجب
الوجود بحكم اصطلاحكم وانما دل على اثبات طرف ينقطع به تسلسل العلل والمعلولات ولم
يدل الا على هذا القدر وقطع التسلسل ممكن بواحد له صفات قديمة لا فاعل لها كما انه لا
فاعل لذاته ولكنها تكون مقدرة فى ذاته فليطرح لفظ واجب الوجود فانه ممكن التلبس
فيه فان البرهان لم يدل الا على قطع التسلسل ولم يدل على غيره البتة فدعوه غيره تحكم
فان قيل كما يجب قطع التسلسل فى العلة الفاعلية يجب قطعها فى القابلية اذ لو افتقر كل
موجود الى محل يقوم فيه وافتقر المحل ايضا الى محل للزم التسلسل كما لو افتقر كل موجود
الى علة وافتقرت العلة ايضا الى علة
قلنا صدقتم فلا جرم قطعنا هذا التسلسل وقلنا ان الصفة فى ذاته وليست ذاته قائمة
بغيره كما ان علمنا فى ذاتنا وذاتنا محل له وليس ذاتنا فى محل فالصفة انقطع تسلسل علتها
الفاعلية مع الذات اذ لا فاعل لها كما لا فاعل للذات بل لم تزل الذات بهذه الصفة موجودة
فلا علة له ولا لصفته واما العلة القابلية فلم ينقطع تسلسلها الا على الذات ومن أَين
يلزم ان ينتفى المحل حين تنتفى العلة والبرهان ليس يضطر الا الى قطع التسلسل فكل
طريق امكن قطع التسلسل به فهو وفاء بقضية البرهان الداعى الى واجب الوجود . وان
أريد بواجب الوجود شىء سوى موجود ليس له علة فاعلية حتى ينقطع به التسلسل فلا نسلم
ان ذلك واجب أصلا ومهما اتسع العقل لقبول موجود قديم لا علة لوجوده اتسع لقبول
قديم موصوف لا علة لوجوده فى ذاته وصفاته جميعا
[14] قلت
قوله ولكن ابطالكم القسم الاول وهو التثنية المطلقة قد بينا انه لا برهان لكم عليها
فى المسئلة التى قل هذه وانها لا تتم الا بالبناء على نفى الكثرة

[Page 319]
يريد ابطالهم ان يكون الموصوف والصفة كل واحد منهما قائما بذاته
وذلك انه يلزم عنه ان يستغنى كل واحد منهما عن صاحبه فيكون
الهاً مستقلًا بنفسه ويكون هنالك اثنينية اذ لا يكون هنالك معنى
به صارت الصفة والموصوف واحدا ولما كانوا قد استعملوا فى ابطال
هذا النوع من الكثرة لزوم وجود اثنينية فى الاله عنها وكان الامر
فى البرهان يجب ان يكون بالعكس أى تبطل التثنية من جهة
ابطال الكثرة قال فيه انهم عكسوا فبينوا الاصل بالفرع . [15] والذى
فعلوه هو معاندة لا بحسب الامر فى نفسه بل بحسب قول الخصم
وذلك ان خصومهم ينكرون الاثنينية وأنت فقد علمت فى غير
هذا الموضع ان المعاندة صنفان صنف بحسب الامر فى نفسه وصنف
بحسب قول المعاند وان الحقيقة هى التى بحسب الامر فى نفسه
وان المعاندة الثانية وان لم تكن حقيقية فانها قد تستعمل ايضاً
[16] ثم قال ولكن المختار ان يقال الذات فى قوامها غير محتاجة الى الصفات والصفات
محتاجة الى الموصوف كما فى حقنا
فيبقى قولهم ان المحتاج الى غيره لا يكون واجب الوجود

[Page 320]
[17] يريد أنه اذا وضع لهم هذا القسم من الاقسام التى استعملوا فى ابطال
الكثرة آل الامر معهم الى ان يثبتوا ان واجب الوجود ليس يمكن
ان يكون مركبا من صفة وموصوف ولا ان تكون ذاته ذات
صفات كثيرة وهذا شىء ليس يقدرون عليه بحسب اصولهم
[18] ثم اخذ يبين ان المحال الذى راموا ان يلزموه عن انزال هذا
القسم ليس بلازم فقال
فيقال لهم ان اردتم بواجب الوجود انه ليس له علة فاعلية فلم قلتم ذلك ولم استحال
ان يقال كما ان ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفته قديمة ولا فاعل لها
[19] قلت هذا كله معاندة لمن سلك فى نفى الصفات طريقة ابن سينا
فى اثبات واجب الوجود بذاته واما الطريقة الاقنع فى هذه فى
وجود الاتحاد ولزوم ذلك للاشعرية فهى طريقة المعتزلة وذلك انهم
يفهمون من الممكن الوجود الممكن الحقيقى ويرون ان كل ما

[Page 321] دون المبدأ الاول هو بهذه الصفة وخصومهم من الاشعرية يسلمون
هذا ويرون أيضاً ان كل ممكن فله فاعل وان التسلسل ينقطع
بالافضاء الى ما ليس ممكنا فى نفسه وخصومهم يسلمون لهم ذلك
فاذا سلم لهم هذه ظن بها انه يلزم عنها ان يكون الاول الذى انقطع
عنده الامكان ليس ممكناً فوجب ان يكون بسيطاً غير مركب
لكن للاشعرية ان تقول ان الذى ينتفى عنه الامكان الحقيقى ليس
يلزم ان يكون بسيطا وانما يلزم ان يكون قديماً فقط لا علة فاعلية
له فلذلك ليس عند هؤلاء برهان على ان الاول بسيط من طريقة
واجب الوجود
[20] ثم قال فان قيل واجب الوجود المطلق هو الذى ليس له علة فاعلية ولا قابلية فاذا سلم
ان له علة قابلية فهو ليس بواجب الوجود على هذا التاويل
[21] يريد فان قالت الفلاسفة ان البرهان قد أدى الى ان واجب
الوجود ليس له علة فاعلة فليس له قابلة واذا وضعتم ذاتا وصفات فقد
وضعتم علة قابلة

[Page 322] [22] ثم قال مجيباً عن هذا
(قلنا واذا سلم ان له علة قابلية فقد سلم كونه معلولا)
قلنا تسمية الذات القابلية علة من اصطلاحكم والدليل لم يدل على ثبوت واجب
الوجود بحكم اصطلاحكم وانما دل على اثبات طرف ينقطع به تسلسل العلل والمعلولات
[23] يريد ان الاشعرية ليس تسلم ان تلك الذات الحاملة للصفات علة
قابلة فيلزمهم ان يكون لها علة فاعلة ولم يدل واجب الوجود بحسب
ما أدى اليه برهانكم على موجود ليس له علة قابلية فضلًا على ان
يدل على ما ليس له ذات وصفات وانما دل على انه ليس له سبب فاعل
[24] قلت وهذا العناد لازم بحسب دليلهم ولو سلمت الاشعرية
للفلاسفة ان ما ليس له علة فاعلية ليس له علة قابلية لما انكسر بذلك
قولهم لان الذات التى وضعوا انما هى قابلة للصفات لا للاول اذ
يضعون ان الصفات زائدة على الذات وليس يضعونها صفات ذاتية
كما يضع ذلك النصارى

[Page 323] [25] ثم قال فان قيل كما يجب قطع التسلسل فى العلة الفاعلية يجب قطعه فى القابلية اذ لو
افتقر كل موجود الى محل يقوم فيه وافتقر المحل أيضا الى محل للزم التسلسل وأفضى الامر
الى موجود لا محلّ له كالحال فى العلة الفاعلية
[26] ثم قال مجاوبا لهم
صدقتم فلا جرم قطعنا هذا التسلسل وقلنا ان الصفة فى ذاته وليست ذاته قائمة بغيره كما
ان علمنا فى ذاتنا وذاتنا محل له وليس ذاتنا فى محل
[27] قلت هذا قول لا ارتباط له بهذه المسئلة لا على ما حكاه عن
الفلاسفة ولا على ما قاله مجاوبا لهم فكانه قول سفسطانى وذلك ان
القول فى وجوب تناهى العلل القابلية ولا تناهيها لا نسبة بينه وبين
المسئلة المتكلم فيها وهى هل من شرط الفاعل الاول ان يكون
له علة قابلية وذلك ان الفحص عن تناهى العلل القابلية غير الفحص
عن تناهى العلل الفاعلية فان من سلم وجود العلل القابلية فيسلم
ضرورة قطع تسلسلها بعلة قابلية أولى خارجة عن الفاعل الاول

[Page 324] [28] ضرورة كما يسلم وجود فاعل اول خارج عن المواد القابلية فالفاعل
الاول ان كانت له مادة فليست تلك المادة معدودة لا فى القابلية
الاولى ولا فيما دونها من القوابل لسائر الموجودات بل يلزم تلك
المادة التى للفاعل الاول ان كانت له مادة ان تكون مادة خاصة به
وبالجملة فتكون له وذلك اما بان تكون هى الاولى له أو بان
ينتهى الى قابلية أولى وبالجملة فتكون هذه القابلية ليست من جنس
القابلية المشروطة فى وجود سائر الموجودات الصادرة عن الفاعل
الاول لكن ان كانت المادة شرطا فى وجود الفاعل الاول فسيلزم
ضرورة ان تكون شرطا فى وجود كل الفاعلات للمفعولات فتكون
المادة ليست شرطا فى وجود فعل الفاعل فقط اذ كان كل فاعل انما
يفعل فى قابل بل وان تكون شرطا فى وجود الفاعل فيكون كل
فاعل جسما وهذا كله لا تسلمه الاشعرية ولا تبطله فان قالوا ان
هذه الذات الموصوفة بهذه الصفات يلزم ان تكون جسما قيل لهم
النفس عندكم موصوفة بهذه الصفات وهى عندكم ليست بجسم
وهذا هو غاية ما تنتهى اليه الاقاويل الجدلية فى هذه المسئلة .

[Page 325] [29] واما الاقاويل البرهانية ففى كتب القدماء التى كتبوا فى هذه الحكمة
وبخاصة فى كتب الحكيم الاول لا ما أثبته فى ذلك ابن سينا وغيره
ممن ينسب الى الاسلام ان الفى له شىء فى ذلك فان ما اثبتوا من
هذا العلم هو من جنس الاقاويل الظنية لانها من مقدمات عامة
لا خاصة أى خارجة من طبيعة المفحوص عنه
[30] وقوله قلنا فالصفة قد انقطع تسلسل علتها الفاعلية مع الذات اذ لا فاعل لها كما لا فاعل
للذات بل لم تزل الذات بهذه الصفة موجودة فلا علة له ولا لصفته
[31] قلت هذا شىء لا يسلمه الخصوم بل يقولون ان من شرط الفاعل
الاول الا يكون قابلًا لصفة لان القبول يدل على هيولى وذلك
انه ليس يمكن ان يقطع التسلسل بوضع فاعل باى صفة اتفق بل
بفاعل لا يكون له فاعل اصلا ولا موصوف بصفة يلزم عنها ان
يكون له فاعل وذلك ان وضع الصفة الفاعلية الاولى تقوم بعلة

[Page 326] قابلية هى شرط فى وجودها قد يظن انه مستحيل فان كل ما له
شرط فى وجوده فاقترانه بالشرط هو من قبل علة غيره لان الشىء لا
يمكن ان يكون علة لمقارنته لشرط وجوده كما لا يكون علة لوجود
نفسه لان المشروط لا يخلو ان يكون قائماً بذاته من دون اقترانه
بالشرط فيحتاج الى علة فاعلة لتركيبه مع المشروط اذ لا يكون
الشىء علة فى وجود شرط وجوده لكن هذه كلها امور عامة . [32] وبالجملة
فهذه المسئلة ليس يمكن ان يتصور فيها شىء يقرب من اليقين من
هذه الطريقة وذلك لاشتراك الاسم الذى فى واجب الوجود بذاته
وفى الممكن من ذاته الواجب من غيره وفى سائر المقدمات التى
تزاد عليها

المسلك الثانى

[33] قال ابو حامد قولهم ان العلم والقدرة فينا ليست داخلة فى
ماهية ذاتنا بل كانت عارضة واذا اثبت هذه الصفات للاول لم تكن ايضا داخلة فى ماهية
ذاته بل كانت عارضة بالاضافة اليه وان كانت دائما فرب عارض لا يفارق أو يكون
لازما لماهيته ولا يصير بذلك مقوما لذاته واذا كان عارضا كان تابعا للذات وكان الذات
سببا فيه فكان معلولا فكيف يكون واجب الوجود

[Page 327] [34] ثم قال ابو حامد رادا على هذا القول
وهذا هو الاول مع تغيير عبارة
فنقول ان عنيتم بكونه تابعا للذات وكون الذات سببا له ان الذات علة فاعلية
وانها مفعولة للذات فليس كذلك فان ذلك ليس يلزم فى علمنا بالاضافة الى ذاتنا اذ ذواتنا
ليست بعلة فاعلة لعلمنا . وان عنيتم ان الذات محل وان الصفة لا تقوم بنفسها فى غير محل
فهذا مسلم فلم يمتنع هذا فان عبر عنه بالتابع أو العارض او المعلول أو ما اراده المعبر
لم يتغير المعنى اذا لم يكن المعنى سوى انه قائم بالذات قيام الصفات بالموصوفات ولم يستحل
ان يكون قائمًا فى ذات وهو مع ذلك قديم فلا فاعل له
وكل ادلتهم تهويل بتقبيح العبارة بتسميتهِ ممكنا وجائزا وتابعا ولازما ومعلولا وان
ذلك مستنكر . فيقال ان أُريد بذلك ان له فاعلا فليس كذلك وان لم يرد به الا انهُ لا
فاعل له ولكن لهُ محل هو قائم فيهِ فليعبر عن هذا المعنى باى عبارة أُريد فلا استحالة فيه
[35] قلت هذا تكثير من القول فى معنى واحد
والفصل فى هذه القضية بين الخصوم هو فى نكتة واحدة
وهى هل يجوز فيما له علة قابلية ان لا يكون له فاعل أو لا يجوز

[Page 328] ذلك . [36] ومن اصول المتكلمين ان اقتران الشرط بالمشروط هو من باب الجائز
وان كل جائز يحتاج فى وقوعه وخروجه الى الفعل الى مخرج والى مقارنة
الشرط للمشروط ولان المقارنة هى شرط فى وجود المشروط وليس
يمكن ان يكون الشىء علة فى شرط وجوده ولا يمكن أيضا ان يكون
الشرط هو العلة الفاعلة لوجود المشروط فان ذاتنا ليست علة فاعلة
لوجود العلم بها ولكنها شرط فى وجود العلم قائما بها ولذلك لم يكن
بد على هذه الاصول من علة فاعلية اوجبت اقتران الشرط المشروط
وهكذا الحال فى كل مركب من شرط ومشروط . [37] ولكن هذا كله
ينكسر على الفلاسفة بوضعهم السماء قديمة وهى ذات وصفات ولا
يضعون لها فاعلا على النحو الذى هو الفاعل فى الشاهد على ما يلزم
من ذلك الا ان يضعوا ان ههنا برهانا يؤدى الى ربط قديم عن رابط
قديم وهو نوع آخر من الرباط غير الذى فى الكائنة الفاسدة فان
هذه كلها مواضع فحص شديد . [38] واما وضعهم ان هذه الصفات
ليست متقومة بها الذات فليس بصحيح فان كل ذات استكملت
بصفات صارت بها اكمل واشرف فذاتها متقومة بتلك الصفات فان
بالعلم والقدرة والارادة صرنا اشرف من الموجودات التى ليست بعالمة
والذات منا التى قامت بها هذه الصفات هى مشتركة لنا وللجمادات

[Page 329] فكيف يكون أمثال هذه الصفات اعراضا تابعة لذاتنا هذا كله
من قول من لم يرتض بالصفات النفسانية والعرضية
[39] قال ابو حامد وربما هوّلوا بتقبيح العبارة بوجه آخر فقالوا هذا يؤدى الى ان يكون
الاول محتاجا الى هذه الصفات فلا يكون غنيا مطلقا اذ الغنى المطلق لا يحتاج الى غيره
[40] ثم قال رادا عليهم
وهذا كلام وعظى فى غاية الركاكة فان صفات الكمال لا تباين ذات الكامل حتى يقال
انه يحتاج الى غيره فاذا لم يزل ولا يزال كاملا بالعلم والقدرة والحياة فكيف يكون محتاجا
أو كيف يجوز ان يعبر عن ملازمة الكمال بالحاجة وهو كقول القائل الكامل من لا يحتاج
الى كمال فالمحتاج الى وجود صفات الكمال لذاته ناقص فيقال لا معنى لكونه كاملا الا
وجود الكمال لذاته وكذلك لا معنى لكونه غنيا الا وجود الصفات المنافية للحاجات
لذاته فكيف تنكر صفات الكمال التى بها تتم الالهية بمثل هذه التخييلات اللفظية
[41] قلت والكمال على ضربين كامل بذاته وكامل بصفات افادته
الكمال وتلك الصفات يلزم ضرورة ان تكون كاملة بذاتها لانها ان
كانت كاملة بصفات كمالية يسال ايضا فى تلك الصفات هل هى

[Page 330] كاملة بذاتها أو بصفات فينتهى الامر الى كامل بذاته والكامل
بغيره يحتاج ضرورة على الاصول المتقدمة اذا سلمت الى مفيد له
صفات الكمال والا كان ناقصا واما الكامل بذاته فهو كالموجود
بذاته فما احق ان يكون الموجود بذاته كاملا بذاته فان كان ههنا
موجود بذاته فيجب ان يكون كاملا بذاته وغنيا بذاته والا كان
مركبا من ذات ناقصة وصفات مكملة لتلك الذات فاذا كان ذلك
كذلك فالصفة والموصوف فيه واحد وما نسب اليه من الافعال التى
توجب انها صدرت عن صفات متميزة فيه فهى على طريق
الاضافة
[42] قال ابو حامد مجيبا للفلاسفة
(وما اشنع ان نكون نحن والبارى تعالى فى هذا المعنى بحال سوى اعنى ان كون الكمال
لذاتنا بصفات كمالية) فان قيل اذا أثبتم ذاتا وصفة وحلولا للصفة بالذات فهو تركيب
وكل تركيب يحتاج الى مركب ولذلك لم يجز ان يكون الاول جسما لانه مركب
قلنا قول القائل كل مركَّب يحتاج الى مركب كقوله كل موجود يحتاج الى موجد
فيقال له الاول قديم موجود لا علة له ولا موجد فكذلك يقال هو موصوف قديم ولا علة
لذاته ولا لصفته ولا لقيام صفته بذاته بل الكل قديم بلا علة . واما الجسم فانما لم يجز ان
يكون هو الاول لانه حادث من حيث انه لا يخلو عن الحوادث ومن لم يثبت له
حدوث الجسم يلزمه ان يجوز ان تكون العلة الاولى جسما كما سنلزمه عليكم من
بعد

[Page 331]
[43] قلت والتركيب ليس هو مثل الوجود لان التركيب هو مثل
التحريك اعنى صفة انفعالية زائدة على ذات الاشياء التى قبلت
التركيب والوجود هو صفة هى الذات بعينها ومن قال غير هذا
فقد اخطأ وايضا المركب ليس ينقسم الى مركب من ذاته ومركب
من غيره فيلزم ان ينتهى الامر الى مركب قديم كما ينتهى الامر
فى الموجودات الى موجود قديم وقد تكلمنا فى هذه المسئلة فى غير
ما موضع وايضا اذا كان الامر كما قلنا من ان التركيب امر زائد
على الوجود فلقائل ان يقول ان كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد
متحرك من ذاته وان وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من
ذاته لان وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة الى الفعل وكذلك الامر
فى الحركة والمتحرك وليس كذلك الوجود لانه ليس صفة زائدة على
الذات فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا موجودا
بالفعل فهو موجود بذاته والمتحرك وجوده انما هو مع القوة المحركة
فلذلك احتاج كل متحرك الى محرك . [44] والفصل فى هذه المسئلة ان
المركب لا يخلو ان يكون كل واحد من جزئيه او اجزائه التى

[Page 332] تركب منها شرطا فى وجود صاحبه بجهتين مختلفتين كالحال فى
المركبات من مواد وصور عند المشائين أو لا يكون واحد منهما
شرطا فى وجود صاحبه أو يكون احدهما شرطا فى وجود الثانى والثانى
ليس شرطا فى وجود الاول . [45] فاما القسم الاول فليس يمكن ان يكون
قديما وذلك ان التركيب نفسه هو شرط فى وجود الاجزاء فليس
يمكن ان تكون الاجزاء هى علة التركيب ولا التركيب علة نفسه
الا لو كان الشىء علة نفسه ولذلك امثال هذه المركبات هى كائنة
فاسدة ولا بد لها من فاعل يخرجها من العدم الى الوجود . [46] واما القسم
الثانى اعنى ان لم يكن ولا واحد من الجزءين شرطا فى وجود
صاحبه فان امثال هذه اذا لم يكن فى طباع أحدهما أن يلازم الآخر
فانها ليست تتركب الا بمركب خارج عنها اذ كان التركيب ليس
من طباعها الذى به تتقوم ذاتها او يتبع ذاتها واما ان كانت طباعها
تقتضى التركيب وهما فى أنفسهما قديمان فواجب ان يكون المركب
منهما قديما لكن لا بد له من علة تفيده الوحدانية لانه لا يمكن ان

[Page 333] يوجد شىء قديم الوحدانية له بالعرض . [47] واما ان كان أحدهما شرطا فى
وجود الآخر والآخر ليس شرطا فيه كالحال فى الصفة والموصوف
الغير جوهرية فان كان الموصوف قديما ومن شأنه ألا تفارقه
الصفة فالمركب قديم واذا كان هذا هكذا فليس يصح ان يجوز
مجوز وجود مركب قديم ان يتبين على طريق الاشعرية ان كل جسم
محدث لانه ان وجد مركب قديم وجدت اعراض قديمة احدها
التركيب لان أصل ما يبنون عليه وجوب حدوث الاعراض انه
لا تكون الاجزاء التى تركب منها الجسم عندهم الا بعد افتراق
فاذا جوزوا مركبا قديما أمكن أن يوجد اجتماع لم يتقدمه افتراق
وحركة لم يتقدمها سكون فاذا جاز هذا أمكن أَن يوجد جسم ذو
أعراض قديمة ولم يصح لهم أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث . [48] وايضا
قد قيل ان كل مركب انما يكون واحدا من قبل وحدة موجودة
فيه وتلك الوحدة انما توجد فيه من قبل شىء هو واحد بذاته واذا
كان ذلك كذلك فالواحد بما هو واحد متقدم على كل مركب وهذا
الفاعل الواحد ان كان أزليا ففعله الذى هو افادة جميع الموجودات
الوحدات التى بها صارت موجودة واحدة هو فعل دائم أزلى لا فى
وقت دون وقت فان الفاعل الذى يتعلق فعله بالمفعول فى حين

[Page 334] خروجه من القوة الى الفعل هو فاعل محدث ضرورة ومفعوله محدث
ضرورة واما الفاعل الاول ففيه تعلق بالمفعول على الدوام والمفعول
تشوبه القوة على الدوام فعلى هذا ينبغى أن يفهم الامر فى الاول
سبحانه مع جميع الموجودات . [49] وهذه الاشياء اذ لا يمكن أن تتبين
فى هذا الموضع فلنضرب عنها اذ كان الغرض انما هو أن نبين ان
ما يحتوى عليه هذا الكتاب من الاقاويل هى أقاويل غير برهانية
وأكثرها سفسطانية وأعلى مراتبها أن تكون جدلية فان الاقاويل
البرهانية قليلة جدا وهى من الاقاويل بمنزلة الذهب الابريز من سائر
المعادن والدر الخالص من سائر الجواهر فلنرجع الى ما كنا فيه
[50] قال ابو حامد وكل مسالكهم فى هذه المسئلة تخييلات
ثم انهم لا يقدرون على رد جميع ما يثبتونه الى نفس الذات فانهم اثبتوا كونه عالما
ويلزمهم ان يكون ذلك زائدا على مجرد الوجود فيقال لهم أتسلمون ان الاول يعلم غير
ذاته ومنهم من سلم ذلك ومنهم من قال لا يعلم الا ذاته
فاما الاول فهو الذى اختاره ابن سينا فانه يزعم انه يعلم الاشياء كلها بنوع
كلى لا يدخل تحت الزمان ولا يعلم الجزئيات التى يوجب تجدد الاحاطة بها تغيرا فى ذات
العالم . فنقول علم الاول بوجود كل الانواع والاجناس التى لا نهاية لها عين علمه بنفسه أو
غيره فان قلتم انه غيره فقد أثبتم كثرة ونقضتم القاعدة وان قلتم انه عينه لم تتميزوا عن من
يدعى ان علم الانسان بغيره عين علمه بنفسه وعين ذاته ومن قال ذلك سفه فى عقله .
وقيل حد الشىء الواحد ان يستحيل فى الوهم الجمع فيه بين النفى والاثبات فالعلم بالشىء
الواحد لما كان شيئًا واحدا استحال ان يتوهم فى حالة واحدة موجودا ومعدوما ولما لم
يستحل فى الوهم ان يقدر علم الانسان بنفسه دون علمه بغيره قيل ان علمه بغيره غير علمه
بنفسه اذ لو كان هو هو لكان نفيه نفيا له واثباته اثباتا له اذ يستحيل ان يكون زيد
موجودا وزيد معدوما اعنى هو بعينه فى حالة واحدة ولا يستحيل مثل ذلك فى العلم بالغير
مع العلم بنفسه وكذا فى علم الاول بذاته مع علمه بغيره اذ يمكن ان يتوهم وجود احدهما
دون الآخر فهما اذا شيئان ولا يمكن ان يتوهم وجود ذاته دون وجود ذاته فلو كان
الكل كذلك لكان هذا التوهم محالا وكل من اعترف من الفلاسفة بان الاول يعرف
غير ذاته فقد اثبت كثرة لا محالة

[Page 335]
[51] قلت حاصل هذا القول فى الاعتراض على من قال ان الاول يعقل
ذاته ويعقل غيره أن علم العالم بذاته غير علمه بغيره وهذا تمويه فان
هذا يفهم منه معنيان أحدهما ان يكون علم زيد بنفسه الشخصية
هو علمه بغيره فهذا لا يصح البتة والمعنى الثانى ان يكون علم
الانسان بغيره التى هى الموجودات هو علمه بذاته وهذا صحيح

[Page 336] وبيان ذلك انه ليست ذاته اكثر من علمه بالموجودات فان كان
الانسان كسائر الاشياء انما يعلم ماهيته التى تخصه وكانت ماهيته
هى علم الاشياء فعلم الانسان ضرورة بنفسه هو علمه بسائر الاشياء
لانه ان كان غيرا فذاته غير علم الاشياء . وذلك بين فى الصانع فان
ذاته التى بها يسمى صانعا ليست شيئا اكثر من علمه بالمصنوعات .
[52] وأما قوله انه لو كان علمه بنفسه هو علمه بغيره لكان نفيه نفيا له
واثباته اثباتا له فانه يريد انه لو كان علم الانسان بنفسه هو علمه
بغيره لكان اذا لم يعلم الغير لم يعلم ذاته أعنى اذا جهل الغير جهل ذاته
واذا علم الغير علم ذاته فانه قول صادق من جهة كاذب من جهة لان
ماهية الانسان هو العلم والعلم هو المعلوم من جهة وهو غيره من
جهة اخرى فاذا جهل معلوما ما فقد جهل جزءًا من ذاته واذا جهل
جميع المعلومات فقد جهل ذاته فنفى هذا العلم عن الانسان هو نفى
علم الانسان بنفسه لانه اذا انتفى عن العالم المعلوم من جهة ما المعلوم
والعلم شىء واحد انتفى علم الانسان بنفسه وأما المعلوم من جهة ما
هو غير العلم فانه غير الانسان وليس يوجب انتفاء هذا العلم عن
الانسان انتفاء علم الانسان بنفسه وكذلك الحال فى الاشخاص فانه
ليس علم زيد بعمرو هو نفس زيد ولذلك قد يعلم زيد ذاته مع جهله
بعمرو

[Page 337] [53] قال أبو حامد فان قيل هو لا يعلم الغير بالقصد الاول بل يعلم ذاته مبدأ للكل فيلزمه
العلم بالكل بالقصد الثانى اذ لا يمكن ان يعلم ذاته الا مبدأ فانه حقيقة ذاته ولا يمكن
ان يعلم ذاته مبدأ لغيره الا ويدخل الغير فى علمه بطريق التضمن واللزوم ولا يبعد ان
يكون لذاته لوازم وذلك لا يوجب كثرة فى ماهية الذات وانما يمتنع ان يكون فى نفس
الذات كثرة
والجواب من وجوه
الاول ان قولكم انه يعلم ذاته مبدأ تحكم بل ينبغى ان يعلم وجود ذاته فقط فاما العلم
بكونه مبدأ فزائد على العلم بالوجود لان المبدئية اضافة الى الذات ويجوز ان يعلم الذات
ولا يعلم اضافته ولو لم تكن المبدئية اضافة لتكثر ذاته وكان له وجود ومبدئية وهما
شيئان وكما يجوز ان يعلم الانسان ذاته ولا يعلم كونه معلولا لان كونه معلولا اضافة
له الى علته فكذلك كونه علة اضافة له الى معلوله فالالزام قائم فى مجرد قولهم انه يعلم
كونه مبدأ اذ فيه علم الذات والمبدئية وهو الاضافة والاضافة غير الذات فالعلم بالاضافة غير العلم بالذات بالدليل الذى ذكرناه وهو انه يمكن ان يتوهم العلم بالذات دون
العلم بالمبدئية ولا يمكن ان يتوهم العلم بالذات دون العلم بالذات لان الذات واحدة
[54] قلت كلام الفلاسفة مع هذا الرجل فى هذه المسئلة يبتنى على

[Page 338] اصول لهم يجب أن يتقدم فيتكلم فيها فانهم اذا سلم لهم ما وضعوه
منها وزعموا ان البرهان قادهم اليه لم يلزمهم شىء من هذه الالزامات
كلها . [55] وذلك ان القوم يضعون ان الموجود الذى ليس بجسم هو فى
ذاته علم فقط وذلك أنهم يرون ان الصور انما كانت غير عالمة لانها
فى مواد فاذا وجد شىء ليس قائما فى مادة علم انه عالم وعلم ذلك
بدليل انهم وجدوا ان الصور المادية اذا تجردت فى النفس من مادتها
صارت علما وعقلا وان العقل ليس شيئا أكثر من الصور المتجردة
من المادة واذا كان ذلك كذلك فيما كان ليس مجردا فى اصل طبيعته
فالتى هى مجردة فى أصل طبيعتها أحرى ان تكون علما وعقلا . [56] ولما
كانت معقولات الاشياء هى حقائق الاشياء وكان العقل ليس شيئا
أكثر من ادراك المعقولات كان العقل منا هو المعقول بعينه من
جهة ما هو معقول ولم يكن هنالك مغايرة بين العقل والمعقول الا
من جهة أن المعقولات هى معقولات أشياء ليست فى طبيعتها عقلا
وانما تصير عقلا بتجريد العقل صورها من المواد ومن قبل هذا لم
يكن العقل منا هو المعقول من جميع الجهات فان الفى شىء فى غير
مادة فالعقل منه هو المعقول من جميع الجهات وهو عقل المعقولات

[Page 339] [57] ولا بد ولان العقل ليس هو شيئا اكثر من ادراك نظام الاشياء
الموجودة وترتيبها ولكنه واجب فيما هو عقل مفارق الا يستند فى
عقل الاشياء الموجودة وترتيبها الى الاشياء الموجودة ويتأخر معقوله
عنها لان كل عقل هو بهذه الصفة فهو تابع للنظام الموجود فى
الموجودات ومستكمل به وهو ضرورة يقصر فيما يعقله من الاشياء
ولذلك كان العقل منا مقصرا عما تقتضيه طبائع الموجودات من
الترتيب والنظام الموجود فيها فان كانت طبائع الموجودات جارية
على حكم العقل وكان هذا العقل منا مقصرا عن ادراك طبائع
الموجودات فواجب ان يكون ههنا علم بنظام وترتيب هو السبب
فى النظام والترتيب والحكمة الموجودة فى موجود موجود وواجب
أن يكون هذا العقل النظام الذى منه هو السبب فى هذا النظام
الذى فى الموجودات وان يكون ادراكه لا يتصف بالكلية فضلا
عن الجزئية لان الكليات معقولات تابعة للموجودات ومتأخرة
عنها وذلك العقل الموجودات تابعة له فهو عاقل ضرورة للموجودات
بعقله من ذاته النظام والترتيب الموجود فى الموجودات لا بعقله شيئا

[Page 340] خارجاً عن ذاته لانه كان يكون معلولا عن الموجود الذى يعقله
لا علة له وكان يكون مقصرا . [58] واذا فهمت هذا من مذهب القوم
فهمت ان معرفة الاشياء بعلم كلى هو علم ناقص لانه علم لها بالقوة
وان العقل المفارق لا يعقل الا ذاته وانه بعقل ذاته يعقل جميع
الموجودات اذ كان عقله ليس شيئا اكثر من النظام والترتيب الذى
فى جميع الموجودات وذلك النظام والترتيب هو الذى تتقبله القوى
الفاعلة ذوات النظام والترتيب الموجودة فى جميع الموجودات وهى
التى تسميها الفلاسفة الطبائع فانه يظهر ان كل موجود ففيه افعال
جارية على نظام العقل وترتيبه وليس يمكن ان يكون ذلك بالعرض
ولا يمكن ان يكون من قبل عقل شبيه بالعقل الذى فينا بل من
قبل عقل أعلى من جميع الموجودات وليس هو لا كليا ولا جزئيا .
[59] فاذا فهمت هذا من مذهب القوم انحلت لك جميع الشكوك التى
أوردها هذا الرجل عليهم فى هذا الموضع واذا أنزلت أن العقل الذى
هنالك شبيه بعقل الانسان لحقت تلك الشكوك المذكورة فان

[Page 341] العقل الذى فينا هو الذى يلحقه التعدد والكثرة واما ذلك العقل
فلا يلحقه شىء من ذلك وذلك انه برىء عن الكثرة اللاحقة لهذه
المعقولات وليس يتصور فيه مغايرة بين المدرك والمدرك وأما العقل
الذى فينا فادراكه ذات الشىء غير ادراكه انه مبدأ للشىء وكذلك
ادراكه غيره غير ادراكه ذاته بوجه ما . [60] ولكن فيه شبه من ذلك
العقل وذلك العقل هو الذى افاده ذلك الشبه وذلك ان المعقولات
التى فى ذلك العقل برية من النقائص التى لحقتها فى هذا العقل منا
مثال ذلك ان العقل انما صار هو المعقول من جهة ما هو معقول لان
ههنا عقلا هو المعقول من جميع الجهات وذلك ان كل ما وجدت فيه
صفة ناقصة فهى موجودة له ضرورة من قبل موجود فيه تلك الصفة
كاملة مثال ذلك ان ما وجدت فيه حرارة ناقصة فهى موجودة له
من قبل شىء هو حار بحرارة كاملة وكذلك ما وجد حيا بحياة ناقصة
فهى موجودة له من قبل حى بحياة كاملة وكذلك ما وجد عاقلا
بعقل ناقص فهو موجود له من قبل شىء هو عقل بعقل كامل وكذلك
كل ما وجد له فعل عقلى كامل فهو موجود له من قبل عقل كامل
فان كانت افعال جميع الموجودات افعالا عقلية كاملة حكمية

[Page 342] وليست ذوات عقول فههنا عقل من قبله صارت افعال الموجودات
افعالا عقلية . [61] ومن لم يفهم هذا المعنى من ضعفاء الحكماء هو الذى
يطلب هل المبدأ الاول يعقل ذاته أو يعقل شيئاً خارجاً عن ذاته
فان وضع انه يعقل شيئاً خارجاً عن ذاته لزمه ان يستكمل
بغيره وان وضع انه لا يعقل شيئاً خارجاً عن ذاته لزم ان يكون
جاهلا بالموجودات والعجب من هؤلاء القوم انهم نزهوا الصفات
الموجودة فى البارى سبحانه وفى المخلوقات عن النقائص التى لحقتها
فى المخلوقاث وجعلوا العقل الذى فينا شبيها بالعقل الذى فيه وهو
احق شىء بالتنزيه . [62] وهذا كاف فى هذا الباب ولكن على كل حال فلنذكر
باقى كلام هذا الرجل فى هذا الفصل وننبه على الغلط اللاحق فيه
[63] قال ابو حامد هو ان قولهم ان الكل معلوم له بالقصد الثانى كلام غير
معقول فانه مهما كان علمه محيطا بغيره كما يحيط بذاته كان له معلومان متغايران وكان له علم
بهما وتعدد المعلوم وتغايره يوجب تعدد العلم اذ يقبل أحد المعلومين الفصل عن الآخر فى الوهم
فلا يكون العلم باحد هما عين العلم بالآخر اذ لو كان لتعذر تقدير وجود احدهما دون
الآخر وليس ثم آخر مهما كان الكل واحدا فهذا لا يختلف بان يعبّر عنه بالقصد الثانى . ثم ليت
شعرى كيف يقدم على نفى الكثرة من يقول انه لا يغرب عن علمه مثقال ذرة فى السماوات
ولا فى الارض الا انه يعرف الكل بنوع كلى والكليات المعلومة له لا تتناهى فيكون العلم
المتعلق بها مع كثرتها وتغايرها واحدا من كل وجه .

[Page 343] [64] قلت تحصيل الكلام ههنا فى سؤالين . أحدهما كيف صار علمه
بذاته هو علمه بغيره وقد تقدم الجواب على ذلك وانه يوجد فى عقل
الانسان من هذا معنى ما هو الذى اوقفنا على وجوب وجوده فى
العقل الاول
[65] والسؤال الثانى هو هل يتكثر علمه بتكثر المعلومات فانه
يحيط بجميع المعلومات المتناهية وغير المتناهية على الوجه الذى يمكن
ان يحيط علمه بغير المتناهى . والجواب عن هذا السؤال انه ليس يمتنع
فى العلم الاول ان يوجد فيه مع الاتحاد تفصيل بالمعلومات فانه لم
يمتنع عند الفلاسفة ان يكون يعلم غيره وذاته علما مفترقا من جهة
انه يكون هنالك علوم كثيرة وانما امتنع عند هم ان العقل
مستكمل بالمعقول ومعلول عنه فلو عقل غيره على جهة ما نعقله نحن
لكان عقله معلولا عن الموجود المعقول لا علة له وقد قام البرهان
على انه علة للموجود . [66] والكثرة التى نفى الفلاسفة هو ان يكون
عالما لا بنفسه بل بعلم زائد على ذاته وليس يلزم من نفى هذه
الكثرة عنه سبحانه نفى كثرة المعلومات الا على طريقة الجدل فنقله

[Page 344] السؤال من الكثرة التى فى العلم عندهم الى الكثرة التى فى
المعلومات نفسها فعل من افعال السفسطانيين لانه اوهم انهم كما
ينفون تلك الكثرة التى هى من حامل ومحمول كذلك ينفون
الكثرة التى هى فى العلم من قبل المعلومات . [67] لكن الحق فى ذلك
انه ليس تعدد المعلومات فى العلم الازلى كتعددها فى العلم الانسانى
وذلك انه يلحقها فى العلم الانسانى تعدد من وجهين أحدهما من جهة
الخيالات وهذا يشبه التعدد المكانى والتعدد الثانى تعددها فى أنفسها
فى العقل منا أعنى التعدد الذى يلحق الجنس الاول كانك قلت
الموجود بانقسامه الى جميع الانواع الداخلة تحته فان العقل منا هو
واحد من جهة الامر الكلى المحيط بجميع الانواع الموجودة فى
العالم وهو يتعدد بتعدد الانواع . [68] وهو بين انه اذا نزهنا العلم الازلى
عن معنى الكلى انه يرتفع هذا التعدد ويبقى هنالك تعدد ليس شأن
العقل منا ادراكه الا لو كان العلم منا هو هو بعينه ذلك العلم
الازلى وذلك مستحيل ولذلك أصدق ما قال القوم ان للعقول حدا
تقف عنده لا تتعداه وهو العجز عن التكليف الذى فى ذلك العلم .

[Page 345] [69] وايضاً فان العقل منا هو علم للموجودات بالقوة لا علم بالفعل
والعلم بالقوة ناقص عن العلم بالفعل وكل ما كان العلم منا اكثر كلية
كان ادخل فى باب العلم بالقوة وادخل فى باب نقصان العلم وليس
يصح على العلم الازلى ان يكون ناقصا بوجه من الوجوه ولا يوجد
فيه علم هو علم بالقوة لان العلم بالقوة هو علم فى هيولى فلذلك
يرى القوم ان العلم الاول يجب ان يكون علما بالفعل والا يكون
هنالك كلية أصلا ولا كثرة متولدة عن قوة مثل كثرة الانواع
المتولدة عن الجنس . وانما امتنع عندنا ادراك ما لا نهاية له بالفعل لان
المعلومات عندنا منفصلة بعضها عن بعض فاما ان وجد ههنا علم تتحد
فيه المعلومات فالمتناهية وغير المتناهية فى حقه سواء . [70] هذا كله مما
يزعم القوم انه قد قام البرهان عليه عندهم واذا لم نفهم نحن من
الكثرة فى العلم الا هذه الكثرة وهى منتفية عنه فعلمه واحد وبالفعل
سبحانه لكن تكييف هذا المعنى وتصوره بالحقيقة ممتنع على العقل
الانسانى لانه لو ادرك الانسان هذا المعنى لكان عقله هو عقل البارى
سبحانه وذلك مستحيل . [71] ولما كان العلم بالشخص عندنا هو العلم بالفعل
علمنا ان علمه هو أشبه بالعلم الشخصى منه بالعلم الكلى وان كان لا
كليا ولا شخصيا . ومن فهم هذا فهم معنى قوله سبحانه لا يعزب عنه

[Page 346] مثقال ذرة فى السموات ولا فى الارض وغير ذلك من الآيات
الواردة فى هذا المعنى
[72] قال ابو حامد وقد خالف ابن سينا فى هذا غيره من الفلاسفة الذين ذهبوا الى انه لا يعلم
الا نفسه احترازا من لزوم الكثرة فكيف شاركهم فى نفى الكثرة ثم باينهم فى اثبات العلم
بالغير ولما استحيا ان يقول ان الله لا يعلم شيئا أصلًا فى الدنيا والآخرة وانما يعلم نفسه فقط
وأما غيره فيعرفه ويعرف أَيضاً نفسه وغيره فىكون غيره أشرف منه فى العلم فترك هذا
حياء من هذا المذهب واستنكافا منه ثم لا يستحى من الاصرار على نفى الكثرة من كل
وجه وزعم ان علمه بنفسه وبغيره بل بجميع الاشياء هو ذاته من غير مزيد وهو عين
التناقض الذى استحيا منه سائر الفلاسفة لظهور التناقض فيه فى أول النظر فاذا ليس ينفكّ
فريق منهم عن خزى فى مذهب وكذا يفعل الله عز وجل بمن ضل عن سبيله وظن ان الامور
الالهية يستولى على كنهها بنظره وتخييله
[73] قلت الجواب عن هذا كله بين مما قلناه وذلك ان القوم انما نفوا
ان يعرف غيره من الجهة التى بها ذلك الغير أخس وجودا لئلا يرجع
المعلول علة والاشرف وجودا أخس وجودا لان العلم هو المعلوم ولم
ينفوه من جهة انه يعلم ذلك الغير بعلم أشرف وجودا من العلم الذى
نعلم نحن به الغير بل واجب ان يعلمه من هذه الجهة لانها الجهة التى

[Page 347] من قبلها وجود الغير عنه . [74] واما النظر فى جواز كثرة المعلومات فى
العلم الازلى فمسألة ثانية وقد ذكرناها ولم يفر القوم من أجل هذه
المسئلة الى القول بانه لا يعرف الا ذاته كما توهم هذا الرجل بل
من اجل ما قلنا وهو بالجملة لئلا يشبه علمه علمنا الذى فى غاية
المخالفة له . [75] فابن سينا انما رام ان يجمع بين القول بانه لا يعلم الا ذاته
ويعلم سائر الموجودات بعلم أشرف مما يعلمها به الانسان اذ كان
ذلك العلم هو ذاته وذلك بين من قوله ان علمه بنفسه وبغيره بل
بجميع الاشياء هو ذاته وان كان لم يشرح هذا المعنى كما شرحناه
ولذلك ليس قوله هذا هو عين التناقض ولا استحيا منه سائر
الفلاسفة بل هو قول جميعها أو اللازم عن قول جميعهم واذا تقرر
هذا لك فقد بان لك قبح ما جاء به هذا الرجل من الحمل على
الحكماء مع ما يظهر من موافقة الرجل لهم فى اكثر آرائهم
[76] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل اذا ثبت انه يعرف نفسه مبدأ على سبيل الاضافة فالعلم بالمضافين واحد اذ من
عرف الابن عرفه بمعرفة واحدة وفيه العلم بالاب وبالابوة والبنوة ضمنا فيكثر المعلوم ويتحد
العلم فكذلك هو يعلم ذاته مبدأ لغيره فيتحد العلم وان تعدد المعلوم . ثم اذا عقل هذا فى
معلول واحد واضافته اليه ولم يوجب ذلك كثرة فالزيادة فيما لا يوجب جنسه كثرة لا
توجب كثرة . وكذلك من يعلم الشىء ويعلم علمه بالشىء فانه يعلمه بذلك العلم فكل
علم هو علم بنفسه وبمعلومه فيتعدد المعلوم ويتحد العلم . ويدل عليه ايضاً انكم ترون ان
معلومات الله تعالى لا نهاية لها وعلمه واحد ولا تصفونه بعلوم لا نهاية لاعدادها فان كان
تعدد المعلوم يوجب تعدد ذات العلم فليكن فى ذات الله تعالى علوم لا نهاية لاعدادها
وهذا محال

[Page 348]
[77] ثم قال ابو حامد مجيبا لهم
قلنا مهما كان العلم واحدا من كل وجه لم يتصور تعلقهُ بمعلومين بل يقتضى ذلك كثرة
ما على ما هو وضع الفلاسفة واصطلاحهم فى تقدير الكثرة حتى بالغوا فقالوا لو كان للاول
ماهية موصوفة بالوجود لكان ذلك كثرة . فلم يعقلوا شيئا واحدا لهُ حقيقة ثم يوصف
بالوجود بل زعموا ان الوجود مضاف الى الحقيقة وهو غيره فيقتضى كثرة فعلى هذا الوجه لا
يمكن تقدير علم يتعلق بمعلومات كثيرة الا ويلزم فيه نوع كثرة اجلى وابلغ من اللازم فى
تقدير وجود مضاف الى ماهية . واما العلم بالابن وكذا سائر المضافات ففيه كثرة اذ
لا بد من العلم بذات الابن وذات الاب وهما علمان وعلم ثالث وهو الاضافة نعم هذا الثالث
مضمن بالعلمين السابقين اذ هما من شرطه وضرورته والا فما لم يعلم المضاف أولًا لا تعلم
الاضافة فهى علوم متعددة بعضها مشروطة فى البعض فكذلك اذا علم الاول ذاته مضافا الى
سائر الاجناس والانواع بكونه مبدأ لها افتقر الى ان يعلم ذاته وآحاد الاجناس وأن
يعلم اضافة نفسه بالمبدئية اليها والا لم يعقل كون الاضافة معلومة له . واما قولهم ان من علم
شيئا علم كونه عالما بذلك العلم بعينه فيكون المعلوم متعددا والعلم واحدا فليس كذلك بل
يعلم كونه عالما بعلم آخر وينتهى الى علم يغفل عنه ولا يعلمه ولا نقول بالتسلسل الى غير
نهاية بل القطع على علم متعلق بمعلومه وهو غافل عن وجود العلم لا عن وجود المعلوم كالذى
يعلم السواد وهو فى حال علمه مستغرق النفس بمعلومه الذى هو سواد وغافل عن علمه
بالسواد وليس ملتفتا اليه فان التفت اليه افتقر الى علم آخر الى ان ينقطع التفاته . واما
قولهم ان هذا ينقلب عليكم فى معلومات الله فانها غير متناهية والعلم عندكم واحد فنقول
نحن لم نخض فى هذا الكتاب خوض الممهدين بل خوض الهادمين المعترضين ولذلك سمينا
الكتاب تهافت الفلاسفة لا تمهيد الحق فليس يلزمنا هذا الجواب
فان قيل انا لا نلزمكم مذهب فرقة معينة من الفرق فاما ما ينقلب على كافة الخلق
وتستوى الافهام فى اشكاله فلا يجوز لكم ايراده وهذا الاشكال متقلب عليكم ولا محيص
لاحد من الفرق عنه
قلنا لا بل المقصود تعجيزكم عن دعواكم معرفة حقائق الامور بالبراهين القطعية وتشكيككم
فى دعاويكم . واذا ظهر عجزكم ففى الناس من يذهب الى ان حقائق الامور الالهية لا تنال
بنظر العقل بل ليس فى قوّة البشر الاطلاع عليه ولذلك قال صاحب الشرع تفكروا فى
خلق الله ولا تفكّروا فى ذات الله فما انكاركم على هذه الفرقة المعتقدة صدق الرسول
بدليل المعجزة المقتصرة من قضية العقل على اثبات المرسل المتحرزة عن النظر فى الصفات
بنظر العقل المتبعة صاحب الشرع فيما أَتى به من صفات الله تعالى المقتفية اثره فى اطلاق
العالم والمريد والقادر والحى المنتهية عن اطلاق ما لم يؤذن فيه المعترفة بالعجز عن درك
العقل . وانما انكاركم عليهم بنسبتهم الى الجهل بمسالك البراهين ووجه ترتيب المقدمات
على اشكال المقاييس ودعواكم أنا قد عرفنا ذلك بمسالك عقلية وقد بان عجزكم وتهافت
مسالككم وافتضاحكم فى دعوى معرفتكم وهو المقصود من هذا البيان فاين من يدعى ان براهين
الالهيات قاطعة كبراهين الهندسيات

[Page 349]
[78] قلت هذا كله كلام طويل غايته خطبى او جدلى

[Page 350] [79] وتحصيل ما حكاه فى نصرة الفلاسفة فى كون علم الله متحدا
حجتان نتيجتهما انه يظهر ان فى المعقولات منا احوالا لا تتكثر
ذوات المعقولات بكثرتها كما يظهر فى الموجودات أحوال لا تتكثر
الذوات بكثرتها مثل ان الشىء واحد وموجود وضرورى او ممكن
وان هذا اذا كان موجودا فهو دليل على وجود علم متحد محيط
بعلوم كثيرة بل غير متناهية
[80] فالحجة الاولى التى استعمل فى هذا الباب ما يظهر من الامور
الذهنية التى تلحق المعقول فى النفس وهو فيه شبيه بالاحوال فى
الموجودات عند اعتبار الاضافات الموجودة فيها والاسلاب وذلك
ان الاضافة اللاحقة للمعقولات يظهر من أمرها انها حال لا تتكثر
المعقولات بها ويحتج على ذلك بان الاضافة اللاحقة للامور المضافة
هى من هذا الباب .فهو يعاند هذه الحجة بان الاضافة والمضافين
علوم كثيرة وان علمنا بالابوة مثلا غير علمنا بالاب والابن . والحق
ان الاضافة صفة زائدة على المضافين من خارج النفس فى الموجودات
واما الاضافة التى فى المعقولات فهى ان تكون حالا أولى منها من

[Page 351] ان تكون صفة زائدة على المضافين وهذا كله تشبيه العلم الانسانى
بالعلم الازلى وهو عين الخطأ ولذلك كل من اثر شكًّا بالعلم الازلى
ورام ان يحله بما يظهر فى العلم الانسانى فقد نقل الحكم من الشاهد
الى الغائب فى موجودين فى غاية التباعد لا فى موجودين مشتركين
فى النوع او فى الجنس بل مختلفين غاية الاختلاف
[81] واما الحجة الثانية فهى انا نعلم الشىء بعلم واحد ونعلم انا نعلم
بعلم هو حال فى العلم الاول لا صفة زائدة عليه والدليل على ذلك
انه يمر الى غير نهاية . واما ما جاوب به من ان هذا العلم هو علم ثان
وانه لا يتسلسل فلا معنى له اذ معروف من امره انه يتسلسل وليس
يلزم من كون العالم عالما بالشىء غافلا عن انه يعلم انه يعلم ان يكون
اذا علم انه يعلم فقد علم علما زائدا على العلم الاول بل العلم الثانى
هو حال من احوال العلم الاول ولذلك لم يمتنع عليه المرور الى غير
نهاية ولو كان علما قائما بذاته زائدا على العلم الاول لم يصح فيه المرور
الى غير نهاية
[82] وأما الحجة التى ألزمت الفلاسفةُ المتكلمين من ان الجميع من

[Page 352] المتكلمين يعترفون ان علوم الله تعالى غير متناهية وانه علم واحد
فهى مقاومة بحسب اعتقاد قول القائل لا مقاومة بحسب الامر فى
نفسه . [83] وهى معاندة لا انفكاك لخصومهم عنها الا بان يضعوا ان
علم البارى تعالى ليس يشبه فى هذاالمعنى علم المخلوق فانه لا أجهل
ممن يعتقد ان علم الله تعالى لا يخالف علم المخلوق الا من باب الكمية
فقط أعنى انه اكثر علوماً فقط . وهذه كلها أقاويل جدلية والذى
يعتمد عليه ان علم الله واحد وانه ليس معلولا عن المعلومات بل
هو علة لها والشىء الذى أسبابه كثيرة هو لعمرى كثير وأما الشىء
الذى معلولاته كثيرة فليس يلزم ان يكون كثيرا بالوجه الذى به
المعلولات كثيرة وعلم الاول لا يشك فى انه انتفت عنه الكثرة
التى فى علم المخلوق كما انتفى عنه التغير بتغير المعلوم والمتكلّمون
يضعون هذا من أحد أصولهم وأما هذه الاقاويل التى قيلت ههنا
فهى كلها اقاويل جدلية
[84] وأما قوله ان قصده ههنا ليس هو معرفة الحق وانما قصده
ابطال أقاويلهم واظهار دعاويهم الباطلة فقصد لا يليق به بل بالذين
فى غاية الشر وكيف لا يكون ذلك كذلك ومعظم ما استفاد هذا

[Page 353] الرجل من النباهة وفاق الناس فيما وضع من الكتب التى وضعت
فيها انما استفادها من كتب الفلاسفة ومن تعليمهم . وهبك اذا
اخطئوا فى شىء فليس من الواجب ان ينكر فضلهم فى النظر وما
راضوا به عقولنا ولو لم يكن لهم الا صناعة المنطق لكان واجبا
عليه وعلى جميع من عرف مقدار هذه الصناعة شكرهم عليها وهو
معترف بهذا المعنى وداع اليه وقد وضع فيها التآليف ويقول انه لا
سبيل الى ان يعلم أحد الحق الا من هذه الصناعة وقد بلغ به الغلو
فيها الى ان استخرجها من كتاب الله تبارك وتعالى أفيجوز لمن
استفاد من كتبهم وتعاليمهم مقدار ما استفاد هو منها حتى فاق أهل
زمانه وعظم فى ملة الاسلام صيته وذكره ان يقول فيهم هذا القول
وان يصرح بذمهم على الاطلاق وذم علومهم . [85] وان وضعنا انهم
يخطئون فى اشياء من العلوم الالهية فانا انما نحتج على خطإِهم من
القوانين التى علمونا اياها فى علومهم المنطقية ونقطع انهم لا يلوموننا
على التوقيف على خطأ ان كان فى آرائهم فان قصدهم انما هو معرفة

[Page 354] الحق ولو لم يكن لهم الا هذا القصد لكان ذلك كافياً فى مدحهم مع
انه لم يقل أحد من الناس فى العلوم الالهية قولا يعتد به وليس يعصم
أحد من الخطأ الا من عصمه الله تعالى بامر الهى خارج عن طبيعة
الانسان وهم الانبياء فلا أدرى ما حمل هذا الرجل على مثل هذه
الاقوال اسأل الله العصمة والمغفرة من الزلل فى القول والعمل
[86] والذى حكاه عن صفة ايمان من اتبع الشرع فى هذه الاشياء
هو الذى يقوله محققوا الفلاسفة لان قول من قال ان علم الله
وصفاته لا تكيف ولا تقاس بصفات المخلوقين حتى يقال انها الذات
أو زائدة على الذات هو قول المحققين من الفلاسفة والمحققين من
غير هم من أهل العلم والله الموفق الهادى
[87] قال ابو حامد فان قيل هذا الاشكال انما لزم على ابن سينا حيث زعم ان الاول يعلم
غيره فاما المحققون من الفلاسفة فقد اتفقوا على انه لا يعلم الا نفسه فيندفع هذا الاشكال
فنقول ناهيكم خزيا بهذا المذهب ولو لا انه فى غاية الركاكة لما استنكف المتأخرون
عن نصرته ونحن ننبه على وجه الخزى فيه فان تفضيل معلولاته عليه اذ الملك والانسان
وكل واحد من العقلاء يعرف نفسه ومبدأه ويعرف غيره . والاول لا يعرف الا نفسه فهو ناقص
بالاضافة الى آحاد الناس فضلا عن الملائكة بل البهيمة مع شعورها بنفسها تعرف امورًا أُخر
سواها . ولا شك فى ان العلم شرف وان عدمه نقصان فاين قولهم انه عاشق ومعشوق لان له
البهاء الاكمل والجمال الاتم وأى جمال لوجود بسيط لا ماهية له ولا حقيقة ولا خبر له

[Page 355] بما يجرى فى العالم ولا بما يلزم ذاته ويصدر منه وأى نقصان فى عالم الله يزيد على هذا .
وليتعجب العاقل من طائفة يتعمقون فى المعقولات بزعمهم ثم ينتهى نظر هم الى ان رب
الارباب ومسبب الاسباب لا علم له اصلا بما يجرى فى العالم وأى فرق بينه وبين الميت الا فى
علمه بنفسه واى كمال فى علمه بنفسه مع جهله بغيره وهذا مذهب تغنى صورته فى الافتضاح
عن الاطناب والايضاح . ثم يقال لهؤلاء لم تتخلصوا من الكثرة مع اقتحام هذه المخازى
فانا نقول علمه بذاته عين ذاته أو غير ذاته فان قلتم انه غيره فقد جاءت الكثرة وان
قلتم انه عينه فما الفصل بينكم وبين القائل ان علم الانسان بذاته عين ذاته وهو حماقة اذ
يعقل وجود ذاته فى حالة هو فيها غافل عن ذاته ثم تزول غفلته ويتنبه لذاته فيكون شعوره
بذاته غير ذاته لا محالة
فان قلتم ان الانسان قد يخلو عن العلم بذاته فيطرا عليه فيكون غيره لا محالة
فنقول الغيرية لا تعرف بالطريان والمقارنة فان عين الشىء لا يجوز ان يطرا على الشىء
وغير الشىء اذا قارن الشىء لم يصر هو هو ولم يخرج عن كونه غيرا فبأن كان الاول لم
يزل عالما بذاته لا يدل على ان علمه بذاته عين بذاته ويتسع الوهم لتقدير الذات ثم طريان
الشعور و لو كان هو الذات بعينه لما تصور هذا التوهم
فان قيل ذاته عقل وعلم فليس له ذات ثم علم قائم به
قلنا الحماقة ظاهرة فى هذا الكلام فان العلم صفة وعرض يستدعى موصوفا وقول القائل
هو فى ذاته عقل وعلم كقوله هو قدرة وارادة وهو قائم بنفسه ولو قيل به فهو كقول
القائل فى سواد وبياض انه قائم بنفسه وفى كمية وتربيع وتثليث انه قائم بنفسه وكذا فى

[Page 356] كل الاعراض وبالطريق التى يستحيل ان تقوم صفات الاجسام بنفسها دون جسم هو غير
الصفات بعين تلك الطريق يعلم ان صفات الاحياء من العلم والحياة والقدرة والارادة
ايضا لا تقوم بنفسها وانما تقوم بذات فالحياة تقوم بالذات فتكون حياته بها وكذلك
سائر الصفات فاذا لم يقنعوا بسلب الاول سائر الصفات ولا بسلبه الحقيقة والماهية حتى سلبوه
ايضًا القيام بنفسه وردوه الى حقائق الاعراض والصفات التى لا قوام لها بنفسها . على انا سنبين
بعد هذا عجزهم عن اقامة الدليل على كونه عالما بنفسه وبغيره فى مسألة مفردة
[88] قلت الكلام فى علم البارى سبحانه بذاته وبغيره مما يحرم على
طريق الجدل فى حال المناظرة فضلا عن ان يثبت فى كتاب فانه لا
تنتهى افهام الجمهور الى مثل هذه الدقائق واذا خيض معهم فى هذا
بطل معنى الالهية عندهم فلذلك كان الخوض فى هذا العلم محرما
عليهم اذ كان المكافى فى سعادتهم ان يفهموا من ذلك ما اطلقته
افهامهم ولذلك لم يقتصر الشرع الذى قصده الاول تعليم الجمهور فى
تفهيم هذه الاشياء فى البارى سبحانه بوجودها فى الانسان كما قال
سبحانه لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا بل

[Page 357] وضطر الى تفهيم معانى فى البارى بتمثيلها بالجوارح الانسانية مثل
قوله سبحانه أو لم يروا انا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم
لها مالكون وقوله خلقت بيدى فهذه المسئلة هى خاصة بالعلماء
الراسخين الذين اطلعهم الله على الحقائق ولذلك لا يجب ان تثبت فى
كتاب الا فى الكتب الموضوعة على الطريق البرهانى وهى التى
شأنها ان تقرأ على ترتيب وبعد تحصيل علوم أخر يضيق على اكثر
الناس النظر فيها على النحو البرهانى اذا كان ذا فطرة فائقة مع قلة
وجود هذه الفطرة فى الناس . [89] فالكلام فى هذا الاشياء مع الجمهور
هو بمنزلة من يسقى السموم ابدان كثير من الحيوانات التى تلك
الاشياء سموم لها فان السموم انما هى امور مضافة فانه قد يكون
سما فى حق حيوان شىء هو غذاء فى حق حيوان آخر وهكذا
الامر فى الاراء مع الانسان أعنى قد يكون رأى هو سم فى حق
نوع من الناس وغذاء فى حق نوع آخر فمن جعل الاراء كلها ملائمة
لكل نوع من انواع الناس بمنزلة من جعل الاشياء كلها اغذية لجميع
الناس ومن منع النظر مستأهله بمنزلة من جعل الاغذية كلها سموما

[Page 358] لجميع الناس وليس الامر كذلك بل فيها ما هو سم لنوع من
الانسان وغذاء لنوع آخر فمن سقى السم من هو فى حقه سم فقد
استحق القود وان كان فى حق غيره غذاء ومن منع السم ممن هو
فى حقه غذاء حتى مات واجب عليه القود أيضاً فعلى هذا ينبغى ان
يفهم الامر فى هذا . [90] ولكن اذاتعدى الشرير الجاهل فسقى السم من
هو فى حقه سم على انه غذاء فقد ينبغى على الطبيب ان يجتهد بصناعته
فى شفائه ولذلك استجزنا نحن التكلم فى هذه المسئلة فى مثل هذا
الكتاب والا فما كنا نرى ان ذلك يجوز لنا بل هو من أكبر المعاصى
أو من أكبر الفساد فى الارض وعقاب المفسدين معلوم بالشريعة واذا
لم يكن بد من الكلام فى هذه المسئلة فلنقل فى ذلك بحسب ما
تبلغه قوة الكلام فى هذا الموضع عند من لم يتقدم فيرتاض بالاشياء
التى يجب بها الارتياض قبل النظر فى هذه المسئلة
[91] فنقول ان القوم لما نظروا الى جميع المدركات وجدوا انها صنفان
صنف مدرك بالحواس وهى اجسام قائمة بذاتها مشار اليها وأعراض
مشار اليها فى تلك الاجسام وصف مدرك بالعقل وهى ماهيات تلك
الامور المحسوسة وطبائعها أعنى الجواهر والاعراض . [92] ووجدوا التى

[Page 359] لها ماهيات بالحقيقة فيها هى الاجسام وعنى بالماهيات للاجسام
صفات موجودة فيها بها صارت تلك الاجسام موجودة بالفعل
ومخصوصة بصدور فعل من الافعال يصدر عنها وخالفت هذه
الصفات الاعراض عندهم بان وجدوا الاعراض أمورا زائدة على
الذات المشار اليها القائمة بنفسها محتاجة الى الذوات القائمة بها والذوات
غير محتاجة فى قوامها اليها أعنى الى الاعراض . [93] ووجدوا هذه
الصفات التى ليست باعراض غير زائدة على الذات بل هى نفس
حقيقة الذات المشار اليها القائمة بنفسها حتى متى توهم ارتفاع تلك
الصفات ارتفعت الذات ووقفوا على هذه الصفات فى الموجودات
المشار اليها اعنى الاجسام من قبل افعال جسم جسم من تلك الاجسام
الخاصة بها مثال ذلك انهم ادركوا الصفات التى بها صار النبات
نباتا من قبل فعله الخاص به والصفات التى بها صار الحيوان حيوانا
من قبل افعال الحيوان الخاصة به وكذلك ادركوا ان فى الجمادات
صورا بهذه الصفة تخصها من قبل افعال الجمادات الخاصة بها . [94] ثم لما
نظروا فى هذه الصفات علموا انها فى محل من تلك الذات وتميز لهم
ذلك المحل بانقلاب الموجودات المشار اليها من نوع الى نوع ومن
جنس الى جنس بانقلاب تلك الصفات وتغيرها مثال ذلك انقلاب

[Page 360] طبيعة النار الى الهواء بزوال الصفة التى عنها يصدر فعل النار وهى
التى بها سميت النار نارا الى الصفة التى عنها يصدر فعل الهواء الخاص
به وهى التى سمى بها الهواء هواء واستدلوا ايضاً على وجود هذا
المحل بكون الذات المشار اليها تنفعل عن غيرها كما استدلوا بالفعل
على الصورة وذلك انه لم يمكن ان يتوهم ان الفعل والانفعال هما عن
شىء هو طبيعة واحدة فاعتقدوا من أجل هذا ان جميع الاجسام
الفاعلة المنفعلة مركبة من طبيعتين فاعلة ومنفعلة فسموا الفاعلة
صورة وماهية وجوهرا وسموا المنفعلة موضوعا وعنصرا ومادة
[95] وظهر لهم من هذا ان هذه الاجسام المحسوسة ليست اجساما بسيطة
على ما يظهر للحس ولا مركبة من اجسام بسيطة اذ كان كل جسم له
فعل وانفعال ورأوا ان الذى يدلك الحس من هذه هى الاجسام
المشار اليها المركبة من هذين الشيئين اللذين سموا احدهما صورة
والآخر مادة وان الذى يدرك العقل من هذه هى هذه الصور
وانها انما تصير معقولات وعقلا اذا جردها العقل من الامور القائمة
بها اعنى الذى سموه موضوعا ومادة . [96] ووجدوا الاعراض تنقسم فى
العقل الى مثل هاتين الطبيعتين وان كان الموضوع لها بالحقيقة اعنى
المحل الذى تقوم به هى الاجسام المركبة من ذينك المعنيين .

[Page 361] [97] فلما تميزت لهم الامور المعقولة من الامور المحسوسة وتبين لهم ان
فى المحسوسات طبيعتين احداهما قوة والاخرى فعل نظروا اى
الطبيعتين هى المتقدمة للاخرى فوجدوا ان الفعل متقدم على القوة
لكون الفاعل متقدما على المفعول ونظروا فى العلل والمعلولات ايضا
فافضى بهم الامر الى علة أولى هى بالفعل السبب الاول لجميع العلل
فلزم ان يكون فعلا محضا والا يكون فيها قوة اصلا لانه لو كان
فيها قوة لكانت معلولة من جهة وعلة من جهة فلم تكن اولى ولما
كان كل مركب من صفة وموصوف فيه قوة وفعل وجب عندهم
الا يكون الاول مركبا من صفة وموصوف ولما كان كل برىء
من القوة عندهم عقلا وجب ان يكون الاول عندهم عقلا
[98] فهذه هى طريقة القوم مجمله فان كنت من اهل الفطرة المعدة
لقبول العلوم وكنت من أهل الثبات واهل الفراغ فعرضيك ان
تنظر فى كتب القوم وعلومهم لتقف على ما فى كتبهم من حق أو
ضده وان كنت ممن نقصك واحد من هذه الثلاث فعرضتك ان

[Page 362] تفرغ فى ذلك الى ظاهر الشرع ولا تنظر الى هذه العقائد المحدثة
فى الاسلام فانك ان كنت من اهلها لم تكن من اهل اليقين ولا
من أهل الشرع
[99] فهذا هو الذى حرك هؤلاء القوم ان يعتقدوا ان هذه الذات
التى وجدوا انها مبدأ العالم انها بسيطة وانها علم وعقل ولما رأوا ان
النظام الموجود ههنا فى العالم واجزائه هو صادر عن علم متقدم عليه
قضوا ان هذا العقل والعلم هو مبدأ العالم الذى افاده ان يكون
موجودا وان يكون معقولا وهذا بعيد من المعارف الانسانية الاول
والامور المشهورة بحيث لا يجوز ان يفصح للجمهور عنه بل لكثير
من الناس والافصاح به حرام لمن وقع له اليقين به لمن لا سبيل له
الى وقوع اليقين به لانه كالقاتل له . [100] واما تسميتهم ما فارق المادة
جوهر فانهم لما وجدوا الحد الخاص بالجوهر انه القائم بذاته وكان
الاول هو السبب فى كل ما قام من الموجودات بذاتها كان هو احق
باسم الجوهر واسم الموجود واسم العالم واسم الحى وجميع المعانى التى
أفادها فى الموجودات وبخاصة ما كان منها من صفات الكمال
[101] وأما سائر ما شنع به هذا الرجل على هذا المذهب فهو شىء غير

[Page 363] ملتفت اليه الا عند الجمهور والعامة من الناس وهم الذين يحرم عليهم
سماع هذا القول
[102] فقوله وأى جمال لوجود بسيط لا ماهية له ولا حقيقة ولا خبر له بما يجرى فى العالم
ولا بما يلزم ذاته ويصدر منه الى اخر ما قاله
هو كلام باطل كله فانهم ان وضعوا ماهية منزهة عن المحل كانت
منزهة عن الصفات ولم تكن محلا للصفات الا ان تكون فى محل
[103] فتكون مركبة من طبيعة القوة وطبيعة الفعل وهو ذو الماهية
الموجودة باطلاق فالموجودات انما صارت ذات ماهية به وهو
الموجود العالم بالموجودات باطلاق من قبل ان الموجودات انما صارت
موجودة ومعقولة من قبل علمه بذاته وذلك انه اذا كان هو السبب
فى كون الموجودات موجودة ومعقولة وكانت موجودة بماهياتها
ومعقولة بعلمه فهو علة كون ماهياتها موجودة ومعقولة والقوم انما
نفوا عنه ان يكون علمه بالموجودات على نحو علم الانسان بها الذى
هو معلول عنها فعلمه بالموجودات على الضد من علم الانسان اذ قد

[Page 364] قام البرهان على هذا النوع من العلم . [104] وأما على مذهب الاشعرية فليس
له اصلا ماهية ولا ذات لان وجود ذات لا ماهية لها ولا هى ماهية
لا يفهم وان كان قد ذهب بعض الاشعرية الى ان له ماهية خاصة بها
تتميز الذات عن سائر الموجودات وهذه الماهية عند الصوفية هى
التى يدل عليها اسم الله الاعظم
[105] وقوله ثم يقال لهؤلاء لم تتخلصوا من الكثرة مع الاقتحام لهذه المخازى فانا نقول
علمه عين ذاته أو غير ذاته فان قلتم انه غيره فقد جاءت الكثرة وان قلتم انه عينه فما
الفصل بينكم وبين القائل ان علم الانسان بذاته عين ذاته
كلام فى غاية الركاكة والمتكلم به أحق انسان بالخزى والافتضاح
فان هذا هو الزام ان يكون الكامل المنزه عن صفات الحدوث
والتغير والنقص على صفة الناقص المتغير وذلك ان الانسان من جهة
انه شىء مركب من محل وعلم موجود فى ذلك المحل لزم ان يكون
علمه غير ذاته بوجه ما كما سلف اذ كان المحل هو السبب فى تغاير
العلم والذات ولما كان الانسان انما كان انسانا وكان أشرف من جميع
الموجودات المحسوسة بالعقل المقترن الى ذاته لا بذاته وجب ان

[Page 365] يكون ما هو بذاته عقل هو اشرف من الموجودات وان يكون
منزها عن النقص الموجود فى عقل الانسان
[106] وقوله فان قيل ذاته عقل وعلم فليس له ذات ثم علم قائم بها- قلنا الحماقة ظاهرة فى
هذا الكلام فان العلم صفة وعرض يستدعى موصوفا وقول القائل هو فى ذاته عقل وعلم
كقوله هو قدرة واردة وهو قائم بنفسه ولو قيل به فهو كقول القائل فى سواد وبياض
انه قائم بنفسه وفى كمية وتربيع وتثليث انه قائم بنفسه وكذا فى كل الاعراض الى قوله

[107] قلت الشرارة والتمويه فى قوله اظهر فانه قد تبين ان من الصفات
ما هو احق باسم الجوهرية من الجوهر القائم بذاته وهى الصفة التى
من قبلها صار الجوهر القائم بذاته قائماً بذاته وذلك انه قد تبين ان
المحل لهذه الصفة ليس شيئا قائماً بذاته ولا موجودا بالفعل بل انما
وجد له القيام بنفسه والوجود بالفعل من قبل هذه الصفة وهى فى
وجودها على الجهة المقابلة للاعراض وان كان يظهر من امر بعضها انها
تحتاج الى المحل فى الامور المتغيرة لان الاصل فى الاعراض ان
تقوم بغيرها والاصل فى الماهيات ان تقوم بذاتها الا ما عرض هنا
للاشياء الكائنة الفاسدة من كون ماهياتها محتاجة الى موضوع .

[Page 366] فهذا الوصف هو اشد شىء بعدا عن طبيعة الاعراض فتشبيهه العلم
الذى هنالك بالاعراض التى هنا كلام فى غاية السخف وهو اشد سخفا
ممن يجعل النفس عرضا كالتثليث والتربيع
[108] وهذا كاف فى تهافت هذا القول كله وسخفه فلنسم هذا الكتاب
التهافت باطلاق لا تهافت الفلاسفة . وما أبعد طبيعة العلم من طبيعة
العرض وبخاصة علم الاول تعالى واذا كان فى غاية البعد من طبيعة
العرض فهو فى غاية البعد من حاجته الى المحل

[Page 367]

مسئلة فى ابطال قولهم ان الاول لا يجوز ان يشارك غيره فى جنس ويفارقه بفصل وانه لا يتطرق اليه انقسام فى حق العقل بالجنس والفصل

[1] قال ابو حامد وقد اتفقوا على هذا وبنوا عليه انهُ اذا لم يشارك غيره بمعنى جنسى لم ينفصل
عنهُ بمعنى فصلى فلم يكن له حد اذ الحد ينتظم من الجنس والفصل وما لا تركيب فيه فلا حد
لهُ . وهذا نوع من التركيب . وزعموا أن قول القائل انهُ يساوى المعلول الاول فى كونه
موجودا وجوهرا وعلة لغيره ويباينه بشىء آخر لا محالة فليس هذا مشاركة فى الجنس بل هى
مشاركة فى لازم عام . وفرق بين الجنس واللازم فى الحقيقة وان لم يفترقا فى العموم على ما
عرف فى المنطق فان الجنس هو الذاتى العام المقول فى جواب ما هو ويدخل فى ماهية الشىء
المحدود ويكون مقوما لذاته فكون الانسان حيا داخل فى ماهية الانسان أعنى الحيوانية
فكان جنسا وكونهُ مولودا ومخلوقا لازم لا يفارقه قط ولكنهُ ليس داخلا فى الماهية وان
كان لازما عاما ويعرف ذلك فى المنطق معرفة لا يتمارى فيها . وزعموا ان الوجود لا يدخل قط
فى ماهية الاشياء بل هو مضاف الى الماهية اما لازما لا يفارق كالسماء أو واردا بعد ان لم يكن

[Page 368] كالاشياء الحادثة فالمشاركة فى الوجود ليست بمشاركة فى الجنس . وأما مشاركته فى كونه
علة لغيره كسائر العلل فهى مشاركة فى اضافة لازمة لا تدخل أيضاً فى الماهية فان المبدئية
والوجود لا يقوّم واحد منهما الذات بل يلزمان الذات بعد تقوم الذات باجزاء ماهيتها فليس
المشاركة فيه الا مشاركة فى لازم عام يتبع الذات لزومه لا فى جنس ولذلك لا تحد الاشياء
الا بالمقومات وان حدث باللوازم كان ذلك رسما للتمييز لا لتصوير حقيقة الشىء
فلا يقال فى حد المثلث انه الذى تساوى زواياه القائمتين وان كان ذلك لازما عاما لكل
مثلث بل يقال انه شكل تحيط به ثلاثة اضلاع . وكذلك المشاركة فى كونه جوهرا فان
معنى كونه جوهرا انه موجود لا فى موضوع والموجود ليس بجنس فبأن يضاف اليه أمر سلبى
وهو انه لا فى موضوع فلا يصير جنسا مقوما بل لو أُضيف اليه ايجابه وقيل موجود فى
موضوع لم يصر جنسا فى العرض وهذا لان من عرف الجوهر بحده الذى هو كالرسم له
وهو انه موجود لا فى موضوع فليس يعرف كونه موجودا فضلًا من ان يعرف انه فى موضوع
أَو لا فى موضوع بل معنى قولنا فى رسم الجوهر انه الموجود لا فى موضوع أى انه حقيقة ما
اذا وجد وجد لا فى موضوع ولسنا نعنى به انه موجود بالفعل حالة التحديد فليس
المشاركة فيه مشاركة فى جنس بل المشاركة فى مقومات الماهية هى المشاركة فى الجنس
المحوج الى المباينة بعده بالفصل وليس للاول ماهية سوى الوجود الواجب فالوجود الواجب
طبيعة حقيقية وماهية فى نفسه هو له لا لغيره واذا لم يكن وجوب الوجود الا له لم
يشارك غيره فلم ينفصل عنه بفصل نوعى فلم يكن له حد
[2] قال ابو حامد فهذا تفهيم مذهبهم . والكلام عليه من وجهين

[Page 369] [3] قلت هذا منتهى ما حكاه عن الفلاسفة فى هذا القول وفيه
حق وفيه باطل
[4] اما قولهم ان الاول لا يجوز ان يشارك غيره فى جنس ويفارقه
بفصل فان كان أراد بالجنس المقول بتواطؤ فهو حق . وكذلك الفصل
المقول بتواطؤ لان كل ما هذا صفته فهو مركب من صورة عامة
وخاصة وهذا هو الذى يوجد له الحد واما ان عنى بالجنس المقول
بتشكيك أعنى بتقديم وتأخير فقد يكون له جنس هو الموجود
مثلا أو الشىء أو الهوية او الذات وقد يكون له حد من هذا النوع
من الحدود فان امثال هذه الحدود مستعملة فى العلوم مثل ما قيل
فى حد النفس انها استكمال لجسم طبيعى آلى ومثل ما قيل فى حد
الجوهر انه الموجود لا فى موضوع لكن ليس تكفى هذه الحدود
فى معرفة الشىء وانما يؤتى بها ليتطرق من ذلك الى كل واحد مما
يدخل تحت امثال الحدود هذه والى تصوره بما يخصه
[5] واما حكايته عن الفلاسفة ان اسم الموجود انما يدل من ذوات
الاشياء على لازم عام لها فهو قول باطل وقد بيناه فى غير ما موضع

[Page 370] وما قاله احد منهم الا ابن سينا فقط وذلك انه لما انتفى عنده ان
يكون جنسا مقولا بتواطؤ وانتفى ايضا ان يكون اسما مشتركا
زعم انه اسم يدل على لازم عام للاشياء وما قاله فى الذات يلزمه فى
اللازم ولو كان لازما لم يقل فى جواب ما هو وايضا ان كان يدل على
لازم للاشياء فهو يدل على ذلك اللازم بتواطؤ او باشتراك أو بلزوم
آخر فان كان يدل بتواطؤ فكيف يوجد عرض مقول بتواطؤ على
امور مختلفة الذوات وأظن ابن سينا انه يسلم هذا وهو مستحيل
لانه لا يكون عن الاشياء المختلفة شىء هو متفق وواحد الا من
جهة ما تلك الاشياء المختلفة متفقة فى طبيعة واحدة اذ يلزم ضرورة
ان يكون اللازم الواحد عن طبيعة واحدة كما يكون العقل الواحد
صادر ايضا عن طبيعة واحدة . [6] واذا كان ذلك مستحيلا فاسم الموجود
انما يدل من الاشياء على ذوات متقاربة المعنى وبعضها فى ذلك أتم من
بعض ولذلك كانت الاشياء التى وجود مثل هذا الوجود فيها أول
هو العلة فى سائر ما يوجد فيها فى ذلك الجنس مثال ذلك ان قولنا
حار مقول بتقديم وتأخير على النار وعلى الاشياء الحارة والذى يقال
عليه بتقديم منها وهى النار هى السبب فى وجود سائر الاشياء الحارة

[Page 371] حارة وكذلك الامر فى الجوهر وفى العقل وفى المبدأ وفيما اشبه
ذلك من الاسماء واكثر طبائع ما يحتوى عليه العلم الالهى هى من
هذا الجنس والاسماء التى بهذه الصفة توجد فى الجواهر وتوجد فى
الاعراض . [7] وما قاله فى رسم الجوهر
( فقال فكذلك المشاركة فى كونه جوهرا فان معنى كونه جوهرا انه موجود لا فى موضوع
والموجود ليس بجنس )
هو شىء لا معنى له بل الموجود هو جنس الجوهر المأخوذ فى حده
على نحو ما تؤخذ أجناس هذه الاشياء فى حدودها وقد بين ذلك
أبو نصر فى كتابه فى البرهان والامر عند القوم أشهر من هذا . [8] وانما
غلط ابن سينا انه لما رأى اسم الموجود يدل على الصادق فى كلام
العرب وكان الذى يدل على الصادق يدل على عرض ولا بد بل
فى الحقيقة على معقول من المعقولات الثوانى اعنى المنطقية ظن انه
حيث ما استعمله المترجمون انما يدل على هذا المعنى وليس الامر
كذلك بل انما قصد به المترجمون ان يدل به على ما يدل عليها اسم
الذات والشىء . [9] وقد بين ذلك ابو نصر فى كتاب الحروف وعرف
ان احد أسباب الغلط الواقع فى ذلك هو ان اسم الموجود هو بشكل

[Page 372] المشتق والمشتق يدل على عرض بل هو فى أصل اللغة مشتق الا ان
المترجمين لما لم يجدوا فى لسان العرب لفظا يدل على هذا المعنى الذى
كان القدماء يقسمونه الى الجوهر والعرض والى القوة والفعل اعنى
لفظا هو مثال أول دل عليه بعضهم باسم الموجود لا على ان يفهم
منه معنى الاشتقاق فيدل على عرض بل معنى ما يدل عليه اسم
الذات فهو اسم صناعى لا لغوى وبعضهم رأى لموضع الاشكال
الواقع فى ذلك ان يعبر عن المعنى الذى قصد فى لسان اليونانيين
التكلم فيه بان اشتق من لفظ الضمير الذى يدل على ارتباط
المحمول بالموضوع ما يدل على ذلك المعنى لانه رأى ان هذا أقرب الى
الدلالة على هذا المعنى فاستعمل بدل اسم الموجود اسم الهوية لكنه
ايضا تكلف من هذا اللفظ صيغة ليست موجودة فى لسان العرب
ولذلك عدل الفريق الآخر الى اسم الموجود . [10] والموجود الذى هو بمعنى
الصادق هو الذى مفهومه هو غير مفهوم الماهية ولذلك قد يعلم
الماهية من لا يعرف الوجود وهذا المعنى هو غير الماهية فى المركب
ضرورة وهو فى البسيط والماهية واحد لا المعنى الذى دل به عليه
المترجمون باسم الموجود فان هذا هو الماهية بعينها فاذا قلنا ان
الموجود منه جوهر ومنه عرض لزم ان يفهم من اسم الموجود المعنى

[Page 373] الذى دل عليه المترجمون وهو الدلالة المقولة بتقديم وتأخير على
ذوات الاشياء المختلفة واذا قلنا ان الجوهر موجود لزم ان يفهم منه
ما يفهم من الصادق . [11] وكذلك اذا فهمنا من المسئلة المشهورة عند
القدماء وهى القائلة هل الموجود واحد أو اكثر من واحد وهى التى
تكلم فيها أرسطو مع برمنيدس ومالسيس من القدماء فى الاولى من
السماع الطبيعى فليس ينبغى ان يفهم من ذلك الا ما يدل على الذات
ولو كان الموجود يدل على عرض فى موضوع لكان قول من قال
ان الموجود واحد متناقضا فى نفسه وهذا كله بين لمن ارتاض فى
كتب القوم
[12] ولما فرغ من تقرير قولهم اخذ فى الرد عليهم فقال
قال ابو حامد فهذا تفهيم مذهبهم . والكلام عليه من وجهين مطالبة وابطال
فبان يقال هذا حكاية المذهب فبم عرفتم استحالة ذلك فى حق
الاول حتى بنيتم عليه نفى التثنية اذ قلتم ان الثانى ينبغى ان يشاركه فى شىء ويباينه فى شىء
والذى فيه ما يشارك به وما يباين به فهو مركب والمركب محال

[Page 374] [13] قلت قد قلت ان هذا انما يلزم فى المشاركة التى توجد من قبل
الجنس المقول بتواطؤ لا من قبل الجنس المقول بتشكيك فاذا انزل
مع الالاه الثانى اله فى مرتبة الاول فى الالوهية فاسم الالاه مقول
عليهما بتواطؤ فهو جنس فينبغى أن يفترقا بفصل فيكون كل واحد
منهما مركبا من جنس وفصل والفلاسفة لا يجوزون على موجود
قديم أصلا اشتراكا فى الجنس وان كان مقولا بتقديم وتأخير لزم
أن يكون المتقدم علة للمتأخر
[14] ثم قال ابو حامد مناقضا لهم
فنقول هذا النوع من التركيب من اين عرفتم استحالته ولا دليل عليه الا قولكم المحكى
عنكم فى نفى الصفات وهو ان المركب من الجنس والفصل مجتمع من اجزاء فان كان يصح
لواحد من الاجزاء أو الجملة وجود دون الآخر فهو واجب الوجود وما عداه ليس بواجب
وان كان لا يصح للاجزاء وجود دون المجتمع ولا للمجتمع وجود دون الاجزاء
فالكل معلول محتاج وقد تكلمنا عليه فى الصفات وبينا ان ذلك ليس بمحال فى قطع التسلسل
والبرهان لم يدل الا على قطع التسلسل . فاما العظائم التى اخترعوها فى لزوم اتصاف واجب
الوجود فلم يدل عليه دليل فان كان واجب الوجود ما وصفوه به وهو أنه لا يكون
فيه كثرة فلا يحتاج فى قوامه الى غيره فلا دليل اذا على اثبات واجب الوجود وانما الدليل
على قطع التسلسل فقط وهذا قد فرغنا منه فى الصفات . وهو فى هذا النوع اظهر فان
انقسام الشىء الى الجنس والفصل ليس كانقسام الموصوف الى ذات وصفة فان الصفة غير
الذات والذات غير الصفة والنوع ليس غير الجنس من كل وجه فمهما ذكرنا النوع فقد
ذكرنا الجنس وزيادة واذا ذكرنا الانسان فلم نذكر الا الحيوان مع زيادة نطق فقول
القائل ان الانسانية هل تستغنى عن الحيوانية كقول القائل ان الانسانية هل تستغنى عن نفسها
اذا انضم اليها شىء آخر فهذا ابعد عن الكثرة من الصفة والموصوف . ومن اى وجه يستحيل
أن تنقطع سلسلة المعلولات على علتين احديهما علة السماوات والاخرى علة العناصر او احديهما
علة العقول والاخرى علة الاجسام كلها ويكون بينهما مباينة ومفارقة فى المعنى كمباينة
الحمرة والحرارة فى محل واحد فانهما متباينان فى المعنى من غير أن يفرض فى الحمرة
تركيب جنسى وفصلى بحيث يقبل الانفصال بل ان كان فيه كثرة فهو نوع كثرة لا يقدح
فى وحده الذات فمن أى وجه يستحيل هذا فى العلل وبهذا يتبين عجزهم عن نفى الهين
صانعين

[Page 375]
[15] قلت اما التركيب الذى يكون من الجنس والفصل فهو بعينه
التركيب الذى يكون من الشىء الذى هو بالقوة والشىء الذى
يكون بالفعل لان الطبيعة التى يدل عليها الجنس ليس توجد بالفعل
فى وقت من الاوقات خلية من الطبيعة التى تسمى الفصل و الصورة .

[Page 376] [16] وكل ما عند القوم مركب من هاتين الطبيعتين فهو كائن فاسد وله
فاعل لان الفصل من شروط وجود الجنس من جهة ما هو بالقوة
فليس يوجد عريا من الفصل فمقارنة كل واحد منهما صاحبه بجهة ما
شرط فى وجود الآخر والشىء بعينه لا يمكن ان يكون علة لشرط
وجوده فله ضرورة علة هى التى افادته الوجود بلن قرنت الشرط
بالمشروط فيه . [17] وعندهم ايضا ان القابل بالحقيقة هو ما كان قوة فقط
وان كان فعلا فبالعرض والمقبول ما كان فعلا وان كان قوة فبالعرض
وذلك ان ليس يتميز المقبول فيه من القابل الا من جهة ان احدهما
بالقوة شىء آخر وهو بالفعل الشىء المقبول وكلما كان هو بالقوة
شيئا آخر فهو ضرورة سيقبل ذلك الشىء الآخر ويخلع الشىء الذى
هو بالفعل . [18] ولذلك ان ألفى ههنا قابل بالفعل ومقبول بالفعل فكلاهما
قائم بذاته لكن القابل هو جسم ضرورة فان القبول انما يوجد أولا
للجسم أو لما هو فى جسم فان الاعراض لا توصف بالقبول ولا الصور
ولا السطح ولا الخط ولا النقطة ولا بالجملة ما لا ينقسم واما فاعل
ليس بجسم فقد قام عليه البرهان واما قابل ليس بجسم ولا فى جسم

[Page 377] فمستحيل . [19] الا ما تشككوا فيه من امر العقل الذى بالقوة فانه اذا
كان المركب من صفة وموصوف ليست زائدة على الذات كان
كائنا فاسدا وكان جسما ضرورة وان كان مركبا من موصوف وصفة
زائدة على الذات من غير ان يكون فيه قوة فى الجوهر ولا قوة
على تلك الصفة مثل ما يقول القدماء فى الجرم السماوى لزم ضرورة
أن يكون ذا كمية وان يكون جسما لانه ان ارتفعت الجسمية عن
تلك الذات الحاملة للصفة ارتفع عنها ان تكون قابلة محسوسة
وكذلك يرتفع ادراك الحس عن تلك الصفة فيعود الصفة والموصوف
كلاهما عقلًا فيرجعان الى معنى واحد بسيط لان العقل والمعقول قد
ظهر من امر هما انهما معنى واحد اذ كان التكثر فيهما بالعرض اعنى
من جهة الموضوع . [20] وبالجملة فوضع القوم ذاتا وصفات زائدة على
الذات ليس شيئا أكثر من وضعهم جسما قديما واعراضا محمولة فيه
وهم لا يشعرون لانهم اذا رفعوا الكمية التى هى الجسمية ارتفع
ان يكون فى نفسه معنى محسوسا فلم يكن هنالك لا حامل ولا
محمول فان جعلوا الحامل والمحمول مفارقين للمادة والجسم لزم ان
يكون عاقلا ومعقولا وذلك هو الواحد البسيط الحق

[Page 378] [21] وقوله ان تغليطهم كله انما هو من باب تسميتهم اياه واجب
الوجود وانه اذا استعمل بدل ذلك ما ليس له علة لم يلزم الاول ما
ألزموه من الصفات الواجبة لواجب الوجود ليس بصحيح لانه اذا
وضع موجود ليس له علة وجب أن يكون واجب الوجود بنفسه
كما انه اذا وضع موجود واجب الوجود بنفسه وجب الا يكون له
علة واذا لم يكن له علة فاحرى ان لا ينقسم الى شيئين علة ومعلول
ووضع المتكلمين الاول مركبا من صفة وموصوف يقتضى ان
يكون له علة فاعلة فلا يكون علة اولى ولا واجب الوجود وهو ضد
ما وضعوه من كونه من الموجودات التى ترجع الصفة والموصوف
فيها الى معنى واحد بسيط فلا معنى لتكرار هذا والاطالة فيه
[22] واما ما قاله من ان الاول سبحانه ان لم يستحل فى حقه ان
يكون مركبا من موصوف وصفة زائدة على الموصوف فهو احرى
ان لا يستحيل ان يكون مركبا من موصوف وصفة هى عين
الموصوف فقد قلنا على أى جهة يستحيل وعلى اى جهة لا يستحيل
وهو كونهما مفارقين للمواد

[Page 379] [23] واما قوله ان برهانهم على نفى الاثنينية ليس بمانع ان يكون
ههنا الهان احدهما هو علة السماء مثلًا والآخر هو علة الارض او
احدهما علة المعقول والآخر علة المحسوس من الاجسام ويكون
بينهما مباينة ومفارقة لا تقتضى تضادا مثل المباينة التى توجد بين
الحمرة والحرارة فانها توجد فى محل واحد فقول ليس بصحيح . [24] لانه
اذا فرض اختراع الموجود وابتداعه لطبيعة واحدة وذات واحدة
لا لطبائع مختلفة لزم ضرورة متى وضع شىء من تلك الطبيعة مساويا
فى الطبع والعقل للطبيعة الاولى أن يكونا مشتركين فى وصف
متباينين فى وصف والذى يتباينان به لا يخلو ان يكون من نوع
تباين الاشخاص او من نوع تباين الانواع فان كان من نوع تباين
الانواع قيل عليهما اسم الاله باشتراك الاسم وذلك خلاف ما وضع
لان الانواع المشتركة فى جنس واحد هى اما اضداد واما ما بين
الاضداد وهذا كله مستحيل وان كان تباينهما بالشخص فكلاهما فى
مادة وذلك خلاف ما اتفق عليه واما ان وضع ان تلك الطبيعة
بعضها اشرف من بعض وانها مقولة عليها بتقديم وتأخير فالطبيعة
الاولى أشرف من الثانية والثانية معلولة عنها ضرورة حتى يكون

[Page 380] مثلا مبتدع السماوات هو المبتدع للعلة التى ابتدعت الاسطقسات
وهذا هو وضع الفلاسفة . [25] وكلا الوضعين يرجع الى وضع علة أولى
اعنى من يضع ان الاول يفعل بوسائط علل كثيرة او يضع ان الاول
علة بنفسه لجميع الاشياء المختلفة بغير واسطة لكن هذا لا يجوز
عند الفلاسفة لان من المعلوم بنفسه ان العوالم قامت من علة
ومعلول فان البحث عن هذه العلل هو الذى افضى بنا الى علة أولى
لجميعها ولو كانت هذه المبادى المختلفة بعضها مطلقا من بعض أعنى
ليس بعضها عللا لبعض لما كان من العالم شىء واحد ومرتبط وهذا
المعنى هو الذى دل على ابطاله قوله سبحانه لو كان فيهما الهة الا
الله لفسدتا
[26] قال ابو حامد فان قيل انما يستحيل هذا من حيث ان ما به المباينة بين الذاتين ان كان
شرطا فى وجوب الوجود فينبغى أن يوجد لكل واجب وجود فلا يتباينان وان لم يكن
هذا شرطا ولا الآخر شرطا فكل ما لا يشترط فى وجوب الوجود فوجوده مستغنى عنه ويتم
وجوب الوجود بغيره
قلنا هذا عين ما ذكرتموه فى الصفات وقد تكلمنا عليه ومنشأ التلبيس فى جميع ذلك فى
لفظ واجب الوجود فليطرح فانا لا نسلم ان الدليل يدل على واجب الوجود ان لم يكن
المراد به موجود لا فاعل له قديم وان كان المراد هذا فليترك لفظ واجب الوجود وليبيّن
ان موجودا لا علة له ولا فاعل له يستحيل فيه التعدد والتباين ولا يقوم عليه دليل .
فيبقى قولهم ان ذلك هل هو شرط فى أن لا يكون له علة فهو هوس فان ما لا علة له قد
بينا انه لا يعلل كونه لا علة له حتى يطلب شرط وهو كقول القائل ان السوادية هل هى
شرط فى كون اللون لونا فان كان شرطا فلم كانت الحمرة لونا فيقال أما فى حقيقته
فلا يشترط واحد منهم اعنى ثبوت حقيقة اللونية فى العقل وأما فى وجوده فالشرط احدهما لا
بعينه اى لا يمكن جنس فى الوجود الا وله فصل وكذلك من يثبت علتين ويقطع
التسلسل فيهما فيقول يتباينان بفصل وأحد الفصول شرط الوجود لا محالة ولكن لا
على التعين

[Page 381]
[27] قلت حاصل ما حكاه فى الاحتجاج عن الفلاسفة انهم يقولون لا
يخلو ان يكون الفصل الذى يقع به الاثنينية فى واجب الوجود هو
شرط وجوب الوجود أو يكون فصلا ليس بشرط فى وجوب
الوجود فان كان الفصل الذى به يفترقان شرطا فى وجوب الوجود
فى حق كل واحد منهما فلا يفترقان فى وجوب الوجود فواجب
الوجود واحد ضرورة كما انه لو كان السواد شرطا فى وجوب اللون
والبياض شرطا فى اللونية لم يفترقا فى اللونية وان كان الفصل الذى

[Page 382] به يفترقان ليس له مدخل فى وجوب الوجود فوجوب الوجود لكل
واحد منهما بالعرض وهما اثنان لا من حيث كل واحد منهما واجب
الوجود . [28] وهذا الكلام غير صحيح فان الانواع شرط فى وجود
الجنس وكل واحد منهما شرط فى وجود الجنس لا على التخصيص
والتعيين لانه لو كان ذلك كذلك لم يجتمعا فى وجود اللون
وهو يعاند هذا القول بمعاندتين . [29] احديهما ان هذا انما عرض
من حيث يظن ان واجب الوجود يدل على طبيعة من الطبائع وليس
الامر عندنا كذلك بل انما نفهم من واجب الوجود أمرا سلبيا وهو
انه لا علة له والاسلاب غير معللة فكيف يستعمل فى نفى ما لا
علة له مثل هذا حتى يقال لا يخلو ان يكون ما به يفترق ما لا علة له
مما لا علة له شرطا فى كونه لا علة له أو لا يكون شرطا فان كان
شرطا لم يكن هنالك تعدد ولا افتراق وان لم يكن شرطا لم يقع به
تعدد فيما لا علة له وكان ما لا علة له واحدا . ووجه فساد هذا
القول فيما زعم هو ان ما لا علة له نفى محض والنفى ليس له علة
فكيف يكون له شرط هو السبب فى وجوده . [30] وهذه مغالطة فان

[Page 383] الاسلاب الخاصة التى تجرى مجرى الاسماء المعدولة وهى الاسلاب
التى تستعمل فى تمييز الموجودات بعضها من بعض لها علل وشروط
هى التى اقتضت لها ذلك الساب كما لها اسباب وشروط هى التى
اقتضت لها الاوصاف الايجابية فلا فرق فى هذا المعنى بين الصفات
الايجابية والسلبية ووجوب واجب الوجود هو صفة لازمة لما لا
علة له فلا فرق بين ان يقال فيه واجب الوجود أو لا علة له فالهوس
هو من المتكلم بمثل هذا القول لا من خصومه
[31] واما المعاندة الثانية فتحصيلها ان قولهم لا يخلو ان يكون الفصل
الذى به يتباين واجب الوجود شرطا أو ليس بشرط فان كان شرطا
فلم ينفصل احدهما عن الثانى من حيث هو واجب الوجود فواجب
الوجود واحد وان لم يكن شرطا فواجب الوجود ليس له فصل به
ينقسم هو مثل قول القائل اللون ان وجد منه أكثر من واحد فلا
يخلو ان يكون ما ينفصل به لون عن لون شرطا فى وجود اللون اولا
يكون فان كان شرطا فى وجود اللون فلم ينفصل أحدهما عن الثانى
من جهة ما هو لون ويكون اللون طبيعة واحدة وان لم يكن واحد
منهما شرطا فى وجود اللونية فليس للون فصل ينفصل به عن لون
آخر وهذا كذب

[Page 384] [32] ثم قال هو عن الفلاسفة فى هذا جوابا ما فقال
فان قيل هذا يجوز فى اللون فان له وجودا مضافا الى الماهية زائدا على الماهية ولا يجوز
فى واجب الوجود اذ ليس له الا وجوب الوجود وليس ثم ماهية يضاف الوجود اليها فكما ان
فصل السواد وفصل الحمرة لا يشترط فى اللونية فى كونها لونية انما يشترط فى وجودها
الحاصل بعلة فكذلك ينبغى ان لا يشترط فى الوجود الواجب فان الوجود الواجب للاول
كاللونية للون لا كالوجود المضاف الى اللونية
قلنا لا نسلم بل له حقيقة موصوفة بالوجود على ما سنبينهُ فى المسئلة التى بعده وقولهم انه
وجود بلا ماهية خارج عن المعقول . ورجع حاصل الكلام الى انهم بنوا نفى التثنية على نفى
التركيب الجنسى والفصلى ثم بنوا ذلك على نفى الماهية وراء الوجود فمهما ابطلنا الاخير
الذى هو اساس الاساس بطل عليهم الكل وهو بنيان ضعيف الثبوت قريب من بيت
العنكبوت
[33] قلت جوابه عن الفلاسفة بناه هنا على القول بان الوجود هو
عرض فى الموجود أعنى الماهية وعاندهم هو بان الوجود فى كل شىء
هو غير الماهية وزعم ان قولهم انما بنوه على هذا والفرق الذى أتوا
به ليس يلزم عنه الانفصال عما الزموا من أمر اللونية والفصول التى
فيها كيف ما وضعوا الامر فانه لا يشك أحد ان فصول الجنس هى
علة الجنس سواء انزلت للجنس وجودا غير ماهيته أو ماهية نفس

[Page 385] وجوده لانه ان كانت فصولا للوجود وكان الوجود للون غير ماهية
اللون لزم الا تكون الفصول التى ينقسم بها اللون فصولا لماهية
اللون بل فصولا لعرض من اعراضه وذلك فرض مستحيل ولذلك
الحق هو انا اذا قسمنا اللون لفصوله فقلنا الوجود للون بما هو لون انما
يكون بالفعل اما لانه ابيض أو أسود أو غير ذلك من الالوان فلم
نقسم عرضا للون وانما قسمنا جوهر اللون فالقول بان الوجود
عرض فى الموجود باطل بهذا المعنى والاعتراض وجوابه هو عن
الاعتراض كلام ساقط
[34] وقوله انهم بنوا نفى التثنية على نفى التركيب بالجنس والفصل ثم بنوا ذلك على نفى
الماهية وراء الوجود فمتى ابطلنا الاخير الذى هو أساس الاساس بطل عليهم الكل
كلام غير صحيح فان بنيانهم نفى التثنية بالعدد فى شيئين بسيطين
مقول عليهما الاسم بتواطؤ أمر بين بنفسه فانه متى انزلنا التثنية
والاشتراك فى شيئين بسيطين عاد البسيط مركبا . [35] وتحصيل القول فى
هذا ان الطبيعة المسماة بواجب الوجود وهى التى لا علة لها وهى علة
لغيرها انه لا يخلو ان تكون واحدة بالعدد او كثيرة ثم ان كانت
كثيرة فلا يخلو ان تكون كثيرة بالصورة واحدة بالجنس المقول

[Page 386] بتواطؤ أو واحدة بالنسبة او تكون واحدة بالاسم فقط فان كانت
مختلفة بالعدد مثل زيد و عمرو وواحدة بالنوع فهى ذات هيولى
ضرورة وذلك مستحيل وان كانت مختلفة الصورة واحدة بالجنس
المقول عليها بتواطؤ فهى مركبة ضرورة وان كانت واحدة بالجنس
المقول بالنسبة الى شىء واحد فلا يمنع من ذلك مانع وبعضها علل
لبعض وتنتهى الى اول فيها وهذه هى حال الصور المفارقة للمواد
عنه الفلاسفة واما ان كانت انما تشترك فى الاسم فليس مانع يمنع من
ان يوجد منها اكثر من واحد فان هذه هى حال الاسباب الاول
الاربعة اعنى الفاعل الاول والصورة الاخيرة والغاية الاخيرة والمادة
الاخيرة فلذلك ليس يحصل من هذا النحو من الفحص شىء
محصل ولا يفضى الى المبدأ الاول كما ظن ابن سينا ولا انه واحد
ولا بد

المسلك الثانى الالزام

[36] وهو انا نقول ان لم يكن الوجود والجوهرية
والمبدئية جنسا لانه ليس مقولا فى جواب ما هو فالاول عندكم عقل مجرد كما ان سائر
العقول التى هى المبادى للوجود المسماة بالملائكة عندهم التى هى معلولات الاول عقول مجردة
عن المواد فهذه الحقيقة تشمل الاول ومعلوله الاول فان الموجود الاول ايضا بسيط لا
تركيب فى ذاته الا من حيث لوازمه وهما مشتركان فى ان كل واحد عقل مجرد عن المادة
وهذه حقيقة جنسية فليس العقلية المجردة للذات من اللوازم بل هى الماهية وهذه الماهية
مشتركة بين الاول وسائر العقول فان لم يباينها شىء آخر فقد عقلتم الاثنينية من غير
مباينة وان باينها فما به المباينة غير ما به المشاركة والعقلية والمشاركة فيها مشاركة فى
الحقيقة فان الاول عقل نفسه وعقل غيره عند من يرى ذلك من حيث انه فى ذاته عقل مجرد
عن المادة وكذا المعلول الاول وهو العقل الاول الذى ابدعه الله تعالى من غير واسطة
مشارك فى هذا المعنى والدليل عليه ان العقول التى هى معلولات انواع مختلفة وانما اشتراكها
فى العقلية وافتراقها بفصول سوى ذلك وكذلك الاول يشارك جميعها فى العقلية فهم فيه
بين نقض القاعدة والمصير الى ان العقلية ليست مقوّمة للذات وكلاهما محال عندهم

[Page 387]
[37] قلت اما انت ان كنت فهمت ما قلناه قبل هذا من ان ههنا
اشياء يعمها اسم واحد لا عموم الاسماء المتواطئة ولا عموم الاسماء
المشتركة بل عموم الاسماء المنسوبة الى شىء واحد المشككة وان
خاصة هذه الاشياء ان ترتقى الى اول فى ذلك الجنس هو العلة الاولى
لجميع ما ينطلق عليه ذلك الاسم مثل اسم الحرارة المقولة على النار
وعلى سائر الاشياء الحارة ومثل اسم الموجود المقول على الجوهر

[Page 388] وعلى سائر الاعراض ومثل اسم الحركة المقول على الحركة فى
الموضع وعلى سائر الحركات فليست تحتاج الى توقيف على الخلل
الداخل فى هذا القول . [38] وذلك ان اسم العقل يقال على العقول المفارقة
عند القوم بتقديم وتأخير وان فيها عقلا أولا هو العلة فى سائرها
وكذلك الامر فى الجوهر والدليل على ان ليس لها طبيعة واحدة
مشتركة ان بعضها علة لبعض وما هو علة لشىء فهو متقدم على
المعلول وليس يمكن ان تكون طبيعة العلة والمعلول واحدة بالجنس
الا فى العلل الشخصية وهذا النوع من المشاركة هو مناقض
للمشاركة الجنسية الحقيقية فان الاشياء المشتركة فى الجنس ليس
فيها اول هو العلة فى سائرها بل هى كلها فى مرتبة واحدة ولا يوجد
فيها شىء بسيط والاشياء المشتركة فى معنى مقول عليها بتقديم وتاخير
يجب ضرورة ان يكون فيها أول بسيط . [39] وهذا الاول ليس يمكن ان
يتصور فيه اثنينية لانه مهما فرض له ثان وجب ان يكون فى مرتبته
من الوجود وفى طبيعته فيكون هنالك طبيعة مشتركة لهما يشتركان
فيها اشتراك الجنس الحقيقى فيجب ان يفترقا بفصول زائدة على
الجنس فيكون كل واحد منهما مركبا من جنس وفصل وكل ما هو
بهذه الصفة فهو محدث وبالجملة فالذى فى النهاية من الكمال فى

[Page 389] الوجود يجب ان يكون واحدا لانه ان لم يكن واحدا لم يكن فى
النهاية من الكمال فى الوجود لان الذى فى النهاية لا يشاركه غيره
وذلك انه كما انه ليس للخط الواحد من طرف واحد نهايتان كذلك
الاشياء الممتدة فى الوجود المختلفة بالزيادة والنقصان ليس لها نهايتان
من طرف واحد . [40] فابن سينا لما لم يعترف بوجود هذه الطبيعة المتوسطة
بين الطبيعة التى يدل عليها الاسم المتواطئ وبين الطبائع التى لا
تشترك الا فى اللفظ فقط أو فى عرض بعيد لزمه هذا الاعتراض

[Page 390]

مسئلة فى ابطال قولهم ان وجود الاول بسيط اى هو وجود محض ولا ماهية ولا حقيقة يضاف الوجود اليها بل الوجود الواجب له كالماهية لغيره

[1] والكلام عليه من وجهين
فيقال بم عرفتم ذلك أبضرورة العقل او بنظر
وليس بضرورى فلا بد من ذكر طريق النظر
فان قيل لانه لو كان له ماهية لكان الوجود مضافا اليها او تابعا لها ولازما لها والتابع
معلول فيكون الوجود للواجب معلولا وهو متناقض
فنقول هذا رجوع الى منبع التلبيس فى اطلاق لفظ الوجود الواجب فانا نقول له حقيقة
وماهية وتلك الحقيقة موجودة اى ليست معدومة منفية ووجودها مضاف اليها وان أحبوا
ان يسموه تابعا ولازما فلا مشاحة فى الاسامى بعد ان يعرف انه لا فاعل للوجود بل لم يزل
هذا الوجود قديما من غير علة فاعلية فان عنوا بالتابع والمعلول ان له علة فاعلية فليس كذلك
وان عنوا غيره فهو مسلم ولا استحالة فيه اذ الدليل لم يدل الا على قطع تسلسل العلل وقطعه
بحقيقة موجودة وماهية ثابتة ممكن فليس يحتاج فيه الى سلب الماهية
فان قيل فتكون الماهية سببا للوجود الذى هو تابع له فيكون الوجود معلولا ومفعولا
قلنا الماهية فى الاشياء الحادثة لا تكون سببا للوجود فكيف فى القديم ان عنوا بالسبب
الفاعل له وان عنوا به وجها آخر وهو انه لا يستغنى عنه فليكن كذلك فلا استحالة فيه انما
الاستحالة فى تسلسل العلل فاذا انقطع فقد اندفعت الاستحالة وما عدا ذلك لم تعرف استحالته
فلا بد من برهان على استحالته وكل براهينهم تحكمات مبناها على أخذ لفظ واجب
الوجود بمعنى له لوازم وتسلم ان الدليل قد دل على واجب وجود بالنعت الذى وصفوه
وليس كذلك كما سبق . وعلى الجملة دليلهم فى هذا يرجع الى دليل نفى الصفات ونفى
الانقسام الجنسى والفصلى الا انه اغمض واضعف لان هذه الكثرة لا ترجع الا الى مجرد اللفظ
والا فالعقل يتسع لتقدير ماهية واحدة موجودة وهم يقولون كل ماهية موجودة فكثرة اذ
فيه ماهية ووجود وهذا غاية الضلال فان الموجود الواحد معقول بكل حال ولا موجود الا
وله حقيقة ووجود الحقيقة لا ينفى الوحدة

[Page 391]
[2] قلت لم ينقل ابو حامد مذهب ابن سينا على وجهه كما فعل فى
المقاصد وذلك ان الرجل لما اعتقد ان الوجود من الشىء يدل على
صفة زائدة على ذاته لم يجز عنده ان تكون ذاته هى الفاعلة لوجوده
فى الممكنات لانه لو كان ذلك كذلك لكان الشىء علة وجوده ولم
يكن له فاعل فلزم عنده من هذا ان كل ما وجوده زائد على ذاته
فله علة فاعلة فلما كان الاول عنده ليس له فاعل وجب ان يكون
وجوده عين ذاته . [3] ولذلك ما عانده به ابو حامد بان شبه الوجود

[Page 392] بلازم من لوازم الذات ليس بصحيح لان ذات الشىء هى علة لازمه
وليس يمكن ان يكون الشىء علة وجوده لان وجود الشىء متقدم
على ماهيته وليس وضعه ماهيته هى انيته هو رفع لماهيته كما
قال بل انما هو ايجاب اتحاد الماهية والانية واذا وضعنا الوجود
لاحقا من لواحق الموجود وكان الذى يعطى وجود الاشياء فى
الاشياء الممكنة هو الفاعل فيجب ان يكون ما لا فاعل له اما ان
يكون لا وجود له وذلك مستحيل واما ان يكون وجوده هو
ماهيته لكن هذا كله مبناه على غلط وهو ان الوجود للشىء لازم
من لوازمه . [4] وذلك ان الوجود الذى يتقدم فى معرفتنا العلم بماهية
الشىء هو الذى يدل على الصادق ولذلك كان معنى قولنا هل الشىء
موجود اما فيما له سبب يقتضى وجوده فقوته قوة قولنا هل الشىء
له سبب ام ليس له سبب هكذا يقول ارسطو فى اول المقالة الثانية
من كتاب البرهان واما اذا لم يكن له سبب فمعناه هل الشىء يوجد
له لازم من لوازمه يقتضى وجوده واما اذا فهم من الموجود ما يفهم
من الشىء والذات فهو جار مجرى الجنس المقول بتقديم وتأخير واى
ما كان فلا يفترق فى ذلك ما له علة وما ليس له علة ولا يدل على معنى

[Page 393] زائد من معنى الموجود وهو المراد بالصادق وان دل على معنى زائد
على الذات فعلى انه معنى ذهنى ليس له خارج النفس وجود الا بالقوة
كالحال فى الكلى فهذه هى الجهة التى منها نظر القدماء فى المبدأ الاول
فاثبتوه موجودا بسيطا واما الحكماء من الاسلام المتأخرين فانهم
زعموا انهم لما نظروا فى طبيعة الموجود بما هو موجود آل بهم
الامر الى موجود بسيط بهذه الصفة . [5] والطريقة التى يمكن عندى ان
تسلك حتى تقرب من الطريقة البرهانية هو ان الموجودات الممكنة
الوجود فى جوهرها خروجها من القوة الى الفعل انما يكون ضرورة
من مخرج هو بالفعل اعنى فاعلا يحركها ويخرجها من القوة الى الفعل
فان كان المخرج هو ايضا من طبيعة الممكن وجب ان يكون له
مخرج فان كان ذلك من طبيعة الممكن ايضا اعنى الممكن فى جوهره
وجب ان يكون ههنا مخرج واجبا فى جوهره غير ممكن وذلك
ليستحفظ ما ههنا وتبقى دائما طبيعة الاسباب الممكنة المارة الى
غير نهاية فانها اذا وجدت غير متناهية على ما يظهر من طبيعتها
وكل واحد منها ممكن وجب ضرورة ان يكون الموجب لها اعنى

[Page 394] الذى يقتضى لها الدوام شيئا واجبا فى جوهره اذ قد ظهر من أمرها
وجوب المرور فيها الى غير نهاية اعنى الاشياء الممكنة فى جوهرها
فانه لو وجد وقت ليس فيه متحرك أصلا لما كان سبيل الى حدوث
الحركة وانما وجب ان يتصل الوجود الحادث بالوجود الازلى من غير
ان يلحق الاول تغير بوساطة الحركة التى هى من جهة قديمة ومن جهة
حادثة والمتحرك بهذه الحركة هو الذى يعبر عنه ابن سينا بواجب
الوجود بغيره وهذا الواجب من غيره لم يكن بد من ان يكون جسما
متحركا على الدوام فان بهذه الجهة امكن ان يوجد المحدث فى
جوهره والفاسد عن الازلى وذلك بالقرب من الشىء تارة والبعد
منه تارة كما ترى ذلك يعرض للموجودات الكائنة الفاسدة مع
الاجرام السماوية . [6] ولما كان هذا المحرك واجبا فى الجوهر ممكنا فى
الحركة المكانية وجب ضرورة ان ينتهى الامر الى واجب الوجود
باطلاق اى ليس فيه امكان أصلا لا فى الجوهر ولا فى المكان ولا
فى غير ذلك من الحركات وان يكون ما هذه صفته بسيطا ضرورة
لانه ان كان مركبا كان ممكنا لا واجبا واحتاج الى واجب
الوجود فهذا النحو من البيان كاف عندى فى هذا الطريق وهو حق .

[Page 395] [7] فاما ما يزيده ابن سينا فى هذه الطريقة ويقول ان الممكن الوجود
يجب ان ينتهى اما الى واجب الوجود من غيره أو واجب الوجود
من ذاته فان انتهى الى واجب الوجود من غيره وجب فى الواجب
الوجود من غيره ان يكون لازما عن واجب الوجود لذاته وذلك
انه زعم ان الواجب الوجود من غيره هو ممكن الوجود من ذاته
والممكن يحتاج الى واجب فانما كانت هذه الزيادة عندى فضلا وخطأ
لان الواجب كيف ما فرض ليس فيه امكان اصلا ولا يوجد شىء
ذو طبيعة واحدة ويقال فى تلك الطبيعة انها ممكنة من جهة واجبة
من جهة لانه قد بين القوم ان الواجب ليس فيه امكان أصلا لان
الممكن نقيض الواجب وانما الذى يمكن ان يوجد شىء واجب من
جهة طبيعة ما ممكن من جهة طبيعة اخرى مثل ما يظن الامر عليه فى
الجرم السماوى او فيما فوق الجرم السماوى أعنى انه واجب فى الجوهر
ممكن فى الحركة فى الاين . [8] وانما الذى قاده الى هذا التقسيم انه
اعتقد فى السماء انها فى جوهرها واجبة من غيرها ممكنة من ذاتها
وقد قلنا فى غير ما موضع ان هذا لا يصح والبرهان الذى استعمله
ابن سينا فى واجب الوجود متى لم يفصل هذا التفصيل وعين هذا
التعيين كان من طبيعة الاقاويل العامة الجدلية ومتى فصل كان من

[Page 396] طبيعة الاقاويل البرهانية . [9] وينبغى ان تعلم ان الحدوث الذى صرح
الشرع به فى هذا العالم هو من نوع الحدوث المشاهد ههنا وهو الذى
يكون فى صور الموجودات التى يسمونها الاشعرية صفات نفسية
وتسميها الفلاسفة صورا وهذا الحدوث انما يكون من شىء اخر وفى
زمان ويدل على ذلك قوله تعالى اولم ير الذين كفروا ان السماوات
والارض كانتا رتقا ففتقناهما الآية وقوله سبحانه ثم استوى
الى السماء وهى دخان الآية واما كيف حال طبيعة الموجود الممكن
مع الموجود الضرورى فسكت عنه الشرع لبعده عن افهام الناس
ولان معرفته ليست ضرورية فى سعادة الجمهور . [10] واما الذى تزعم
الاشعرية من ان طبيعة الممكن مخترعة وحادثة من غير شيء فهو
الذى يخالفهم فيه الفلاسفة من قال منهم بحدوث العالم او لم يقل فما
قالوه اذا تأملته بالحقيقة ليس هو من شريعة المسلمين ولا يقوم عليه
برهان . [11] والذى يظهر من الشريعة هو النهى عن المفاحص التى سكت
عنها الشرع ولذلك جاء فى الحديث لا يزال الناس يتفكرون حتى
يقولوا هذا خلق الله فمن خلق الله فقال النبى عليه السلام اذا وجد

[Page 397] احدكم ذلك فذلك محض الايمان وفى بعض طرق الحديث اذا وجد
ذلك أحدكم فليقرأ قل هو الله احد فاعلم ان بلوغ الجمهور الى مثل
هذا الطلب هو من باب الوسوسة ولذلك قال هذا محض الايمان

مسلكهم الثانى

[12] هو ان نقول وجود بلا ماهية ولا حقيقة غير معقول وكما
لا يعقل عدم مرسل الا بالاضافة الى موجود يقدر عدمه فلا يعقل وجود مرسل الا بالاضافة
الى حقيقة معينة لا سيما اذا تعين ذاتا واحدة فكيف يتعين واحد متميزا عن غيره بالمعنى
ولا حقيقة له فان نفى الماهية نفى للحقيقة واذا انتفت حقيقة الموجود لم يعقل الموجود
فكأنهم قالوا وجود ولا موجود وهو متناقض . ويدل عليه انه لو كان هذا معقولا لجاز ان
يكون فى المعلولات وجود لا حقيقة له يشارك الاول فى كونه لا حقيقة ولا ماهية له
ويباينه فى ان له علة والاول لا علة له فلمَ لا يتصوّر هذا فى المعلولات وهل له سبب الا انه
غير معقول فى نفسه وما لا يعقل فى نفسه فبأن تنفى علته لا يصير معقولا وما يعقل فبأن تقدر
له علة لا يخرج عن كونه معقولا. والتناهى الى هذا الحد غاية ظلماتهم فقد ظنوا انهم
يبرهنون فيما يقولون فانتهى كلامهم الى النفى المجرد فان نفى الماهية نفى الحقيقة ولا يبقى
مع نفى الحقيقة الا لفظ الوجود ولا مسمى له أصلًا اذا لم يضف الى ماهية
فان قيل حقيقته انه واجب وهو الماهية
قلنا ولا معنى للواجب الا نفى العلة وهو سلب لا يتقوم به حقيقة ذات ونفى العلة عن
الحقيقة لازم الحقيقة فلتكن الحقيقة معقولة حتى توصف بانها لا علة لها ولا يتصور عدمها اذ
لا معنى للوجوب الا هذا . على ان الوجوب ان زاد على الوجود فقد جاءت الكثرة
وان لم يزد فكيف يكون هو الماهية والوجود ليس بماهية فكذلك ما لا يزيد عليه

[Page 398]
[13] قلت هذا الفصل كله مغلط سفسطانى فان القوم لم يضعوا للاول
وجودا بلا ماهية ولا ماهية بلا وجود وانما اعتقدوا ان الوجود فى
المركب صفة زائدة على ذاته وان هذه الصفة انما استفادها من
الفاعل واعتقدوا فيما هو بسيط لا فاعل له ان هذه الصفة فيه ليست
زائدة على الماهية وانه ليس ماهية مغايرة للوجود لا انه لا ماهية
له أصلا كما بنى هو كلامه عليه فى معاندتهم
[14] ولما وضع انهم يرفعون الماهية وهو كذب أخذ يشنع عليهم
فقال ان
هذا لو كان معقولا لجاز ان يكون فى المعلولات موجود لا حقيقة له يشارك الاول فى
كونه لا حقيقة له

[Page 399] [15] فان القوم لم يضعوا موجودا لا ماهية له باطلاق وانما وضعوالا ماهية
له بصفات ماهيات سائر الموجودات وهذا الموضع هو من مواضع
السفسطة لان اسم الماهية مشترك فهذا الوضع وكل مركب على
هذا كلام سفسطانى وذلك ان المعدوم لا يتصف بنفى شىء عنه او
بايجابه فهذا الرجل فى امثال هذه المواضع فى هذا الكتاب لا يخلو
من الشرارة أو الجهل وهو اقرب الى الشرارة منه الى الجهل او
نقول ان هنالك ضرورة داعية الى ذلك
[16] واما قوله ان معنى واجب الوجود انه ليس له علة فغير صحيح
بل قولنا فيه واجب الوجود هو فيه صفة ايجابية لازمة عن طبيعة
ليس لها علة اصلا لا فاعلة من خارج ولا هى جزء منه
[17] واما قوله ان الوجوب ان زاد على الوجود فقد جاءت الكثرة وان لم يزد فكيف
يكون هو الماهية والوجود ليس بماهية فكذا ما لا يزيد عليه
[18] فان الوجوب ليس صفة زائدة عندهم على الذات وهى بمنزلة قولنا

[Page 400] فيه انه ضرورى وأزلى . [19] وكذلك الوجود اذا فهمنا منه صفة ذهنية
لم يكن أمرا زائدا على الذات واما ان فهمنا منه عرضا كما يقول ابن
سينا فى الموجود المركب فقد يعسر أن يقال كيف كان البسيط هو
نفس الماهية الا ان يقال كما يعود العلم فى البسيط هو نفس العالم
واما ان فهم من الموجود ما يفهم من الصادق فلا معنى لهذه الشكوك
وكذلك ان فهم من الموجود ما يفهم من الذات وعلى هذا يصح
القول ان الوجود فى البسيط هو نفس الماهية

[Page 401]

مسئلة فى تعجيزهم عن اقامة الدليل على ان الاول ليس بجسم

[1] قال ابو حامد فنقول هذا انما يستقيم لمن يرى ان الجسم حادث من حيث انه لا يخلو عن
الحوادث وكل حادث فيفتقر الى محدث فاما انتم اذا عقلتم جسما قديما لا أول لوجوده مع انه
لا يخلو عن الحوادث فلمَ يمتنع ان يكون الاول جسما اما الشمس واما الفلك الاقصى واما
غيره
فان قيل لان الجسم لا يكون الا مركبا منقسما الى جزئين بالكمية والى الهيولى والصورة
بالقسمة المعنوية والى اوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر الاجسام والا فالاجسام
متساوية فى انها اجسام وواجب الوجود واحد لا يقبل القسمة بهذه الوجود كلها
قلنا وقد ابطلنا عليكم هذا وبينا انه لا دليل لكم عليه سوى ان المجتمع اذا افتقر بعض
اجزائهِ الى البعض كان معلولا وقد تكلمنا عليه وبينا انه اذا لم يبعد تقدير موجود لا موجد
له لم يبعد تقدير مركَّب لا مركب له وتقدير موجودات لا موجد لها اذ نفى العدد والتثنية
بنيتموه على نفى التركيب ونفى التركيب على نفى الماهية سوى الوجود وما هو الاساس
الاخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه
فان قيل الجسم ان لم يكن له نفس لا يكون فاعلا وان كان له نفس فنفسه علة له فلا
يكون الجسم أولا
قلنا نفسنا ليست علة لوجود جسمنا ولا نفس الفلك بمجردها علة لوجود جسمه عندكم
بل هما يوجدان بعلة سواهما فاذا جاز وجودهما قديما جاز ان لا يكون لهما علة
فان قيل كيف اتفق اجتماع النفس والجسم
قلنا هو كقول القائل كيف اتفق وجود الاول فيقال هذا سؤال عن حادث فاما ما لم
يزل موجودا فلا يقال له كيف اتفق وكذلك الجسم ونفسه اذا لم يزل كل واحد
موجودا لم يبعد ان يكون صانعا

[Page 402]
[2] قلت اما من لا دليل له على ان الاول ليس بجسم الا من طريق
انه قد صح عنده ان كل جسم محدث فما اوهى دليله وأبعده من
طبيعة المدلول لما تقدم من أن بياناتهم التى بنوا عليها ان كل جسم
محدث بيانات مختلفة وما أحرى من جوز مركبا قديما كما حكيته
ههنا عن الاشعرية ان يجوز وجود جسم قديم لانه يكون من
الاعراض على هذا ما هو قديم وهو التركيب مثلا فلا يصح برهانهم
على ان كل جسم محدث لانهم انما بنوا ذلك على حدوث الاعراض .
[3] والقدماء من الفلاسفة ليس يجوزون وجود جسم قديم من ذاته بل
من غيره و ذلك لا بد عندهم من موجود قديم بذاته هو الذى صار

[Page 403] به الجسم القديم قديما لكن ان نقلنا اقاويلهم فى هذا الموضع صارت
جدلية فلتستبن فى مواضعها
[4] واما قوله فى الاعتراض على هذا
قلنا قد أبطلنا عليكم هذا وبينا انه لا دليل لكم عليه سوى ان المجتمع اذا افتقر بعض
اجزائه لبعض كان معلولا
فانه يريد انه قد تكلم فيما سلف وقال انه لا دليل لهم على ان واجب
الوجود بذاته لا يكون جسما لان معنى واجب الوجود بذاته لا علة
له فاعلة فمن اين منعوا وجود جسم لا علة له فاعلة لا سيما اذا وضع
جسما بسيطا غير منقسم لا بالكمية ولا بالكيفية وبالجملة مركب
قديم لا مركب له وهى معاندة صحيحة لا ينفصل عنها الا باقاويل
جدلية . [5] وجميع ما فى هذا الكتاب لابى حامد على الفلاسفة وللفلاسفة
عليه او على ابن سينا كلها اقاويل جدلية من قبل اشتراك الاسم
الذى فيها ولذلك لا معنى للتطويل فى ذلك
[6] وقوله مجيبا عن الاشعرية القديم من ذاته لا يفتقر الى علة من
قبلها كان قديما فاذا وضعنا نحن قديما من قبل ذاته ووضعنا الذات علة
للصفات فلم تصر الذات قديمة من اجل غيرها

[Page 404] [7] قلت قد يلزمه ان يكون القديم مركبا من علة ومعلول وان
تكون الصفات قديمة من قبل علة وهى الذات فان كان المعلول
ليس شرطا فى وجوده فالقديم هو العلة فلنقل ان الذات القائمة بذاتها
هى الاله وان الصفات معلولة فيلزمهم ان يضعوا شيئاً قديما بذاته
واشياء قديمة بغيرها ومجموع هذه هو الاله وهذا بعينه هو الذى
انكروه على من قال ان الاله قديم بذاته والعالم قديم بغيره أى بالاله
وهم يقولون ان القديم واحد وهذا كله فى غاية التناقض
[8] واما قوله ان انزالنا موجودا لا موجد له هو مثل انزالنا
مركبا لا مركب له وانزالنا موجودا واحدا بهذه الصفة او كثيرين
مما لا يستحيل فى تقدير العقل هو كله كلام مختل فان التركيب لا
يقتضى مركبا هو ايضا مركب فيفضى الامر الى مركب من ذاته
كما ان العلة ان كانت معلولة فانه يفضى الامر الى علة غير معلولة ولا
ايضا اذا أدى البرهان الى موجود لا موجد له امكن ان يبرهن من
هذا انه واحد
[9] واما قوله انه متى انتفت الماهية انتفى التركيب وان ذلك
موجب لاثبات التركيب فى الاول فغير صحيح فان القوم لا ينفون

[Page 405] الماهية عن الاول وانما ينفون ان يكون هنالك ماهية على نحو
الماهية التى فى المعلولات وهذا كله كلام جدلى ممارى
[10] وقد تقدم من قولنا الاقاويل المقنعة التى تقال فى هذا الكتاب
على أصول الفلاسفة فى بيان ان الاول ليس بجسم وهى ان الممكن
يؤدى الى موجود ضرورى وانه لا يصدر الممكن عن الضرورى
الا بوساطة موجود هو من جهة ضرورى ومن جهة ممكن وهو
الجرم السماوى وحركته الدورية ومن اقنع ما يقال على اصولهم ان
كل جسم فقوته متناهية وان هذا الجسم انما استفاد القوة الغير
متناهية الحركة من موجود ليس بجسم
[11] قال ابو حامد مجيبا عن الاعتراض الذى أوجب ألا يكون الفاعل
عند الفلاسفة الا الفلك الذى هو مركب من نفس و بدن
فان قيل لان الجسم من حيث انه جسم لا يخلق غيره والنفس المتعلقة بالجسم لا تفعل
الا بواسطة الجسم ولا يكون الجسم واسطة للنفس فى خلق الاجسام ولا فى ابداع النفوس
واشياء لا تناسب الاجسام
قلنا ولمَ لا يجوز ان يكون فى النفوس نفس تختص بخاصية تتهيأ بها ان توجد الاجسام
وغير الاجسام منها فاستحالة ذلك لا يعرف ضرورة ولا برهان يدل عليه الا انه لم يشاهد
من هذه الاجسام المشاهدة وعدم المشاهدة لا يدل على الاستحالة فقد أضافوا الى الموجود
الاول ما لا يضاف الى موجود أصلا ولم يشاهد من غيره وعدم المشاهدة من غيره لا
يدل على الاستحالة منه وكذا فى نفس الجسم والجسم

[Page 406]
[12] قلت اما القول بان الاجسام لا تخلق الاجسام فانه اذا فهم من
التخليق التكوين كان الامر الصادق بالضد وذلك انه لا يتكون
جسم فيما يشاهد الا عن جسم ولا جسم متنفس الا عن جسم متنفس
فانه لا يتكون الجسم المطلق ولو تكون الجسم المطلق لكان التكون
من عدم لا بعد العدم وانما تتكون الاجسام المشار اليها من اجسام
مشار اليها وعن اجسام مشار اليها وذلك بان ينتقل الجسم من اسم
الى اسم ومن حد الى حد فىتغير جسم الماء مثلا الى جسم النار بان
ينتقل من جسم الماء الصفة التى بانتقالها انتقل عنه اسم الماء
وحده الى اسم النار وحدها وذلك يكون ضرورة من جسم فاعل
اما مشاركة للمتكون بالنوع واما بالجنس المقول بتواطؤ او
بتقديم وتأخير وهل ينتقل شخص الجسيمة المخصوصة بالماء الى
شخص الجسمية المخصوصة بالنار فيه نظر

[Page 407] [13] واما قوله
فهو قول بنى من آراء الفلاسفة على رأى من يرى ان المعطى لصور
الاجسام التى ليست متنفسة وللنفوس هو جوهر مفارق اما عقل
واما نفس مفارقة وانه ليس يمكن ان يعطى ذلك جسم متنفس ولا
غير متنفس فانه اذا وضع هذا ووضع ان السماء جسم متنفس لم
يمكن فيها ان تعطى صورة من هذه الصور الكائنة الفاسدة لا
نفسا ولا غيرها فان النفس التى فى الجسم انما تفعل بوساطة الجسم وما
فعل بوساطة الجسم فليس توجد عنه لا صورة ولا نفس اذ كان
ليس من شأن الجسم ان يفعل صورة جوهرية لا نفسا ولا غيرها وهو
شبيه بقول أفلاطون فى الصور المجردة من المادة التى يقول بها وهذا
هو مذهب ابن سينا وغيره من فلاسفة الاسلام وحجتهم ان الجسم
انما يفعل فى الجسم حرارة او برودة أو رطوبة أو يبوسة وهذه هى
أفعال الاجسام السماوية عندهم فقط واما الذى يفعل الصور
الجوهرية وبخاصة المتنفسة فهو موجود مفارق وهو الذى يسمونه
واهب الصور . [14] وقوم من الفلاسفة يرون عكس هذا ويقولون ان

[Page 408] الذى يفعل الصور فى الاجسام هى اجسام ذوات صور مثلها اما
بالنوع واما بالجنس أما بالنوع فالاجسام الحية فهى تفعل اجساما
حية على ما يشاهد كالحيوان الذى يولد بعضها بعضا وأما بالجنس
ولا يتولد عن ذكر وانثى فالاجرام السماوية عندهم هى التى تعطيها
الحياة لانها حية ولهؤلاء حجج غير المشاهدة ليس هذا موضع
ذكرها
[15] ولذلك اعترض ابو حامد عليهم بهذا المعنى فقال
ولمَ لا يجوز ان يكون فى النفوس نفس تختص بخاصية تتهيأ بها ان توجد منها الاجسام
وغير الاجسام
[16] يريد ولم لا يجوز ان يكون فى النفوس التى فى الاجسام نفوس
تختص بتوليد سائر الصور المتنفسة وغير المتنفسة وما اغرب تسليم
أبى حامد ان المشاهدة معدومة فى تكون جسم عن جسم وليس
المشاهدة غير هذا

[Page 409] [17] وانت ينبغى ان تفهم انه متى جردت اقاويل الفلاسفة من
الصنائع البرهانية عادت اقاويل جدلية ولا بد ان كانت
مشهورة او منكرة غريبة ان لم تكن مشهورة والعلة فى ذلك
ان الاقاويل البرهانية انما تتميز من الاقاويل الغير برهانية اذا
اعتبرت بجنس الصناعة الذى فيه النظر فما كان منها داخلا فى حد
الجنس او الجنس داخلا فى حده كان قولا برهانيا وما لم يظهر فيه
ذلك كان قولا غير برهانى وذلك لا يمكن الا بعد ان تحدد طبيعة
ذلك الجنس المنظور فيه وتحدد الجهة التى من قبلها توجد المحمولات
الذاتية لذلك الجنس من الجهة التى لا توجد لها ويتحفظ فى تقرير
تلك الجهة فى قول قول من الاقاويل الموضوعة فى تلك الصناعة
بان تحضر ابدا نصب العين فمتى وقع فى النفس ان القول جوهرى
لذلك الجنس أو لازم من لوازم جوهره صح القول واما متى لم
تخطر هذه المناسبة بذهن الناظر أو خطرت خطورا ضعيفا فان القول
ظنى لا يقين ولذلك كان الفرق بين البرهان والظن الغالب فى حق
العقل ادق من الشعر عند البصر وأخفى من النهاية التى بين الظل
والضوء وبخاصة فى الامور المادية عند قوم عمى لاختلاط ما بالذات

[Page 410] فيها مع ما بالعرض . [18] ولذلك ما نرى ان ما فعل أبو حامد من نقل
مذاهب الفلاسفة فى هذا الكتاب وفى سائر كتبه وابرازها لمن لم
ينظر فى كتب القوم على الشروط التى وضعوها انه مغير لطبيعة ما
كان من الحق فى اقاويلهم او صارف اكثر الناس عن جميع اقاويلهم
فالذى صنع من هذا الشر عليه أغلب من الخير فى حق الحق ولذلك
علم الله ما كنت أنقل فى هذه الاشياء قولا من اقاويلهم ولا استجيز
ذلك لولا هذا الشر اللاحق للحكمة واعنى بالحكمة النظر فى الاشياء
بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان
[19] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل الجسم الاقصى او الشمس او ما قدر من الاجسام فهو متقدر بمقدار يجوز ان
يزيد عليه وينقص منه فيفتقر اختصاصه بذلك المقدار الجائز الى مخصص فلا يكون اولا
قلنا بمَ تنكرون على من يقول ان ذلك الجسم يكون على مقدار يجب ان يكون غاية
لنظام الكل ولو كان اصغر منه او اكبر لم يجز كما انكم قلتم ان المعلول الاول يقتضى الجرم
الاقصى منه متقدرا بمقدار وسائر المقادير بالنسبة الى ذات المعلول الاول متساوية ولكن تعين
بعض المقادير لكون النظام متعلقا به فوجب المقدار الذى وقع ولم يجز خلافه فكذا اذا قدر
غير معلول . بل لو اثبتوا فى المعلول الاول الذى هو علة الجرم الاقصى عند هم مبدأ للتخصيص
مثل ارادة مثل لم ينقطع السؤال اذ يقال ولم اراد هذا المقدار دون غيره كما الزموه على
المسلمين فى اضافتهم الاشياء الى الارادة القديمة وقد قلبنا ذلك عليهم فى تعين جهة حركة
السماء وفى تعين نقطتى القطبين . فاذا بان انهم مضطرون الى تجويز تميز الشىء عن مثله
والوقوع بعلة فتجويزه بغير علة كتجويزه بعلة اذ لا فرق بين ان يتوجه السؤال فى نفس
الشىء فيقال لم اختص بهذا القدر وبين ان يتوجه فى العلة فيقال ولم خصصه بهذا القدر عن
مثله فان امكن دفع السؤال عن العلة بان هذا المقدار ليس مثل غيره اذ النظام مرتبط به
دون غيره أمكن دفع السؤال عن نفس الشىء ولم يفتقر الى علة وهذا ما لا مخرج عنه فان
هذا المقدار المعين الواقع ان كان مثل الذى لم يقع فالسؤال متوجه انه كيف ميز الشىء عن
مثله خصوصًا على أصلهم وهم ينكرون الارادة المميزة وان لم يكن مثلا له فلا يثبت الجواز
بل يقال وقع كذلك قديما كما وقعت العلة القديمة بزعمهم . وليستمد الناظر فى هذا
الكلام مما أوردناه لهم من توحيه السؤال فى الارادة القديمة وقلبنا ذلك عليهم فى نقطة
القطب وجهة حركة الفلك
وتبين بهذا ان من لم يصدق بحدوث الاجسام فلا يقدر على اقامة دليل على ان الاول
ليس بجسم أصلًا

[Page 411]
[20] قلت ما أغرب كلام هذا الرجل فى هذا الموضع فانه وجه على
الفلاسفة اعتراضا بانهم لا يقدرون على اثبات صانع سوى الجرم
السماوى اذ كانوا يحتاجون فى ذلك الى الجواب باصل لا يعتقدونه
وانما يعتقده المتكلمون وهو قولهم ان كون السماء بمقدار محدود
دون سائر المقادير التى كان يمكن ان يكون عليها السماء هو لعلة
مخصصة والمخصص قد يكون قديما فان هذا الرجل قد غالط فى هذا

[Page 412] المعنى او غلط . [21] فان التخصيص الذى ألزمته الفلاسفة غير التخصيص
الذى ارادته الاشعرية وذلك ان التخصيص الذى تريده الاشعرية
انما هو تمييز الشىء اما من مثله واما من ضده من غير ان يقتضى ذلك
حكمة فى نفس الشىء اضطرت الى تخصيص أحد المتقابلين .
[22] والفلاسفة فى هذا الموضع انما ارادوا بالمخصص الذى اقتضته الحكمة
فى المصنوع وهو السبب الغائى فانه ليس عند الفلاسفة كمية فى
موجود من الموجودات ولا كيفية الا وهى الغاية فى الحكمة التى
لا تخلو من احد أمرين اما ان يكون ذلك أمرًا ضروريا فى طباع
فعل ذلك الموجود واما ان يكون فيه من جهة الافضل فانه لو كان
عندهم فى المخلوقات كمية او كيفىة لا تقتضى حكمة لكانوا قد
نسبوا الصانع الخالق الاول فى ذلك الى ما لا يجوز نسبته الى الصناع
المخلوقين الا على جهة الذم لهم وذلك انه لا عيب اشد من ان يقال
وقد نظر الى مصنوع ما فى كمية وكيفية لم اختار صانع هذا
المصنوع هذه الكمية وهذه الكيفية دون سائر الكميات ودون
سائر الكيفيات الجائزة فيه فيقال لانه اراد ذلك لا لحكمة وعبرة
فى المصنوع وكلها متساوية فى غاية هذا المصنوع الذى صنعه الصانع
من أجله اعنى من أجل فعله الذى هو الغاية وذلك ان كل مصنوع

[Page 413] فانما يفعل من اجل شىء ما وذلك الشىء لا يوجد صادرا عن ذلك
المصنوع الا وذلك المصنوع مقدر بكمية محدودة وان كان لها
عوض فى بعض المصنوعات [وكيفية محدودة] وطبيعة محدودة
ولو كان اى مصنوع اتفق يقتضى اى فعل اتفق لما كانت ههنا
حكمة اصلا فى مصنوع من المصنوعات ولا كانت ههنا صناعة
اصلا ولكانت كميات المصنوعات وكيفياتها راجعة الى هوى
الصانع وكان كل انسان صانعا او نقول ان الحكمة انما هى فى صنع
المخلوق لا فى صنع الخالق نعوذ بالله من هذا الاعتقاد فى الصانع
[23] الاول بل نعتقد ان كل ما فى العالم فهو لحكمة وان قصرت عن
كثير منها عقولنا وان الحكمة الصناعية انما فهمها العقل من الحكمة
الطبيعية فان كان العالم مصنوعا واحدا فى غاية الحكمة فهنا ضرورة
حكيم واحد هو الذى افتقرت الى وجوده السماوات والارضون
ومن فيها فانه ما من احد يقدر ان يجعل المصنوع من الحكمة
العجيبة علة نفسه فالقوم من حيث ارادوا ان ينزهوا الخالق الاول
ابطلوا الحكمة فى حقه وسلبوه أفضل صفاته

[Page 414]

المسئلة العاشرة فى بيان عجزهم عن اقامة الدليل على ان للعالم صانعا وعلة وان القول بالدهر لازم لهم

[1] قال ابو حامد فنقول من ذهب الى ان كل جسم فهو حادث لانه لا يخلو عن الحوادث
عقل مذهبهم فى قولهم انه افتقر الى صانع وعلة . واما انتم فما الذى يمنعكم من مذهب الدهرية
وهو ان العالم قديم كذلك ولا علة له ولا صانع وانما العلة للحوادث وليس يحدث فى العالم
جسم ولا ينعدم جسم وانما يحدث الصور والاعراض فان الاجسام هى السماوات وهى قديمة
والعناصر الاربعة التى هى حشو فلك القمر واجسامها وموادها قديمة وانما يتبدل عليها الصور
بالامتزاجات والاستحالات ويحدث النفوس الانسانية والحيوانية والنباتية فهذه الحوادث
تنتهى عللها الى الحركة الدورية والحركة الدورية قديمة ومصدرها نفس قديمة للفلك فاذا لا
علة للعالم ولا صانع لاجسام بل هو كما هو عليه لم يزل قديما كذلك بلا علة اعنى الاجسام فما
معنى قولهم ان هذه الاجسام وجودها بعلة وهى قديمة

[Page 415] [2] قلت الفلاسفة تقول ان من قال ان كل جسم محدث وفهم من
الحدوث الاختراع من لا موجود اى من العدم فقد وضع معنى من
الحدوث لم يشاهده قط وهذا يحتاج ضرورة الى برهان . [3] فاما ما حمل
عليهم من الاعتراضات فى هذا الفصل حتى الزمهم القول بالدهر فقد
قلنا الجواب عن ذلك فيما سلف فلا معنى للاعادة وجملة الامر ان
الجسم عندهم سواء كان محدثا او قديما ليس مستقلا فى الوجود بنفسه
وهى عندهم فى الجسم القديم واجبة على نحو ما هو عليه فى الجسم
المحدث الا ان الخيال لا يساعد كيفية وجودها فى القديم كما يساعد
فى الجسم المحدث ولذلك لما اراد ارسطو ان يبين كون الارض
مستديرة بطبائعها انزلها محدثة ليتصور العقل منها العلة ثم ينقلها الى
الازلية وذلك فى المقالة الثانية من السماء والعالم
[4] ولما اتى بالشناعات التى تلزم الفلاسفة أخذ مجاوبا عنهم ومعاندا
لاجوبتهم فقال
فان قيل كل ما لا علة له فهو واجب الوجود وقد ذكرنا من صفات واجب

[Page 416] الوجود ما تبين به ان الجسم لا يكون واجب الوجود
قلنا وقد بينا فساد ما ادعيتموه من صفات واجب الوجود وان البرهان لا يدل الا على
قطع السلسلة وقد انقطع عند الدهرى فى اول الامر اذ يقول لا علة للاجسام واما الصور
والاعراض فبعضها علة للبعض الى ان تنتهى الى الحركة الدورية وهى بعضها سبب للبعض
كما هو مذهب الفلاسفة وينقطع تسلسلها بها ومن تأمل ما ذكرناه علم عجز كل من يعتقد قدم
الاجسام عن دعوى علة لها ولزمه الدهر والالحاد كما صرح به فريق فهم الذين وفوا
بمقتضى نظر هؤلاء
[5] قلت كل هذا قد وقع الجواب عنه والتعريف بمرتبته من الاقاويل
التصديقية فلا معنى لاعادة الكلام فى ذلك
[6] واما الدهرية فالحس هو الذى اعتمدت عليه وذلك انه لما
انقطعت الحركات عندها بالجرم السماوى وانقطع به التسلسل ظنت
انه قد انقطع بالعقول ما انقطع بالحس وليس كذلك واما الفلاسفة
فانهم اعتبروا الاسباب حتى انتهت الى الجرم السماوى ثم اعتبروا
الاسباب المعقولة فافضى بهم الامر الى موجود ليس بمحسوس هو علة
ومبدأ للوجود المحسوس وهو معنى قوله سبحانه وكذلك نرى
ابراهيم ملكوت السماوات والارض الآية واما الاشعرية فانهم

[Page 417] جحدوا الاسباب المحسوسة اى لم يقولوا بكون بعضها اسبابا لبعض
وجعلوا علة الموجود المحسوس موجودا غير محسوس بنوع من
الكون غير مشاهد ولا محسوس وانكروا الاسباب والمسببات
وهو نظر خارج عن الانسان بما هو انسان
[7] قال ابو حامد معاندا للفلاسفة فى قولهم
فان قيل ان الدليل على ان الجسم لا يكون واجب الوجود [انه ان كان واجب
الوجود لم يكن له علة لا خارجه ولا داخله وان كان له علة لكونه مركبا كان باعتبار ذاته
ممكنا] وكل ممكن يفتقر الى واجب الوجود
قلنا لا يفهم لفظ واجب الوجود وممكن الوجود فكل تلبيساتهم فى هاتين اللفظتين
فلنعدل الى المفهوم وهو نفى العلة واثباته فكأنهم يقولون هذه الاجسام لها علة أم لا علة لها
فيقول الدهرى لا علة لها فما المستنكر واذا عنى بالامكان والوجوب هذا فنقول انه
واجب وليس بممكن وقولهم الجسم ليس يمكن ان يكون واجبا تحكم لااصل له
[8] قلت قد تقدم من قولنا انه اذا فهم من واجب الوجود ما ليس له
علة وفهم من ممكن الوجود ما له علة لم تكن قسمة الموجود بهذين

[Page 418] الفصلين معترفا بها فان للخصم ان يقول ليس كما ذكر بل كل موجود
لا علة له . [9] لكن اذا فهم من واجب الوجود الموجود الضرورى ومن
الممكن الممكن الحقيقى افضى الامر ولا بد الى موجود لا علة له
وهو ان يقال ان كل موجود فاما ان يكون ممكنا او ضروريا فان
كان ممكنا فله علة فان كانت تلك العلة من طبيعة الممكن تسلسل
الامر فيقطع التسلسل بعلة ضرورية ثم يسأل فى تلك العلة الضرورية
اذا جوز ايضا ان من الضرورى ما له علة وما ليس له علة فان
وضعت العلة من طبيعة الضرورى الذى له علة لزم التسلسل وانتهى
الامر الى علة ضرورية ليس لها علة . [10] وانما اراد ابن سينا ان يطابق بهذه
القسمة رأى الفلاسفة فى الموجودات وذلك ان الجرم السماوى عند
الجميع من الفلاسفة هو ضرورى بغيره واما هل الضرورى بغيره
فيه امكان بالاضافة الى ذاته ففيه نظر ولذلك كانت هذه الطريقة
مختلة اذا سلك فيها هذا المسلك فاما مسلكه فهو مختل ضرورة لانه
لم يقسم الموجود أولا الى الممكن الحقيقى والضرورى وهى القسمة
المعروفة بالطبع للموجودات
[11] ثم قال ابو حامد مجيبا للفلاسفة فى قولهم على ان الجسم ليس بواجب

[Page 419] الوجود بذاته لكونه له اجزاء هى علته
فان قيل لا ينكر ان الجسم له اجزاء وان الجملة انما تتقوم بالاجزاء وان الاجزاء
تكون سابقة فى الذات على الجملة
قلنا ليكن كذلك فالجملة تقومت بالاجزاء واجتماعها ولا علة للاجزاء ولا لاجتماعها بل هى
قديمة كذلك بلا علة فاعلية . فلا يمكنهم رد هذا الا بما ذكروه من لزوم نفى الكثرة عن
الموجود الاول وقد ابطلناه عليهم ولا سبيل لهم سواء
فبان ان من لا يعتقد حدوث الاجسام فلا يصل الاعتقاد فى الصانع اصلا
[12] قلت هذا القول لازم لزوما لا شك فيه لمن سلك طريقة واجب
الوجود فى اثبات موجود ليس بجسم وذلك ان هذه الطريقة لم
تسلكها القدماء وانما أول من سلكها فيما وصلنا ابن سينا وقد قال
انها اشرف من طريقة القدماء وذلك ان القدماء انما صاروا الى اثبات
موجود ليس بجسم هو مبدأ للكل من امور متأخرة وهى الحركة
والزمان وهذه الطريقة تفضى اليه فيما زعم اعنى الى اثبات مبدأ
بالصفة التى اثبتها القدماء من النظر فى طبيعة الموجود بما هو موجود
ولو أفضت لكان ما قال صحيحا لكنها ليس تفضى وذلك ان
واجب الوجود بذاته اذا وضع موجودا فغاية ما ينتفى عنه ان

[Page 420] يكون مركبا من مادة و صورة وبالجملة ان يكون له حد فاذا وضع
موجودا مركبا من اجزاء قديمة من شأنها ان تتصل بعضها ببعض
كالحال فى العالم واجزائه صدق على العالم واجزائه انه واجب الوجود
هذا كله اذا سلمنا ان ههنا موجودا هو واجب الوجود وقد قلنا
نحن ان الطريقة التى سلكها فى اثبات موجود بهذه الصفة ليست
برهانية ولا تفضى بالطبع اليها الا على النحو الذى قلنا . [13] واكثر ما
يلزم هذا القول اعنى ضعف هذه الطريقة عند من يضع ان ههنا جسما
بسيطا غير مركب من مادة وصورة وهو مذهب المشائين لان من
يضع مركبا قديما من اجزاء بالفعل فلا بد ان يكون واحدا بالذات
وكل وحدة فى شىء مركب فهى من قبل واحد هو واحد بنفسه
اعنى بسيطا ومن قبل هذا الواحد صار العالم واحدا ولذلك يقول
الاسكندر انه لا بد ان تكون ههنا قوة روحانية سارية فى جميع
اجزاء العالم كما يوجد فى جميع اجزاء الحيوان الواحد قوة تربط
اجزاءه بعضها ببعض والفرق بينهما ان الرباط الذى فى العالم قديم من
قبل ان الرابط قديم والرباط الذى بين اجزاء الحيوان ههنا كائن فاسد
بالشخص غير كائن ولا فاسد بالنوع من قبل الرباط القديم من قبل

[Page 421] انه لم يمكن فيه ان يكون غير كائن ولا فاسد بالشخص كالحال فى
العالم فتدارك الخالق سبحانه هذا النقص الذى لحقه بهذا النوع من
التمام الذى لا يمكن فيه غيره كما يقوله ارسطو فى كتاب الحيوان .
[14] وقد رأينا فى هذا الوقت كثيرا من اصحاب ابن سينا لموضع هذا
الشك قد تأولوا على ابن سينا هذا الرأى وقالوا انه ليس يرى ان
ههنا مفارقا وقالوا ان ذلك يظهر من قوله فى واجب الوجود فى
مواضع وانه المعنى الذى اودعه فى فلسفته المشرقية قالوا وانما سماها
فلسفة مشرقية لانها مذهب اهل المشرق فانهم يرون ان الآلهة
عندهم هى الاجرام السماوية على ما كان يذهب اليه وهم مع هذا
يضعفون طريق ارسطو فى اثبات المبدأ الاول من طريق الحركة .
[15] ونحن فقد تكلمنا فى هذه الطريقة غير ما مرة وبينا الجهة التى منها
يقع اليقين فيها وحللنا جميع الشكوك الواردة عليها وتكلمنا ايضا
على طريقة الاسكندر فى ذلك اعنى الذى اختاره فى كتابه الملقب
بالمبادى وذلك انه يظن انه عدل عن طريقة ارسطو الى طريقة اخرى
لكنها مأخوذة من المبادى التى بينها ارسطو وكلتا الطريقتين

[Page 422] صحيحة لكن الطبيعة اكثر [] ذلك هى طريقة ارسطو . [16] ولكن اذا
حققت طريقة واجب الوجود عندى على ما اصفه كانت حقا وان
كان فيها اجمال يحتاج الى تفصيل وهو ان يتقدمها العلم باصناف
الممكنات الوجود فى الجوهر والعلم باصناف الواجبة الوجود فى
الجوهر وهذه الطريقة هى ان نقول ان الممكن الوجود فى الجوهر
الجسمانى يجب ان يتقدمه واجب الوجود فى الجوهر الجسمانى وواجب
الوجود فى الجوهر الجسمانى يجب ان يتقدمه واجب الجود باطلاق
وهو الذى لا قوة فيه أصلا لا فى الجوهر ولا فى غير ذلك
من انواع الحركات وما هو هكذا فليس بجسم . [17] مثال ذلك ان الجرم
السماوى قد ظهر من أمره انه واجب الوجود فى الجوهر الجسمانى
والا لزم ان يكون هنالك جسم اقدم منه وظهر من أمره انه ممكن
الوجود فى الحركة التى فى المكان فوجب ان يكون المحرك له
واجب الوجود فى الجوهر والا يكون فيه قوة اصلا لا على

[Page 423] حركة ولا على غيرها فلا يوصف بحركة ولا سكون ولا بغير
ذلك من انواع التغيرات وما هو بهذه الصفة فليس بجسم اصلا ولا
قوة فى جسم . [18] واجزاء العالم الازلية انما هى واجبة الوجود فى الجوهر
اما بالكلية كالحال فى الاسطقسات الاربع واما بالشخص كالحال فى
الاجرام السماوية

[Page 424]

السئلة الحادية عشر فى تعجيز من يرى منهم ان الاول يعلم غيره ويعلم الاجناس والانواع بنوع كلى

[1] قال ابو حامد فنقول اما المسلمون فلما انحصر عندهم الوجود فى حادث وقديم ولم يكن
عندهم قديم الا ﷲ وصفاته وما عداه حادث من جهته بارادته حصل عندهم مقدمة ضرورية
فى علمه فان المراد بالضرورة لا بد ان يكون معلوما للمريد فبنوا عليه ان الكل معلوم له
لان الكل مراد له وحادث بارادته فلا كائن الا وهو حادث بارادته ولم يبق الا ذاته ومهما
ثبت انه مريد عالم بما اراده فهو هى بالضرورة وكل حى يعرف غيره فهو بأن يعرف ذاته
أولى فصار الكل عندهم معلوما لله تعالى وعرفوه بهذا الطريق بعد ان بان لهم انه مريد
لاحداث العالم
[2] قلت هذا القول انما قدمه توطئة ليقايس بينه وبين قول الفلاسفة
فى العلم القديم لكون هذا القول اقنع فى بادئ الرأى من قول

[Page 425] الفلاسفة وذلك ان المتكلمين اذا حقق قولهم وكشف أمرهم مع
من ينبغى ان يكشف ظهر انهم انما جعلوا الاله انسانا ازليا وذلك
انهم شبهوا العالم بالمصنوعات التى تكون عن ارادة الانسان وعلمه
وقدرته فلما قيل لهم انه يلزم ان يكون جسما قالوا انه أزلى وان كل
جسم محدث فلزمهم ان يضعوا انسانا فى غير مادة فعالا لجميع
الموجودات فصار هذا القول قولا مثاليا شعريا والاقوال المثالية
مقنعة جدا الا انها اذا تعقبت ظهر اختلالها . [3] وذلك انه لا شىء أبعد
من طباع الموجود الكائن الفاسد من طباع الموجود الازلى واذا
كان ذلك كذلك لم يصح ان يوجد نوع واحد مختلف بالازلية وعدم
الازلية كما يختلف الجنس الواحد بالفصول المقسّمة له وذلك ان
تباعد الازلى من المحدث أبعد من تباعد الانواع بعضها من بعض
المشتركة فى الحدوث فاذا كان بعد الازلى من غير الازلى اشدّ من
تباعد الانواع بعضها من بعض فكيف يصح ان ينتقل الحكم من
الشاهد الى الغائب وهما فى غاية المضادة . [4] واذا فهم معنى الصفات
الموجودة فى الشاهد وفى الغائب ظهر انهما باشتراك الاسم اشتراكا
لا يصح معه النقلة من الشاهد الى الغائب وذلك ان الحياة الزائدة

[Page 426] على العقل فى الانسان ليس تنطلق على شىء الا على القوة المحركة
فى المكان عن الارادة وعن الادراك الحاصل عن الحواس والحواس
ممتنعة على البارى سبحانه وابعد من ذلك الحركة فى المكان واما
المتكلمون فانهم يضعون حياة للبارى سبحانه من غير حاسة وينفون
عنه الحركة باطلاق فاذا اما الا يثبتوا للبارى تعالى معنى الحياة
الموجودة للحيوان التى هى شرط فى وجود العلم للانسان واما ان
يجعلوها هى نفس الادراك كما تقول الفلاسفة ان الادراك والعلم فى
الاول هما نفس الحياة . [5] وايضاً فان معنى الارادة فى الحيوان هى
الشهوة الباعثة على الحركة وهى فى الحيوان والانسان عارضة لتمام
ما ينقصهما فى ذاتهما . والبارى سبحانه محال ان تكون عنده شهوة
لمكان شىء ينقصه فى ذاته حتى تكون سببا للحركة والفعل اما فى
نفسه واما فى غيره فكيف يتخيل ارادة ازلية هى سبب لفعل محدث
من غير ان تزيد الشهوة فى وقت الفعل او كيف يتخيل ارادة
وشهوة حالهما قبل الفعل وفى وقت الفعل وبعد الفعل حال واحدة
دون ان يلحقها تغير وايضا الشهوة من حيث هى سبب للحركة

[Page 427] والحركة لا توجد الا فى جسم فالشهوة لا توجد الا فى جسم متنفس
فاذا ليس معنى الارادة فى الاول عند الفلاسفة الا ان فعله فعل صادر
عن علم فالعلم من جهة ما هو علم بالضدين ممكن ان يصدر عنه كل
واحد منهما وبصدور الافضل من الضدين دون الاخس عن العالم
بهما يسمى العالم فاضلا ولذلك يقولون فى البارى سبحانه ان الاخص
به ثلاث صفات وهو كونه عالما فاضلا قادرا ويقولون ان مشيّته
جارية فى الموجودات بحسب علمه وان قدرته لا تنقص عن مشيّتة
كما تنقص فى البشر
[6] هذا كله هو قول الفلاسفة فى هذا الباب واذا أورد هذا كما
أوردناه بهذه الحجج كان قولا مقنعاً له برهانيا فعليك ان تنظر فى
هذه الاشياء ان كنت من أهل السعادة التامة فى مواضعها من كتب
البرهان ان كنت ممن تعلمت الصنائع التى فعلها البرهان فان الصنائع
البرهانية أشبه شىء بالصنائع العملية وذلك انه كما أن ليس يمكن
من كان من غير أهل الصناعة أن يفعل فعل الصناعة كذلك ليس
يمكن من لم يتعلم صنائع البرهان ان يفعل فعل صناعة البرهان وهو
البرهان بعينه بل هذه الصناعة احرى بذلك من سائر الصنائع وانما

[Page 428] خالف القول فى هذا العمل لان العمل هو فعل واحد فلا يصدر
ضرورة الا عن صاحب الصناعة وأصناف الاقاويل كثيرة فيها
برهانية وغير برهانية والغير برهانية لما كانت تتأتى بغير صناعة ظن
بالاقاويل البرهانية انها تتأتى بغير صناعة وذلك غلط كبير ولذلك
ما كان من مواد الصنائع البرهانية ليس يمكن فيها قول غير القول
الصناعى لم يمكن فيها قول الا لصاحب الصناعة كالحال فى صنائع
الهندسة ولذلك كل ما وضعنا فى هذا الكتاب فليس هو قولا
صناعيا برهانيا وانما هى أقوال غير صناعية بعضها أشد اقناعا من
بعض فعلى هذا ينبغى أن يفهم ما كتبناه ههنا . ولذلك كان هذا
الكتاب أحق باسم التهافت من الفرقتين جميعا . [7] وهذا كله عندى تعد
على الشريعة وفحص عما لم تأمر به شريعة لكون قوى البشر مقصرة
عن هذا وذلك ان ليس كل ما سكت عنه الشرع من العلوم يجب
ان يفحص عنه ويصرح للجمهور بما أدى اليه النظر انه من عقائد
الشرع فانه يتولد عن ذلك مثل هذا التخليط العظيم فينبغى ان
يسكت من هذه المعانى عما سكت عنه الشرع ويعرف الجمهور

[Page 429] ان عقول الناس مقصرة عن الخوض فى هذه الاشياء ولا يتعدى
التعليم الشرعى المصرح به فى الشرع اذ هو التعليم المشترك للجميع
الكافى فى بلوغ سعادتهم وذلك انه كما ان الطبيب انما يفحص من
أمر الصحة على القدر الذى يوافق الاصحاء فى حفظ صحتهم والمرضى
فى ازالة مرضهم كذلك المر فى صاحب الشرع فانه انما يعرف
الجمهور من الامور مقدار ما تحصل لهم به سعادتهم . [8] وكذلك الحال
فى الامور العملية ولكن الفحص فى الامور العملية عما سكت عنه
الشرع أتم وخاصة فى المواضع التى يظهر انها من جنس الاعمال التى
فيها حكم شرعى ولذلك اختلف الفقهاء فى هذا الجنس فمنهم من نفى
القياس وهم الظاهرية ومنهم من أثبته وهم أهل القياس وهذا بعينه
هو لا حق فى الامور العلمية ولعل الظاهرية فى الامور العلمية أسعد
من الظاهرية فى الامور العملية . [9] والسائل من المتخاصمين فى امثال
هذه الاشياء ليس يخلو ان يكون من أهل البرهان أو لا يكون فان
كان من أهل البرهان تكلم عنه على طريقة البرهان وعرف ان هذا
النحو من التكلم هو خاص باهل البرهان وعرف بالمواضع التى نبه
الشرع أهل هذا الجنس من العلم على ما أدى اليه البرهان وان لم يكن

[Page 430] من أهل البرهان فلا يخلو ان يكون مؤمنا بالشرع أو كافرا فان
كان مؤمنا عرف ان التكلم فى مثل هذه الاشياء حرام بالشرع
وان كان كافرا لم يبعد على اهل البرهان معاندته بالحجج القاطعة
له هكذا ينبغى ان يكون حال صاحب البرهان فى كل شريعة
وبخاصة شريعتنا هذه الآلهية التى ما من مسكوت عنه فيها من
الامور العلمية الا وقد نبه الشرع على ما يؤدى اليه البرهان فيها
وسكت عنها فى التعليم العام . [10] واذ قد تقرر هذا فلنرجع الى ما كنا
بسبيله مما دعت اليه الضرورة والا فالله العالم والشاهد والمطلع انا ما
كنا نستجيز ان نتكلم فى هذه الاشياء هذا النحو من التكلم
[11] ولما وصف أبو حامد الطرق التى منها اثبت المتكلمون صفة
العلم وغيرها على انه فى غاية البيان لكونها فى غاية الشهرة وفى غاية
السهولة فى التصديق بها أخذ يقايس بينها وبين طرق الفلاسفة فى
هذه الصفات وذلك فعل خطبى فقال

[Page 431] - مخاطبا للفلاسفة فاذا زعمتم ان العالم قديم لم يحدث بارادته
فمن أين عرفتم انه يعرف غير ذاته فلا بد من الدليل عليه
[12] ثم قال

الاول
ان الاول موجود لا فى مادة وكل موجود لا فى مادة فهو عقل محض
فجميع المعقولات مكشوفة له فان المانع عن درك الاشياء كلها التعلق بالمادة والاشتغال بها
ونفس الآدمى مشغول بتدبير المادة اى البدن واذا انقطع شغله ولم يكن قد تدنس بالشهوات
البدنية والصفات الرذيلة المتعدية اليه من الامور الطبيعية انكشف له حقائق المعقولات كلها
ولذلك قضى بان الملائكة كلهم يعرفون جميع المعقولات ولا يشذّ عنهم شىء لانهم أيضًا عقول
مجردة لا فى مادة
[13] ثم لما حكى قولهم قال رادا عليهم
فنقول قولكم الاول موجود لا فى مادة ان كان المعنى انه ليس بجسم ولا منطبع فى
جسم بل هو قائم بنفسه من غير تحيز واختصاص بجهة فهو مسلم . فيبقى قولك وما هذه صفته
فهو عقل مجرد فما ذا تعنى بالعقل ان عنيت ما يعقل سائر الاشياء فهذا نفس المطلوب وموضع
النزاع فكيف اخذته فى مقدمات قياس المطلوب وان عنيت به غيره وهو انه يعقل نفسه فربما
يسلك لك اخوانك من الفلاسفة ذلك ولكن يرجع حاصله الى ان ما يعقل نفسه يعقل غيره

[Page 432] فيقال ولم ادعيت هذا وليس ذلك بضرورى وقد انفرد به ابن سينا عن سائر الفلاسفة فكيف
تدعيه ضروريا وان كان نظريا فما البرهان عليه
فان قيل لان المانع من درك الاشياء المادة ولا مادة
فنقول نسلم انه مانع ولا نعلم انه المانع فقط وينتظم قياسهم على شكل القياس الشرطى
وهو ان يقال ان كان هذا فى المادة فهو لا يعقل الاشياء ولكنه ليس فى المادة فاذا يعقل
الاشياء فهذا استثناء نقيض المقدم واستثناء نقيض المقدم غير منتج بالاتفاق وهو كقول
القائل ان كان هذا انسانا فهو حيوان لكنه ليس بانسان فاذا ليس بحيوان فهذا لا يلزم
اذ ربما لا يكون انسانا ويكون فرسا فيكون حيوانا نعم استثناء نقيض المقدم ينتج نقيض
التالى على ما ذكر فى المنطق بشرط وهو ثبوت انعكاس التالى على المقدم وذلك بالحصر وهو
كقولهم ان كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكن الشمس ليست طالعة فالنهار غير
موجود لان وجود النهار لا سبب لهُ سوى طلوع الشمس فكان احدهما منعكسا على الآخر
وبيان هذه الاوضاع والالفاظ يفهم فى كتاب مدارك العقول الذى صنفاه مضموما الى هذا
الكتاب
فان قيل فنحن ندعى التعاكس وهو ان المانع محصور فى المادة فلا مانع سواه
قلنا هذا تحكم فما الدليل عليه
[14] قلت أول ما فى هذا الكلام من الاختلال حكاية المذهب
والحجة عليه ان ما أورد فيه من المقدمات التى اوردها على انها
كالاوائل هى عندهم نتائج عن مقدمات كثيرة . [15] وذلك انه لما تبين
عندهم ان كل موجود محسوس مؤلف من مادة وصورة وان الصورة

[Page 433] هى المعنى الذى به صار الموجود موجودا وهى المدلول عليها بالاسم
والحد وعنها يصدر الفعل الخاص بموجود موجودوهو الذى دل على
وجود الصور فى الموجود وذلك انهم لما ألفوا الجواهر فيها قوى فاعلة
خاصة بموجود موجود وقوى منفعلة اما خاصة واما مشتركة وكان
الشىء ليس يمكن ان يكون منفعلا بالشىء الذى هو به فاعل وذلك
ان الفعل نقيض الانفعال والاضداد لا تقبل بعضها بعضا وانما يقبلها
الحامل لها على جهة التعاقب مثال ذلك ان الحرارة لا تقبل البرودة
وانما الذى يقبل البرودة الجسم الحار بان تنسلخ عنه الحرارة ويقبل
البرودة وبالعكس فلما ألفوا حال الفعل والانفعال بهذه الحال وقفوا
على ان جميع الموجودات التى بهذه الصفة مركبة من جوهرين جوهر
هو فعل وجوهر هو قوة ووجدوا ان الجوهر الذى بالفعل هو كمال
الجوهر الذى بالقوة وهو له كالنهاية فى الكون اذ كان غير متميز عنه
بالفعل . [16] ثم لما تصفحوا صور الموجودات تبين لهم انه يجب ان يرتقى
الامر فى هذه الجواهر الى جوهر بالفعل عرى من المادة فلزم أن يكون
هذا الجوهر فاعلا غير منفعل أصلا والا يلحقه كلال ولا تعب ولا
فساد اذ كان هذا انما لحق الجوهر الذى بالفعل من قبل انه كمال الجوهر
الذى بالقوة لا من قبل انه فعل محض وذلك انه لما كان الجوهر الذى

[Page 434] بالقوة انما يخرج الى الفعل من قبل جوهر هو بالفعل لزم ان ينتهى
الامر فى الموجودات الفاعلة المنفعلة الى جوهر هو فعل محض وان
ينقطع التسلسل بهذا الجوهر وبيان وجود هذا الجوهر من جهة ما
هو محرك وفاعل بالمقدمات الذاتية الخاصة به هو موجود فى المقالة
الثامنة من الكتاب الذى يعرفونه بالسماع الطبيعى . [17] فلما أثبتوا هذا
الجوهر بطرق خاصة وعامة على ما هو معلوم فى كتبهم نظروا فى
طبيعة الصور المحركة الهيولانية فوجدوا بعضها أقرب الى الفعل
وأبعد مما بالقوة لكونها متبرية عن الانفعال أكثر من غيرها الذى
هو علامة المادة الخاصة بها وألفوا النفس من هذه الصور أشدها
تبريا عن المادة وبخاصة العقل حتى شكوا فيه هل هو من الصور
المادية أو ليس من الصور المادية ولما التفتوا للصور المدركة من
صور النفس ووجدوها متبرية عن الهيولى علموا ان علة الادراك
هو التبرى من الهيولى ولما وجدوا العقل غير منفعل علموا ان
العلة فى كون الصورة جمادا أو مدركة ليس شيئا اكثر من انها اذا
كانت كمال ما بالقوة كانت جمادا او غير مدركة واذا كانت كمالا

[Page 435] محضا لا تشوبهاالقوة كانت عقلا وهذا كله قد ثبت بترتيب برهانى
وأقيسة طبيعية ليس يمكن أن تتبين فى هذا الموضع بالترتيب
البرهانى الا لو اجتمع ما شأنه أن يكتب فى كتب كثيرة مختلفة فى
موضع واحد وذلك شىء يعرف من ارتاض فى صناعة المنطق أدنى
ارتياض انه غير ممكن فمن هذا النحو من الطرق وقفوا على ان ما
ليس منفعلا أصلا فهو عقل وليس بجسم لان كل منفعل جسم عندهم
فى مادة . فوجه الاعتراض على الفلاسفة فى هذه الاشياء انما يجب أن
يكون فى الاوائل التى استعملوها فى بيان هذه الاشياء لا فى هذه
الاشياء انفسها التى اعترض عليهم هذا الرجل . [18] فبهذا وقفوا على ان
ههنا موجودا هو عقل محض ولما رأوا ايضاً النظام ههنا فى الطبيعة
وفى افعالها يجرى على النظام العقلى الشبيه بالنظام الصناعى علموا أن
ههنا عقلا هو الذى افاد هذه القوى الطبيعية أن يجرى فعلها على نحو
فعل العقل فقطعوا من هذين الامرين على ان ذلك الموجود الذى هو
عقل محض هو الذى افاد الموجودات الترتيب والنظام الموجود فى
أفعالها . [19] وعلموا من هذا كله أن عقله ذاته هو عقله الموجودات كلها

[Page 436] وان مثل هذا الموجود ليس ما يعقل من ذاته هو غير ما يعقل من
غيره كالحال فى العقل الانسانى وانه لا يصح فيه التقسيم المتقدم وهو
ان يقال كل عقل فاما ان يعقل ذاته أو غيره أو يعقلهما جميعا ثم يقال
انه ان عقل غيره فمعلوم انه يعقل ذاته [واما ان عقل ذاته] فليس
يجب ان يعقل غيره وقد تكلمنا فى هذا فيما تقدم
[20] وكل ما تكلم فيه من القياس الشرطى الذى صاغه على ما
تأوله فليس بصحيح وذلك ان القياس الشرطى لا يصح الا حتى يتبين
المستثنى منه واللزوم بقياس حملى اما واحدا واما أكثر من واحد
والقياس الصحيح الشرطى فى هذه المسئلة هو هكذا ان كان ما ليس
يعقل هو فى مادة فما ليس فى مادة فهو يعقل وذلك اذا تبين صحة هذا
الاتصال وصحة المستثنى وهى المقدمات التى قلنا انها عندهم نتائج
ونسبها هذا الرجل اليهم على انها عندهم أوائل أو قريبة من الاوائل .
[21] واذا تأول على ما قلناه كان قياسا صحيح الشكل صحيح المقدمات
اما صحة شكله فان الذى استثنى منه هو مقابل التالى فانتج مقابل
المقدم لا كما زعم هو انهم استثنوا مقابل المقدم وأنتجوا مقابل
التالى لكن لما كانت ليست أوائل ولا هى مشهورة ولا يقع فى

[Page 437] بادئ الرأى بها تصديق أتت فى غاية الشناعة لا سيما عند من لم يسمع
قط من هذه الاشياء شيئا . [22] فلقد شوش العلوم هذا الرجل تشويشا
عظيما وأخرج العلم عن أصله وطريقه
[23] قال ابو حامد

الفن الثانى
قولهم انا وان لم نقل ان الاول مريد الاحداث
ولا ان الكل حادث حدوثا ثانيا فانا نقول انه فعله وقد وجد منه . الا أنه لم يزل بصفة
الفاعلين فلم يزل فاعلا فلا نفارق غيرنا الا فى هذا القدر وأما فى أصل الفعل فلا واذا
وجب كون الفاعل عالما بالاتفاق بفعله فالكل عندنا من فعله
والجواب من وجهين
احدهما ان الفعل قسمان ارادى كفعل الحيوان والانسان وطبيعى كفعل الشمس فى
الاضاءَة والنار فى التسخين والماء فى التبريد وانما يلزم العلم بالفعل فى الفعل الارادى كما فى
الصناعات البشرية واما الفعل الطبيعى فلا . وعندكم ان الله تعالى فعل العالم بطريق اللزوم عن
ذاته بالطبع والاضطرار لا بطريق الارادة والاختيار بل لزم الكل ذاته كما يلزم النور الشمس
وكما لا قدرة للشمس على كف النور ولا للنار على كف التسخين فلا قدرة للاول على
الكف عن افعاله تعالى عن قولهم علوا كبيرا وهذا النمط وان تجوز بتسميته فعلا فلا
يقتضى علما الفاعل اصلًا
فان قيل بين الامرين فرق وهو ان صدر الكل عن ذاته بسبب علمه بالكل فتمثل
النظام الكلى سبب فيضان الكل ولا سبب له سوى العلم بالكل والعلم بالكل عين

[Page 438] ذاته فلو لم يكن له علم بالكل لما وجد منه الكل بخلاف النور من الشمس
قلنا وفى هذا خالفك اخوانك فانهم قالوا ذاته ذات يلزم منه وجود الكل على ترتيبه
بالطبع والاضطرار لا من حيث انه عالم بها فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقتهم على نفى
الارادة ولما لم يشترط علم الشمس بالنور للزوم النور بل يتبعه النور ضرورة فليقدر
ذلك فى الاول ولا مانع له
[24] قلت استفتح هذا الفصل بان حكى عن الفلاسفة شيئاً شنيعاً
وهو أن البارى سبحانه ليس له ارادة لا فى الحادثات ولا فى الكل
لكون فعله صادرا عن ذاته ضرورة كصدور الضوء من الشمس ثم
حكى عنهم انهم قالوا من كونه فاعلا يلزم أن يكون عالما . [25] والفلاسفة
ليس ينفون الارادة عن البارى سبحانه ولا يثبتون له الارادة
البشرية لان البشرية انما هى لوجود نقص فى المريد وانفعال عن
المراد فاذا وجد المراد له تم النقص وارتفع ذلك الانفعال المسمى
ارادة وانما يثبتون له من معنى الارادة ان الافعال الصادرة عنه هى
صادرة عن علم وكل ما صدر عن علم وحكمة فهو صادر بارادة
الفاعل لا ضروريا طبيعياً اذ ليس يلزم عن طبيعة العلم صدور الفعل
عنه كما حكى هو عن الفلاسفة لانه اذا قلنا انه يعلم الضدين لزم أن
يصدر عنه الضدان معا وذلك محال فصدور احد الضدين عنه يدل على
صفة زائدة على العلم وهى الارادة هكذا ينبغى ان يفهم ثبوت
الارادة فى الاول عند الفلاسفة فهو عندهم عالم مريد عن علمه ضرورة

[Page 439] [26] وأما قوله ان الفعل قسمان اما طبيعى واما ارادى فباطل
بل فعله عند الفلاسفة لا طبيعى بوجه من الوجوه ولا ارادى باطلاق
بل ارادى منزه عن النقص الموجود فى ارادة الانسان ولذلك اسم
الارادة مقول عليهما باشتراك الاسم كما ان اسم العلم كذلك على
العلمين القديم والحادث فان الارادة فى الحيوان والانسان انفعال
لا حق لهما عن المراد فهى معلولة عنه هذا هو المفهوم من ارادة
الانسان والبارى سبحانه منزه عن ان يكون فيه صفة معلولة فلا
يفهم من معنى الارادة الا صدور الفعل مقترنا بالعلم فان العلم كما قلنا
بالضدين ففى العلم الاول بوجه ما علم بالضدين ففعله احد الضدين
دليل على ان ههنا صفة أخرى وهى التى تسمى ارادة
[27] قال ابو حامد وهو انا نسلم ان صدور الشىء عن الفاعل يقتضى العلم
بالصادر فعندهم فعل الله تعالى واحد وهو المعلول الذى هو عقل بسيط فينبغى أن لا يكون
عالما الا به والمعلول الاول يكون عالما ايضا بما صدر منه فقط فان الكل لم يوجد من الله
تعالى دفعة بل بالوسائط والتولد واللزوم فالذى يصدر مما يصدر منه لم ينبغ ان يكون

[Page 440] معلوما له ولم يصدر منه الا شىء واحد . بل هذا لا يلزم فى الفعل الارادى فكيف فى الطبيعى
فان حركة الحجر من فوق جبل قد يكون بتحريك ارادى يوجب العلم باصل الحركة ولا
يوجب العلم بما يتولد منه بواسطة من مصادمته وكسره غيره فهذا ايضا لا جواب
لهم عنه
[28] قلت الجواب عنه ان يقال ان الفاعل الذى علمه فى غاية التمام
يعلم ما صدر عن ما صدر منه وما صدر من ذلك الصادر الى آخر ما
صدر فان كان الاول فى غاية العلم فيجب ان يكون عالما بكل ما
صدر عنه بوساطة أو بغير وساطة وليس يلزم عنه ان يكون علمه من
جنس علمنا لان علمنا ناقص ومتأخر عن المعلوم
[29] ثم قال ابو حامد مجيباً عن الاعتراض الذى اعترض على الفلاسفة
فقال
فان قيل لو قضينا بانه لا يعرف الا نفسه لكان ذلك فى غاية الشناعة فان غيره يعرف
نفسه ويعرف غيره فيكون فى الشرف فوقه وكيف يكون المعلول أشرف من العلة
[30] قلت هذا الجواب ناقص فانه عارض فيه المعقول بالشنيع

[Page 441] [31] ثم جاوب هو فقال
قلنا هذه الشناعة لازمة من مفاد الفلاسفة فى نفى الارادة ونفى حدث العالم فيجب
ارتكابها كما ارتكب سائر الفلاسفة أو لا بد من ترك الفلسفة والاعتراف بان العالم حادث
بالارادة
[32] قلت يريد انه يجب عليهم ان كانوا ممن أوجبوا انه يعرف
مصنوعه من قبل الشناعة ان يلتزموا هذه الشناعة كما قالوا بشناعة
أخرى من قدم العالم ونفى الارادة وهم لم ينفوا الارادة وانما نفوا
الجزء الناقص منها
[33] ثم قال بم تنكرون على من قال من الفلاسفة ان ذلك ليس بزيادة شرف فان العلم انما
احتاج اليه غيره ليستفيد كما لا فانه فى ذاته قاصر والانسان شرف بالمعقولات اما ليطلع على
مصلحته فى العواقب فى الدنيا والآخرة واما لتكمل ذاته المظلمة الناقصة وكذا سائر
المخلوقات واما ذات الله تعالى فمستغنية عن التكميل بل لو قدر له علم يكمل به لكان
ذاته من حيث ذاته ناقصا . وهذا كما قلت فى السمع والبصر وفى العلم بالجزئيات الداخلة
تحت الزمان فانك وافقت سائر الفلاسفة بان الله تعالى منزه عنه وان التغيرات الداخلة فى
الزمان المنقسمة الى ما كان ويكون لا يعرفها الاول لان ذلك يوجب تغيرا فى ذاته وتأثرا

[Page 442] ولم يكن فى سلب ذلك عنه نقصان بل هو كمال وانما النقصان فى الحواس والحاجة اليها ولو لا
نقصان الآدمى لما احتاج الى حواس لتحرسهُ عما يتعرض للتغير له . وكذلك العلم بالحوادث
الجزئية زعمتم انه نقصان . فاذا كنا نعرف الحوادث كلها وندرك المحسوسات كلها والاول
لا يعرف شيئا من الجزئيات ولا يدرك شيئا من المحسوسات ولا يكون ذلك نقصانا فالعلم
بالكليات العقلية ايضًا يجوز ان يثبت لغيره ولا يثبت له ولا يكون ذلك نقصانا ايضا
وهذا لا مخرج عنه
[34] قلت هذه حجة من يقول انه لا يعرف الا ذاته وقد حكينا
مذهب القوم فى الجمع بين قولهم انه لا يعرف الا ذاته وانه يعرف
جميع الموجودات ولذلك يقول بعض مشاهيرهم ان البارى سبحانه
هو الموجودات كلها وانه المنعم بها فلا معنى لتكرير القول فى ذلك .
[35] والمقدمات المستعملة فى هذا الفصل مشهورة جدلية لانها كلها من
باب قياس الغائب على الشاهد اللذين لا يجمعهما جنس ولا بينهما
مشاركة أصلا وبالجملة فكلامه فى هذا الفصل مع ابن سينا لما احتج
بقول من يقول من الفلاسفة انه يعلم ذاته ويعلم غيره اذ لا بد ان
يعرف ما فعل وجملة المقدمات التى يحكيها عن ابن سينا فى تثبيت
هذا المذهب ويستعملها هو ايضا فى معاندته هى مأخوذة من الامور
المعروفة من الانسان ويروم نقلتها الى البارى سبحانه وذلك لا يصح

[Page 443] لان المعرفتين مقولة باشتراك الاسم . [36] وذلك ان ما يقوله ابن سينا ان
كل عاقل يصدر عنه فعل ما فهو عالم بذلك الفعل هى مقدمة صادقة
لكن لا على نحو علم الانسان بالشىء الذى يعقله لان عقل الانسان
مستكمل بما يدركه ويعقله وينفعل عنه وسبب الفعل فيه هو التصور
بالعقل . [37] وبما يوجد فى هذا الجنس من المقدمات يرد عليه ابو حامد
وذلك ان كل من يفعل من الناس فعلا ويلزم عن ذلك الفعل فعل
آخر وعن الثانى ثالث وعن الثالث رابع فليس يلزم ان يعرف الفاعل
العاقل اللوازم التى تلزم عن فعله الاول ويقول له ان هذا أمر
موجود فى الذى يفعل بارادة فكيف اذا وضعتم عالما لا يفعل
بارادة وانما قال هذا لان الذى اعتمد هو فى تثبيت العلم للبارى
سبحانه تثبيت الارادة له . ولهذا قال يعنى فى
انه ليس يلزم ان يكون الاول يعقل عنده من الغير الا الفعل
الذى لزم عنه اوّلا وهو العلة الثانية والمعلول الاول . وكذلك ما
حكى عنه من انه لو كان يعقل ذاته ولا يعقل غيره لكان الانسان
أشرف منه وعلة وجود الاقناع فى هذا القول انه متى توهم الانسان

[Page 444] انسانين احدهما لا يعقل الا ذاته والآخر يعقل ذاته وغيره حكم ان
العقل الذى يعقل ذاته وغيره اشرف من الذى يعقل ذاته و لا يعقل
غيره فاما من عقله باشتراك الاسم مع هذا العقل من قبل ان أحدهما
فاعل لا منفعل والآخر منفعل لا فاعل فليس تصح هذه النقلة . [38] ولما
احتج عن ابن سينا بمقدمة يسملها هو فى كل ذى عقل وهو ان
الاكثر علما أشرف وكان فيما زعم ان نفى الفلاسفة الارادة ونفيهم
الحدوث هو الذى أوجب عليهم ان لا يقدروا ان يثبتوا ان الاول
يعلم غيره لانه انما يعلم الفاعل العاقل مفعولة الذى هو غيره من حيث
هو مريد له قال ان هذه الشناعة انما تلزم الفلاسفة فقط يريد كون
المعلول الذى هو الانسان اشرف من العلة الذى هو الخالق سبحانه
لانهم اذا نفوا حدوث العالم كما زعم نفوا الارادة واذا انتفت الارادة
انتفى ان يعلم ما يصدر عنه وهذا كله قد تقدم انه ليس بصحيح
أعنى نفى الارادة عن البارى سبحانه وانما ينفون الارادة المحدثة
[39] ولما احتج عن ابن سينا بمقدمات يظن انها عامة للعلمين المحدث
والازلى اخذ يحتج عليه بما تقول الفلاسفة فى هذا الباب من الفرق

[Page 445] بين العلمين وهو شىء لازم له فى الحقيقة فقال
ثم يقال بم تنكرون على من قال من الفلاسفة ان ذلك ليس بزيادة شرف فان العلم انما
احتاج اليه غيره الى آخر ما كتبناه
[40] وتلخيصه ان هذه الادراكات كلها ان كانت لنقص فى الآدمى
فالبارى منزه عنها فهو يقول لابن سينا انه كما اتفقت مع اصحابك
ان كونه لا يدرك الجزئيات ليس لنقص فيه اذ كان قد قام البرهان
عندك على ان ادراك الجزئيات هو لموضع نقص فى المدرك كذلك
عدم ادراك الغير ليس يلزم ان يكون لنقص فيه اذ كان ادراك الغير
هو الذى يكون لموضع نقص المدرك
[41] والانفصال عن هذا كله ان علمه ليس يقتسم فيه الصدق
والكذب المتقابلات التى تقتسم الصدق والكذب على علم
الانسان مثال ذلك ان الانسان يقال فيه اما ان يعلم الغير واما ان
لا يعلمه على انهما متناقضان اذا صدق أحدهما كذب الآخر وهو
سبحانه يصدق عليه الامران جميعا اعنى الذى نعلمه ولا نعلمه أى

[Page 446] لا يعلمه بعلم يقتضى نقصا وهو العلم الانسانى ويعلمه بعلم لا يقتضى
نقصا وهو العلم الذى لا يدرك كيفيته الا هو وكذلك الامر فى
الكليات والجزئيات يصدق عليه سبحانه انه يعلمها ولا يعلمها هذا
هو الذى تقتضيه أصول الفلاسفة القدماء منهم واما من فصل فقال
انه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات فغير محيط بمذهبهم ولا لازم
لاصولهم فان العلوم الانسانية كلها انفعالات وتاثيرات عن الموجودات
الموجودات هى المؤثرة فيها وعلم البارى سبحانه هو المؤثر فى
الموجودات والموجودات هى المنفعلة عنه
[42] واذا تقرر هذا فقد وقعت الراحة من جميع المشاجرة بين أبى
حامد وبين الفلاسفة فى هذا الباب وفى الباب الذى يلى هذا وفى
الذى يلى الذى يليه ولكن على كل حال فلنذكر نحن هذه الابواب
وننبه فيها على ما يخصها ونذكر ما سلف من ذلك

[Page 447]

المسئلة الثانية عشر فى تعجيز هم عن اقامة الدليل على انه يعرف ذاته

[1] فنقول المسلمون لما عرفوا حدوث العالم بارادته استدلوا بالارادة على العلم ثم بالارادة
والعلم جميعا على الحياة ثم بالحياة على ان كل حى يشعر بنفسه وهو حى فيعرف ايضا ذاته
فكان هذا منهجا معقولا فى غاية المتانة . فاما انتم فاذا نفيتم الارادة والاحداث وزعمتم ان ما
يصدر عنه يصدر بلزوم على سبيل الضرورة والطبع فاى بعد فى ان تكون ذاته ذاتا من شأنها
ان يوجد منه المعلول الاول فقط ثم يلزم المعلول الاول المعلول الثانى الى تمام ترتيب الموجودات
ولكنه مع ذلك لا يشعر بذاته كالنار يلزم منها السخونة والشمس يلزم منها النور ولا يعرف
واحد منهما ذاته كما لا يعرف غيره بل ما يعرف ذاته يعرف ما يصدر عنه فيعرف غيره وقد
بينا من مذهبهم انه لا يعرف غيره وألزمنا من خالفهم فى ذلك موافقتهم بحكم وضعهم فاذا
لم يعرف غيره لم يبعد الا يعرف نفسه
فان قيل كل من لا يعرف نفسه فهو ميت فكيف يكون الاول ميتا
قلنا فقد لزمكم ذلك على مساق مذهبكم اذ لا فصل بينكم وبين من قال كل من لا
يفعل بارادة وقدرة واختيار ولا يسمع ولا يبصر فهو ميت ومن لا يعرف غيره فهو ميت

[Page 448] فان جاز ان يكون الاول خاليا عن هذه الصفات كلها فاى حاجة به الى ان يعرف ذاته .
فان عادوا الى ان كل برىء من المادة عقل بذاته فيعقل نفسه فقد بينا ان ذلك تحكم
لا برهان عليه
وان قالوا البرهان عليه ان الموجود ينقسم الى حى وميت والحى اقدم واشرف من
الميت والاول أقدم وأشرف فليكن حيا وكل حى يشعر بذاته اذ يستحيل ان يكون فى
معلولاته الحى وهو لا يكون حيا
قلنا هذه تحكمات فنا نقول لم يستحيل ان يلزم مما لا يعرف نفسه ما يعرف نفسه
بالوسائط الكثيرة أو بغير واسطة فان كان المحيل لذلك كون المعلول أشرف من العلة فلم
يستحيل ان يكون المعلول اشرف من العلة وليس هذا بديهيًا . ثم بم تنكرون ان شرفه
فى ان الوجود الكلى تابع لذاته لا فى علمه والدليل عليه ان غيره ربما عرف اشياء سوى
ذاته ويرى ويسمع وهو لا يرى ولا يسمع . ولو قال قائل الموجود ينقسم الى البصير
والاعمى والعالم والجاهل فليكن البصير أقدم وليكن الاول بصيرا وعالما بالاشياء . لكنهم
ينكرون ذلك ويقولون ليس الشرف فى البصر والعلم بالاشياء بل فى الاستغناء عن البصر
والعلم وكون الذات بحيث يوجد منها الكل الذى فيه العلماء وذوو الابصار فكذلك لا
شرف فى معرفة الذات بل فى كونه مبدأ الذوات العرافة وهذا شرف مخصوص به
فبالضرورة يضطرون إلى نفى علمه أيضا بذاته، إذ لا يدل على شيء من ذلك سوى الإرادة
ولا يدل على الارادة سوى حدوث العالم وبفساد ذلك يفسد هذا كله على من يأخذ هذه
الامور من نظر العقل فجميع ما ذكروه من صفات الاول او نفوه لا حجة لهم عليها الا
تخمينات وظنون يستنكف الفقهاء منها فى الظنيات ولا غرو لو حار العقل فى الصفات
الالهية ولا عجب انما العجب من عجبهم بانفسهم وبادلتهم ومن اعتقادهم انهم عرفوا هذه
الامور معرفة يقينية مع ما فيها من الخبط والخبال

[Page 449]
[2] قلت من أعجب الاشيا دعواهم ان حدوث العالم يلزم عنه ان
يكون عن ارادة والحوادث نجدها تحدث عن الطبيعة وعن الارادة
وعن الاتفاق . اما التى تحدث عن الارادة فهى الامور الصناعية واما
التى تحدث عن الطبيعة وهى الامور الطبيعية ولو كان الحادث لا
يحدث الا عن ارادة لكانت الارادة مأخوذة فى حده ومعلوم ان حد
الحادث هو الموجود بعد العدم . [3] والعالم ان كان حادثا فهو ان يحدث
من حيث هو موجود طبيعى عن مبادى امور طبيعية احرى منه
ان يحدث من مبادى صناعية وهى الارادة ولكن اذا ثبت انه وجد
عن فاعل اول آثر وجوده على عدمه وجب ان يكون مريدا وان كان
لم يزل مؤثرا للوجود والمريد كما قال يلزم ان يكون عالما فقد شاركتهم
الفلاسفة فى هذا الاصل والقول كله الذى حكاه عن المتكلمين انما
صار مقنعا لان فيه تشبيه الامور الطبيعية بالامور الصناعية
[4] واما قوله عن الفلاسفة انهم يرون ان ما يصدر عن البارى
سبحانه يصدر على طريق الطبع فقول باطل عليهم والذى يرون فى

[Page 450] الحقيقة ان صدور الموجودات عنه هو بجهة اعلى من الطبيعة والارادة
الانسانية فان كلتا الجهتين يلحقهما النقصان وليس تقتسمان الصدق
والكذب اذ قام البرهان انه لا يجوز ان يكون صدور الفعل عنه
سبحانه صدورا طبيعيا ولا صدورا اراديا على نحو مفهوم الارادة
ههنا فان الارادة فى الحيوان هى مبدأ الحركة واذا كان الخالق يتنزه
عن حركة فهو يتنزه عن مبدأ الحركة على الجهة التى يكون بها
المريد فى الشاهد فهو صادر عنه بجهة أشرف من الارادة ولا يعلم
تلك الجهة الا هو سبحانه والبرهان على انه مريد انه عالم بالضدين فلو
كان فاعلا من جهة ما هو عالم فقط لفعل الضدين معا وذلك مستحيل
فوجب ان يكون فعله أحد الضدين باختيار . [5] ومما يلبسون به فى هذا
الباب قولهم ان كل فعل اما ان يكون بالطبع او بالارادة وهم لا
يفهمون معنى الطبع ولا معنى الارادة فان معنى الطبع عند الفلاسفة
يقع على معان اولها صعود النار الى فوق وهوى الارض الى أسفل
وهذه الحركة انما تصدر عن الموجود اذا لحقه أمر عارض وهو
تكون الشىء فى غير موضعه وهنالك قاسر يقسره والبارى سبحانه
منزه عن هذا الطبع ويطلقون ايضا اسم الطبع على كل قوة يصدر
عنها فعل عقلى مثل الافعال التى تصدر عن الصنائع فبعضهم ينسب

[Page 451] هذه الطبيعة الى انها عقل وبعضهم يقول ان ليس لها عقل وانما
تفعل بالطبع وهم يقولون انها صادرة عن عقل لانهم يشبهونها
بالامور الصناعية التى تتحرك من ذاتها وتصدر عنها افعال مرتبة
منتظمة ولذلك يقول ارسطو رئيسهم انه من الظاهر ان طبيعة العقل
مستولية على الكل فما أبعد هذا الاعتقاد مما قوّلهم به أبو حامد
[6] واما من يضع حكما كليا ان العارف بذاته يعرف غيره الذى
صدر عنه فانه يلزمه أن من لا يعرف غيره لا يعرف ذاته ولما كان
قد ابطل على ابن سينا قوله انه يعرف غيره بما ساق عليه من حجج
الفلاسفة فى ذلك ألزمه ان يكون الاول لا يعرف ذاته والالزام
صحيح
[7] واما ما حكاه عن الفلاسفة من احتجاجهم فى هذا الباب بقولهم
ان من لا يعرف ذاته فهو ميت والاول لا يمكن ان يكون ميتا
فهو قول اقناعى مؤلف من مقدمات مشهورة وذلك ان من ليس
بحى فليس هو ميتا الا ان يكون شأنه ان يقبل الحياة الا ان يريد
بميت ما يدل عليه لفظ موات وجماد فحينئذ يقتسم هذا التقابل
الصدق والكذب وذلك ان كل موجود فاما ان يكون حيا واما
جمادا هذا اذا فهمنا من الحياة انها مقولة باشتراك الاسم على الازلى
والفاسد

[Page 452] [8] واما قوله فان عادوا الى ان كل ما هو يرى عن المادة فهو عقل بذاته فيعقل نفسه فقد
قلنا ان ذلك تحكم لا برهان عليه
فانه قد سلف من قولنا وجه برهانهم عليه بحسب ما يبقى من قوة
البرهان عليه اذا وضع فى هذا الكتاب أعنى انه تنقص قوته ولا بد
بمنزلة الشىء اذا خرج من موضعه الطبيعى
[9] واما ما حكاه ايضاً عن احتجاج الفلاسفة فى هذا بقولهم ان
الموجود اما ان يكون حيا او ميتا والحى أشرف من الميت والمبدأ
أشرف من الحى فهو حى ضرورة فاذا فهم من الميت الموات كانت
المقدمات مشهورة صادقة
[10] واما قوله انه يمكن ان يصدر مما ليس بحى حياة وعن ما ليس
بعالم علم ويكون الشرف للمبدأ انما هو من جهة ما هو مبدأ للكل
فقط فقول كاذب فانه لو جاز ان يصدر عن ما ليس بحى حياة لجاز
أن يصدر عما ليس بموجود موجود ولجاز ان يصدر أى شىء اتفق من
أى شىء اتفق ولم يكن جملة بين الاسباب والمسببات موافقة لا فى
الجنس المقول بتقديم وتأخير ولا فى النوع

[Page 453] [11] وما قوله ان قولهم ان ما هو أشرف من الحى فهو حى بمنزلة
قول القائل ما هو أشرف مما له سمع وبصر فله سمع وبصر وهم لا
يقولون هذا لانهم ينفون عن المبدأ الاول السمع والبصر واذا جاز
عندهم ان يكون ما هو اشرف من السميع والبصير ليس بسميع
ولا بصير فيجوز ان يكون ما هو أشرف من الحى ومن العالم غير
حى ولا عالم وايضا كما يجوز عندهم ان يصدر عما ليس له بصر ما له
صر كذلك يجوز ان يصدر عما ليس له علم ما له علم وهذا الكلام
هو سفسطانى مغلط جدا فانه انما صار عندهم ما ليس له سمع ولا
بصر أشرف مما لا سمع وبصر لا باطلاق بل من جهة ما له ادراك
اشرف من البصر والسمع وهو العلم فلما كان العلم ليس فوقه شىء
فى الشرف لم يجز ان يكون ما ليس بعالم أشرف مما هو عالم مبدأ
كان او غير مبدأ . [12] وذلك ان المبادى لما كانت منها عالم ومنها غير
عالم لم يجز ان يكون غير العالم منها أشرف من العالم كالحال فى
المعلولات العالمة وغير العالمة فشرفية المبدأ ليس يمكن ان تفضل
شرفية العلم الا لو فضلت شرفية المبدأ الغير عالم شرفية المبدأ العالم

[Page 454] وليس يمكن ان تكون فضيلة المبدأ اشرف من فضيلة العلم ولذلك
وجب ان يكون المبدأ الذى فى غاية الشرف فى الغاية من الفضيلة
وهى العلم . [13] وانما فر القوم عن ان يصفوه بالسمع والبصر لانه يلزم
عن وصفه بهما ان يكون ذا نفس وانما وصف نفسه فى الشرع بالسمع
والبصر تنبيها على انه سبحانه لا يفوته نوع من انواع العلوم
والمعرفة ولم يمكن تعريف هذا المعنى للجمهور الا بالسمع والبصر
ولذلك كان هذا التأويل خاصاً بالعلماء ولا يجوز ان يجعل من عقائد
الشرع المشتركة للجميع كما جرت عادة كثير من المنسوبين الى العلم
بالشريعة
[14] فجميع ما تضمن هذا الفصل تمويه وتهافت من ابى حامد فانا لله
وانا اليه راجعون على زلل العلماء ومسامحتهم لطلب حسن الذكر فى
امثال هذه الاشياء اسأل لله ان لا يجعلنا ممن حجب بالدنيا عن
الاخرى وبالادنى عن الاعلى ويختم لنا بالحسنى انه على كل شىء قدير

[Page 455]

المسئلة الثالثة عشر فى ابطال قولهم ان ﷲ تعالى عن قولهم لا يعرف الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان الى الكائن وما كان وما يكون

[1] وقد اتفقوا على ذلك فان من ذهب منهم الى انه لا يعلم الا نفسه فلا يخفى هذا من
مذهبه ومن ذهب الى انه يعلم غيره وهو الذى اختاره ابن سينا فقد زعم انه يعلم الاشياء
علما كليا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضى والمستقبل والآن ومع ذلك زعم انه لا يغرب
عن علمه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الارض لانه يعلم الجزئيات بنوع كلى
ولا بد اولا من فهم مذهبهم ثم الاثتفال بالاعتراض
ونبين هذا بمثال وهو ان الشمس مثلا تنكسف بعد ان لم تكن منكسفة ثم تنجلى
فيحصل له ثلاثة أحوال اعنى الكسوف حالة هو فيها معدوم ولكنه كان منتظر الوجود اى
سيكون وحال هو فيها موجود اى هو كائن وحال ثالثة هو فيها معدوم ولكنه كان من قبل

[Page 456] ولنا بازاء هذه الثلاثة انحاء من الوجوه ثلاثة علوم مختلفة فانا نعلم اولا ان الكسوف معدوم
وسيكون وثانيا نه كائن وثالثا انه كان وليس كائنا الآن وهذه العلوم الثلاثة متعددة
ومختلفة وتعاقبها على المحل يوجب تغير الذات العالمة فانه لو علم بعد الانجلاء ان الكسوف
موجود الآن كما كان قبل كان جهلا لا علما ولو علم عند وجوده انه معدوم كان جهلا فبعض
هذه لا تقوم مقام بعض . فزعموا ان ﷲ تعالى لا يختلف حاله فى هذه الاحوال الثلاث
فانه يؤدى الى التغير وما لم تختلف حاله لم يتصور ان يعلم هذه الامور الثلاثة فان العلم يتبع
المعلوم فاذا تغير المعلوم تغير العلم واذا تغير العلم فقد تغير العالم لا محالة والتغير على ﷲ تعالى
محال . ومع هذا زعموا انه يعلم الكسوف وجميع صفاته وعوارضه ولكن علما يتصف به
فى الازل ولا يختلف مثل ان يعلم مثلا ان الشمس موجودة وان القمر موجود وانهما
حصلا منه بوساطة الملائكة التى سموها باصطلاحهم عقولا مجردة ويعلم انها تتحرك حركات
دورية ويعلم ان بين فلكيهما تقاطع على نقطتين هما الرأس والذنب وانهما يجتمعان فى بعض
الاحوال فى العقدتين فتنكسف الشمس أى يحول جرم القمر بينها وبين أعين الناظرين
فتستتر الشمس عن الاعين وانه اذا جاوزت العقدة مثلا بمقدار كذا وهو سنة مثلا فانها
تنكسف مرة أُخرى وان ذلك الانكساف يكون فى جميعها او ثلثها او نصفها وانه يمكث
ساعة او ساعتين وهكذا الى جميع احوال الكسوف وعوارضه فلا يغرب عن علمه شىء ولكن
علمه بهذا قبل الكسوف وحالة الكسوف وبعد الانجلاء على وتيرة واحدة لا يختلف ولا يوجب
تغيرا فى ذاته . وهكذا علمه بجميع الحوادث فانها انما تحدث باسباب وتلك الاسباب لها اسباب
أُخر الى ان تنتهى الى الحركة الدورية السماوية وسبب الحركة نفس السماوات وسبب تحريك
النفس الشوق الى التشبه بالله تعالى والملائكة المقربين فالكل معلوم له اى هو منكشف

[Page 457] له انكشافا واحدا متناسبا لا يؤثر فيه الزمان ومع هذا فحالهَ الكسوف لا يقال انه يعلم ان
الكسوف موجود الآن ولا يعلم بعده انه انجلى الآن وكل ما يجب فى تعريفه الاضافة الى
الزمان فلا يتصور ان يعلمه لانه يوجب التغير هذا فيما ينقسم بالزمان . وهكذا مذهبهم فيما
ينقسم بالمادة والمكان كاشخاص الناس والحيوانات فانهم يقولون لا يعلم عوارض زيد وعمرو
وخالد وانما يعلم الانسان المطلق بعلم كلى ويعلم عوارضه وخواصه وانه ينبغى ان يكون بدنه
مركبا من اعضاء بعضها للبطش وبعضها للمشى وبعضها للادراك وبعضها زوج وبعضها فرد
وان قواه ينبغى أن تكون مبثوثة فى أجزائه وهلم جرا الى كل صفة فى داخل الادمى وباطنه
وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه حتى لا يغرب عن علمه شىء ويعلمه كليا . فاما شخص
زيد فانما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل فان عماد التميز اليه الاشارة الى جهة
معينة والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية والمكان الكلى فاما قولنا هذا وهذا فهو اشارة الى
نسبة خاصة بذلك المحسوس الى الحاس لكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة
وذلك يستحيل فى حقه
[2] ثم وهذه قاعدة اعتقدوها واستأصلوا بها الشرائع بالكلية اذ مضمونها ان زيدا مثلا لو
أطاع الله او عصاه لم يكن الله عالما بما يتجدد من أحواله لانه لا يعرف زيدا بعينه فانما شخص
وافعاله حادثة بعد ان لم تكن واذا لم يعرف الشخص لم يعرف أحواله وافعاله بل لا يعرف
كفر زيد ولا اسلامه وانما يعلم كفر الانسان واسلامه مطلقا كليا لا مخصوصا بالاشخاص
بل يلزم ان يقال تحدى محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة وهو لا يعرف فى تلك الحال انه
تحدى بها وكذلك الحال مع كل نبى معين وانه انما يعلم ان من الناس من يتحدى بالنبوة
وان صفة اولئك كذا وكذا فاما النبى المعين شخصه فلا يعرفه فان ذلك يعرف بالحس

[Page 458] والاحوال الصادرة منه لا يعرفها لانها أحوال تنقسم بانقسام الزمان من شخص معين ويوجب
ادراكها على اختلافها تعيرا
فهذا ما اردنا ان نذكره من نقل مذهبهم أولا ثم من تفهيمه ثانيًا ثم من القبايح اللازمة
عليه ثالثا
[3] العناد فلنذكر الآن خيالهم ووجه بطلانه وخيالهم ان هذه الاحوال ثلث مختلفة
والمختلفات اذا تعاقبت على محل واحد وجب فيه تغير لا محالة فان كان حالةَ الكسوف عالما بانه
سيكون كما كان قبله فهو جاهل لا عالم وان كان عالما بانه كائن وقبل ذلك كان عالما بانه ليس
بكائن وانه سيكون فقد اختلف علمه واختلف حاله فلزم التغير اذ لا معنى للتغير الا
اختلاف العلم واذا اختلف العلم اختلف العالم فان من لم يعلم شيئا ثم علمه فقد تغير ولم
يكن له علم بانه كائن ثم حصل حالة الوجود فقد تغير . وحققوا هذا بان الاحوال
ثلاث حال هى اضافة شخصية محضة كقولنا يمينًا وشمالًا فان هذا لا يرجع الى وصف
ذاتى بل هو اضافة محضة فان تحول الشىء الذى كان عن يمينك الى شمالك تغيرت اضافتك
ولم تتغير ذاتك بحال فهذا تبدل اضافة على الذات وليس تتبدل الذات . ومن هذا القبيل
اذا كنت قادرا على تحريك اجسام حاضرة بين يديك فانعدمت الاجسام او انعدم بعضها لم
تتغير بذلك قوتك الغريزية ولا قدرتك لان القدرة قدرة على تحريك الجسم المطلق اولا ثم
على المعين ثانيا من حيث انه جسم فلم تكن اضافة القدرة الى الجسم المعين وصفا ذاتيا بل
اضافة محضة فعدمها يوجب زوال اضافة لا تغيرا فى حال القادر . والثانى تغير فى الذات
وهو ان لا يكون عالما فيعلم ولا يكون قادرا فيقدر فهذا تغير . وتغير المعلوم يوجب

[Page 459] تغير العلم فان حقيقة ذات العلم تدخل فيه الاضافة الى المعلوم الخاص اذ حقيقة العلم المعين
تعلقه بذلك المعلوم المعين على ما هو عليه فتعلقه به على وجه آخر علم آخر بالضرورة فتعاقبه
يوجب الاختلاف فى حال العلم . ولا يمكن ان يقال ان للذات علما واحدا فيصير علما
بالكون بعد كونه علما بانه سيكون ثم هو يصير علما بانه كان بعد ان كان علما بانه كائن
فالعلم واحد متشابه الاحوال وقد تبدلت عليه الاضافة لان الاضافة فى العلم حقيقة ذات
العلم فتبدلها يوجب تبدل ذات العلم فيلزم منه التغير وهو محال على الله تعالى
والاعتراض من وجهين
ان يقال بمَ تنكرون على من يقول ان الله تعالى له علم واحد بوجود
الكسوف مثلا فى وقت معين وذلك العلم قبل وجوده علم بانه سيكون وهو بعينه عند
الوجود علم بالكون وهو بعينه بعد الانجلاء علم بالانقضاء وان هذه الاختلافات ترجع الى
اضافات لا توجب تبدلا فى ذات العلم فلا توجب تغيرا فى ذات العالم وان ذلك ينزل منزلة
الاضافة المحضة فان الشخص الواحد يكون على يمينك ثم يرجع الى قدامك ثم الى شمالك
فتتعاقب عليك الاضافات والمتغير ذلك الشخص المنتقل وهكذا ينبغى ان يفهم الحال فى
علم الله تعالى فانا نسلم انه يعلم الاشياء بعلم واحد فى الازل والابد والحال لا تتغير
وغرضهم نفى التغير وهو متفق عليه وقولهم من ضرورة اثبات العلم بالكون الآن والانقضاء
بعده تغير فليس بمسلم فمن اين عرفوا ذلك بل لو خلق الله تعالى لنا علما بقدوم زيد غدا عند
طلوع الشمس وادام هذا العلم ولم يخلق لنا علما آخر ولا غفلة عن هذا العلم لكنا عند طلوع
الشمس عالمين بمجرد العلم السابق بقدومه الآن وبعده بانه قدم من قبل وكان ذلك العلم
الواحد الباقى كافيا فى الاحاطة بهذه الاحوال الثلاث
فيبقى قولهم ان الاضافة الى المعلوم المعين داخلة فى حقيقته ومهما اختلفت الاضافة اختلف
الشىء الذى الاضافة ذاتية له ومهما حصل الاختلاف والتعاقب فقد حصل التغير . فنقول ان
صح هذا فاسلكوا مسلك اخوانكم من الفلاسفة حيث قالوا انه لا يعلم الا نفسه وان علمه
بذاته عين ذاته لانه لو علم الانسان المطلق والحيوان المطلق والجمال المطلق وهذه مختلفات لا

[Page 460] محالة فالاضافة اليها تختلف لا محالة فلا يصلح العلم الواحد ان يكون علما بالمختلفات لان
المضاف مختلف والاضافة مختلفة والاضافة الى المعلوم ذاتية للعلم فيوجب ذلك تعددا واختلافا
لا تعددا فقط مع التماثل اذ المتماثلات ما يسد بعضها مسد البعض والعلم بالحيوان لا يسد مسد
العلم بالجماد ولا العلم بالبياض يسد مسد العلم بالسواد فهما مختلفان . ثم هذه الانواع والاجناس
والعوارض الكلية لا نهاية لها وهى مختلفة فالعلوم المختلفة كيف تنطوى تحت علم واحد ثم
ذلك العلم هو ذات العالم من غير مزيد عليه . وليت شعرى كيف يستجيز العاقل من نفسه
بان يحيل الاتحاد فى العلم بالشىء الواحد المنقسم أحواله الى الماضى والمستقبل والآن ولا
يحيل الاتحاد فى العلم المتعلق بجميع الاجناس والانواع المختلفة والاختلاف والتباعد بين
الاجناس والانواع المتباعدة أشد من الاختلاف الواقع بين أحوال الشىء الواحد المنقسم
بانقسام الزمان فاذا لم يوجب ذلك تعددا واختلافا فكيف يوجب هذا تعددا واختلافا
ومهما ثبت بالبرهان ان اختلاف الازمان دون اختلاف الاجناس والانواع وان ذلك
لم يوجب التعدد والاختلاف فهذا ايضًا لا يوجب الاختلاف واذا لم يوجب الاختلاف
جازت الاحاطة بالكل بعلم واحد دائم فى الازل والابد ولا يوجب ذلك تغيرا فى
ذات العالم
[4] قلت الاصل فى هذه المشاغبة تشبيه علم الخالق سبحانه بعلم
الانسان وقياس احد العلمين على الثانى وذلك ان ادراك الانسان
للاشخاص بالحواس وادراك الموجودات العامة بالعقل والعلة فى
الادراك هو المدرَك نفسه فلا شك فى تغير الادراك بتغير المدركات
وفى تعددها بتعددها

[Page 461] [5] واما جوابه عن ذلك بانه ممكن ان يكون ههنا علم نسبة
المعلومات اليه نسبة المضافات التى ليست الاضافة فى جوهرها مثل
اليمين والشمال فى ذى اليمين والشمال فشىء لا يعقل من طبيعة العلم
الانسانى فهذه المعاندة سفسطانية
[6] واما العناد الثانى وهو قوله ان من قال من الفلاسفة انه يعلم
الكليات فانه يلزمهم انهم اذا أجازوا على علمه تعدد الانواع فليجيزوا
تعدد الاشخاص وتعدد أحوال الشخص الواحد بعينه فعناد
سفسطانى فان العلم بالاشخاص هو حس أو خيال والعلم بالكليات
هو عقل وتجدد الاشخاص او احوال الاشخاص يوجب شيئين تغير
الادراك وتعدده وعلم الانواع والاجناس ليس يوجب تغيرا اذ علمها
ثابت وانهما يتحدان فى العلم المحيط بهما وانما يجتمعان اعنى الكلية
والجزئية فى معنى التعدد
[7] واما قوله ان من يجعل من الفلاسفة علما واحدا بسيطا محيطا
بالاجناس والانواع من غير أن يكون هنالك تعدد واختلاف
يقتضيه اختلاف الانواع والاجناس وتباعدها بعضها من بعض فقد

[Page 462] يجب عليه ان يجوز علما واحدا يحيط بالاشخاص المختلفة وأحوال
الشخص الواحد المختلفة فهو بمنزلة من قال انه ان وجد عقل يحيط
بالانواع والاجناس وهو واحد فقد يجب ان يوجد جنس واحد بسيط
يحيط بالاشخاص المختلفة وهو قول سفسطانى لان اسم العلم مقول
عليهما باشتراك الاسم . [8] وقوله ان تعدد الانواع والاجناس يوجب
التعدد فى العلم صحيح ولذلك المحققون من الفلاسفة لا يصفون
علمه سبحانه بالموجودات لا بكلى ولا بجزئى وذلك ان العلم الذى
هذه الامور لازمة له هو عقل منفعل ومعلول والعقل الاول هو
فعل محض وعلة فلا يقاس علمه على العلم الانسانى فمن جهة ما لا
يعقل غيره من حيث هو غير هو علم غير منفعل ومن جهة ما يعقل
الغير من حيث هو ذاته هو علم فاعل
[9] وتلخيص مذهبهم انهم لما وقفوا بالبراهين على انه لا يعقل الا
ذاته فذاته عقل ضرورة ولما كان العقل بما هو عقل انما يتعلق
بالموجود لا بالمعدوم وقد قام البرهان على انه لا موجود الا هذه
الموجودات التى نعلقها نحن فلا بد أن يتعلق عقله بها اذ كان لا يمكن

[Page 463] ان يتعلق بالعدم ولا هنا صنف آخر من الموجودات يتعلق بها واذا
وجب أن يتعلق بهذه الموجودات فاما ان يتعلق بها على نحو تعلق
علمنا بها واما أن يتعلق بها على وجه أشرف من جهة تعلق علمنا بها
وتعلق علمه بها على نحو تعلق علمنا بها مستحيل فوجب ان يكون
تعلق علمه بها على نحو أشرف ووجود اتم لها من الوجود الذى تعلق
علمنا بها لان العلم الصادق هو الذى يطابق الموجود فان كان علمه
اشرف من علمنا فعلم ﷲ يتعلق من الموجود بجهة اشرف من الجهة
التى يتعلق علمنا به فللموجود اذا وجودان وجود اشرف ووجود
أخس والوجود الاشرف هو علة الاخس وهذا هو معنى قول القدماء
ان البارى سبحانه هو الموجودات كلها وهو المنعم بها والفاعل لها
ولذلك قال رؤساء الصوفية لا هو الا هو . [10] ولكن هذا كله هو من
علم الراسخين فى العلم ولا يجب ان يكتب هذا ولا ان يكلف الناس
اعتقاد هذا ولذلك ليس هو من التعليم الشرعى ومن أثبته فى غير
موضعه فقد ظلم كما ان من كتمه عن أهله فقد ظلم فاما ان الشىء
الواحد له أطوار من الوجود فذلك معلوم من النفس

الاعتراض الثانى

[Page 464] [11] قال ابو حامد هو ان يقال وما المانع على اصلكم من ان
يعلم هذه الامور الجزئية وان كان يتغير وهلا اعتقدتم ان هذا النوع من التغير لا يستحيل
عليه كما ذهب جهم من المعتزلة الى ان علومه بالحوادث حادثة وكما اعتقد الكرامية من عند
آخر هم انه محل الحوادث ولم ينكر جماهير اهل الحق عليهم الا من حيث ان المتغير لا يخلو
عن التغير وما لا يخلو عن التغير والحوادث فهو حادث وليس بقديم وأما أنتم فمذهبكم ان
العالم قديم وانه لا يخلو عن التغير فاذا عقلتم قديما متغيرا فلا مانع لكم من هذا الاعتقاد
فان قيل انما احلنا ذلك لان العلم الحادث فى ذاته لا يخلو اما ان يحدث من جهته
او من جهة غيره وباطل ان يحدث منه فانا بينا ان القديم لا يصدر منه حادث ولا يصير فاعلا
بعد ان لم يكن فاعلا فانه يوجب تغيرا وقد قررناه فى مسألة حدوث العالم وان حصل ذلك فى
ذاته من جهة غيره فكيف يكون غيره مؤثرا فيه ومغيرا له حتى تتغير أحواله على سبيل
التسخر والاضطرار من جهة غيره
قلنا كل واحد من القسمين غير محال على اصلكم
اما قولكم انه يستحيل ان يصدر من القديم حادث فقد ابطلناه فى تلك المسئلة كيف
وعندكم يستحيل ان يصدر من القديم حادث هو اول الحوادث فشرط استحالته كونه
اولا والا فهذه الحوادث ليست لها اسباب حادثة الى غير نهاية بل تنتهى بواسطة الحركة
الدورية الى شىء قديم هو نفس الفلك وحياته فالنفس الفلكية قديمة والحركة الدورية
تحدث منها وكل جزء من الحركة يحدث وينقضى وما بعده متجدد لا محالة فاذًا الحوادث
صادرة من القديم عندكم ولكن اذا تشابه احوال القديم تشابه فيضان الحوادث منه على
الدوام كما يتشابه احوال الحركة لما ان كانت تصدر من قديم متشابه الاحوال . فاستبان ان
كل فريق منهم معترف بانه يجوز صدور حادث من قديم اذا كانت تصدر على التناسب والدوام
فلتكن العلوم الحادثة من هذا القبيل

[Page 465] واما القسم الثانى وهو صدور هذا العلم فيه من غيره فنقول ولم يستحيل ذلك عندكم .
وليس فيه الا ثلاثة أُمور
أحدها التغير وقد بينا لزومه على أصلكم
والثانى كون الغير سببا لتغير الغير وهو غير محال عندكم فليكن حدوث الشىء سببا
لحدوث العلم به كما انكم تقولون تمثل الشخص المتلون بازاء الحدقة الباصرة سبب لانطباع
مثال الشخص فى الطبقة الجليدية من الحدقة عند توسط الهواء المشف بين الحدقة والمبصر
فاذا جاز ان يكون جماد سببا لانطباع الصورة فى الحدقة وهو معنى الابصار فلم يستحيل ان
يكون حدوث الحوادث سببا لحصول علم الاول بها فان القوة الباصرة كما انها مستعدة
للادراك ويكون حصول الشخص المتلون مع ارتفاع الحواجز سببا لحصول الادراك فليكن
ذات المبدأ الاول عندكم مستعدا لقبول العلم ويخرج من القوة الى الفعل بوجود ذلك الحادث
فان كان فيه تغير القديم فالقديم المتغير عندكم غير مستحيل وان زعمتم ان ذلك يستحيل فى
واجب الوجود فليس لكم على اثبات واجب الوجود دليل الا قطع سلسلة العلل والمعلولات
كما سبق وقد بينا ان قطع التسلسل ممكن بقديم متغير
والامر الثالث الذى يتضمنه هذا هو كون القديم متغيرا بغيره وان ذلك يشبه
التسخر واستيلاء الغير عليه فيقال ولم يستحيل عند كم هذا وهو ان يكون هو سببا لحدوث
الحوادث بوسائط ثم يكون حدوث الحوادث سببا لحدوث العلم له بها فكأنه هو السبب
فى تحصيل العلم لنفسه ولكن بالوسائط . وقولكم ان ذلك يشبه التسخر فليكن كذلك
فانه لائق باصلكم اذ زعمتم ان ما يصدر من ﷲ تعالى يصدر على سبيل اللزوم والطبع ولا
قدرة له على ان لا يفعل وهذا ايضًا يشبه نوعًا من التسخر ويشير الى انه كالمضطر فى ما
يصدر منه
فان قيل ان ذلك ليس باضطرار لان كماله فى ان يكون مصدرا لجميع الاشياء
فهذا ليس بتسخر فان كماله فى ان يعلم جميع الاشياء ولو قلنا حصل لنا علم
مقارن لكل حادث لكان ذلك كمالا لنا لا نقصانا وتسخرا فليكن كذلك فى حقه
وﷲ اعلم

[Page 466] [12] قلت حاصل هذه المعاندة الاولى للفلاسفة وهى معاندة بحسب
أقوالهم لا بحسب الامر فى نفسه هو ان يقال لهم من اصولكم ان
ههنا قديما تحله الحوادث وهو الفلك فمن اين انكرتم ان يكون
القديم الاول محلا للحوادث والاشعرية انما أنكرت ذلك من قبل ان
كل ما تحله الحوادث عندهم فهو محدث . [13] وهذه معاندة جدلية فان
الحوادث منها ما لا تحل القديم وهى الحوادث التى تغير جوهر المحل
الحادثة فيه ومنها ما تحله وهى الحوادث التى لا تغير جوهر الحامل
لها كالحركة فى المكان للجسم المتحرك وكالاشفاف والاضاءة والقديم
أيضاً منه ما لا تحله حركة أصلا ولا تجددات اصلًا وهو ما ليس بجسم
ومنه ما تحله بعض الحركات وهو القديم الذى هو جسم كالاجرام
السماوية واذا كان هذا التفصيل تدعيه الفلاسفة فهذه المعاندة هى
معاندة باطلة لان الكلام انما هو فى القديم الذى ليس بجسم
[14] ولما اتى بهذه المعاندة للفلاسفة أتى بجواب الفلاسفة فى ذلك
وحاصله انهم انما منعوا ان يوجد له علم حادث من قبل ان العلم
الحادث فيه لا يخلو ان يكون من ذاته او من غيره فان كان من ذاته
فقد صدر عن القديم حادث ومن اصولهم انه لا يصدر عن القديم
حادث

[Page 467] [15] فهو يعاندهم فى قولهم انه لا يصدر عن القديم حادث بوضعهم
الفلك قديما ووضعهم ان الحوادث تصدر عنه . [16] وانفصالهم عن هذا هو
ان الحادث ليس يمكن ان يصدر عندهم عن قديم مطلق وانما يمكن
ان يصدر عن قديم بجوهره ومحدث فى حركاته وهو الجرم السماوى
ولذلك صار عندهم كالمتوسط بالحقيقة بين القديم المطلق والمحدث
المطلق وذلك انه من جهة هو قديم ومن جهة هو حادث وهذا
المتوسط هى الحركة الدورية السماوية عندهم فانها عندهم قديمة
بالنوع حادثة بالاجزاء فمن جهة ما هى قديمة صدرت عن قديم ومن
جهة اجزائها الحادثة تصدر عنها حوادث لا نهاية لها وانما منع الفلاسفة
وجود الحوادث فى الاول لانه ليس بجسم والحوادث لا توجد الا فى
جسم لان القبول لا يوجد عندهم الا فى جسم والمتبرى عن المادة
لا يقبل
[17] وحاصل معاندته القسم الثانى من قياسهم وهو ان العلة
الاولى لا تكون معلولة انه يجوز ان يكون علمه شبيها بعلم الانسان
اعنى ان تكون المعلومات هى سبب علمه وحدوثها هو سبب حدوث

[Page 468] ادراك العقل حتى يكون على هذا فعله الموجودات وخلقه لها هو علة
علمه بها مثل ما ان المبصرات هى علة ادراك البصر والمعقولات علة
ادراكها لا علة خلقها علمه . [18] وهذا مستحيل عند الفلاسفة ان يكون
علمه على قياس علمنا لان علمنا معلول للموجودات وعلمه علة لها
ولا يصح ان يكون العلم القديم على صورة العلم الحادث ومن اعتقد
هذا فقد جعل الاله انسانا ازليا والانسان الهاً كائناً فاسدا وبالجملة
فقد تقدم ان الامر فى علم الاول مقابل الامر فى علم الانسان أعنى
ان علمه هو الفاعل للموجودات لا الموجودات فاعلة لعلمه

[Page 469]

المسئلة الرابعة عشر فى تعجيز هم عن اقامة الدليل على ان السماء حيوان مطيع ﷲ تبارك وتعالى بالحركة الدورية

[1] قال ابو حامد
وقد قالوا
ان السماء حيوان وان لها نفسا نسبتها الى بدن السماء
كنسبة نفوسنا الى ابداننا وكما ان ابداننا تتحرك بالارادة نحو اغراضها بتحريك النفس
فكذا السماوات وان غرض السماوات بحركتها الذاتية عبادة رب العالمين على وجه
سنذكره
قال ومذهبهم فى هذه المسئلة مما لا يمكن انكاره ولا ندعى استحالته فان الله تعالى
قادر على ان يخلق الحياة فى كل جسم فلا كبر الجسم يمنع من كونه حيا ولا كونه مستديرا
فان الشكل المخصوص ليس شرطا للحياة اذ الحيوانات مع اختلاف أشكالها مشتركة فى
قبول الحياة . ولكنا ندعى عجزهم عن معرفة ذلك بدليل العقل وان هذا ان كان صحيحًا

[Page 470] فلا يطلع عليه الا الانبياء عليهم السلام بالهام من الله تعالى أو وحى وقياس العقل ليس يدل
عليه . نعم لا يبعد ان يتعرف مثل ذلك بدليل ان وجد الدليل وساعد ولكنا نقول ما أوردوه
دليلًا لا يصلح الا لافادة ظن فاما ان يفيد قطعا فلا
وخيالهم ان قالوا السماء متحركة وهذه مقدمة حسية . وكل جسم متحرك فله محرك
وهذه مقدمة عقلية اذ لو كان الجسم يتحرك لكونه جسما لكان كل جسم متحركا . وكل
محرك فاما ان يكون منبعثًا عن ذات المتحرك كالطبيعة فى حركة الحجر الى اسفل والارادة
فى حركة الحيوان مع القدرة واما ان يكون المحرك خارجًا ولكن يحرك على طريق القسر
كدفع الحجر الى فوق وكل ما يتحرك بمعنى فى ذاته فاما ان لا يشعر ذلك الشىء بالحركة
ونحن نسميه طبيعة كحركة الحجر الى اسفل واما ان يشعر ونحن نسميه اراديا ونفسانيا
فصارت الحركة بهذه التقسيمات الحاصرة الدائرة بين النفى والاثبات اما قسرية واما طبيعية
واما ارادية واذا بطل قسمان تعين الثالث . ولا يمكن ان يكون قسريا لان المحرك القاسر
اما جسم آخر يتحرك بالارادة أو بالقسر وينتهى لا محالة ارادة ومهما اثبت فى اجسام
السماوات متحرك بالارادة فقد حصل الغرض فاى فائدة فى وضع حركات قسرية وبالآخرة لا
بد من الرجوع الى الارادة واما ان يقال انه يتحرك بالقسر والله هو المحرك بغير واسطة
وهو محال لانه لو تحرك به من حيث انه جسم وانه خالقه للزم ان يتحرك كل جسم فلا بد
وان تختص الحركة بصفة بها يتميز عن غيره من الاجسام وتلك الصفة هى المحرك القريب
اما بالارادة او الطبع ولا يمكن ان يقال ان الله تعالى يحركه بالارادة لان ارادته تناسب
الاجسام نسبة واحدة فلم استعد هذا الجسم على الخصوص لان يراد تحريكه دون غيره ولا
يمكن ان يكون ذلك جزافا فان ذلك محال كما سبق فى مسألة حدث العالم واذا ثبت ان
هذا الجسم ينبغى ان يكون فيه صفة هو مبدأ الحركة بطل القسم الاول وهو تقدير الحركة
القسرية . فيبقى ان يقال هى طبيعية وهو غير ممكن لان الطبيعة بمجردها قط لا تكون
سببًا للحركة لان معنى الحركة هرب من مكان وطلب لمكان آخر فالمكان الذى فيه
الجسم ان كان ملائما له فلا يتحرك عنه ولهذا لا يتحرك زق مملوء من الهواء على وجه الماء
واذا غمس فى الماء تحرك الى وجه الماء، فانه وجد المكان الملائم فسكن والطبيعة قائمة ولكن
ان نقل الى مكان لا يلائمه هرب منه الى الملائم كما هرب من وسط الماء الى حيز الهواء .

[Page 471] والحركة الدورية لا يتصور ان تكون له طبيعية لان كل وضع وأين يفرض الهرب منه
فهو عائد اليه والمهروب عنه بالطبع لا يكون مطلوبًا بالطبع ولذلك لا ينصرف زق الهواء
الى باطن الماء ولا الحجر ينصرف بعد الاستقرار على الارض فيفر الى الهواء . فلم يبق الا
القسم الثالث وهى الحركة الارادية
[2] قلت اما ما وضع فى هذا القول من ان كل متحرك اما ان
يتحرك من ذاته واما ان يتحرك عن جسم من خارج وان هذا هو
الذى يسمى قسرا فمعروف بنفسه . [3] وأما ان كل ما يتحرك من ذاته
فليس المحرك فيه غير المتحرك فشىء ليس معروفا بنفسه وانما هو
مشهور والفلاسفة يتكلفون البرهان على ان كل متحرك يتحرك من
ذاته فله محرك موجود فيه هو غير المتحرك باستعمالهم مقدمات أخر
معروفة بنفسها ومقدمات هى نتائج براهين أخر وهو امر يوقف عليه
من كتبهم . [4] وكذلك ليس معروفا بنفسه ان كل متحرك يتحرك عن
محرك من خارج فانه ينتهى الى متحرك من تلقائه فهذه التى وضعت
ههنا على انها مقدمات معروفة بنفسها فيها النوعان جميعًا اعنى ان
منها ما هى نتائج ومنها ما هى معروفة بنفسها . [5] واما ان المتحرك من
ذاته لا من جسم من خارج هو متحرك اما من جوهره وطبيعته واما
من مبدأ فيه وانه ليس يمكن فيه ان يتحرك عن شىء لا يحس ولا

[Page 472] يلمس مقارن له من خارج كأنك قلت ما ليس بجسم فانه معروف
بنفسه وقد رام فى هذا القول تكلف بيان وهو انه لو كان الامر
كذلك لم تكن الحركة الى فوق أولى بالنار منها بالارض والامر فى
ذلك معروف بنفسه واما انه لا يتحرك بجوهره وطبيعته فهو بين فى
الاشياء التى تتحرك حيناً وتسكن حينا لان الذى بالطبع ليس له ان
يفعل الضدين واما فى الاشياء التى نحس انها تتحرك دائماً فانه يحتاج
الى برهان . [6] وأما ما وضع أيضاً فى هذا القول من ان المتحرك من ذاته
فهو متحرك عن مبدأ فيه اما عن مبدأ يسمى طبيعة واما عن مبدأ
يسمى نفسا واختيارًا فصحيح اذا تبين انه ليس ههنا شىء متحرك
من ذاته . [7] واما ما وضع فيه من أن المبدأ الذى يسمى طبيعة فانه
ليس يتحرك من ذاته فى المكان الا اذا كان فى مكان غير ملائم له
فانه يتحرك الى المكان الملائم له ويسكن فيه فحق . [8] واما ما وضع
ايضاً فيه من ان المتحرك دورا ليس له مكان غير ملائم وملائم
ينتقل من احدهما الى الثانى لا لكله ولا لاجزائه فقريب من البين
بنفسه وتقرير ذلك قريب وقد ذكر فى هذا القول طرف من تقريره

[Page 473] وتبينه ولذلك يجب الا يكون متحركا بالطبع اذا فهمنا من الطبع
هذا المعنى الذى تقرر وجوده . [9] وكذلك ما وضع فيه انه اذا لم يكن
متحركا بالطبع فهو يتحرك عن نفس او قوة تشبه النفس فانه يظهر
ان النفس فى الاجرام السماوية ليس يقال اسم النفس عليها الا
باشتراك واكثر ما تطلق الحكماء اسم الطبيعة على كل قوة تفعل فعلا
عقليا اى جاريا مجرى الترتيب والنظام الذى فى الاشياء العقلية لكن
نزهوا السماء عن مثل هذه القوة لكونها عندهم هى التى تعطى هذه
القوة المدبرة فى جميع الموجودات
[10] فهذا القول الذى حكاه ههنا عن القدماء هو جدلى من جهة انه
اخذ فيه كثيرا ما هو نتيجة برهان على انه معروف بنفسه ومن جهة
انه اخذ فيه مقابلا ما ليس بمقابل وهو جدلى من جهة ان مقدماته
محمودة مشهورة وهذه الطريقة فى بيان ان الجرم السماوى جرم
متنفس هى طريقة ابن سينا واما القدماء فان لهم فى هذا المعنى طريقا
هى اوثق من هذه وابين

الاعتراض
[11] قال ابو حامد هو ان نقول نحن نقرر ثلاثة احتمالات سوى مذهبكم
لا برهان على بطلانها

[Page 474] الاول ان نقدر حركة السماء قهرا لجسم آخر مريد لحركتها يدبرها على الدوام وذلك
الجسم المحرك لا يكون كرة ولا يكون محيطا فلا يكون سماء فيبطل قولهم ان حركة
السماء ارادية وان السماء حيوان وهذا الذى ذكرناه ممكن وليس فى دفعه الا مجرد
الاستبعاد
[12] قلت هذا باطل لانه تبين عندهم انه ليس خارج السماء جسم آخر
ولا يمكن ان يكون داخل السماء وهذا الجسم ان حرك فلا بد ان
يتحرك ويعود السؤال
[13] قال ابو حامد والثانى هو ان يقال الحركة قسرية ومبدأها ارادة الله تعالى فانا نقول
حركة الجسم الى اسفل ايضاً قسرية تحدث بخلق ﷲ الحركة فيه وكذا القول فى سائر
حركات الاجسام التى ليست حيوانية . فيبقى استبعادهم ان الارادة لَم اختصت به وسائر
الاجسام تشاركها فى الجسمية فقد بينا ان الارادة القديمة من شأنها تخصيص الشىء عن مثله
وانهم مضطرون الى اثبات صفة هذا شانها فى تعيين جهة الحركة الدورية و فى تعيين موضع
القطب والنقطة فلا نعيده والقول الوجيز ان ما استبعدوه فى اختصاص الجسم بتعلق الارادة
به من غير تميز بصفة ينقلب عليهم فى تميزه بتلك الصفة فانا نقول ولم تميز جسم السماء بتلك
الصفة التى بها فارق غيره من الاجسام وسائر الاجسام ايضا اجسام فلمَ حصل فيه ما لم يحصل

[Page 475] فى غيره فان علل ذلك بصفة أُخرى توجه السؤال فى الصفة الاخرى وهكذا يتسلسل الى
غير نهاية فيضطرون بالآخرة الى التحكم فى الارادة وان فى المبادى ما يميز الشىء عن
مثله فيخصصه بصفة عن امثاله
[14] قلت اما ان الحجر يتحرك الى اسفل بصفة فيه مخلوقة والنار الى
فوق والصفتان متضادتان فامر معروف بنفسه والمكابرة فى ذلك
قحة واكبر من ذلك ان يقال ان الارادة الازلية تحدث الحركة فيها
دائماً من غير فعل يفعله المريد فيه وان ذلك ليس مغروزا فى طبيعته
وانها تسمى قسرا لانه لو كان كذلك لم يكن للاشياء طبيعة
اصلا ولا حقيقة ولا حد لانه من المعروف بنفسه انه انما اختلفت
طبائع الاشياء وحدودها من قبل اختلاف افعالها كما هو من المعروف
بنفسه ان كل حركة قسرية لجسم فانما تكون عن جسم من خارج
فلا معنى لهذا القول
[15] واما قوله ان وضع فعل الموجود الصادر عنه يقتضى صفة خاصة
ان السؤال يبقى فى تلك الصفة وهو لم اختصت بذلك الموجود دون
ما هو من جنسه مثال ذلك ان الارض والنار يشتركان فى الجسمية
فالقائل انما افترقا بصفة زائدة على الجسمية يلزمه ان يقال ولم

[Page 476] اختصت صفة النار بالنار وصفة الارض بالارض ولِمَ لم يكن الامر
على القلب فان هذا من قول من لا يضع للصفات انفسها موضوعاً
خاصاً بل يجوز وضع كل صفة فى كل موصوف وقائل هذا ايضاً هو
ناف للحد وناف لاختلاف الموضوعات واختصاصها بصفات خاصة
هو السبب الاول فى اختصاص الموجودات بصفات خاصة وهذا
الوضع هو من اصول الاشعرية التى رامت به ابطال الحكمة
الشرعية والعقلية وبالجملة العقل
[16] قال ابو حامد والثالث هو ان يسلم ان السماء اختصت بصفة تلك الصفة مبدأ الحركة
كما اعتقدوه فى هوى الحجر الى أسفل الا انه لا تشعر به كالحجر . وقولهم ان المطلوب بالطبع
لا يكون مهروبًا عنه بالطبع فتلبيس لانه ليس ثم مفاصلة بالعدد عندهم بل الجسم واحد
والحركة الدورية واحدة فلا للجسم جزء بالفعل ولا للحركة جزء بالفعل وانما يتجزى
بالوهم فليست تلك الحركة لطلب المكان ولا للهرب من المكان فيمكن ان يخلق جسم وفى
ذاته معنى يقتضى حركة دورية وتكون الحركة نفسها مقتضى ذلك المعنى لا ان مقتضى ذلك
المعنى طلب المكان ثم تكون الحركة للوصول اليه . وقولكم ان كل حركة فهى لطلب
مكان او هرب منه اذا كان ضروريا فكانكم جعلتم طلب المكان مقتضى الطبع وجعلتم
الحركة غير مقصودة فى نفسها بل وسيلة اليه ونحن نقول لا يبعد ان تكون الحركة نفس
المقتضى لا طلب مكان فما الذى يحيل ذلك

[Page 477] فاستبان ان ما ذكروه ان ظن انه أغلب من احتمال آخر فلا ينبغى قطعا انتفاء غيره
فالحكم بالقطع على السماء انه حيوان تحكم محض لا مستند له
[17] قلت اما قولهم ان هذه الحركة ليست هى قوة طبيعية تشبه
القوة الطبيعية التى فى الارض والنار فحق وذلك بين مما قالوا من ان
هذه القوة تشتاق المكان الملائم للجسم الذى وجوده بهذه القوة
والجسم السماوى اذ جميع المكان له ملائم فليس يتحرك بمثل هذه
القوة ولذلك سمى هذه القوة الحكماء لا ثقيلة ولا خفيفة واما ان
هذه القوة هى بادراك او بغير ادراك وان كانت بادراك فباى نحو
من الادراك فيبين من غير هذا
[18] وتلخيص هذا هو ان نقول اما التقدير الاول وهو ان يفرض
ان المحرك للسماء جسم آخر غير سماوى فبين السقوط بنفسه أو
قريب من البين بنفسه وذلك ان هذا الجسم ليس يمكن فيه ان
يحرك الجسم السماوى دورا الا وهو متحرك من تلقائه كانك قلت
انسان او ملك يديرها من المشرق الى المغرب ولو كان ذلك كذلك
لكان هذا الجسم المتنفس اما خارج العالم واما داخله ومحال

[Page 478] ان يكون خارجه لانه ليس خارج العالم مكان ولا خلاء على ما
تبين فى مواضع كثيرة ويحتاج ايضاً ذلك الجسم عند ما يحرك ان
يثبت على جسم له ساكن وذلك الجسم الساكن على جسم آخر
ويمر الامر الى غير نهاية ومحال ايضاً ان يكون داخل العالم
لانه لو كان لادراك بالحس اذ كل جسم داخل العالم محسوس وكان
يحتاج ايضاً الى جسم آخر يحملها سوى الذى يديرها او يكون
الذى يديرها هو الذى يحملها ولكان الحامل محتاجاً الى حامل
وكان يجب ان يكون غدد الاجسام المتنفسة المحركة بعدد
حركات الاجرام السماوية وكان يسال ايضاً فى هذه الاجسام هل
هى مركبة من الاسطقسات الاربع فتكون كائنة فاسدة او
تكون بسيطة وان كانت بسيطة فما طبيعتها وهذا كله مستحيل
وبخاصة عند من وقف على طبائع الاجسام البسيطة وعرف
عددها وعرف انواع الاجسام المركبات منها فالاشتغال بهذا
هنا لا معنى له وقد تبرهن فى غير ما موضع ان هذه الحركة
ليس قسرا اذ كانت مبدأ جميع الحركات وبوساطتها تفيض
الحياة على حياة الموجودات فضلًا عن الحركات . [19] واما التقدير الثانى

[Page 479] وهو ان يكون ﷲ عز وجل يحركها من غير ان يخلق فيها قوة بها
تتحرك فهو ايضاً قول شنيع بعيد جدًّا مما يعقله الانسان وهو شبيه
بمن يقول ان ﷲ هو الملابس لجميع ما ههنا والمحرك له وما يدرك
من الاسباب والمسببات باطل ويكون الانسان انسانا لا بصفة خلقها
الله فيه وكذلك سائر الموجودات وابطال هذا هو ابطال المعقولات
لان العقل انما يدرك الاشياء من جهة أسبابها وهو قول شبيه بقول
من كان يقول من القدماء ان ﷲ موجود فى كل شىء وهم
الرواقيون وسنتكلم مع هؤلاء فى الموضع الذى نذكر فيه ابطال
الاسباب والمسببات . [20] واما العناد الثالث فهو يجرى مجرى الطبع وهو
ان يضع ان حركة السماء من قوة فيها طبيعية وصفة ذاتية لا عن
نفس وان برهانهم على نفى ذلك باطل من قبل انهم بنوا برهانهم
على ان حركة السماء لو كانت طبيعية لكان المكان المطلوب
بحركتها الطبيعية هو بعينه المهروب عنه لان كل جزء من السماء
يتحرك الى المواضع التى تحرك منها من قِبَل ان حركتها دورا
والحركة الطبيعية المكان الذى يهرب منه بالحركة هو غير المطلوب

[Page 480] لان الذى يتحرك منه هو العرضى والذى يتحرك اليه هو الطبيعى
الذى يسكن فيه وهو وضع باطل من قبل انهم وضعوا لاجزاء
السماء حركات كثيرة لمتحركين كثيرين وذلك بحسب اصولهم لانهم
يقولون ان الحركة الدورية واحدة وان الجسم المتحرك بها واحد
فحركة الدور ليس يطلب بها المتحرك مكانا فيمكن ان يكون
خلق فيه معنى يطلب به المتحرك الحركة نفسها ويكون ذلك المعنى
طبيعة لا نفسا . [21] والانفصال عن هذا ان قولهم هذا انما هو لمن زعم
ان تبديل الكواكب مكانها هو عن حركة طبيعية شبيهة بتبديل
المتحركات بالطبع مكانها ووضعهم الحقيقى هو ان الحركة الدورية
ليس يطلب المتحرك بها مكانا وانما يطلب نفس الحركة الدورية وان
ما هذا شأنه فالمحرك له نفس ضرورة لا طبيعة لان الحركة ليس لها
وجود الا فى العقل اذ كان ليس يوجد خارج النفس الا المتحرك فقط
وفيه جزء من الحركة غير متقرر الوجود فالذى يتحرك الى الحركة
بما هى حركة هو متشوق لها ضرورة والذى يتشوق الحركة فهو
متصور لها ضرورة . [22] وهذا احد المواضع التى يظهر منها ان الاجرام
السماوية هى ذوات عقول وشوق وقد يظهر ذلك ايضاً من مواضع
شتى أحدها ان المتحرك الواحد من الاجسام الكرية نجده يتحرك

[Page 481] الحركتين المتضادتين معا أعنى الغربية والشرقية وذلك شىء لا يمكن
عن الطبيعة فان المتحرك بالطبيعة انما يتحرك حركة واحدة فقط .
[23] وقد تقدم القول فى الاشياء التى حركت القوم الى ان يعتقدوا ان
السماء ذات عقل وأبينها انه لما تبين عندهم ان المحرك لها هو عقل
برىء من المادة لزم ان لا يحرك الا من جهة ما هو معقول ومتصور
واذا كان ذلك كذلك فالمتحرك عنه عاقل ومتصور ضرورة وقد
يظهر ذلك ايضاً من ان حركتها شرط فى وجود ما ههنا من
الموجودات او حفظها وليس يمكن ان يكون ذلك عن الاتفاق وهذه
الاشياء لا تتبين فى هذا الموضع الا بيانا ذائعا ومقنعا

[Page 482]

المسئلة الخامسة عشر فى ابطال ما ذكروه من الغرض المحرك للسماء
وقد قالوا

[1] ان السماء حيوان مطيع لله تعالى بحركته ومتقرب اليه لان كل حركة
بالارادة فهى لغرض اذ لا يتصور ان يصور الفعل والحركة من حيوان الا اذا كان الفعل أولى
به من الترك والا فلو استوى الفعل والترك لما تصور الفعل . ثم التقرب الى الله تعالى ليس معناه
طلب الرضا والحذر من السخط فان الله تعالى يتقدس عن السخط والرضا وان أطلق احد هذه
الالفاظ فعلى سبيل المجاز ويكنى بها عن ارادة العقاب وارادة الثواب ولا يجوز ان يكون
التقرب بطلب القرب منه فى المكان فانه محال فلا يبقى الا طلب القرب فى الصفات فان
الوجود الاكمل وجوده وكل وجود فبالاضافة الى وجوده ناقص وللنقصان درجات
وتفاوت فالملك اقرب اليه صفة لا مكانا وهو المراد بالملائكة المقربين أى الجواهر العقلية التى لا

[Page 483] تتغير ولا تستحيل ولا تفنى وتعلم الاشياء على ما هى عليه والانسان كلما ازداد قربا من الملك
فى الصفات ازداد قربا من الله تعالى ومنتهى طبيعة الآدميين التشبه بالملائكة . واذا ثبت ان
هذا معنى التقرب الى الله وانه يرجع الى طلب القرب منه فى الصفات وذلك للآدمى بان
يعلم حقائق الاشياء وبان يبقى بقاءً مؤيدًا على اكمل أحواله الممكن له فان البقاء على
الكمال الاقصى هو لله تعالى والملائكة المقربون كل ما يمكن لهم من الكمال فهو حاضر
معهم فى الوجود اذ ليس فيهم شىء بالقوة حتى يخرج الى الفعل فاذا كمالهم فى الغاية القصوى
بالاضافة الى ما سوى الله والملائكة السماوية هى عبارة عن النفوس المحركة للسماوات
وفيها ما بالقوة وكمالاتها منقسمة الى ما هو بالفعل كالشكل الكرى والهيئة وذلك
حاضر والى ما هو بالقوة وهو الهيئة فى الوضع والاين وما من وضع معين الا وهو ممكن
له ولكن ليس له سائر الاوضاع بالفعل فان الجمع بين جميعها غير ممكن فلما لم يمكنها
استيفاء آحاد الاوضاع على الدوام قصد استيفاءها بالنوع فلا يزال يطلب وضعًا بعد وضع
واينًا بعد أين ولا ينقطع قط هذا الامكان فلا تنقطع هذه الحركات وانما قصده التشبه بالمبدا
الاول فى نيل الكمال الاقصى على حسب الامكان فى حقه وهو معنى طاعة الملائكة السماوية
لله تعالى
وقد حصل لها التشبه من وجهين
أحدهما استيفاء كل وضع ممكن له بالنوع وهو المقصود بالقصد الاول
والثانى ما يترتب على حركته من اختلاف النسب فى التثليث والتربيع والمقارنة والمقابلة
واختلاف الطوالع بالنسبة الى الارض فيفيض منه الخير على ما تحت فلك القمر وتحصل منه
هذه الحوادث كلها فهذا وجه استكمال النفس السماوية وكل نفس عاقلة فمتشوقة الى
استكمال بذاتها

[Page 484] [2] قلت كل ما حكاه عن الفلاسفة فهو مذهبهم أو لازم عن
مذهبهم او يمكن ان ينزل القول فيه على مذهبهم الا ما حكاه من
ان السماء تطلب بحركتها الاوضاع الجزئية التى لا تتناهى فان ما لا
نهاية له غير مطلوب اذ كان غير موصول اليه ولم يقله احد الا ابن
سينا ومعاندة أبى حامد لهذا القول كافية فيما سيأتى بعد . [3] والذى
تقصده السماء عند القوم انما هى الحركة نفسها بما هى حركة وذلك
ان كمال الحى بما هو حى هى الحركة وانما لحق السكون ههنا الحيوان
الكائن الفاسد بالعرض اعنى من قبل ضرورة الهيولى وذلك ان التعب
والكلال انما يدخل على هذا الحيوان من قبل انه هيولانى واما
الحيوان الذى لا يلحقه تعب ولا نصب فواجب ان تكون حياته
كلها وكماله فى الحركة وتشبهه بخالقه هو افادته الحياة لما ههنا
بالحركة . [4] وليست هذه الحركة عند القوم من أجل ما ههنا على
القصد الاول أعنى بالقصد الاول ان يكون الجرم السماوى انما خلق
من اجل ما ههنا فان الحركة هو فعله الخاص الذى من اجله وجد
فلو كانت هذه من اجل ما ههنا على القصد الاول لكان الجرم
السماوى انما خلق من اجل ما ههنا ومحال عندهم ان يخلق الافضل
من اجل الانقص لكن عن الافضل ولا بد يلزم وجود الانقص

[Page 485] كالرئيس مع المرؤس الذى كماله فى غير الرئاسة وانما الرئاسة ظل كماله
وكذلك العناية بما ههنا هى شبيهة بعناية الرئيس بالمرؤسين الذين لا
نجاة لهم ولا وجود الا بالرئيس وبخاصة الرئيس الذى ليس يحتاج فى
وجوده الاتم الافضل الى الرئاسة فضلًا عن وجوده

الاعتراض

[5] قال ابو حامد والاعتراض على هذا هو ان فى مقدمات هذا الكلام
ما يمكن النزاع فيه ولكنا لا نطول به ونعود الى الغرض الذى عينتموه آخرًا ونبطله من
وجهين
ان طلب الاستكمال بالكون فى كل اين يمكن ان يكون له حماقة لا طاعة
وما هذا الا كانسان لم يكن له شغل وقد كفى المؤونة فى شهواته وحاجاته فقام وهو يدور
فى بلد او بيت ويزعم انه يتقرب الى الله تعالى وانه يستكمل بان يحصل لنفسه الكون فى
كل مكان امكن وزعم ان الكون فى الاماكن ممكن له وليس يقدر على الجمع بينها
بالعدد فاستوفاه بالنوع فان فيه استكمالا وتقربا فيسفه عقله فيه ويحمل على الحماقة ويقال
الانتقال من حيز الى حيز ومن مكان الى مكان ليس كمالا يعتد به او يتشوف اليه
ولا فرق بين ما ذكروه وبين هذا
[6] قلت قد يظن ان هذا الكلام لسخفه يصدر عن أحد رجلين اما
رجل جاهل واما رجل شرير وأبو حامد مبرأ من هاتين الصفتين

[Page 486] ولكن قد يصدر من غير الجاهل قول جاهلى ومن غير الشرير قول
شريرى على جهة الندور ولكن يدل هذا على قصور البشر فيما يعرض
لهم من الفلتات . [7] فانه ان سلمنا لابن سينا ان الفلك يقصد بحركته
تبديل الاوضاع وكان تبديل اوضاعه من الموجودات التى ههنا هو
الذى يحفظ وجودها بعد ان يوجدها وكان هذا الفعل منه دائماً فاى
عبادة اعظم من هذه العبادة بمنزلة لو ان انسانا تكلف ان يحرس
مدينة من المدن من عدوها بالدوران حولها ليلا ونهارا أما كنا نرى
ان هذا الفعل من اعظم الافعال قربة الى ﷲ تعالى . وأما لو فرضنا
حركة هذا الرجل حول المدينة للغرض الذى حكى هو عن ابن
سينا من انه لا يقصد فى حركته الا الاستكمال بأينات غير متناهية
لقيل فيه انه رجل مجنون وهذا هو معنى قوله سبحانه انك لن
تخرق الارض ولنْ تبلغ الجبال طولا
[8] واما قوله فيه انه لما لم يمكنها استيفاء الآحاد بالعدد او جميعها
استوفتها بالنوع فانه كلام مختل غير مفهوم الا ان يريد ان الحركة
لما لم يمكن فيها ان تكون باقية باجزائها كانت باقية بكليتها وذلك
ان من الحركات ما هى غير باقية لا باجزائها ولا بكليتها وهى

[Page 487] الكائنة الفاسدة ومنها ما هى باقية بنوعها فاسدة كائنة باجزائها
ولكن مع هذا يقال فيها انها حركة واحدة على الوجوه التى فصلت
فى غير ما موضع من كتبهم انه يقال فى الحركة انها واحدة
[9] واما قوله لانه لما لم يمكنه استيفاؤها بالعدد استوفاها بالنوع
فكلام باطل لان الحركة السماوية واحدة بالعدد وانما يقال هذا فى
الحركات التى دون السماء الكائنة وذلك ان هذه لما لم يمكن فيها ان
تكون واحدة بالعدد كانت واحدة بالنوع وباقية به من قبل بقاء
الحركة الواحدة بالعدد
[10] قال ابو حامد

والثانى
هو انا نقول ما ذكرتموه من الغرض حاصل بالحركة المغربية
فلمَ كانت الحركة الاولى مشرقية وهلا كانت حركات الكل الى جهة واحدة فان كان فى
اختلافها غرض فهلا اختلفت بالعكس فكانت التى هى مشرقية مغربية والتى هى مغربية مشرقية
فان كل ما ذكرتموه من حصول الحوادث باختلاف الحركات من التثليثات والتسديسات
وغير ما يحصل بعكسه . وكذا ما ذكروه من استيفاء الاوضاع والايون كيف ومن الممكن
لها الحركة الى الجهة الاخرى فما بالها لا تتحرك مرة من جانب ومرة من جانب استيفاء لما
يمكن لها ان كان فى استيفاء كل ممكن كمال فدل ان هذه خيالات لا حاصل لها وان
اسرار ملكوت السماوات لا يطلع عليها بامثال هذه الخيالات وانما يطلع ﷲ تعالى عليها
انبياءه واولياءه على سبيل الالهام لا على سبيل الاستدلال ولذلك عجز الفلاسفة من عند اخرهم
عن بيان السبب فى جهة الحركة واختيارها

[Page 488]
[11] قلت هذه معاندة سفسطانية وذلك ان النقلة من مسألة الى
مسألة هو من فعل السفسطانية فانه كيف يلزم عن عجزهم ان
عجزوا عن اعطاء السبب فى اختلاف جهات حركات السماء ان
يعجزوا عن اعطاء السبب فى حركة السماء او ان لا يكون لحركتها
علة وهذا كلام كله فى غاية الركاكة والضعف . [12] وأما هذه المسئلة فما
اكثر فرحهم بها لانهم يظنون انهم قد عجزوا الفلاسفة فيها والسبب
فى ذلك جهلهم بانحاء الطرق المسلوكة فى اعطاء الاسباب والمقدار
الذى يطلب منها ويعطى فى شىء شىء من الموجودات فانه يختلف
باختلاف طبائع الموجودات وذلك ان الاشياء البسيطة ليس لها سبب
فيما يصدر عنها الانفس طبائعها وصورها واما الامور المركبة فتلفى
لها اسباب فاعلة غير صورها وهى التى أوجبت تركبها واقتران
اجزائها بعضها الى بعض . مثال ذلك ان الارض ليس لها سبب فى ان
كانت تهوى الى اسفل الا صفة الارضية وليس للنار سبب فى ان
تعلو الى فوق الا نفس طبيعتها وصورتها وبهذه الطبيعة قيل انها
مضادة للارض وكذلك الفوق والاسفل ليس لهما سبب به صارت
احدى الجهتين أعلى والاخرى أسفل بل ذلك بمقتضى طباعهما واذا
وجب اختلاف الجهات لانفسها واختلاف الحركات لاختلاف الجهات

[Page 489] فليس ههنا سبب يعطى فى اختلاف الحركات الا اختلاف جهات
المتحركات واختلاف الجهات لاختلاف طبائعها اعنى ان بعضها
أشرف من بعض . [13] مثال ذلك ان الانسان اذا أحس الحيوان يقدم
فى الحركة احدى رجليه من جهة من بدنه ثم يتبع بها الاخرى فقال
لم كان الحيوان يقدم هذه الرجل ويؤخر الاخرى دون ان يكون
الامر بالعكس لم يكن هنالك سبب يوفى فى ذلك الا ان يقال انه لا
بد فى حركة الحيوان من ان يكون رجل يقدمها ورجل يعتمد عليها
وذلك يوجب ان يكون للحيوان جهتان يمين ويسار وان اليمين هى
التى تقدم ابتداءً لقوة تختص بها وان اليسار هو الذى يتبع ابتداء
فى الاكثر اليمين لقوة تختص بها وانه لم يمكن ان يكون الامر بالعكس
اعنى ان تكون جهة اليمين هى جهة اليسار لان طبائع الحيوان
تقتضى ذلك اما اقتضاء اكثريا واما دائما . [14] وكذلك الامر فى الاجرام
السماوية اذ لو سأل سائل فقال لم تتحرك السماء من جهة دون جهة قيل
لان لها يمينا ويسارا وبخاصة اذ قد ثبت من أمرها أنها حيوان الا انها
يخصها ان جهة اليمين فى بعضها هى جهة اليسار فى البعض وهى مع
هذا الجزء الواحد منها تتحرك الى الجهتين المتضادتين كالرجل الايسر

[Page 490] الاعسر فكما انه لو سأل سائل فقال ان حركة الحيوان كانت تتم لو
كان يمينه يساره ويساره يمينه فلم اختص اليمين بكونه يمينًا
واليسار بكونه يسارا لقيل له ليس لذلك سبب الا ان طبيعة الجهة
المسماة يمينًا اقتضت بجوهرها ان تكون يمينًا والا تكون يسارا
وطبيعة اليسار اقتضت بجوهرها ان تكون يسارا والا تكون يمينا
وان الاشرف للجهة الاشرف كذلك اذا سأل سائل لما اختصت جهة
اليمين فى الحركة العظمى بكونها يمينًا وجهة اليسار بكونها يسارا
وقد كان يمكن ان يكون الامر بالعكس كالحال فى افلاك الكواكب
المتحيرة لم يكن له جواب الا ان يقال الجهة الاشرف اختصت بالجرم
الاشرف كالحال فى اختصاص النار بفوق والارض باسفل . [15] واما
كون السماوات تتحرك بالحركتين المتضادتين ما عدا الحركة اليومية
فلضرورة تضاد الحركات ههنا اعنى حركة الكون والفساد وليس فى
طبيعة العقل الانسانى ان يدرك اكثر من هذا بامثال هذه الاقاويل
وفى هذا الموضع
[16] فلما اعترض عليهم ابو حامد هذه المسئلة وقال انه ليس لهم عليها
جواب حكى فى ذلك جوابا عن بعض الفلاسفة فقال

[Page 491] وقال بعضهم لما كان استكمالها يحصل بالحركة من أى جهة كانت وكانت انتظام الحوادث
الارضية يستدعى اختلاف حركات وتعيين جهات كان الداعى لها الى اصل الحركة التقرب
الى الله تعالى والداعى الى جهة الحركة افاضة الخير على العالم السفلى
[17] قال وهذا باطل من وجهين . احدهما ان ذلك ان امكن ان يتخيل فلنقص بان
مقتضى طبعه السكون احترازًا عن الحركة والتغير وهو التشبه بالله تعالى على التحقيق
فانه مقدس عن التغير والحركة تغير ولكنه اختار الحركة لافاضة الخير فانه كان ينتفع به
غيره وليس تثقل عليه الحركة ولا تتعبه فما المانع من هذا الخيال . والثانى ان
الحوادث تبنى على اختلاف النسب المتولدة من اختلاف جهات الحركات فلتكن الحركة
الاولى مغربية وما عداها مشرقية وقد حصل به الاختلاف ويحصل به تفاوت النسب فلمَ
تعينت جهة واحدة وهذه الاختلافات لا تستدعى الا أصل الاختلاف فاما جهة بعينها فليس
باولى من نقيضها فى هذا المعنى
[18] قلت ان هذا المتكلم رام ان يعطى السبب فى ذلك من قبل
السبب الغائى لا من قبل الفاعل . [19] وليس يشك احد من الفلاسفة ان
هنالك سببًا غائيًا على القصد الثانى هو ضرورى فى وجود ما ههنا
وان كان لم يوقف عليه بعد على التفصيل لكن لا يشك انه ما من

[Page 492] حركة ههنا ولا مسير ولا رجوع للكواكب الا ولها مدخل فى
وجود ما ههنا حتى لو اختلف منها شىء لاختل الموجود ههنا . [20] ولكن
كثيرا من هذه الاسباب الجزئية امَّا ان لا يوقف عليها اصلًا واما ان
يوقف عليها بعد زمان طويل وتجربة طويلة مثل ما يحكى ان الحكيم
اثبته فى كتابه فى التدبيرات الفلكية الجزئية . فاما الامور الكلية
فالوقوف عليها يسهل واصحاب علوم التنجيم قد وقفوا على كثير
منها وقد ادرك فى زماننا هذا كثير مما وقفت عليه الامم السالفة من
هذا المعنى كالكلدانيين وغيرهم فلذلك لا ينبغى الا يعتقد ان
لذلك حكمة فى الموجودات اذ قد ظهر بالاستقراء ان جميع ما يظهر
فى السماء هو لموضع حكمة غائية وسبب من الاسباب الغائية فانه
اذا كان الامر فى الحيوان كذلك فهو احرى ان يكون فى الاجرام
السماوية وقد ظهر فى الحيوان والانسان نحو من عشرة آلاف حكمة
فى زمان قدره الف سنة فلا يبعد ان يظهر فى آباد السنين الطويلة
كثير من الحكمة التى فى الاجرام السماوية وقد نجد الاوائل
رمزوا فى ذلك رموزا يعلم تأويلها الحكماء الراسخون فى العلم وهم

[Page 493] الحكماء المحققون [21] واما الاول وهو قوله ان لقائل ان يقول ان التشبه بالله
يقتضى له ان يكون ساكنا لان الله تعالى يتقدس عن الحركة لكن
اختار الحركة لما فيها من افاضة الخير على الكائنات فانه كلام
مختل فان الله ليس بساكن ولا متحرك وان يتحرك الجسم افضل
له من ان يسكن فاذا تشبه الموجود بالله فانما يتشبه به بكونه
فى افضل حالاته وهى الحركة
[22] واما الجواب الثانى فقد تقدم الجواب عنه

[Page 494]

المسئلة السادسة عشر فى ابطال قولهم ان نفوس السماوات مطلعة على جميع الجزئيات الحادثة فى هذا العالم

وان المراد باللوح المحفوظ نفوس السماوات وان انتقاش جزئيات العالم فيها
يضاهى انتقاش المحفوظات فى القوة الحافظة المودعة فى دماغ الانسان لا انه جسم
عريض صلب مكتوب عليه الاشياء كما يكتب الصبيان على اللوح لان تلك الكتابة
تستدعى كثرتها اتساع المكتوب عليه واذا لم يكن للمكتوب نهاية لم يكن
للمكتوب عليه نهاية ولا يتصور جسم لا نهاية له ولا يمكن خطوط لا نهاية لها على
جسم ولا يمكن تعريف اشياء لا نهاية لها بخطوط معدودة
[1] وقد زعموا ان الملائكة السماوية هى نفوس السماوات وان الملائكة الكرويين المقربين
هى العقول المجردة التى هى جواهر قائمة بانفسها لا تتحيز ولا تتصرف فى الاجسام وان هذه
الصور الجزئية تفيض على النفوس السماوية منها وهى أشرف من الملائكة السماوية لانها مفيدة
وتلك مستفيدة والمفيد أشرف من المستفيد ولذلك عبر عن الاشرف بالقلم فقال تعالى علم
بالقلم لانه كالنقاش المقيد مثل القلم وشبه المستفيد باللوح هذا مذهبهم

[Page 495] والنزاع فى هذه المسئلة يخالف النزاع فيما قبلها فان ما ذكروه من قبل ليس محالا اذ منتهاه
كون السماء حيوانًا متحركا لغرض وهو ممكن واما هذه فترجع الى اثبات علم لمخلوق
بالجزئيات التى لا نهاية لها وهذا ربما يعتقد استحالته فيطالب بالدليل عليه لانه تحكم فى
نفسه
[2] قلت هذا الذى حكاه لم يقله احد من الفلاسفة فى علمى الا ابن
سينا اعنى ان الاجرام السماوية تتخيل فضلًا على ان تتخيل خيالات
لا نهاية لها والاسكندر يصرح فى مقالته المسماة بمبادى الكل ان
هذه الاجرام ليست متخيلة لان الخيال انما كان فى الحيوان من اجل
السلامة وهذه الاجرام لا تخاف الفساد فالخيالات فى حقها باطل
وكذلك الحواس ولو كان لها خيالات لكان لها حواس لان الحواس
شرط فى الخيالات فكل متخيل حسّاس ضرورة وليس ينعكس .
[3] وعلى هذا لا يصح تأويل اللوح المحفوظ على ما حكاه عنهم واما
تأويل العقول المفارقة التى تحرك فلكا فلكا على جهة الطاعة لها
ملائكة مقربين فتأويل جار على اصولهم وكذلك تسمية نفوس
الافلاك ملائكة سماوية اذا قصد مطابقة ما أدى اليه البرهان وما
أتى به الشرع

[Page 496] [4] قال ابو حامد

واستدلوا
فيه بان قالوا ثبت ان الحركة الدورية ارادية والارادة
تتبع المراد والمراد الكلى لا يتوجه اليه الا ارادة كلية والارادة الكلية لا يصدر منها شىء
فان كل موجود بالفعل معين جزئى والارادة الكلية نسبتها الى آحاد الجزئيات على وتيرة
واحدة فلا يصدر عنها شىء جزئى بل لا بد من ارادة جزئية للحركة المعينة . فللفلك بكل
حركة جزئية معينة من نقطة الى نقطة معينة ارادة جزئية لتلك الحركة فله لا محالة تصور
لتلك الحركات الجزئية بقوة جسمانية اذ الجزئيات لا تدرك الا بالقوى الجسمانية فان
كل ارادة فمن ضرورتها تصور لذلك المراد أى علم به سواء كان جزئيا او كليا . ومهما كان
للفلك تصور لجزئيات الحركات واحاطة بها احاط لا محالة بما يلزم منها من اختلاف النسب مع
الارض من كون بعض اجزائه طالعة وبعضها غاربة وبعضها فى وسط سماء قوم وتحت قوم
وكذلك يعلم ما يلزم من اختلاف النسب التى تتجدد بالحركة من التثليث والتسديس والمقابلة
والمقارنة الى غير ذلك من الحوادث السماوية وسائر الحوادث الارضية تستند الى الحوادث
السماوية اما بغير واسطة واما بواسطة واحدة واما بوسائط كثيرة وعلى الجملة فكل حادث
فله سبب حادث الى ان ينقطع التسلسل بالارتقاء الى الحركة السماوية الابدية التى بعضها سبب
للبعض فاذا الاسباب والمسببات ترتقى فى سلسلتها الى الحركات الجزئية السماوية فالمتصور
للحركات متصور للوازمها ولوازم لوازمها الى آخر السلسلة . ولهذا يطلع على ما يحدث فان
كل ما سيحدث فحدوثه واجب عن علته فمهما تحققت العلة تحقق المعلول ونحن انما لا نعلم ما
يقع فى المستقبل لانا لا نعلم جميع أسبابها ولو علمنا جميع الاسباب لعلمنا المسببات فانا مهما
علمنا ان النار سيلتقى بالقطن مثلًا فى وقت معين فنعلم احتراق القطن ومهما علمنا ان شخصاً
سياكل فنعلم انه سيشبع واذا علمنا ان شخصاً سيتخطى الموضع الفلانى الذى فيه كنز مغطى بشىء
خفيف اذا مشى عليه الماشى تعثر رجله بالكنز وعرفه فنعلم انه سيستغنى بوجود الكنز ولكن
هذه الاسباب لا نعلمها وربما نعلم بعضها فيقع لنا حدس بوقوع المسبب فان عرفنا اغلبها او

[Page 497] اكثرها حصل لنا ظن ظاهر بالوقوع فلو حصل لنا العلم بجميع الاسباب لحصلت المعرفة
بجميع المسببات الا ان السماويات كثيرة ثم لها اختلاط بالحوادث الارضية وليس فى القوة
البشرية الاطلاع عليه ونفوس السماوات مطلعة عليها لاطلاعها على السبب الاول ولوازمها
ولوازم لوازمها الى آخر السلسلة
ولهذا زعموا ان النائم يرى فى نومه ما يكون فى المستقبل وذلك باتصاله باللوح المحفوظ
ومطالعته ومهما اطلع على الشىء ربما بقى ذلك بعينه فى حفظه وربما تسارعت القوة المتخيلة الى
محاكاتها فان من غريزتها محاكاتها الاشياء بامثلة تناسبها بعض المناسبة او الانتقال منها الى
اضدادها فينمحى المدرك الحقيقى عن الحفظ ويبقى مثال الخيال فى الحفظ فيحتاج الى تعبير ما
يمثل الخيال الرجل بشجر والزوجة بخف والخادم ببعض اوانى الدار وحافظ مال البر
والصدقات بزيت البذر فان البذر سبب للسراج الذى هو سبب الضياء وعلم التعبير يتشعب
عن هذا الاصل
وزعموا ان الاتصال بتلك النفوس مبذول اذ ليس ثم حجاب ولكنا فى يقظتنا مشغولون
بما تورده الحواس والشهوات علينا فاشتغالنا بهذه الامور الحسية صرفنا عنه واذا سقط
عنا فى النوم بعض اشتغال الحواس ظهر به استعداد ما للاتصال
وزعموا ان النبى المصطفى يطلع على الغيب بهذا الطريق الا ان القوة النفسية النبوية
قد تقوى قوة لا تستغرقها الحواس الظاهرة فلا جرم يرى هو فى اليقظة ما يراه غيره فى المنام
ثم القوة الخيالية تمثل له ايضاً ما رآه وربما يبقى الشىء بعينه فى ذكره وربما يبقى مثاله فيفتقر
مثل هذا الوحى الى التأويل كما يفتقر مثل ذلك المنام الى التعبير ولو لا ان جميع الكائنات
ثابتة فى اللوح المحفوظ لما عرف الانبياء الغيب فى يقظة ولا منام لكن جف القلم بما هو كائن
الى يوم القيامة ومعناه هذا الذى ذكرناه . فهذا ما اردنا ان نورده ليفهم مذهبهم
[5] قلت قد قلنا ان هذا الرأى ما نعلم احدا قال به الا ابن سينا وأما
الدليل الذى حكاه عنه فهو واهى المقدمات وان كانت مقنعة

[Page 498] جدلية وذلك انه يضع ان كل مفعول جزئى فانه انما يصدر عن
المتنفس من قبل تصور جزئى لذلك المفعول وحركات جزئية بها
يكون ذلك المفعول الجزئى ثم يضيف الى هذه المقدمة الكبرى
مقدمة صغرى وهى ان السماء متنفسة يصدر عنها افعال جزئية
فيلزم عن ذلك ان يكون يصدر عنها ما يصدر من المفعولات
الجزئية والافعال الجزئية عن تصور جزئى وهو الذى يسمى خيالا
وهذا ليس يظهر فى الصنائع فقط بل فى كثير من الحيوان الذى
يفعل افعالا محدودة كالنحل والعنكبوت وغير ذلك . [6] والعناد لهذه
المقدمات انه ليس يصدر فعل جزئى عن ذوى العقول الا من جهة ما
ذلك المعنى متخيل خيالا عاما فتصدر عنه امور جزئية لا نهاية لها .
مثال ذلك ان الصانع انما تصدر عنه صورة الخزانة من جهة خيال
كلى عام لا يختص بخزانة دون خزانة وكذلك الامر فيما يصدر من
الصنائع بالطبع عن الحيوانات وكان هذه الخيالات هى واسطة بين
الادراكات الكلية والجزئية اعنى انها واسطة بين حد الشىء وخياله
الخاص به فالاجرام السماوية ان كانت تتخيل فبمثل هذا الخيال
الذى هو من طبيعة الكلى لا الخيال الجزئى المستفاد من الحواس
ولا يمكن ان تكون افعالنا صادرة عن التصور الجزئى ولذلك ما

[Page 499] يرى القوم ان الصور الخيالية التى تصدر عنها افعال الحيوانات
المحدودة هى كالمتوسطة بين المعقولات والصور الخيالية الشخصية
مثل الصورة التى يفر بها البغاث من الجوارح والتى بها تصنع
النحل بيوتها واما الصانع الذى يحتاج الى مثال جزئى محسوس فهو
الذى ليس عنده هذا المثال الكلى الذى هو ضرورى فى صدور ما
يصدر عنه من الجزئيات . [7] وهذا الخيال الكلى هو الباعث للارادة
الكلية التى لا تقصد شخصًا دون شخص واما الارادات الجزئية
فهى التى تقصد شخصًا دون شخص من النوع الواحد وهذا لا
يوجد فى الاجرام السماوية واما ان توجد ارادة عامة للشىء الكلى بما
هو كلى فهو مستحيل لان الكلى ليس له وجود خارج الذهن ولا
هو كائن فاسد فتقسيمه اولا الارادة الى كلية وجزئية غير صواب
اللاهم الا ان يقال ان الاجرام السماوية تتحرك نحو حدود الاشياء بغير
ان يقترن الحد بتخيل شخص من اشخاص الموجودات بخلاف ما هو
الامر عندنا . [8] وقوله ان الارادة الكلية ليس يحصل عنها جزئى خطأ

[Page 500] اذا فهم من الارادة الكلية ما لا يخص شخصا دون شخص بل خيال
عام كحال الملك فى اتخاذه الاجناد والمقاتلة وأما ان فهم من الارادة
تعلقها بالمعنى الكلى بعينه فليس تتعلق به ارادة أصلًا ولا توجد ارادة
بهذه الصفة الا من الجهة التى قلنا فالاجرام السماوية ان تبين من
امرها انها تعقل ما ههنا من جهة ما تتخيل فذلك من جهة الخيالات
العامة التى تلزم الحدود لا من جهة الخيالات الجزئية التى تلزم
الاحساسات والاظهر ان لا يكون ذلك عن التصور الجزئى
وبخاصة اذا قيل ان ما يصدر عنها ههنا انما يصدر على القصد الثانى .
[9] لكن مذهب القوم انها تعقل انفسها وتعقل ما ههنا وهل تعقل ما ههنا
على انه غير ذواتها فيه نظر يفحص عنه فى المواضع الخاصة به وبالجملة
ان كانت عالمة فاسم العلم مقول على علمنا وعلمها باشتراك الاسم
[10] واما ما يقوله فى هذا الفصل فى سبب الرؤيا والوحى فهو شىء
انفرد به ابن سينا وآراء القدماء فى ذلك غير هذا الرأى واما وجود
علم لاشخاص غير متناهية بالفعل من جهة ما هو علم شخصى فشىء
ممتنع واعنى بالعلم الشخصى الادراك المسمى خيالا ولم يكن معنى
لادخال مسألة الرؤيا والوحى فى هذا الموضع الا ان يتطرق بذلك

[Page 501] الى كثرة المعاندة وهو فعل سفسطانى لا جدلى . [11] وهذا الذى قلته من
أمر تخيل الاجرام السماوية خيالات متوسطة بين الخيالات الجزئية
والكلية هو قول مقنع والذى يلزم عن أصول القوم ان الاجرام
السماوية لا تتخيل اصلًا لان هذه الخيالات كما قلنا انما هى لموضع
السلامة سواء كانت عامة او خاصة وهى ايضا من ضرورة تصورنا
بالعقل ولذلك كان تصورنا كائنًا فاسدا وتصور الاجرام السماوية اذ
كان غير كائن ولا فاسد فيجب ان لا يقترن بخيال والا يستند اليه
بوجه من الوجوه ولذلك ليس ذلك الادراك لا كليا ولا جزئيا بل
يتحد هنالك العلمان ضرورة أعنى الكلى والجزئى وانما يتميز ههنا فى
المواد من قبل تلك ومن هذه الجهة وقع الاعلام بالغيوب والرؤيا
وما أشبه ذلك وهذا يبين على التمام فى موضعه
[12] قال ابو حامد

والجواب
ان نقول بم تنكرون على من يقول ان النبى يعرف الغيب
بتعريف الله تعالى على سبيل الابتداء وكذا من يرى فى المنام فانما يعرفه بتعريف الله تعالى او
بتعريف ملك من الملائكة فلا يحتاج الى شىء مما ذكرتموه فلا دليل فى هذا ولا دليل لكم
فى ورود الشرع باللوح والقلم فان أهل الشرع لم يفهموا من اللوح والقلم هذا المعنى قطعا فلا

[Page 502] مسك فى الشرعيات ينفى التمسك بمسالك العقول وما ذكرتموه وان اعترف بامكانه مهما
لم يشترط نفى النهاية عن هذه المعلومات فلا يعرف وجوده ولا يتحقق كونه وانما السبيل
فيه ان يتعرف من الشرع لا من العقل
واما ما ذكرتموه من الدليل العقلى اولًا فمبنى على مقدمات كثيرة لسنا نطول بابطالها
ولكنا ننازع فى ثلاث مقدمات منها
قولكم ان حركة السماء ارادية وقد فرغنا من هذه المسئلة وابطال
دعواكم فيها
الثانية انه ان سلم ذلك مسامحة له لكم فقولكم انه يفتقر الى تصور جزئى للحركات
الجزئية فغير مسلم بل ليس ثم جزء عندكم فى الجسم فانه شىء واحد وانما يتجزى بالوهم ولا
فى الحركة فانها واحدة بالاتصال فيكفى تشوقها الى استيفاء الايون الممكنة لها كما
ذكروه وكيفها التصور الكلى والارادة الكلية . ولنمثل للارادة الكلية والجزئية مثالا
ليفهم غرضهم فاذا كان للانسان غرض كلى فى أن يحج بيت الله تعالى مثلاً فهذه الارادة
الكلية لا تصدر منها الحركة لان الحركة تقع جزئية فى جهة مخصوصة بمقدار مخصوص بل
لا يزال يتجدد للانسان فى توجهه الى البيت تصور بعد تصور المكان الذى يتخطاه
والجهة التى يسلكها ويتبع كل تصور جزئى ارادة جزئية للحركة عن المحل الموصول
اليه بالحركة فهذا ما أرادوه بالارادة الجزئية التابعة للتصور الجزئى وهو مسلم لان الجهات
متعددة فى التوجه الى مكة والمسافة غير متعينة فيفتقر تعيين مكان عن مكان وجهة عن
جهة الى ارادة اخرى جزئية . وأما الحركة السماوية فلها وجه واحد فان الكرة انما تتحرك
على نفسها وفى حيزها لا تجاوزها والحركة المرادة وليس ثم الا وجه واحد وضرب
واحد وجسم واحد فهو كهوى الحجر الى اسفل فانه يطلب الارض فى اقرب طريق وأقرب

[Page 503] الطرق الخط المستقيم فتعين الخط المستقيم فلم يفتقر فيه الى تجدد سبب حادث سوى الطبيعة
الكلية الطالبة للمركز مع تجدد القرب والبعد والوصول الى حد والصدور عنه فكذلك
يكفى فى تلك الحركة الارادة الكلية للحركة ولا يفتقر الى مزيد فهذه مقدمة تحكموا
بوضعها
[13] قلت أما قول ابى حامد والجواب ان يقال بم تنكرون الى قوله فلا يحتاج الى شىء
مما ذكرتموه
هو جواب من جنس المسموع لا من جنس المعقول فلا معنى لادخاله
فى هذا الكتاب والفلسفة تفحص عن كل ما جاء فى الشرع فان
ادركته استوى الادراكان وكان ذلك أتم فى المعرفة وان لم تدركه
[14] أعلمت بقصور العقل الانسانى عنه وان يدركه الشرع فقط .
واعتراضه عليهم فى تأويل اللوح والقلم هو شىء خارج عن هذه
المسئلة فلا معنى ايضًا لادخاله وهذا التأويل فى علم الغيب لابن
سينا ليس بشىء
[15] واما المعاندة العقلية التى اتى بها فى هذا الباب لابن سينا فهى
معاندة صحيحة فانه ليس للسماء حركات جزئية فى مسافات جزئية
حتى يقتضى ذلك ان يكون لها تخيل فان المتنفس الذى يتحرك

[Page 504] حركات جزئية فى امكنة جزئية له لا محالة تخيل لتلك التى يتحرك
عليها ولتلك الحركات اذا كانت تلك المسافات غير مدركة له
بالبصر والمستدير كما قال انما يتحرك من حيث هو مستدير حركة
واحدة وان كان يتبع تلك الحركة الواحدة حركات كثيرة متفنّنة
جزئية فيما دونها من الموجودات فانه ليس المقصود عندهم من تلك
الجزئيات الا حفظ الانواع فقط التى تلك الجزئيات جزئيات لها لا
وجود جزئى جزئى من تلك الجزئيات من جهة ما هو جزئى فانه ان
كان الامر كذلك لزم ان تكون السماء ولا بد متخيلة فالنظر انما هو
فى الجزئيات الحادثة عنها فى هل هى مقصودة لانفسها او لحفظ النوع
فقط وليس يمكن ان يبين هذا فى هذا الموضع لكن يظهر ان ههنا
ولا بد عناية بالجزئيات من جهة وجود المنامات الصادقة وما يشبه
ذلك من تقدمة المعرفة بما يحدث فى المستقبل وهى فى الحقيقة عناية
بالنوع

المقدمة الثالثة
[16] قال ابو حامد وهو التحكم البعيد جدا قولهم انه اذا تصور الحركات
الجزئية تصور ايضًا توابعها ولوازمها وهذا هوس محض كقول القائل ان الانسان اذا تحرك

[Page 505] وعرف حركته ينبغى أن يعرف ما يلزم من حركته من موازاة ومجاورة وهو نسبته الى
الاجسام التى فوقه وتحته ومن جوانبه وانه اذا مشى فى شمس ينبغى ان يعلم المواضع التى يقع
عليها ظله والمواضع التى لا يقع وما يحصل من ظله من البرودة يقطع الشعاع فى تلك المواضع وما
يحصل من الانضباط لاجزاء الارض تحت قدمه وما يحصل من التفرق فيها وما يحصل فى اخلاطه
فى الباطن من الاستحالة بسبب الحركة الى الحرارة وما يستحيل من جزائه الى العرق وهلم
جرا الى جميع الحوادث فى بدنه وفى غيره من بدنه مما الحركة علة فيه أو شرط أو مهيئ او
معد وهو هوس لا يتخيله عاقل ولا يغتر به الا جاهل والى هذا يرجع هذا التحكم . على انا
نقول هذه الجزئيات المفصلة المعلومة لنفس الفلك هى الموجودة فى الحال أو ينضاف اليها ما
يتوقع كونها فى الاستقبال فان قصرتموه على الموجود فى الحال بطل اطلاعه على الغيب واطلاع
الانبياء فى اليقظة وسائر الخلق فى النوم على ما سيكون فى الاستقبال بواسطته ثم بطل مقتضى
الدليل فانه تحكم بان من عرف الشىء عرف لوازمه وتوابعه حتى لو عرفنا جميع أسباب
الاشياء لعرفنا جميع الحوادث المستقبلة وأسباب جميع الحوادث حاضرة فى الحال فانها هى
الحركة السماوية ولكن تقتضى المسبب اما بواسطة أو بوسائط كثيرة . واذا تعدى الى
المستقبل لم يكن له آخر فكيف يعرف تفصيل الجزئيات فى الاستقبال الى غير نهاية وكيف
يجتمع فى نفس مخلوق فى حالة واحدة من غير تعاقب علوم جزئية مفصلة لا نهاية لاعدادها ولا
غاية لآحادها ومن لا يشهد له عقله باستحالة ذلك فلييأس من عقله . فان قلبوا علينا هذا فى
علم الله تعالى فليس تعلق علم الله بالاتفاق بمعلوماته على نحو تعلق العلوم التى هى للمخلوقات
بل مهما دار نفس الفلك دورة نفس الانسان كان من قبيل نفس الانسان فانه شاركه فى
كونه مدركا للجزئيات بواسطة فان لم يلتحق به قطعا كان الغالب على الظن انه من قبيله فان
لم يكن غالبًا على الظن فهو ممكن والامكان يبطل دعواهم القطع بما قطعوا به
فان قيل حق النفس الانسانية فى جوهرها ان تدرك ايضًا جميع الاشياء ولكن اشتغالها
بنتائج الشهوة والغضب والحرص والحقد والحسد والجوع والالم وبالجملة عوارض البدن وما
يورده الحواس عليه حتى اذا اقبلت النفس الانسانية على شىء واحد شغلها عن غيره . واما
النفوس الفلكية فبريّة عن هذه الصفات لا يعتريها شاغل ولا يستغرقها هم وألم واحساس
فعرفت جميع الاشياء

[Page 506] قلنا وبمَ عرفتم انه لا شاغل لها وهلا كانت عبادتها واشتياقها الى الاول مستغرقًا لها
وشاغلًا لها عن تصور الجزئيات المفصلة أو ما الذى يحمل تقدير مانع آخر سوى الغضب والشهوة
وهذه الموانع المحسوسة ومن اين عرف انحصار المانع فى القدر الذى شاهدناه من أنفسنا وفى
العقلاء شواغل من علو الهمة وطلب الرئاسة ما يستحيل تصوره عند الاطفال ولا يعتقدونها
شاغلا ومانعا فمن اين يعرف استحالة ما يقوم مقامها فى النفوس الفلكية
هذا ما أردنا ان نذكره فى العلوم الملقبة عندهم بالالهية
[17] قلت اما استبعاده ان يكون ههنا عقل برىء من المادة يعقل
الاشياء بلوازمها الذاتية على جهة الحصر لها فليس امتناعه من الامور
المعروفة بانفسها ولا ايضاً وجوب وجوده من الامور المعروفة بانفسها
لكن القوم اعنى الفلاسفة يزعمون انه قد قام البرهان عندهم على
وجود عقل بهذه الصفة . [18] واما وجود خيالات غير متناهية فممتنع
على كل جزئى متخيل واما وجود ما لا نهاية له فى العلم القديم وكيف
يقع الاعلام بالجزئيات الحادثة فى المستقبل للانسان من قبل العلم
القديم فامر يدعى القوم ان عندهم بيانه من قبل ان النفس تعقل
من ذلك المعنى الكلى الذى فى العقل لا من الجزئى الذى يخص
وقتها والاشخاص المعروفة عندها لان النفس هى بالقوة جميع
الموجودات وما بالقوة فهو يخرج الى الفعل اما من قبل الامور
المحسوسة واما من قبل طبيعة العقل المتقدمة على المحسوسات فى

[Page 507] الوجود اعنى العقل الذى من قبله صارت الموجودات المحسوسة
معقولة متقنة لا من جهة ان فى ذلك العلم خيالات لاشخاص لا نهاية
لهم . [19] وبالجملة فيزعمون انه قد اتحد العلمان الكلى والجزئى فى العلم
المفارق للمادة وانه اذا فاض ذلك العلم على ما ههنا انقسم الى كلى
وجزئى وليس ذلك العلم لا كليا ولا جزئيا . [20] وهذا او ضده ليس
يمكن ان يتبين فى هذا الموضع وانما التكلم فى هذه الاشياء فى هذا
الموضع بمنزلة من اخذ مقدمات هندسية ليس لها شهرة تفعل فيها
تصديقا ولا اقناعاً فى بادئ الرأى فضرب بعضها ببعض اعنى جعل
يعرض بعضها على بعض فان ذلك من أضعف أنواع الكلام وأخسه
لانه ليس يقع بذلك تصديق برهانى ولا اقناعى . [21] وكذلك العلم
بالفروق التى بين نفوس الاجرام السماوية وبين نفس الانسان هى
كلها مطالب غامضة ومتى تكلم فى شىء منها فى غير موضعه أتى
الكلام فيها اما غريبا واما اقناعيا وفى بادئ الرأى أعنى من مقدمات
ممكنة مثل قولهم ان النفس الغضبية والشهوانية تعوق النفس
الانسانية عن ادراك ما شأن النفس ان تدركه فان هذه الاقاويل

[Page 508] وامثالها يظهر من امرها انها ممكنة وانها تحتاج الى ادلة وانها يتطرق
اليها امكانات كثيرة متقابلة
[22] فهذا آخر ما رأينا ان نذكره فى تعريف الاقاويل التى وقعت فى
هذا الكتاب فى المسائل الالهية وهى معظم ما فى هذا الكتاب .
[23] ثم نقول بعد هذا ان شاء الله تعالى فى المسائل الطبيعية

[Page 509] قال ابو حامد

اما الملقب بالطبيعيات فهى علوم كثيرة
[1] الى قوله

[Page 510] [2] قلت اما ما عدده من اجناس العلم الطبيعى الثمانية فصحيح على
مذهب ارسطو
واما العلوم التى عددها على انها فروع له فليست كما عدها . [3] اما
الطب فليس هو من العلم الطبيعى وهو صناعة عملية تاخذ مبادئها
من العلم الطبيعى لان العلم الطبيعى نظرى والطب علمى واذا
تكلمنا فى شىء مشترك للعلمين فمن جهتين مثل تكلمنا فى الصحة
والمرض وذلك ان صاحب العلم الطبيعى ينظر فى الصحة
والمرض من حيث هما من اجناس الموجودات الطبيعية والطبيب
ينظر فيهما من حيث يحفظ أحدهما ويبطل الآخر أعنى انه
ينظر فى الصحة من حيث يحفظها وفى المرض من حيث يزيله . واما

[Page 511] علم احكام النجوم فليس هو ايضاً منها وانما هو علم بتقدمة
المعرفة بما يحدث فى العالم وهو من نوع الزجر والكهانة . ومن هذا
الجنس هو ايضا علم الفراسة الا ان علم الفراسة هو علم بالامور
الخفية الحاضرة لا المستقبلة . وعلم التعبير هو ايضاً من نحو علوم
تقدمة المعرفة بما يحدث وليس هذا الجنس من العلم لا نظريا ولا عمليا
وان كان قد يظن به انه ينتفع به فى العمل . واما علوم الطلسمات فهى
باطلة فانه ليس يمكن ان وضعنا ان للنصب الفلكية تأثيرا فى
الامور المصنوعة ان يكون ذلك التأثير لها الا فى المصنوع لا ان
يتعدى تأثير ذلك المصنوع الى شىء اخر خارج عنه . واما علوم الحيل
فهى داخلة فى باب التعجب ولا مدخل لها فى الصنائع النظرية . وأما
الكيمياء فصناعة مشكوك فى وجودها وان وجدت فليس يمكن
ان يكون المصنوع منها هو المطبوع بعينه لان الصناعة قصاراها
الى ان تتشبه بالطبيعة ولا تبلغها فى الحقيقة واما هل تفعل شيئا
يشبه فى الجنس الامر الطبيعى فليس عندنا ما يوجب استحالة ذلك
ولا امكانه والذى يمكن ان يوقف منه على ذلك هو طول التجربة
مع طول الزمان
[4] واما الاربع مسائل التى ذكر فنحن نذكر واحدة واحدة منها

[Page 512] [5] قال ابو حامد المسئلة الاولى حكمهم بان هذا الاقتران المشاهد فى الوجود بين الاسباب
والمسببات اقتران تلازم بالضرورة وليس فى المقدور ولا فى الامكان ايجاد السبب دون
المسبب ولا وجود المسبب دون السبب
والثانية قولهم ان النفوس الانسانية جواهر قائمة بانفسها ليست منطبعة فى الجسم وان
معنى الموت انقطاع علاقتها عن البدن بانقطاع التدبير والا فهو قائم بنفسه فى كل حال وزعموا
ان ذلك عرف بالبرهان العقلى
الثالثة قولهم ان هذه النفوس يستحيل عليها العدم بل هى اذا وجدت فهى ابدية سرمدية
لا يتصور فناؤها
الرابعة قولهم ان هذه النفوس يستحيل ردها الى الاجساد
وانما لزم النزاع فى الاولى من حيث انه ينبنى عليها اثبات المعجزات الخارقة للعادة
مثل قلب العصا ثعبانا واحياء الموتى وشق القمر ومن جعل مجارى العادات لازمة لزومًا
ضروريا أحال جميع ذلك وأولو ما فى القرآن من احياء الموتى وقالوا أراد به ازالة موت
الجهل بحياة العلم وأولو تلقف العصا سحر السحرة على ابطال الحجة الالهية الظاهرة على يدى
موسى شبهات المنكرين وأما شق القمر فربما انكروا وجوده و زعموا انه لم يتواتر
ولم تثبت الفلاسفة من المعجزات الخارقة للعادات الا فى ثلاثة أُمور
أحدها فى القوة المتخيلة فانهم زعموا أنها اذا استولت وقويت ولم يستغرقها الحواس
والاشتغال اطلعت على اللوح المحفوظ وانطبع فيها صور الجزئيات الكائنة فى المستقبل وذلك
فى اليقظة للانبياء ولسائر الناس فى النوم فهذه خاصية النبوة للقوة المتخيلة
الثانى خاصية فى القوة العقلية النظرية وهو راجع الى قوة الحدس وهو سرعة الانتقال
من معلوم الى معلوم فرب ذكى اذا ذكر له المداول تنبه للدليل واذا ذكر له الدليل تنبه

[Page 513] للمدلول من نفسه وبالجملة اذا خطر له الحد الاوسط تنبه للنتيجة واذا حضر فى ذهنه حد
النتيجة خطر بباله الحد الاوسط الجامع بين طرفى النتيجة والناس فى هذا منقسمون فمنهم من
يتنبه بنفسه ومنهم من يتنبه بأدنى تنبيه ومنهم من لا يدرك مع التنبيه الا بتعب كثير واذا جاز
ان ينتهى طرف النقصان الى من لا حدس له اصلًا حتى لا يتهيأ لفهم المعقولات مع التنبيه جاز
ان ينتهى طرف القوة والزيادة الى ان يتنبه لكل المعقولات أو لاكثرها وفى أسرع الاوقات
وأقربها . ويختلف ذلك بالكمية فى جميع المطالب أو بعضها فى الكيفية حتى يتفاوت فى السرعة
والقرب فرب نفس مقدسة صافية تستمر حدسا فى جميع المعقولات وفى اسرع الاوقات
فهو النبى الذى له معجزة من القوة النظرية فلا يحتاج فى المعقولات الى تعلم بل كانه متعلم
من نفسه وهو الذى وصف بانه يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور
الثالث القوة النفسية العملية قد تنتهى الى حد تتأثر بها الطبيعيات وتتسخر ومثاله ان
النفس منا اذا توهمت شيئًا خدمتها الاعضاء والقوى التى فيها فتحركت الى الجهة المتخيلة
المطلوبة حتى اذا توهم شيئا طيب المذاق تحلبت أشداقه وانتهضت القوة الملعبة الفياضة باللعاب
من معادنه واذا تصور الوقاع انتهضت القوة فنشرت الالة بل اذا مشى على جذع ممدود
على فضاء طرفاه على حائطين اشتد وهمه للسقوط فانفعل الجسم بتوهمه وسقط ولو كان ذلك
على الارض لمشى عليه ولم يسقط وذلك لان الجسم والقوى الجسمانية خلقت خادمة مسخرة
للنفوس ويختلف ذلك باختلاف صفاء النفوس وقوتها . فلا يبعد ان تبلغ قوة النفس الى حد
تخدمه القوة الطبيعية فى غير بدنه لان نفسه ليست منطبعة فى بدنه الا ان له نوع نزوع
وشوق الى تدبيره خلق ذلك فى جبلته فاذا جاز ان تطيعه اجسام بدنه لم يمتنع أن يطيعه غير
بدنه فيتطلع نفسه الى هبوب ريح أو نزول مطر أو هجوم صاعقة أو تزلزل أرض
تنخسف بقوم وذلك موقوف حصوله على حدوث برودة أو سخونة او حركة فى الهواء

[Page 514] فيحدث من نفسه تلك السخونة او البرودة وتتولد منه هذه الامور من غير حضور
سبب طبيعى ظاهر ويكون ذلك معجزة للنبى ولكن انما يحصل ذلك فى هواء مستعد للقبول
ولا ينتهى الى ان ينقلب الخشب حيوانا او ينشق القمر الذى لا يقبل الانخراق
فهذا مذهبهم فى المعجزات ونحن لا ننكر شيئًا مما ذكروه وان ذلك مما يكون للانبياء
وانما ننكر اقتصارهم عليه ومنعهم قلب العصى ثعبانا واحياء الموتى وغيره فلزم الخوض فى
هذه المسئلة لاثبات المعجزات ولامر آخر وهو نصرة ما اطبق عليه المسلمون من ان ﷲ
تعالى قادر على كل شىء فلنخض فى المقصود [6] قلت اما الكلام فى المعجزات فليس فيه للقدماء من الفلاسفة قول
لان هذه كانت عندهم من الاشياء التى لا يجب ان يتعرض للفحص
عنها وتجعل مسائل فانها مبادى الشرائع والفاحص عنها والمشكك
فيها يحتاج الى عقوبة عندهم مثل من يفحص عن سائر مبادى
الشرائع العامة مثل هل الله موجود وهل السعادة موجودة وهل
الفضائل موجودة وانه لا يشك فى وجودها وان كيفية وجودها
هو امر الهى معجز عن ادراك العقول الانسانية والعلة فى ذلك ان
هذه هى مبادى الاعمال التى يكون بها الانسان فاضلًا ولا سبيل الى
حصول العلم الا بعد حصول الفضيلة فوجب الا يتعرض للفحص
عن المبادى التى توجب الفضيلة قبل حصول الفضيلة واذا كانت

[Page 515] الصنائع العلمية لا تتم الا باوضاع ومصادرات يتسلمها المعلم اولًا
فاحرى ان يكون ذلك فى الامور العملية . [7] واما ما حكاه فى اسباب
ذلك عن الفلاسفة فهو قول لا اعلم احدا قال به الا ابن سينا واذا
صح الوجود وامكن ان يتغير جسم عما ليس بجسم ولا قوة فى جسم
بغير استحالة فان ما اعطى من ذلك السبب ممكن وليس كل ما
كان ممكنا فى طبعه يقدر الانسان ان يفعله فان الممكن فى حق
الانسان معلوم واكثر الممكنات فى أنفسها ممتنعة عليه فيكون
تصديق النبى ان يأتى بخارق هو ممتنع على الانسان ممكن فى نفسه
وليس يحتاج فى ذلك ان يضع ان الامور الممتنعة فى العقل ممكنة
فى حق الانبياء . [8] واذا تأملت المعجزات التى صح وجودها وجدتها من
هذا الجنس وأبينها فى ذلك كتاب ﷲ العزيز الذى لم يكن كونه
خارقا من طريق السماع كانقلاب العصى حية وانما ثبت كونه معجزا
بطريق الحس والاعتبار لكل انسان وجد ويوجد الى يوم القيمة

[Page 516] وبهذا فاقت هذه المعجزات سائر المعجزات . [9] فليكتف بهذا من لم
يقنع بالسكوت عن هذه المسئلة وليعرف ان طريق الخواص فى
تصديق الانبياء طريق آخر قد نبه عليه ابو حامد فى غير ما موضع
وهو الفعل الصادر عن الصفة التى بها سمى النبى نبيا الذى هو
الاعلام بالغيوب ووضع الشرائع الموافقة للحق والمفيدة من الاعمال
ما فيه سعادة جميع الخلق . [10] واما ما حكاه فى الرؤيا عن الفلاسفة فلا
أعلم أحدا قال به من القدماء الا ابن سينا والذى يقول به القدماء فى
أمر الوحى والرؤيا انما هو عن الله تبارك وتعالى بتوسط موجود
روحانى ليس بجسم وهو واهب العقل الانسانى عندهم وهو الذى
تسميه الحدث منهم العقل الفعال ويسمى فى الشريعة ملكا
[11] فلنعد الى ما قاله فى المسائل الاربع

[Page 517]

المسئلة الاولى

[1] قال ابو حامد الاقتران بين ما يعتقد فى العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا
بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا ولا اثبات أحدهما متضمن لاثبات الآخر ولا نفيه
متضمن لنفى الآخر فليس من ضرورة وجود احدهما وجود الاخر ولا من ضرورة عدم
أحدهما عدم الاخر مثل الرىّ والشرب والشبع والاكل والاحتراق ولقاء النار والنور
وطلوع الشمس والموت وجز الرقبة والشفاء وشرب الدواء واسهال البطن واستعمال
المسهل وهلم جرا الى كل المشاهدات من المقترنات فى الطب والنجوم والصناعات والحرف
وان اقترانهما لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوق لا لكونه ضروريا فى نفسه
غير قابل للفوات بل لتقدير وفى المقدور خلق الشبع دون الاكل وخلق الموت دون
حز الرقبة وادامة الحياة مع حز الرقبة وهلم جرا الى جميع المقترنات وأنكر الفلاسفة
امكانه وادعوا استحالته . والنظر فى هذه الامور الخارجة عن الحصر يطول فلنعين مثالا
واحدا وهو الاحتراق والقطن مثلا مع ملاقاة النار فانا نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون

[Page 518] الاحتراق ونجوز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار وهم ينكرون جوازه
وللكلام فى هذه المسئلة ثلاث مقامات
[2] المقام الاول ان يدعى الخصم ان فاعل الاحتراق هو النار فقط وهو فاعل
بالطبع لا بالاختيار فلا يمكنه الكف عما هو فى طبعه بعد ملاقاته لمحل قابل له
وهذا مما ننكره بل نقول فاعل الاحتراق بخلق السواد فى القطن والتفرق فى اجزائه
وجعله حراقا ورمادا هو الله تعالى اما بواسطة الملائكة أو بغير واسطة فاما النار فهى
جماد لا فعل لها . فما الدليل على انها الفاعل وليس لهم دليل الا مشاهدة حصول الاحتراق
عند ملاقاة النار والمشاهدة تدل على الحصول عنده ولا تدل على الحصول به وانه لا علة
سواه اذ لا خلاف فى ان ائتلاف الروح بالقوى المدركة والمحركة فى نطف الحيوانات
ليس يتولد عن الطبائع المحصورة فى الحرارة و البرودة والرطوبة واليبوسة ولا ان الاب
فاعل الجنين بايقاع النطفة فى الرحم ولا هو فاعل حياته وبصره وسمعه وسائر المعانى التى
فيه ومعلوم انها موجودة عنده ولم يقل احد انها موجودة به بل وجودها من جهة الاول
اما بغير واسطة واما بواسطة الملائكة الموكلين بهذه الامور الحادثة وهذا مما تقطع به
الفلاسفة القائلون بالصانع والكلام معهم فقد تبين ان الوجود عند الشىء لا يدل انه موجود
به . بل نبين هذا بمثال وهو ان الاكمه لو كان فى عينيه غشاوة ولم يسمع من الناس الفرق
بين الليل والنهار لو انكشفت الغشاوة عن عينيه نهارا وفتح اجفانه فرأى الالوان ظن ان
الادراك الحاصل فى عينيه لصور الالوان فاعلة فتح البصر وأنه مهما كان بصره سليما ومفتوحا

[Page 519] والحجاب مرتفعا والشخص المقابل متلونا فيلزم لا محالة ان يبصر ولا يعقل الا يبصر
حتى اذا غربت الشمس واظلم الهواء علم ان نور الشمس هو السبب فى انطباع الالوان فى
بصره فمن أين يامن الخصم ان يكون فى المبادى للوجود علل واسباب تفيض منها هذه
الحوادث عند حصول ملاقاة بينها الا انها ثابتة ليس تنعدم ولا هى اجسام متحركة
فتغيب ولو انعدمت او غابت لادركنا التفرقة وفهمنا ان ثم سببا وراء ما شاهدناه وهذا ما
لا مخرج عنه على قياس اصلهم . ولهذا اتفق محققوهم على ان هذه الاعراض والحوادث التى
تحصل عند وقوع الملاقاة بين الاجسام وعلى الجملة عند اختلاف نسبها انما تفيض من عند واهب ا
لصور وهو ملك أو ملائكة حتى قالوا انطباع صورة الالوان فى العين يحصل من جهة واهب
الصور وانما طلوع الشمس والحدقة السليمة والجسم المتلون معدات ومهيئات لقبول المحل
هذه الصورة و طردوا هذا فى كل حادث وهذا يبطل دعوى من يدعى ان النار هى الفاعلة
للاحتراق والخبز هو الفاعل للشبع والدواء هو الفاعل للصحة الى غير ذلك من الاسباب
[3] قلت أما انكار وجود الاسباب الفاعلة التى تشاهد فى المحسوسات
فقول سفسطانى والمتكلم بذلك اما جاحد بلسانه لما فى جنانه واما
منقاد لشبهة سفسطانية عرضت له فى ذلك . ومن ينفى ذلك فليس
يقدر ان يعترف ان كل فعل لا بد له من فاعل . واما ان هذه
الاسباب مكتفية بنفسها فى الافعال الصادرة عنها او انما تتم

[Page 520] أفعالها بسبب من خارج اما مفارق واما غير مفارق فامر ليس معروفا
بنفسه وهو مما يحتاج الى بحث وفحص كثير . [4] وان ألفوا هذه الشبهة
فى الاسباب الفاعلة التى يحس ان بعضها يفعل بعضا لموضع ما ههنا
من المفعولات التى لا يحس فاعلها فان ذلك ليس بحق فان التى لا
تحس اسبابها انما صارت مجهولة ومطلوبة من انها لا يحس لها أسباب
فان كانت الاشياء التى لا تحس لها اسباب مجهولة بالطبع ومطلوبة فما
ليس بمجهول فاسبابه محسوسة ضرورة وهذا من فعل من لا يفرق
بين المعروف بنفسه والمجهول فما أتى به فى هذا الباب مغالطة
سفسطانية . [5] وايضا فما ذا يقولون فى الاسباب الذاتية التى لا يفهم
الموجود الا بفهمها فانه من المعروف بنفسه ان للاشياء ذوات
وصفات هى التى اقتضت الافعال الخاصة بموجود موجود وهى التى
من قبلها اختلفت ذوات الاشياء واسماؤها وحدودها فلو لم يكن
لموجود موجود فعل يخصه لم يكن له طبيعة يخصه ولو م يكن له
طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حدّ وكانت الاشياء كلها شيئا
واحدا ولا شيئا واحدا لان ذلك الواحد يسأل عنه هل له فعل واحد
يخصه او انفعال يخصه أو ليس له ذلك فان كان له فعل يخصه فهنا

[Page 521] افعال خاصة صادرة عن طبائع خاصة وان لم يكن له فعل يخصه واحد
فالواحد ليس بواحد واذا ارتفعت طبيعة الواحد ارتفعت طبيعة الموجود
واذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم . [6] واما هل الافعال الصادرة عن
موجود موجود ضرورية الفعل فيما شأنه ان يفعل فيه أو هى أكثرية
أو فيها الامران جميعاً فمطلوب يستحق الفحص عنه فان الفعل والانفعال
الواحد بين كل شيئين من الموجودات انما يقع باضافة من الاضافات
التى لا تتناهى فقد تكون اضافة تابعة لاضافة ولذلك لا يقطع على ان
النار اذا دنت من جسم حساس فعلت ولا بد لانه لا يبعد ان يكون
هنالك موجود يوجد له الى الجسم الحساس اضافة تعوق تلك الاضافة
الفاعلة للنار مثل ما يقال فى حجر الطلق وغيره لكن هذا ليس يوجب
سلب النار صفة الاحراق ما دام باقيا لها اسم النار وحدها . [7] واما ان
الموجودات المحدثة لها اربعة أسباب فاعل ومادة وصورة وغاية
فذلك شىء معروف بنفسه وكذلك كونها ضرورية فى وجود
المسببات وبخاصته التى هى جزء من الشىء المسبب اعنى التى سموها
قوم مادة وقوم شرطا ومحلا والتى يسميها قوم صورة وقوم صفة
نفسية والمتكلمون يعترفون بان ههنا شروطا هى ضرورية فى حق

[Page 522] المشروط مثل ما يقولون ان الحياة شرط فى العلم وكذلك يعترفون
بان للاشياء حقائق وحدودا وانها ضرورية فى وجود الموجود ولذلك
يطردون الحكم فى ذلك فى الشاهد والغائب على مثال واحد
وكذلك يفعلون فى اللواحق اللازمة لجوهر الشىء وهو الذى يسمونه
الدليل مثل ما يقولون ان الاتقان فى الموجود يدل على كون الفاعل
عاقلا وكون الموجود مقصودا به غاية ما يدل على ان الفاعل له
عالم به والعقل ليس هو شىء أكثر من ادراكه الموجودات باسبابها
وبه يفترق من سائر القوى المدركة فمن رفع الاسباب فقد رفع العقل .
[8] وصناعة المنطق تضع وضعاً ان ههنا أسبابا ومسببات وان المعرفة
بتلك المسببات لا تكون على التمام الا بمعرفة اسبابها فرفع هذه
الاشياء هو مبطل للعلم ورفع له فانه يلزم الا يكون ههنا شىء
معلوم أصلًا علما حقيقيا بل ان كان فمظنون ولا يكون ههنا برهان
ولا حد أصلا وترتفع أصناف المحمولات الذاتية التى منها تأتلف
البراهين ومن يضع انه ولا علم واحد ضرورى يلزمه الا يكون
قوله هذا ضروريا . [9] واما من يسلم ان ههنا أشياء بهذه الصفة وأشياء

[Page 523] ليست ضرورية وتحكم النفس عليها حكما ظنيا وتوهم انها ضرورية
وليست ضرورية فلا ينكر الفلاسفة ذلك . [10] فان سموا مثل هذا عادة
جاز والا فما ادرى ما يريدون باسم العادة هل يريدون انها عادة
الفاعل أو عادة الموجودات أو عادتنا عند الحكم على هذه الموجودات
ومحال ان يكون لله تعالى عادة فان العادة ملكة يكتسبها الفاعل
توجب تكرر الفعل منه على الاكثر والله عز وجل يقول فلن تجد
لسنت الله تبديلاً ولن تجد لسنت الله تحويلاً وان ارادوا انها عادة
للموجودات فالعادة لا تكون الا لذى نفس وان كانت فى غير ذى
نفس فهى فى الحقيقة طبيعة وهذا غير ممكن أعنى أن يكون
للموجودات طبيعة تقتضى الشىء اما ضروريا واما اكثريا واما ان
تكون عادة لنا فى الحكم على الموجودات فان هذه العادة ليست
شيئًا أكثر من فعل العقل الذى يقتضيه طبعه وبه صار العقل عقلًا
وليس تنكر الفلاسفة مثل هذه العادة فهو لفظ مموه اذا حقق لم
يكن تحته معنى الا انه فعل وضعى مثل ما نقول جرت عادة
فلان ان يفعل كذا وكذا يريد انه يفعله فى الاكثر وان كان هذا
هكذا كانت الموجودات كلها وضعية ولم يكن هنا لك حكمة

[Page 524] أصلًا من قبلها ينسب الى الفاعل انه حكيم . [11] فكما قلنا لا ينبغى ان
يشك فى ان هذه الموجودات قد تفعل بعضها بعضا ومن بعض وانها
ليست مكتفية بانفسها فى هذا الفعل بل بفاعل من خارج فعله
شرط فى فعلها بل فى وجودها فضلًا عن فعلها . [12] وأما ما جوهر هذا الفاعل
أو الفاعلات ففيه اختلاف الحكماء من وجه ولم يختلفوا من وجه
وذلك انهم كلهم اتفقوا على ان الفاعل الاول هو برىء عن المادة
وان هذا الفاعل فعله شرط فى وجود الموجودات وفى وجود افعالها
وان هذا الفاعل يتناول فعله هذه الموجودات بوساطة معقول له هو
غير هذه الموجودات فبعضهم جعله الفلك فقط وبعضهم جعل مع
الفلك موجودا آخر بريئا من الهيولى وهو الذى يسمونه واهب
الصور والفحص عن هذه الآراء ليس هذا موضعه وأشرف ما
تفحص عنه الفلسفة هو هذا المعنى فان كنت ممن يشتاق الى هذه
الحقائق فاسلك الى الامر من بابه . [13] وانما وقع اختلافهم فى حدوث
الصور الجوهرية وبخاصة النفسانية لانهم لم يقدروا ان ينسبوا هذه

[Page 525] الى الحار والبارد والرطب واليابس التى هى اسباب ما تحدث ههنا
من الطبائع عندهم وتفسد والدهرية هم الذين ينسبون كل ما يظهر
ههنا مما ليس له سبب ظاهر الى الحار والبارد والرطب واليابس
ويقولون ان عندما تمتزج هذه الاسطقسات امتزاجا ما تحدث هذه
الاشياء على انها تابعة لتلك الامزجة مثل ما تحدث الالوان و سائر
الاعراض وقد عنيت الفلاسفة بالرد على هؤلاء

المقام الثانى
[14] قال ابو حامد المقام الثانى مع من يسلم ان هذه الحوادث تفيض عن مبادى
الحوادث ولكن الاستعداد لقبول الصور يحصل بهذه الاسباب المشاهدة الحاضرة الا ان
تلك المبادى أيضا تصدر الاشياء عنها باللزوم والطبع لا على سبيل التروى والاختيار صدور
النور من الشمس وانما افترقت المحال فى القبول لاختلاف استعدادها فان الجسم الصقيل يقبل
شعاع الشمس ويردّه حتى يستضىء به موضع آخر والمدر لا يقبل والهواء لا يمنع نفوذ نوره
والحجر يمنع وبعض الاشياء يلين بالشمس وبعضها يتصلب وبعضها يبيض كثوب القصار وبعضها
يسود كوجهه والمبدأ واحد والآثار مختلفة لاختلاف الاستعدادات فى المحل فكذا مبادى
الوجود فياضة بما هو صادر منها لا منع عندها ولا بخل وانما التقصير فى القوابل . واذا كان
كذلك فمهما فرضنا النار بصفتها وفرضنا قطنتين متماثلتين لاقتا النار على وتيرة واحدة فكيف
يتصور ان تحترق احديهما دون الاخرى وليس ثم اختيار وعن هذا المعنى انكروا وقوع ابراهيم
عليه السلام فى النار مع عدم الاحتراق وبقاء النار نارا وزعموا ان ذلك لا يمكن الا بسلب

[Page 526] الحرارة من النار وذلك يخرجها عن كونها نارا أو بقلب ذات ابراهيم عليه السلام
و رده حجرا أو شيئا لا يؤثر فيه النار ولا هذا ممكن ولا ذاك ممكن
[15] قلت ان من زعم من الفلاسفة ان هذه الموجودات المحسوسة
ليست فاعلة بعضها فى بعض وانما الفاعل لها مبدأ من خارج فهو لا
يقدر ان يقول ان الذى يظهر من فعل بعضها فى بعض هو أمر كاذب
بالكل ولكن يقول انها تفعل بعضها فى بعض استعدادا لقبولها
الصور عن المبدأ الذى من خارج ولكن لست اعلم أحدا قال بهذا
من الفلاسفة على الاطلاق وانما قالوا ذلك فى الصور الجوهرية وأما
الاعراض فلا فانهم كلهم متفقون على ان الحرارة تفعل حرارة مثلها
وكذلك سائر الكيفيات الاربع لكن من حيث يحفظ بها حرارة
الناس الاسطقسية والحرارة التى تصدر من الاجرام السماوية . [16] واما
ما نسبه الى الفلاسفة من ان المبادى المفارقة تفعل بالطبع لا بالاختيار
فلم يقل به احد يعتد به بل كل ذى علم فاعل عندهم باختيار لكن
لموضع الفضيلة التى هنالك لا يصدر عندهم من الضدين الا افضلهما
واختيارها ليس لشىء يكمل ذواتها اذ كان ليس فى ذاتها نقص

[Page 527] بل ليكمل به من الموجودات من فى طباعه نقص . [17] وأما ما نسبه من
الاعتراض على معجزة ابراهيم عليه السلام فشىء لم يقله الا الزنادقة
من أهل الاسلام فان الحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم
ولا الجدل فى مبادى الشرائع وفاعل ذلك عندهم محتاج الى الادب
الشديد وذلك انه لما كانت كل صناعة لها مبادى وواجب على الناظر
فى تلك الصناعة أن يسلم مبادئها ولا يعرض لها بنفى ولا بابطال
كانت الصناعة العملية الشرعية أحرى بذلك لان المشى على الفضائل
الشرعية هو ضرورى عندهم ليس فى وجود الانسان بما هو انسان
بل وبما هو انسان عالم ولذلك يجب على كل انسان ان يسلم مبادى
الشريعة وان يقلد فيها ولا بد الواضع لها فان جحدها والمناظرة فيها
مبطل لوجود الانسان ولذلك وجب قتل الزنادقة . [18] فالذى يجب ان
يقال فيها ان مبادئها هى امور الهية تفوق العقول الانسانية فلا بد
أن يعترف بها مع جهل اسبابها ولذلك لا نجد احدا من القدماء
تكلم فى المعجزات مع انتشارها وظهورها فى العالم لانها مبادى
تثبيت الشرائع والشرائع مبادى الفضائل ولا فيما يقال منها بعد

[Page 528] الموت فاذا نشأ الانسان على الفضائل الشرعية كان فاضلًا باطلاق
فان تمادى به الزمان والسعادة الى ان يكون من العلماء الراسخين فى
العلم فعرض له تأويل فى مبدأ من مبادئها ففرضه الا يصرح بذلك
التأويل وان يقول فيه كما قال سبحانه والراسخون فى العلم يقولون
آمنا به كل من عند ربنا هذه هى حدود الشرائع وحدود العلماء
[19] قال ابو حامد والجواب له مسلكان ان نقول لا نسلم ان المبادى
ليست تفعل بالاختيار وان ﷲ تعالى لا يفعل بالارادة وقد فرغنا عن ابطال دعواهم فى
ذلك فى مسألة حدث العالم فاذا ثبت ان الفاعل يخلق الاحتراق بارادة عند ملاقاة
القطنة النار أمكن فى العقل ألا يخلق مع وجود الملاقاة

االاول

[20] قلت الذى وضع ههنا انه قد ثبت ايهاما للخصم هو الذى يدافع
به الخصم ويقول لا دليل عليه وهو ان الفاعل الاول يفعل الاحراق
دون واسطة خلقها لتكون من النار فان دعوى مثل هذا ترفع الحس

[Page 529] فى وجود الاسباب والمسببات فلا يشك أحد من الفلاسفة فى ان
الاحراق الواقع فى القطن من النار مثلا ان النار هى الفاعلة له
لكن لا باطلاق بل من قبل مبدأ من خارج هو شرط فى وجود النار
فضلًا على احراقها وانما يختلفون فى هذا المبدأ ما هو هل هو مفارق
أو هو واسطة بين الحادث والمفارق سوى النار
[21] قال ابو حامد مجيبا عن الفلاسفة
فان قيل هذا يجر الى ارتكاب محالات شنيعة فانه اذا انكرتم لزوم المسببات عن
اسبابها واضيفت الى ارادة مخترعها ولم يكن للارادة أيضا منهج مخصوص متعين بل أمكن
تفنّنه وتنوّعه فليجوّز كل واحد منا ان يكون بين يديه سباع ضارية ونيران مشتعلة وجبال
راسية واعداء مستعدة بالاسلحة وهو لا يراها لان الله تعالى ليس يخلق الرؤية له . ومن وضع
كتابا فى بيته فليجوّز ان يكون قد انقلب عند رجوعه الى بيته غلاما امرد عاقلا متصرفا او
انقلب حيوانا ولو ترك غلاما فى بيته فليجوز انقلابه كلبا أو ترك الرماد فليجوز انقلابه
مسكا وانقلاب الحجر ذهبا والذهب حجرا واذا سئل عن شىء من هذا فينبغى ان يقول لا
ادرى ما فى البيت الآن وانما القدر الذى اعلمه انى تركت فى البيت كتابا ولعله الآن فرس
وقد لطخ بيت الكتب ببوله وروثه وانى تركت فى البيت خبزة ولعلها انقلبت شجرة تفاح
فان الله تعالى قادر على كل شىء وليس من ضرورة الفرس أن يخلق من النطفة ولا من
ضرورة الشجرة ان تخلق من البذر بل ليس من ضرورته ان يخلق من شىء فلعله خلق اشياء
لم يكن لها وجود من قبل بل اذا نظر الى انسان لم يره الا الآن وقيل له هل هذا مولود

[Page 530] فليتردد وليقل يحتمل ان يكون بعض الفواكه فى السوق قد انقلب انسانا وهو ذلك الانسان
فان الله قادر على كل شىء ممكن وهذا ممكن فلا بد من التردد فيه وهذا فن يتسع المجال
فى تصويره وهذا القدر كاف
[22] ولما حكى هذا الكلام عن الفلاسفة اتى بجواب فقال
والجواب ان نقول ان ثبت ان الممكن كونه لا يجوز ان يخلق للانسان علم بعدم
كونه لزم هذه المحالات كلها ونحن لا نشك فى هذه الصور التى اوردتموها فان الله تعالى
خلق لنا علما بان هذه الممكنات لم يفعلها ولم ندع ان هذه الامور واجبة بل هى ممكنة يجوز
ان تقع ويجوز ان لا تقع واستمرار العادة بها مرة بعد اخرى يرسخ فى اذهاننا جريانها على
وفق العادة الماضية ترسخا لا تنفك عنه . بل يجوز ان يعلم نبى من الانبياء بالطرق التى
ذكروها ان فلانا لا يقدم من سفره غدا وقدومه ممكن ولكن يعلم عدم وقوع ذلك الممكن
بل كما ينظر الى العامىّ فيعلم انه ليس يعلم الغيب فى امر من الامور ولا يدرك المعقولات
من غير تعلم ومع ذلك فلا ينكر ان تتقوى نفسه وحدسه بحيث يدرك ما يدركه الانبياء على
ما اعترفوا بامكانه ولكن يعلمون ان ذلك الممكن لم يقع فان خرق الله تعالى العادة
بايقاعها فى زمان خرق العادات انسلت هذه العلوم عن القلوب ولم يخلقها فلا مانع اذن
من ان يكون الشىء ممكنا فى مقدورات الله سبحانه وتعالى ويكون قد جرى فى سابق
علمه انه لا يفعله مع امكانه فى بعض الاوقات ويخلق لنا العلم بانه ليس يفعله فى ذلك الوقت
فليس فى هذا الكلام الا تشنيع محض
[23] قلت اما اذا سلم المتكلمون ان الامور المتقابلة فى الموجودات
ممكنة على السواء وانها كذلك عند الفاعل وانما يتخصص احد
المتقابلين بارادة فاعل ليس لارادته ضابط يجرى عليه لا دائما ولا فى

[Page 531] الاكثر فكلما لزم المتكلمين من الشناعات يلزمهم وذلك ان العلم
اليقينى هو معرفة الشىء على ما هو عليه فاذا لم يكن فى الوجود الا
امكان المتقابلين فى حق القابل والفاعل فليس ههنا علم ثابت بشىء
أصلًا ولا طرفة عين اذا فرضنا الفاعل بهذه الصفة متسلطا على
الموجودات مثل الملك الجائر وله المثل الاعلى الذى لا يعتاض عليه
شىء فى مملكته ولا يعرف منه قانون يرجع اليه ولا عادة فان افعال
هذا الملك يلزم ان تكون مجهولة بالطبع واذا وجد عنه فعل كان
استمرار وجوده فى كل آن مجهولا بالطبع
[24] وانفصال أبى حامد من هذه المحالات بان الله تعالى لو خلق لنا
علما بان هذه الممكنات لا تقع الا فى أوقات مخصوصة كانك قلت
وقت المعجزة ليس بانفصال صحيح وذلك ان العلم المخلوق فينا انما
هو أبدا شىء تابع لطبيعة الموجود فان الصادق هو ان يعتقد فى
الشىء انه على الحال التى هو عليها فى الوجود فان كان لنا فى هذه
الممكنات علم ففى الموجودات الممكنة حال هى التى يتعلق بها علمنا
وذلك اما من قبلها أنفسها او من قبل الفاعل أو من قبل الامرين وهى
التى يعبرون عنها بالعادة واذ استحال وجود هذه الحال المسماة عادة فى

[Page 532] الفاعل الاول فلم يبق ان تكون الا فى الموجودات وهذه هى التى
يعبر عنها كما قلنا الفلاسفة بالطبيعة وكذلك علم ﷲ بالموجودات
وان كان علة لها فهى ايضا لازمة لعلمه ولذلك لزم ان يقع الموجود
على وفق علمه . [25] فالعلم بقدوم زيد مثلا ان وقع للنبى من قبل
اعلام الله له فالسبب فى وقوعه على وفق العلم ليس شيئا اكثر من
كون طبيعة الموجود تابعة للعلم الازلى فان العلم بما هو علم لا يتعلق
بما ليس له طبيعة محصلة وعلم الخالق هو السبب فى حصول تلك
الطبيعة للموجود التى هو بها متعلق فجهلنا نحن بالممكنات انما هو
من قبل جهلنا بهذه الطبيعة التى تقتضى له الوجود او عدمه فانه لو
كانت المتقابلات فى الموجودات على السواء من قبل أنفسها ومن
قبل الاسباب الفاعلة لها لكان يلزم اما الا توجد ولا تعدم او
توجد وتعدم معاً واذا كان ذلك كذلك فلا بد ان يترجح أحد
المتقابلين فى الوجود والعلم بوجود تلك الطبيعة هى التى توجب احد
المتقابلين على التحصيل والعلم المتعلق بها هو اما علم متقدم عليها

[Page 533] وهو العلم الذى هى معلولة عنه وهو العلم القديم أو العلم التابع لها
وهو العلم الغير القديم والوقوف على الغيب ليس هو شيئا أكثر من
الاطلاع على هذه الطبيعة وحصول العلم لنا فيما ليس عندنا دليل
يتقدم عليها هو الذى يسمى للناس رؤيا وللانبياء وحيا والارادة
الازلية والعلم الازلى هى الموجبة فى الموجودات لهذه الطبيعة وهذا
هو معنى قوله سبحانه قل لا يعلم من ى السماوات والارض الغيب
الا الله . [26] وهذه الطبيعة قد تكون واجبة وقد يكون حدوثها على
الاكثر والمنامات والوحى كما قلنا انما هو اعلام بهذه الطبيعة فى
الموجودات الممكنة والصنائع التى تدعى تقدمة المعرفة بما يوجد فى
المستقبل انما عندها آثار نزرة من آثار هذه الطبيعة أو الخلقة أو كيف
شئت ان تسميها أعنى المحصلة فى نفسها التى يتعلق بها العلم
[27] قال ابو حامد وفيه الخلاص من هذه التشنيعات وهو ان نسلم ان
النار خلقت خلقة اذا لاقاها قطنتان متماثلتان أحرقتهما ولم تفرق بينهما اذا تماثلتا من كل وجه
ولكنا مع هذا نجوز ان يلقى نبى فى النار فلا يحترق اما بتغيير صفة النار أو بتغيير صفة
النبى فيحدث من الله تعالى أو من الملائكة صفة من النار يقصر سخونتها على جسمها بحيث
لا تتعداه فيبقى معها سخونتها وتكون على صورة النار وحقيقتها ولكن لا تتعدى سخونتها
واثرها أو يحدث فى بدن الشخص صفة ولا يخرجه عن كونه لحما وعظما فيدفع اثر النار .

[Page 534] فانا نرى من يطلى نفسه بالطلق ثم يقعد فى تنور موقد ولا يتأثر به والذى لم يشاهد ذلك
ينكره فانكار الخصم اشتمال القدرة على اثبات صفة من الصفات فى النار أو فى البدن يمنع
الاحتراق كانكار من لم يشاهد الطلق واثره وفى مقدورات الله غرائب وعجائب ونحن لم
نشاهد جميعها فلِم ينبغى ان ننكر امكانها ونحكم باستحالتها . وكذلك احياء الميت
وقلب العصا ثعبانا يمكن بهذا الطريق وهو ان المادة قابلة لكل شىء فالتراب وسائر العناصر
يستحيل نباتا ثم النبات يستحيل عند أكل الحيوان له دما ثم الدم يستحيل منيا ثم المنى ينصب
فى الرحم فيتخلق حيوانا وهذا بحكم العادة واقع فى زمان متطاول فلم يحيل الخصم ان يكون
فى مقدور الله تعالى ان يدير المادة فى هذه الاطوار فى وقت أقرب مما عهد فيه واذا جاز
فى وقت أقرب فلا ضبط للاقل فتستعجل هذه القوى فى عملها ويحصل به ما هو معجزة للنبى
فان قيل وهذا يصدر من نفس النبى أو من مبدأ آخر من المبادئ عند اقتراح النبى
قلنا وما سلمتموه من جواز نزول الامطار والصواعق وتزلزل الارض بقوة نفس
النبى يحصل منه أو من مبدأ آخر فقولنا فى هذا كقولكم فى ذلك والاولى بنا وبكم
اضافة ذلك الى الله تعالى اما بغير واسطة أو بواسطة الملائكة . ولكن وقت استحقاق
حصولها انصراف همة النبى اليه وتعين نظام الخير فى ظهوره لاستمرار نظام الشرع فيكون
ذلك مرجحا جهة الوجود ويكون الشىء فى نفسه ممكنا والمبدأ به سمحا جوادا ولكن لا
يفيض منه الا اذا ترجحت الحاجة الى وجوده وصار الخير متعينا فيه ولا يصير الخبر متعينا
فيه الا اذا احتاج نبى فى اثبات نبوته اليه لافاضة الخير
فهذا كله لائق بمساق كلامهم ولازم لهم مهما فتحوا باب الاختصاص للنبى بخاصية
تخالف عادة الناس فان مقادير ذلك الاختصاص لا ينضبط فى العقل امكانه فلم يجب معه
التكذيب لما تواتر نقله وورد الشرع بتصديقه . وعلى الجملة لما كان لا يقبل صورة الحيوان الا
النطفة وانما تفيض القوى الحيوانية عليها من الملائكة التى هى مبادئ الموجودات عندهم ولم
يتخلق قط من نطفة الانسان الا انسان ومن نطفة الفرس الا فرس من حيث ان حصوله من
الفرس أَوجب ترجيحا لمناسبة صورة الفرس على سائر الصور فلم يقبل الا الصورة المترجحة

[Page 535] بهذا الطريق ولذلك لم ينبت قط من الشعير حنطة ولا من بذر الكمثرى تفاح ثم رأينا
اجناسا من الحيوانات تتولد من التراب ولا تتوالد قط كالديدان ومنها ما يتولد ويتوالد
جميعًا كالفار والحية والعقرب وكان تولدها من التراب ويختلف استعدادها لقبول الصور
بامور غائبة عنا ولم يكن فى القوة البشرية الاطلاع عليها اذ ليس تفيض الصور عندهم من
الملائكة بالتشهى ولا جزافا بل لا يفيض على كل محل الا ما تعين قبوله له بكونه مستعدا
فى نفسه والاستعدادات مختلفة ومبادئها عندهم امتزاجات الكواكب واختلاف نسب الاجرام
العلوية فى حركاتها . فقد انفتح من هذا ان مبادى الاستعدادات فيها غرائب وعجائب حتى توصل
ارباب الطلسمات من علم خواص الجواهر المعدنية وعلم النجوم الى مزج القوى السماوية
بالخواص المعدنية فاتخذوا اشكالا من هذه الارضية وطلبوا لها طالعا مخصوصا من الطوالع
وأحدثوا بها أمورا غريبة فى العالم فربما دفعوا الحية والعقرب عن بلد والبق عن بلد الى غير
ذلك من امور تعرف من علم الطلسمات . فاذا خرجت عن الضبط مبادى الاستعدادات ولم
نقف على كنهها ولم يكن لنا سبيل الى حصرها فمن أين نعلم استحالة حصول الاستعداد فى
بعض الاجسام للاستحالة فى الاطوار فى أقرب زمان حتى يستعد لقبول صورة ما كان يستعد
لها من قبل وينتهض ذلك معجزة . ما انكار هذا الا لضيق الحوصلة والانس بالموجودات
العالية والذهول عن اسرار الله سبحانه فى الخلقة والفطرة ومن استقرأ عجائب العلوم لم
يستبعد من قدرة الله تعالى ما يحكى من معجزات الانبياء بحال من الاحوال
فان قيل فنحن نساعدكم على ان كل ممكن مقدور لله تعالى وأنتم تساعدون على ان
كل محال فليس بمقدور ومن الاشياء ما يعرف استحالتها ومنها ما يعرف امكانها ومنها ما يقف
العقل فلا يقضى فيه باستحالة ولا امكان فالآن ما حدّ المحال عند كم فان رجع الى الجمع بين
النفى والاثبات فى شىء واحد فقولوا ان كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا فلا يستدعى
وجود أحدهما وجود الآخر . وقولوا ان الله تعالى يقدر على خلق ارادة من غير علم بالمراد
وخلق علم من غير حيوة ويقدر على ان يحرك يد ميت ويقعده ويكتب بيده مجلدات
ويتعاطى صناعات وهو مفتوح العين محدق بصره نحوه ولَكنه لا يرى ولا حيوة فيه ولا
قدرة له عليه وانما هذه الافعال المنظومة يخلقها الله تعالى مع تحريك يده والحركة من جهة الله
تعالى وبتجويز هذا يبطل الفرق بين الحركة الاختيارية وبين الرعدة فلا يدل الفعل
المحكم على العلم ولا على قدرة الفاعل . وينبغى ان يقدر على قلب الاجناس فيقلب الجوهر
عرضا ويقلب العلم قدرة والسواد بياضا والصوت رائحة كما اقتدر على قلب الجماد حيوانا

[Page 536] والحجر ذهبا ويلزم عليه أيضا من المحالات ما لا حصر له
والجواب ان المحال غير مقدور عليه والمحال اثبات الشىء مع نفيه أو اثبات
الاخص مع نفى الاعم أو اثبات الاثنين مع نفى الواحد وما لا يرجع الى هذا فليس بمحال
وما ليس بمحال فهو مقدور . اما الجمع بين السواد والبياض فمحال لانه يفهم من اثبات
صورة السواد فى المحل نفى هيئة البياض ووجود السواد فاذا صار نفى البياض مفهوما من
اثبات السواد كان اثبات البياض مع نفيه محالا . وانما لا يجوز كون الشخص فى مكانين لانا
نفهم من كونه فى البيت عدم كونه فى غير البيت فلا يمكن تقديره فى غير البيت مع كونه
فى البيت المفهم لنفيه عن غير البيت . وكذلك يفهم من الارادة طلب معلوم فان فرض طلب
ولا علم لم تكن ارادة فكان فيه نفى ما فهمناه . والجماد يستحيل ان يخلق فيه العلم لانا نفهم
من الجماد ما لا يدرك فان خلق فاه ادراك فتسميته جمادا بالمعنى الذى فهمناه محال وان لم يدرك
فتسميته علما ولا يدرك به محله شيئا محال فهذا وجه استحالته . واما قلب الاجناس فقد قال
بعض المتكلمين انه مقدور لله تعالى فنقول مصير الشىء شيئا آخر غير معقول لان السواد اذا
انقلب قدرة مثلا فالسواد باق أم لا فان كان معدوما فلم ينقلب بل عدم ذاك ووجد
غيره وان كان موجودا مع القدرة فلم ينقلب ولكن انضاف اليه غيره وان بقى السواد
والقدرة معدومة فلم ينقلب بل بقى على ما هو عليه واذا قلنا انقلب الدم منيا أردنا به ان تلك
المادة بعينها خلعت صورة وليست صورة اخرى فرجع الحاصل الى ان صورة عدمت وصورة
حدثت وثم مادة قائمة تعاقب عليها الصورتان واذا قلنا انقلب الماء هواء بالتسخين أردنا به
أن المادة القابلة لصورة المائية خلعت هذه الصورة وقبلت صورة اخرى فالمادة مشتركة
والصفة متغيرة وكذلك اذا قلنا انقلب العصا ثعبانا والتراب حيوانا وليس بين العرض
والجوهر مادة مشتركة ولا بين السواد والقدرة ولا بين سائر الاجناس مادة مشتركة
فكان هذا محالا من هذا الوجه . وأما تحريك الله تعالى يد ميت ونصبه على صورة حى
يقعد ويكتب حتى يحدث من حركة يده الكتابة المنظومة فليس بمستحيل فى نفسه مهما احلنا
الحوادث الى ارادة مختار وانما هو مستنكر لاطراد العادة بخلافه . وقولكم تبطل به دلالة

[Page 537] احكام الفعل على علم الفاعل فليس كذلك فان الفاعل الآن هو الله تعالى وهو المحكم
وهو فاعل له . واما قولكم انه لا يبقى فرق بين الرعشة والحركة المختارة فنقول انما
ادركنا ذلك من انفسنا لانا شاهدنا من أنفسنا تفرقة بين الحالتين فعبرنا عن ذلك الفارق
بالقدرة فعرفنا ان الواقع من القسمين الممكنين أحدهما فى حالة والآخر فى حالة وهو ايجاد
الحركة مع القدرة عليها فى حالة وايجاد الحركة دون القدرة فى حالة اخرى . وأما اذا نظرنا
الى غيرنا ورأينا حركات كثيرة منظومة حصل لنا علم بقدرتها فهذه علوم يخلقها الله تعالى
بمجارى العادات يعرف بها وجود احد قسمى الامكان ولا يتبين به استحالة القسم
الثانى كما سبق
[28] قلت لما رأى ان القول بان ليس للاشياء صفات خاصة ولا صور
عنها تلزم الافعال الخاصة بموجود موجود هو قول فى غاية الشناعة
وخلاف ما يعقله الانسان سلمه فى هذا القول ونقل الانكار الى
موضعين احدهما انه قد يمكن ان توجد هذه الصفات للموجود ولا
يوجد لها تأثير فيما جرت به عادته ان يؤثر فيه مثل النار مثلا فانه
يمكن ان توجد الحرارة لها ولا تحرق ما تدنو منها وان كان شأنه ان
يحترق اذا دنت منه النار والموضع الثانى انه ليس للصور الخاصة
بموجود موجود مادة خاصة
[29] فاما القول الاول فانه لا يبعد ان تسلمه الفلاسفة له وذلك ان
افعال الفاعلين ليس صدور الافعال عنها ضروريا لمكان الامور التى

[Page 538] من خارج فلا يمتنع ان يقترن النار بالقطن مثلا فى وقت ما فلا
تحرقه ان وجد هنالك شىء ما اذا قارن القطن صار غير قابل به
للاحراق كما يقال فى الطلق مع الحيوان
[30] فاما ان المواد شرط من شروط الموجودات ذوات المواد فشىء
لا يقدر المتكلمون ان ينفوه وذلك انه كما يقول ابو حامد لا فرق
بين نفينا الشىء واثباته معا أو نفينا بعضه واثباته معا ومتى كان قوام
الاشياء من صفتين عامة وخاصة وهى التى يدل عليها الفلاسفة باسم
الحد المركب عندهم من جنس وفصل فلا فرق فى ارتفاع الموجود
بارتفاع احدى هاتين الصفتين مثال ذلك ان الانسان لما كان قوامه
بصفتين احداهما عامة وهى الحيوانية مثلا والثانية خاصة وهى
النطق فانه كما انا اذا رفعنا منه انه ناطق لم يبق انسانا كذلك اذا
رفعنا عنه انه حيوان وذلك ان الحيوانية شرط فى النطق ومتى
ارتفع الشرط ارتفع المشروط فلا خلاف بين المتكلمين والفلاسفة
فى هذا الباب الا فى امور جزئية . [31] ترى الفلاسفة ان الصفات العامة
فيها شرط كالصفات الخاصة ولا يرى ذلك المتكلمون مثل ان

[Page 539] الحرارة والرطوبة هى عند الفلاسفة من شرط الحياة فى الحى
الكائن الفاسد لكونهما أعم من الحياة كحال الحياة مع النطق
والمتكلمون لا يرون ذلك ولذلك ما تسمعهم يقولون ليس من
شرط الحياة عندنا الهيئة والبلة وكذلك التشكل عندهم شرط
من شروط الحياة الخاصة بالموجود ذى الشكل وذلك انه لو لم يكن
شرطا لأمكن أحد امرين اما ان توجد الخاصة بالحيوان ولا يوجد
فعلها أصلا واما الا توجد مثال ذلك ان اليد عندهم هى آلة
العقل التى بها يصدر عن الانسان الافعال العقلية مثل الكتابة
وغير ذلك من الصنائع فان أمكن وجود العقل فى الجماد امكن
ان يوجد العقل من غير ان يوجد فعله الصادر عنه مثل ما لو أمكن
ان توجد حرارة من غير ان تسخن ما شأنه ان يسخن منها وكل
موجود عندهم له كمية محدودة وان كان لها عرض فى موجود
موجود عندهم وله كيفية محدودة أيضاً وان كان لها عرض عندهم
وكذلك انية كون الموجودات عندهم محدودة وزمان بقائها محدود

[Page 540] وان كان لها عرض أيضاً لكنه محدود . [32] ولا خلاف بينهم ان الموجودات
التى تشترك فى مادة واحدة ان المادة التى بهذه الصفة مرة تقبل احدى
الصورتين ومرة تقبل مقابلتها كالحال عندهم فى صور الاجسام
البسيطة الاربعة التى هى النار والهواء والماء والارض . [33] وانما الخلاف
فيه فيما ليس له مادة مشتركة أو موادها مختلفة هل يمكن ان تقبل
بعضها صور بعض مثال ذلك ما شأنه ان يشاهد غير قابل لصورة ما
من الصور الا بوسائط كثيرة هل يمكن فيه ان يقبل الصورة الاخيرة
بلا وسائط مثال ذلك ان الاسطقسات تتركب حتى يكون منها
نبات ثم يغتذى منه الحيوان فيكون منه دم ومنى ثم يكون من
المنى والدم حيوان كما قال سبحانه ولقد خلقنا الانسان من سلالة
من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين الى قوله فتبارك الله أحسن
الخالقين فالمتكلمون يقولون ان صورة الانسان يمكن ان تحل فى
التراب من غير هذه الوسائط التى تشاهد والفلاسفة يدفعون هذا
ويقولون لو كان هذا ممكنا لكانت الحكمة فى ان يخلق الانسان
دون هذه الوسائط ولكان خالقه بهذه الصفة هو احسن الخالقين

[Page 541] واقدرهم وكل واحد من الفريقين يدعى ان ما يقوله معروف بنفسه
وليس عند واحد منهم دليل على مذهبه وأنت فاستفت قلبك فما
أنبأك فهو فرضك الذى يجب اعتقاده وهو الذى كلفت اياه والله
يجعلنا واياك من أهل الحقيقة واليقين
[34] وقد ذهب بعض الاسلام الى ان الله تعالى يوصف بالقدرة على
اجتماع المتقابلين وشبهتهم ان قضاء العقل منا بامتناع ذلك انما هو
شىء طبع عليه العقل فلو طبع طبعا يقضى بامكان ذلك لما أنكر
ذلك ولجوزه وهولاء يلزمهم الا يكون للعقل طبيعة محصلة ولا
للموجودات ولا يكون الصدق الموجود فيه تابعا لوجود الموجودات
فاما المتكلمون فاستحيوا من هذا القبول ولو ركبوه لكان أحفظ
لوضعهم من الابطالات الواردة عليهم فى هذا الباب من خصومهم
لانهم يطلبون بالفرق بين ما أثبتوا من هذا الجنس وبين ما نفوه
فيعسر عليهم بل لا يجدون الا أقاويل مموهة ولذلك نجد من حذق
فى صناعة الكلام قد لجأ ان ينكر الضرورة التى بين الشرط
والمشروط وبين الشىء وحده وبين الشىء وعلته وبين الشىء ودليله

[Page 542] وهذا كله تبحّر فى رأى السفسطانيين فلا معنى له والذى فعل هذا
من المتكلمين هو ابو المعالى . [35] والقول الكلى الذى يحل هذه الشكوك
ان الموجودات تنقسم الى متقابلات والى متناسبات فلو جاز ان
تفترق المتناسبات لجاز ان تجتمع المتقابلات لكن لا تجتمع
المتقابلات فلا تفترق المتناسبات هذه هى حكمة الله تعالى فى
الموجودات وسنته فى المصنوعات ولن تجد لسنة الله تبديلا وبادراك
هذه الحكمة كان العقل عقلا فى الانسان ووجودها هكذا فى العقل
الازلى كان علة وجودها فى الموجودات ولذلك العقل ليس بجائز
فيمكن ان يخلق على صفات مختلفة كما توهم ذلك ابن حزم

[Page 543]

المسئلة الثانية فى تعجيزهم عن اقامة البرهان العقلى على ان النفس الانسانى جوهر روحانى قائم بنفسه

لا يتحيز وليس بجسم ولا هو منطبع فى الجسم ولا هو متصل
بالبدن ولا هو منفصل عنه كما أن الله تعالى ليس خارج
العالم ولا داخل العالم وكذلك الملائكة عندهم
[1] والخوض فى هذا يستدعى شرح مذهبهم فى القوى الحيوانية والانسانية
والقوى الحيوانية تنقسم عندهم الى قسمين محركة ومدركة
والمدركة قسمان ظاهرة وباطنة - والظاهرة هى الحواس الخمس وهى معان
منطبعة فى الاجسام اعنى هذه القوى - واما الباطنة فثلاث
احديها القوة الخيالية فى مقدم الدماغ وراء القوة الباصرة وفيه تبقى صور الاشياء المرئية
بعد تغميض العين بل ينطبع فيها ما تورده الحواس الخمس فتجتمع فيه ويسمى الحس المشترك

[Page 544] لذلك ولولاه لكان من رأى العسل الابيض ولم يدرك حلاوته الا بالذوق فاذا رآه ثانيا لا
يدرك حلاوته ما لم يذق كالمرة الاولى ولكن فيه معنى يحكم بان هذا الابيض هو الحلو فلا
بد وان يكون عنده حاكم قد اجتمع عنده الامران اعنى اللون والحلاوة حتى قضى عند
وجود احدهما بوجود الآخر
والثانية القوة الوهمية وهى التى تدرك المعانى وكان القوة الاولى تدرك الصور والمراد
بالصور ما لا بد لوجوده من مادة أى جسم والمراد بالمعانى ما لا يستدعى وجوده جسما ولكن
قد يعرض له أن يكون فى جسم كالعداوة والموافقة فان الشاة تدرك من الذائب لونه
وشكله وهيئته وذلك لا يكون الا فى جسم وتدرك أيضا كونه مخالفا لها وتدرك السخلة
شكل الام ولونها ثم تدرك موافقتها وملايمتها ولذلك تهرب من الذئب وتعدو خلف الام
والمخالفة والموافقة ليس من ضرورتها ان تكون فى الاجسام [لا كاللون والشكل ولكن
قد يعرض لها ان تكون فى الاجسام] أيضا فكانت هذه القوة مباينة للقوة الثانية وهذا
محله التجويف الاخير من الدماغ
واما الثالثة فهى القوة التى تسمى فى الحيوانات متخيلة وفى الانسان مفكرة وشانها
ان تركب الصور المحسوسة بعضها مع بعض وتركب المعانى على الصور وهى فى التجويف
الاوسط بين حافظ الصور وحافظ المعانى ولذلك يقدر الانسان على أن يتخيل فرسا يطير
وشخصا رأسه رأس انسان وبدنه بدن فرس الى غير ذلك من التركيبات وان لم يشاهد
مثل ذلك والاولى ان تلحق هذه القوة بالقوى المحركة كما سياتى لا بالقوى المدركة
وانما عرفت مواضع هذه القوى بصناعة الطب فان الآفة اذا نزلت بهذه التجويفات اختلت
هذه الامور
ثم زعموا ان القوة التى تتطبع فيها صور المحسوسات بالحواس الخمس تحفظ تلك الصور
حتى لا تذهب بعد القبول و الشىء يحفظ الشىء لا بالقوة التى بها يقبل فان الماء يقبل ولا
يحفظ والشمع يقبل برطوبته ويحفظ بيبوسته بخلاف الماء فكانت الحافظة بهذا الاعتبار غير

[Page 545] القابلة فتسمى هذه قوة حافظة وكذلك المعانى تتطبع فى الوهمية وتحفظها قوة تسمى ذاكرة
فتصير الادراكات الباطنة بهذا الاعتبار اذا ضم اليها المتخيلة خمسة كما كانت الظاهرة خمسة
واما القوى المحركة فتنقسم الى محركة على معنى انها باعثة على الحركة والى
محركة على معنى انها مباشرة للحركة فاعلة
والمحركة على انها باعثة هى القوة النزوعية الشوقية وهى التى اذا ارتسم فى القوة
الخيالية التى ذكرناها صورة مطلوب أو مهروب عنه بعثت القوة المحركة الفاعلة على التحريك
ولها شعبتان شعبة تسمى قوة شهوانية وهى قوة تبعث على تحريك يقرب به من الاشياء
المتخيلة ضرورية او نافعة طلبا للذة وشعبة تسمى قوة غضبية وهى قوة تبعث على تحريك
يدفع به الشىء المتخيل ضارا أو مفسدا طلبا للغلبة وبهذه القوة يتم الاجماع التام على الفعل
المسمى ارادة
واما القوة المحركة على انها فاعلة فهى قوة تنبعث فى الاعصاب والعضلات من شانها أن
تشنج العضلات فتجذب الاوتار والرباطات المتصلة بالاعضاء الى جهة الموضع الذى فيه القوة
أو ترخيها وتمددها طولا فتصير الرباطات والاوتار الى خلاف الجهة . فهذه قوى النفس
الحيوانية على طريق الاجمال وترك التفصيل
فاما النفس العاقلة للاشياء المسماة بالناطقة عندهم والمراد بالناطقة العاقلة
لان النطق اخص ثمرات العقل فى الظاهر فنسبت اليه فلها قوتان قوة عالمة وقوة عاملة
وقد تسمى كل واحدة عقلا ولكن باشتراك الاسم . فالعاملة قوة هى مبدأ محرك لبدن
الانسان الى الصناعات المرتبة الانسانية المستنبط ترتيبها بالرويّة الخاصة بالانسان . وأما العالمة
فهى التى تسمى النظرية وهى قوة من شأنها ان تدرك حقائق المعقولات المجردة عن المادة
والمكان والجهات وهى القضايا الكلية التى يسميها المتكلمون احوالا مرة ووجوها
أخرى وتسميها الفلاسفة الكليات المجردة . فاذا للنفس قوتان بالقياس الى جنبتين
القوة النظرية بالقياس الى جنبة الملائكة اذ بها تاخذ من الملائكة العلوم الحقيقية وينبغى ان

[Page 546] تكون هذه القوة دائمة القبول من جهة فوق . والقوة العملية لها بالنسبة الى أسفل وهى جهة
البدن وتدبيره واصلاح الاخلاق وهذه القوة ينبغى ان تتسلط على سائر القوى البدنية وأن
تكون سائر القوى متأدبة بتأديبها مقهورة دونها حتى لا تنفعل ولا تتأثر هى عنها بل تنفعل
تلك القوى عنها لئلا يحدث فى النفس من الصفات البدنية هيآت انقيادية تسمى رذائل
بل تكون هى الغالبة ليحصل للنفس بسببها هيآت تسمى فضائل
فهذا ايجاز ما فصلوه من القوى الحيوانية والانسانية وطولوا بذكرها مع الاعراض عن
ذكر القوى النباتية اذ لا حاجة الى ذكرها فى غرضنا. وليس شىء مما ذكروه مما يجب
انكاره فى الشرع فانها امور مشاهدة اجرى الله تعالى العادة بها
وانما نريد ان نعترض الآن [على دعو هم معرفة كون النفس جوهرا قائما بنفسه ببراهين
العقل ولسنا نعترض] اعتراض من يبعد ذلك من قدرة الله تعالى او يرى ان الشرع جاء
بنقيضه بل ربما يتبين فى تفصيل الحشر والنشر ان الشرع مصدق له ولكنا ننكر
دعواهم دلالة مجرد العقل عليه والاستغناء عن الشرع فيه
فلنطالبهم بالادلة ولهم فيه براهين كثيرة بزعمهم
[2] قلت هذا كله ليس فيه الا حكاية مذهب الفلاسفة فى هذه
القوى وتصويره الا انه اتبع فيه ابن سينا وهو يخالف الفلاسفة فى
انه يضع فى الحيوان قوة غير القوة المتخيلة يسميها وهمية عوض

[Page 547] الفكرية فى الانسان ويقول ان اسم المتخيلة قد يطلقه القدماء على
هذه القوة واذا أطلقوه عليها كانت المتخيلة فى الحيوان بدل المفكرة
وكانت فى البطن الاوسط من الدماغ واذا اطلق اسم المتخيلة على
التى تخص الشكل قيل فيها انها فى مقدم الدماغ ولا خلاف ان
الحافظة والذاكرة هما فى المؤخر من الدماغ وذلك ان الحفظ والذكر
هما اثنان بالفعل واحد بالموضوع . [3] والظاهر من مذهب القدماء ان
المتخيلة فى الحيوان هى التى تقضى على ان الذئب من الشاة عدو
وعلى السخلة انها صديق وذلك ان المتخيلة هى قوة دراكة فالحكم
لها ضرورة من غير ان يحتاج الى ادخال قوة غير المتخيلة وانما كان
يمكن ما قاله ابن سينا لو لم تكن القوة المتخيلة دراكة فلا معنى
لزيادة قوة غير المتخيلة فى الحيوان وخاصة فى الحيوان الذى له صنائع
كثيرة بالطبع وذلك ان الخيالات فى هذه غير مستفادة من الحس
وكانها ادراكات متوسطة بين الصور المعقولة والمتخيلة وقد تلخص
أمر هذه الصورة فى الحس والمحسوس فلنخل عن هذا فى هذا
الموضع ونرجع الى النظر فيما يقوله هذا الرجل فى معاندة القوم

[Page 548] [4] قال ابو حامد

البرهان الاول

قولهم ان العلوم العقلية تحل النفوس الانسانية وهى محصورة وفيها آحاد لا تنقسم فلا
بد وان يكون محلها أيضا لا ينقسم وكل جسم فمنقسم فدل ان محله شىء لا ينقسم . ويمكن
ايراد هذا على شرط المنطق باشكاله ولكن أقربه ان يقال ان كان محل العلم جسما منقسما
فالعلم الحال فيه أيضا منقسم لكن العلم الحال غير منقسم فالمحل ليس جسما وهذا هو قياس
شرطى استثنى فيه نقيض التالى فينتج نقيض المقدم بالاتفاق فلا نظر فى صحة شكل القياس ولا
أيضا فى المقدمتين فان الاول قولنا ان كل حال فى منقسم ينقسم لا محالة بفرض القسمة
فى محله وهو أولىّ لا يمكن التشكك فيه والثانى قولنا ان العلم الواحد يحل فى الآدمى وهو
لا ينقسم لانه لو انقسم الى غير نهاية كان محالا وان كان له نهاية فيشتمل على آحاد لا محالة
لا تنقسم وعلى الجملة نحن نعلم أشياء ولا نقدر ان نفرض زوال بعضها وبقاء البعض من حيث
انه لا بعض لها
على مقامين
المقام الاولا ان يقال بم تنكرون على من يقول محل العلم جوهر فرد متحيز لا
ينقسم وقد عرف هذا من مذهب المتكلمين . ولا يبقى بعده الا استبعاد وهو انه كيف تحل
العلوم كلها فى جوهر فرد وتكون جميع الجواهر المطيفة به معطلة مجاورة و الاستبعاد لا
خير فيه اذ يتوجه على مذهبهم أيضا انه كيف تكون النفس شيئا واحدا لا يتحيز ولا يشار
اليه ولا يكون داخل البدن ولا خارجه ولا متصلا بالجسم ولا منفصلا عنه . الا انا لا نؤثر
هذا المقام فان القول فى مسألة الجزء الذى لا يتجزى طويل ولهم فيه أدلة هندسية يطول
الكلام عليها ومن جملتها قولهم جوهر فرد بين جوهرين هل يلاقى أحد الطرفين منه عين
ما يلاقيه الآخر او غيره فان كان عينه فهو محال اذ يلزم منه تلاقى الطرفين فان ملاقى الملاقى

[Page 549] ملاق وان كان ما يلاقيه غيره ففيه اثبات العدد والانقسام وهذه شبهة يطول حلها وبنا غنية
عن الخوض فيها فلنعدل اى المقام الآخر
المقام الثانى ان نقول ما ذكرتموه من ان كل حال فى جسم فينبغى ان ينقسم باطل
عليكم بما تدركه القوة الوهمية من الشاة من عداوة الذئب فانها فى حكم شىء واحد لا يتصور
تقسيمه اذ ليس للعداوة بعض حتى يقدر ادراك بعضه وزوال بعضه وقد حصل ادراكها فى قوة
جسمانية عندكم فان انفس البهائم منطبعة فى الاجسام ولا تبقى بعد الموت وقد اتفقوا عليه
فان امكنهم ان يتكلفوا تقدير الانقسام فى المدركات بالحواس الخمسة وبالحس المشترك
وبالقوة الحافظة للصور فلا يمكنهم تقدير الانقسام فى هذه المعانى التى ليس من شرطها ان
تكون فى مادة
فان قيل الشاة لا تدرك العداوة المطلقة المجردة عن المادة بل تحرك عداوة الذئب المعين
المشخص مقرونا بشخصه وهيكله . والقوة العاقلة تدرك الحقائق مجردة عن المواد
والاشخاص
قلنا الشاة قد ادركت لون الذئب وشكله ثم عداوته فان كان اللون ينطبع فى القوة
الباصرة وكذا الشكل وينقسم بانقسام محل البصر فالعداوة بما ذا تدركها فان ادرك بجسم
فلينقسم وليت شعرى ما حال ذلك الادراك اذا قسم وكيف يكون بعضه اهو ادراك لبعض
العداوة [فكيف يكون لها بعض] او كل قسم ادراك لكل العداوة فتكون العداوة
معلومة مرارا بثبوت ادراكها فى كل قسم من أقسام المحل . فاذا هذه شبهة مشكلة لهم فى
برهانهم فلا بد من الحل
فان قيل هذه مناقضة فى المعقولات والمعقولات لا تنقض فانكم مهما لم تقدروا على
الشك فى المقدمتين وهو ان العلم الواحد لا ينقسم وان ما لا ينقسم لا يقوم بجسم منقسم لم
يمكنكم الشك فى النتيجة
والجواب ان هذا الكتاب ما صنفناه الا لبيان التهافت والتناقض فى كلام الفلاسفة
وقد حصل به اذ انتفض به احد الامرين اما ما ذكروه فى النفس الناطقة او ما ذكروه

[Page 550] فى القوة الوهمية . ثم نقول هذه المناقضة تبين انهم غفلوا عن موضع يلتبس فى القياس ولعل
موضع الالتباس قولهم ان العلم منطبع فى الجسم انطباع اللون فى المتلون وينقسم اللون بانقسام
المتلون فينقسم العلم بانقسام محله والخلل فى لفظ الانطباع اذ يمكن ان لا تكون نسبة العلم
الى محله كنسبة اللون الى المتلون حتى يقال انه منبسط عليه ومنطبع فيه ومنتشر فى جوانبه
فينقسم بانقسامه فلعله نسبة العلم الى محله على وجه آخر وذلك الوجه لا يجوز فيه الانقسام
عند انقسام المحل بل نسبته اليه كنسبة ادراك العداوة الى الجسم ووجوه نسبة الاوصاف
الى محلها ليست محصورة فى فن واحد ولا هى معلومة التفاصيل لنا علما نثق به فالحكم عليه
دون الاحاطة بتفصيل النسبة حكم غير موثوق به . وعلى الجملة لا ينكر ان ما ذكروه مما
يقوى الظن ويغلبه وانما ينكر كونه معلوما علما يقينيا لا يجوز الغلط فيه ولا يتطرق اليه
الشك وهذا القدر يشكك فيه
[5] قلت اما اذا أخذت المقدمات التى استعمل الفلاسفة فى هذا
الباب مهملة فان المعاندة التى ذكر أبو حامد تلزمها وذلك ان قولنا
كل ما حل من الصفات فى جسم فهو منقسم بانقسام الجسم فانه يفهم
منه معنيان أحدهما ان يكون حد الجزء من تلك الصفة الحالة فى
الجزء من الجسم هو حد الكل مثل حال البياض فى الجسم المبيض فان
كل جزء من البياض الحال فى الجسم المشار اليه يوجد حده وحد جميع
البياض حدا واحدا بعينه والمعنى الثانى ان تكون الصفة متعلقة
بجسم دون شكل مخصوص وهذه هى ايضًا منقسمة بانقسام الجسم
لا على ان مقدار حد الكل منها والجزء حد واحد بعينه مثل قوة
الابصار الموجودة فى البصر بل بمعنى انها تقبل الاقل والاكثر من

[Page 551] قبل قبول موضوعها الاقل والاكثر ولذلك كانت قوة الابصار فى
الاصحاء أقوى منها فى المرضى وفى الشباب أقوى منها فى الهرم .
[6] والتى تعم هاتين القوتين انهما شخصيتان أعنى التى تنقسم بالكمية
ولا تنقسم بالماهية أعنى انها اما ان تبقى واحدة بالحد والماهية أو
تبطل والتى تنقسم الى جزء ما بالكمية وهى واحدة بالحد والماهية
ولا تنقسم الى أى جزء اتفق وهذه كانها انما تخالف الاول فى
الاقل والاكثر وان الجزء الذاهب منه ليس فعله فعل الباقى فان فعل
الذاهب من البصر الضعيف ليس يفعل فعل البصر الضعيف
ويجتمعان بان اللون أيضا ليس ينقسم بانقسام موضوعه الى اى جزء
اتفق وحده باق بعينه بل تنتهى القسمة الى جزء ان انقسم اليه
فسد اللون وانما الذى يحفظ القسمة دائما هو طبيعة المتصل بما هو
متصل أعنى صورة الاتصال . [7] فهذه المقدمة اذا وضعت هكذا
كانت بينة بنفسها أعنى ان كل ما يقبل القسمة بهذين النوعين من
القسمة فمحله جسم من الاجسام وعكسه ايضا بين وهو ان كل ما

[Page 552] هو فى جسم فهو يقبل الانقسام باحد هذين النوعين من الانقسام
واذا صح هذا فعكس نقيضه صادق ان كنت تعرف ما هو عكس
النقيض وهو ان ما لا يقبل الانقسام باحد هذين الوجهين فليس
يحل فى جسم واذا أضيف الى هذا ما هو بين أيضا من امر المعقولات
الكلية وهو انها ليست تقبل الانقسام بواحد من هذين الوجهين اذ
كانت ليست صورا شخصية فبين انه يلزم عنه ان المعقولات ليس
محلها جسما من الاجسام ولا القوة عليها قوة فى جسم فلزم ان يكون
محلها قوة روحانية تدرك ذاتها وغيرها . [8] وأما أبو حامد فلما أخذ النوع
الواحد من نوعى الانقسام ونفاه عن المعقولات الكلية عاند بالقسم
الثانى الموجود فى قوة البصر وقوة التخيل فاستعمل فى ذلك قولا
سفسطانيا وعلم النفس أغمض وأشرف من أن يدرك بصناعة الجدل .
[9] ومع هذا فانه لم يأت ببرهان ابن سينا على وجهه وذلك ان الرجل انما
بنى برهانه على ان قال ان المعقولات ان كانت حالة فى جسم فلا يخلو
ان تحل منه فى شىء غير منقسم أو فى منقسم ثم أبطل ان تحل فى
شىء غير منقسم من الجسم فلما أبطل هذا نفى ان يكون العقل ان
كان يحل فى جسم ان يحل منه فى شىء غير منقسم ثم أبطل ان يحل
من الجسم فى شىء منقسم فبطل ان يحل فى جسم أصلا فلما أبطل ابو

[Page 553] حامد أحد القسمين قال لا يبعد ان تكون نسبة العقل الى الجسم
نسبة اخرى وهو بين انه ان نسب الى الجسم فليس ههنا الا نسبتان
اما نسبته اليه الى محل منقسم أو محل غير منقسم . [10] والذى يتم به
هذا البرهان ان العقل ليس له ارتباط بقوة من قوى النفس ارتباط
الصورة بالمحل فانه اذا انتفى عنه انه مرتبط بالجسم فلا بد ان ينتفى
عنه انه ليس مرتبطا بقوة من قوى النفس المرتبطة بالجسم ولو كان
مرتبطا بقوة من قوى النفس كما يقول ارسطو لم يكن له فعل الا
بتلك القوة ولو كان ذلك كذلك لم تدركه تلك القوة هذا هو
الذى يعتمده ارسطو فى بيان ان العقل مفارق
[11] فلنذكر ايضا العناد الثانى الذى أتى به فى الدليل الثانى الذى
استدل به الفلاسفة بعد ان تعرف ان أدلتهم اذا نقلت من الصناعة
التى تخصها صارت اعلى مراتبها من جنس الاقاويل الجدلية ولذلك
كان كتابنا هذا الغرض منه انما هو التوقيف على مقدار الاقاويل
المكتوبة فيه المنسوبة للفريقين واظهار أى القولين أحق بان ينسب
صاحبه الى التهافت والتناقض

[Page 554] [12] قال ابو حامد

دليل ثانى

قالوا ان كان العلم بالمعلوم الواحد العقلى و هو المعلوم المجرد عن المواد منطبعا فى المادة
انطباع الاعراض فى الجواهر الجسمانية لزم انقسامه بالضرورة بانقسام الجسم كما سبق وان لم
يكن منطبعا فيه ولا منبسطا عليه واستكره لفظ الانطباع فنعدل الى عبارة أُخرى ونقول هل
للعلم نسبة الى العالم ام لا ومحال قطع النسبة فانه ان انقطعت النسبة عنه فكونه عالما به لم
صار اولى من كون غيره به عالما . وان كان له نسبة فلا يخلو من ثلاثة اقسام اما ان
تكون النسبة لكل جزء من اجزاء المحل او تكون لبعض اجزاء المحل دون البعض او لا
يكون لواحد من الاجزاء نسبة اليه . وباطل ان يقال لا نسبة لواحد من الاجزاء فانه اذا لم
يكن للآحاد نسبة لم يكن للمجموع نسبة فان المجتمع من المباينات مباين . وباطل ان
يقال النسبة للبعض فان الذى لا نسبة له ليس هو فى معناه فى شىء وليس كلامنا فيه . وباطل
ان يقال لكل جزء مفروض نسبة الى الذات لانه ان كانت النسبة الى ذات العلم باسره
فمعلوم كل واحد من الاجزاء ليس هو جزء المعلوم بل هو المعلوم كما هو فيكون معقولا
مرات لا نهاية لها بالفعل وان كان كل جزء له نسبة أُخرى غير النسبية التى للجزء الآخر
الى ذات العلم فذات العلم اذا منقسمة فى المعنى وقد بينا ان العلم بالمعلوم الواحد من كل
وجه لا ينقسم فى المعنى وان كان نسبة كل واحد الى شىء من ذات العلم غير ما اليه نسبة
الآخر فانقسام ذات العلم بهذا أَظهر وهو محال . ومن هذا يتبين ان المحسوسات
المنطبعة فى الحواس الخمس لا تكون الا أمثلة لصور جزئية منقسمة فان الادراك معناه
حصول مثال المدرك فى نفس المدرك فيكون لكل جزء من مثال المحسوس نسبة الى جزء
من الآلة الجسمانية

[Page 555] والاعتراض على هذا ما سبق فان تبديل لفظ الانطباع بلفظ النسبة لا يدرأ الشبهة
فيما ينطبع فى القوة الوهمية للشاة من عداوة الذئب كما ذكروه فانه ادراك لا محالة وله نسبة
اليه ويلزم فى تلك النسبة ما ذكرتموه فان العداوة ليس امرا مقدرا له كمية مقدارية حتى
ينطبع مثالها فى جسم مقدر وتنتسب اجزاؤها الى اجزائه وكون شكل الذئب مقدرا لا
يغنى فان الشاة ادركت شيئا سوى شكله وهى المخالفة والمضادة والعداوة وهذه العداوة
الزائدة على الشكل من العداوة ليس لها مقدرا وقد ادركته بجسم مقدر فهذا ضرورة
مشكك فى هذا البرهان كما فى الاول
فان قال قائل هلا دفعتم هذه البراهين بان العلم يحل من الجسم فى جوهر متحيز لا
يتجزى وهو الجزء الفرد
قلنا لان الكلام فى الجوهر الفرد يتعلق بأمور هندسية يطول القول فى حلها . ثم ليس
فيه ما يدفع الاشكال فانه يلزم ان تكون القدرة والارادة ايضا فى ذلك الجزء فان
للانسان فعلا ولا يتصور ذلك الا بقدرة وارادة ولا يتصور الارادة الا بعلم وقدرة
الكتابة فى اليد والاصابع والعلم بها ليس فى اليد اذ لا يزول بقطع اليد ولا ارادتها فى اليد
فانه قد يريدها بعد شلل اليد وتتعذر لا لعدم الارادة بل لعدم القدرة
[13] قلت كان هذا القول ليس بيانا منفردا بنفسه وانما هو تتميم
القول المتقدم وذلك ان القول المتقدم وضع فيه ان العلم ليس ينقسم
بانقسام محله وضعا وفى هذا القول تكلف بيانه باستعمال التقسيم فيه
الى الانحاء الثلاثة . [14] فالمعاندة الاولى هى باقية عليه وانما دخلت عليه

[Page 556] المعاندة لانه لم يستوف المعنيين اللذين يقال عليهما الانقسام الهيولانى
وذلك انهم لما نفوا عن العقل انقسامه بانقسام محله على النحو الذى
تنقسم الاعراض بانقسام محلها وكان هنا نوع آخر من الانقسام
الجسمانى وهو الموجود فى القوى الجسمية المدركة دخلت عليهم
المعاندة من قبل هذه القوى وانما يتم البرهان اذا انتفى هذان النوعان
من الانقسام عن العقل وبين ان كل ما له قوام بالجسم فلا بد له من
أحد هذين النوعين من الانقسام . [15] وقد يشك فيما وجد فى الجسم بهذا
النوع الآخر من الوجود أعنى الذى ليس ينقسم بانقسام موضوعه
فى الحد هل هو مفارق لموضوعه ام لا فانا نرى أكثر اجزاء الموضوع
تبطل ولا يبطل هذا النوع من الوجود أعنى الادراك الشخصى
فيظن كما انه لا تبطل الصورة ببطلان الجزء أو الاجزاء من
موضوعها انها ليست تبطل ببطلان الكل وان بطلان فعل الصورة
من قبل الموضوع هو شبيه ببطلان فعل الصانع من قبل الآلة
ولذلك ما يقول ارسطو ان الشيخ لو كان له عين كعين الشاب
لأبصر كما يبصر الشاب يريد انه قد يظن ان الهرم الذى لحق الشيخ
فى قوة الابصار ليس هو من قبل عدم القوة بل هو من قبل هرم
الآلة ويستدل على ذلك ببطلان الآلة أو أكثر اجزائها فى النوم

[Page 557] والاغماء والسكر والامراض التى يبطل فيها ادراكات الحواس
فانه لا يشك ان القوى ليس تبطل فى هذه الاحوال وهذا يظهر
اكثر فى الحيوانات التى اذا فصلت بنصفين تعيش وأكثر النبات
هو بهذه الصفة مع انه ليس فيه قوة مدركة . [16] فالكلام فى امر النفس
غامض جدا وانما اختص الله به من الناس العلماء الراسخين فى العلم
ولذلك قال سبحانه مجيبا فى هذه المسئلة للجمهور عند ما سألوه بان
هذا الطور من السؤال ليس هو من أطوارهم فى قوله سبحانه
ويسئلونك عن الروح قل الروح من امر ربى وما أوتيتم من العلم
الا قليلا وتشبيه الموت بالنوم فى هذا المعنى فيه استدلال ظاهر فى
بقاء النفس من قبل ان النفس يبطل فعلها فى النوم ببطلان آلتها ولا
تبطل هى فيجب ان يكون حالها فى الموت كحالها فى النوم لان
حكم الاجزاء واحد وهو دليل مشترك للجميع لائق بالجمهور فى
اعتقاد الحق ومنبه للعلماء على سبيل التى منها يوقف على بقاء النفس
وذلك بين من قوله سبحانه الله يتوفى الانفس حين موتها والتى
لم تمت فى منامها

[Page 558]

[17] دليل ثالث

قال ابو حامد قولهم ان العلم لو حل فى جزء من الجسم لكان العالم ذلك الجزء دون
سائر اجزاء الانسان والانسان يقال له عام والعالمية صفة له على الجملة من غير نسبة الى
محل مخصوص
وهذا هوس فانه يسمى مبصرا وسامعا وذائقا وكذا البهيمة توصف به وذلك لا
يدل على ان ادراك المحسوسات ليس بالجسم بل هو نوع من التجوز كما يقال فلان فى بغداذ
وان كان فى جزء من جملة بغداذ لا فى جملتها ولكن يضاف الى الجملة
[18] قلت اما اذا سلم ان العقل ليس ينسب الى عضو مخصوص من
الانسان وانه قد قام على ذلك برهان لانه ليس هذا من المعروف
بنفسه فبين انه يلزم عنه الا يكون محله جسما من الاجسام وانه ليس
يكون قولنا فى الانسان انه عالم كقولنا فيه انه يبصر وذلك انه
لما كان بينا بنفسه انه يبصر بعضو مخصوص كان بينا أنا اذا نسبنا
اليه الابصار مطلقا انه يجوز على عادة العرب وغيرها من الامم فى
ذلك وأما اذا لم يكن للعقل عضو يخصه فبين ان قولنا فيه عالم ليس
هو من قبل ان جزءًا منه عالم لكن كيف ما كان الامر فى ذلك هو
غير معلوم بنفسه وذلك انه ليس يظهر ان ههنا عضوا خاصا به ولا

[Page 559] موضعا خاصا من عضو من الاعضاء كالحال فى قوة التخيل والفكر
والذكر وذلك ان مواضع هذه معلومة من الدماغ

[19] دليل رابع

قال ابو حامد ان كان العلم يحل جزءًا من القلب أو الدماغ مثلا فالجهل ضده فينبغى
أن يجوز قيامه بجزء آخر من القلب أو الدماغ ويكون الانسان فى حالة واحدة عالما وجاهلا
بشىء واحد فلما استحال ذلك تبين ان محل الجهل هو محل العلم وان ذلك المحل واحد
يستحيل اجتماع الضدين فيه فانه لو كان منقسما لما استحال قيام الجهل ببعضه والعلم ببعضه لان
الشىء فى محل لا يضاده ضده فى محل آخر كما تجتمع البلقة فى الفرس الواحد والسواد والبياض
فى العين الواحدة ولكن فى محلين . ولا يلزم هذا فى الحواس فانه لا ضد لادراكها ولكنه
قد يدرك وقد لا يدرك فليس بينهما الا تقابل الوجود والعدم فلا جرم نقول يدرك ببعض
اجزائه كالعين والاذن ولا يدرك بسائر بدنه وليس فيه تناقض . ولا يغنى عن هذا قولكم ان
العالمية مضادة للجاهلية والحكم عام لجميع البدن اذ يستحيل ان يكون الحكم فى غير
محل العلة فالعالم هو المحل الذى قام العلم به فان اطلق الاسم على الجملة فبالمجاز كما يقال هو
فى بغداذ وان كان فى بعضها وكما يقال مبصر وان كنا بالضرورة نعلم ان حكم الابصار لا
يثبت للرجل واليد بل يختص بالعين وتضاد الاحكام كتضاد العلل فان الاحكام تقتصر على
محل العلل . ولا يخلص من هذا قول القائل ان المحل المهيأ لقبول العلم والجهل من الانسان
واحد فيتضادان عليه فان عندكم ان كل جسم فيه حيوة فهو قابل للعلم والجهل ولم يشترطوا
سوى الحياة شريطة أُخرى وسائر اجزاء البدن عندهم فى قبول العلم على وتيرة واحدة

[Page 560] الاعتراض ان هذا ينقلب عليكم فى الشهوة والشوق والارادة فان هذه الامور
تثبت للبهائم والانسان وهى معان تنطبع فى الجسم ثم يستحيل ان ينفر عما يشتاق اليه
فيجتمع فيه النفرة والميل الى شىء واحد بوجود الشوق فى محل والنفرة فى محل آخر وذلك لا
يدل على انها لا تحل الاجسام وذلك لان هذه القوى وان كانت كثيرة ومتوزعة على آلات
مختلفة فلها رابطة واحدة وهى النفس وذلك للبهيمة والانسان جميعا واذا اتحدت الرابطة
استحالت الاضافات المتناقضة بالنسبة اليه وهذا لا يدل على كون النفس غير منطبعة فى
الجسم كما فى البهائم
[20] قلت هذا الذى حكاه عن الفلاسفة ههنا ليس يلزم عنه الا ان
العلم ليس يحل الجسم حلول اللون فيه وبالجملة سائر الاعراض لا انه
ليس يحل جسما أصلا وذلك ان امتناع محل العلم من ان يقبل الجهل
بالشىء والعلم به يدل ضرورة على اتحاده فان الاضداد لا تحل فى محل
واحد وهذا النوع من الامتناع يوجد لسوى الصفات التى هى
ادراكات وغير ادراكات والذى يخص محل العلم من القبول انه
يدرك المتضادات معا أعنى الشىء وضده وذلك لا يمكن ان يكون
الا بادراك غير منقسم فى محل غير منقسم فان الحاكم هو واحد
ضرورة ولذلك قيل ان العلم بالاضداد علم واحد فهذا النحو من
القبول هو الذى يخص النفس ضرورة لكن قد تبين عندهم ان هذه
هى حال الحس المشترك الحاكم على الحواس الخمس وهو عندهم
جسمانى فلذلك ليس فى هذا دليل على ان العقل ليس يحل جسما لانا

[Page 561] قد قلنا ان الحلول يكون على نوعين حلول صفات غير مدركة وحلول
صفات مدركة . [21] والذى عارضهم به فى هذا القول صحيح وهو ان
النفس النزوعية لا تنزع الى المتضادات معا وهى مع هذا جسمانية .
[22] ولست اعلم احدا من الفلاسفة احتج بهذا فى اثبات بقاء النفس
الا من لا يؤبه بقوله وذلك ان خاصة كل قوة مدركة الا يجتمع
فى ادراكها النقيضان كما ان خاصة المتضادين خارج النفس الا
يجتمعان فى موضوع واحد فهذا تشترك فيه القوى المدركة مع القوى
الغير مدركة ويخص القوى المدركة انها تحكم على الاضداد الموجودة
معا اى يعلم أحدهما بعلم الثانى ويخص القوى الغير نفسانية انها
تنقسم بانقسام الجسم فيوجد فى الاجزاء المختلفة من الجسم الواحد
الاضداد معا لا فى جزء واحد والنفس لما كانت محلا لا ينقسم
هذا الانقسام لم يعرض لها ان يوجد فيها النقيضان معا فى جزئين من
المحل ولذلك كانت هذه الاقاويل كلها أقاويل من لم يحصل آراء
القوم فى هذه الاشياء فما أبعد فهم من يجعل الدليل على بقاء النفس
انها لا تحكم على المتناقضات معا لانه انما ينتج من ذلك ان محلها
واحد غير منقسم وما الدليل على ان المحل الغير منقسم انقسام
محل الاعراض انه غير منقسم أصلا
قال ابو حامد

[23] دليل خامس

قولهم ان كان العقل يدرك المعقول بآلة جسمانية فهو لا يعقل نفسه والتالى محال فانه
يعقل نفسه فالمقدم محال
قلنا مسلم ان استثناء نقيض التالى ينتج نقيض المقدم ولكن اذا ثبت اللزوم بين التالى
والمقدم بل نقولا لا نسلم لزوم التالى وما الدليل عليه
فان قيل الدليل عليه ان الابصار لما كان بجسم فالابصار لا يتعلق بالابصار فالرؤية لا
تُرَى والسمع لا يُسمع وكذا سائر الحواس فان كان العقل لا يدرك ايضا الا بجسم فلم
يدرك نفسه والعقل كما يعقل غيره نفسه [فان الواحد منا كما يعقل غيره يعقل نفسه]
ويعقل انه عقل غيره وانه عقل نفسه
قلنا ما ذكرتموه فاسد من وجهين
احدهما ان الابصار عندنا يجوز ان يتعلق بنفسه فيكون ابصارا لغيره ولنفسه كما
يكون العلم الواحد علما بغيره وعلما بنفسه ولكن العادة جارية بخلاف ذلك وخرق العادة
عندنا جائز
والثانى وهو اقوى انا سلمنا هذا فى الحواس ولكن لِمَ اذا امتنع ذلك فى بعض الحواس
يمتنع فى بعض وأىّ بعد فى ان يفترق حكم الحواس فى وجه الادراك مع اشتراكها فى انها

[Page 563] جسمانية كما اختلف البصر واللمس فى ان اللمس لا يفيد الادراك الا باتصال الملموس بالآلة
اللامسة وكذا الذوق ويخالفه البصر فانه يشترط فيه الانفصال حتى لو أطبق اجفانه لم ير
لون الجفن لانه لم يبعد عنه وهذا الاختلاف لا يوجب الاختلاف فى الحاجة الى الجسم فلا
يبعد ان يكون فى الحواس الجسمانية ما يسمى عقلا ويخالف سائرها فى انها تدرك نفسها
[24] قلت أما العناد الاول وهو قوله انه يجوز ان تخرق العادة فيبصر
البصر ذاته فقول فى نهاية السفسطة والشعوذة وقد تكلمنا فى هذا
فيما سلف . [25] وأما العناد الثانى وهو قوله انه لا يبعد ان يكون ادراك
جسمانى يدرك نفسه فله اقناع ما ولكن اذا عرف الوجه الذى
حركهم الى هذا علم امتناع هذا وذلك ان الادراك هو شىء يوجد
بين فاعل ومنفعل وهو المدرك والمدرك ويستحيل ان يكون الحس
فاعلا ومنفعلا له من جهة واحدة فاذا وجد فاعلا ومنفعلا فمن
جهتين أعنى ان الفعل يوجد له من جهة الصورة والانفعال من قبل
الهيولى فكل مركب لا يعقل ذاته لان ذاته تكون غير الذى به
يعقل لانه انما يعقل بجزء من ذاته ولان العقل هو المعقول فلو عقل
المركب ذاته لعاد المركب بسيطا وعاد الكل هو الجزء وذلك كله
مستحيل وهذا القول اذا ثبت ههنا كان مقنعا واذا كتب على

[Page 564] الترتيب البرهانى وهو ان يقدم له من النتائج ما يجب تقديمه امكن
ان يعود برهانيا

[26] دليل سادس
قال ابو حامد قالوا لو كان العقل يدرك بآلة جسمانية كالابصار لما أدرك آلته كسائر
الحواس ولكنه يدرك الدماغ والقلب وما يدعى انه آلة له فدل انه ليس آلة له ولا محلا
والا لما ادركه
والاعتراض على هذا كالاعتراض على الذى قبله . فانا نقول لا يبعد ان يدرك
الابصار محله ولكنه حوالة على العادة . اذ نقول لم يستحيل ان تفترق الحواس فى هذا
المعنى وان اشتركت فى الانطباع فى الاجسام كما سبق ولم قلتم ان ما هو قائم فى جسم
يستحيل ان يدرك الجسم الذى هو محله ولم يلزم ان يحكم من جزئى معين على كلى مرسل .
ومما عرف بالاتفاق بطلانه وذكر فى المنطق ان يحكم بسبب جزئى أو جزئيات كثيرة على
كلى حتى مثلوه بما اذا قال الانسان ان كل حيوان فانه يحرك عند المضغ فكه الاسفل لانا
استقرأنا الحيوانات كلها فرأيناها كذلك فيكون ذلك لغفلته عن التمساح فانه يحرك فكه
الاعلى وهؤلاء لم يستقرئوا الا الحواس الخمس فوجدوها على وجه معلوم فحكموا على الكل
به فلعل العقل حاسة أخرى تجرى من سائر الحواس مجرى التمساح من سائر الحيوانات
فتكون اذن الحواس مع كونها جسمانية منقسمة الى ما يدرك محلها والى ما لا يدرك كما
انقسمت الى ما يدرك مدركه من غير مماسة كالبصر والى ما لا يدرك الا باتصال كالذوق
واللمس . فما ذكروه ايضا ان أورث ظنا فلا يورث يقينا موثوقا به

[Page 565] فان قيل ولسنا نعوّل على مجرد الاستقراء للحواس بل نعوّل على البرهان ونقول لو كان
القلب او الدماغ هو نفس الانسان لكان لا يغرب عنه ادراكهما حتى لا يخلو ان يعقلهما
جميعا كما انه لا يخلو عن ادراك نفسه فان احدا لا يغرب ذاته عن ذاته بل يكون مثبتا لنفسه
فى نفسه ابدا والانسان ما لم يسمع حديث القلب والدماغ أو لم يشاهد بالتشريح من انسان
آخر لا يدركهما ولا يعتقد وجودهما فان كان العقل حالا فى جسم فينبغى أن يعقل ذلك الجسم
أبدا او لا يدركه أبدا وليس واحد من الامرين بصحيح بل يعقل حالة ولا يعقل حالة .
وهذا التحقيق وهو ان الادراك الحال فى محل انما يدرك المحل لنسبة له الى المحل ولا
يتصور ان يكون له نسبة اليه سوى الحلول فيه فليدركه أبدا وان كان هذه النسبة لا
تكفى فينبغى ان لا يدرك ابدا اذ لا يمكن أن يكون له نسبة اخرى اليه كما انه لما ان
كان يعقل نفسه عقل نفسه ابدا ولم يغفل عنه بحال
قلنا الانسان ما دام يشعر بنفسه ولا يغفل عنه فانه يشعر بجسده وجسمه نعم لا يتعين له
اسم القلب وصورته وشكله ولكنه يثبت نفسه جسما حتى يثبت نفسه فى ثيابه وفى بيته والنفس
الذى ذكروه لا يناسب البيت والثوب فاثباته لاصل الجسم ملازم له وغفلته عن شكله
واسمه كغفلته عن محل الشم وانهما زائدتان فى مقدم الدماغ شبيهتان بحلمتى الثدى فان كل
انسان يعلم انه يدرك الرائحة بجسمه ولكن محل الادراك لا يتشكل له ولا يتعين وان كان
يدرك انه الى الرأس اقرب منه الى العقب ومن جملة الرأس الى داخل الانف أقرب منه الى
داخل الاذن فكذلك يشعر الانسان بنفسه ويعلم ان هويته التى بها قوامه الى قلبه و صدره
أقرب منه الى رجله فانه يقدّر نفسه باقيا مع عدم الرجل ولا يقدر على تقدير نفسه باقيا مع
عدم القلب فما ذكروه من أنه يغفل عن الجسم تارة وتارة لا يغفل عنه ليس كذلك
[27] قلت اما اعتراضه على ان ما هو جسم أو قوة فى جسم فليس
يعقل ذاته بدليل ان الحواس هى قوى مدركة فى اجسام وهى لا
تعقل ذاتها فان هذا من باب الاستقراء الذى لا يفيد اليقين وتشبيهه

[Page 566] بالاستقراء المستعمل فى ان كل حيوان يحرك فكه الاسفل فليس هو
لعمرى مثله من جهة وهو مثله من جهة اما مخالفته له فان الواضع
بالاستقراء ان كل حيوان يحرك فكه الاسفل فهذا استقراء ناقص
من قبل انه لم يستقرء فيه جميع انواع الحيوانات واما الواضع ان كل
حاسة فهى لا تدرك ذاتها فهو لعمرى استقراء مستوفى اذ كان ليس
ههنا حاسة سوى الحواس الخمس وأما الحكم من قبل ما يشاهد من
امر الحواس ان كل قوة مدركة ليست فى جسم فهو شبيه بالاستقراء
الذى يحكم من قبله ان كل حيوان فهو يحرك فكه الاسفل لان
الواضع لهذا كما انه لم يستقرء جميع الحيوانات كذلك الواضع ان كل
قوة مدركة فليست فى الجسم من قبل ان الامر فى الحواس كذلك
لم يستقرء جميع القوى المدركة . [28] وأما ما حكى عنهم من ان العقل لو
كان فى جسم لادرك الجسم الذى هو فيه عند ادراكه فكلام غث
ركيك وليس من اقاويل الفلاسفة وذلك انه انما كان يلزم هذا لو
كان كل من ادرك وجود شىء ادركه بحده وليس الامر كذلك لانا
ندرك النفس واشياء كثيرة وليس ندرك حدها ولو كنا ندرك حد
النفس مع وجودها لكنا ضرورة نعلم من وجودها انها فى جسم أو

[Page 567] ليست فى جسم لانها ان كانت فى جسم كان الجسم ضرورة مأخوذا
فى حدها وان لم تكن فى جسم لم يكن الجسم مأخوذا فى حدها فهذا
هو الذى ينبغى ان يعتقد فى هذا . [29] وأما معاندة أبى حامد هذا القول
بان الانسان يشعر من امر النفس انها فى جسمه وان كان لا يتميز له
العضو الذى هى فيه من الجسم فهو لعمرى حق وقد اختلف القدماء
فى هذا لكن ليس علمنا بانها فى الجسم هو علم بان لها قواما بالجسم
فان ذلك ليس بينا بنفسه وهو الامر الذى اختلف فيه الناس قديما
وحديثا لان الجسم ان كان لها بمنزلة الآلة فليس لها قوام به وان كان
بمنزلة محل العرض للعرض لم يكن لها وجود الا بالجسم

[30] دليل سابع
قال ابو حامد قالوا القوى الداركة بالآلات الجسمية يعرض لها من المواظبة على العمل
بادامة الادراك كلال لان ادامة الحركة تفسد مزاج الاجسام فتكلها وكذلك الامور القوية
الجلية الادراك توهنها وربما تفسدها حتى لا تدرك عقيبها الاخفى الاضعف كالصوت العظيم
للسمع والنور العظيم للبصر فانه ربما يفسد أو يمنع عقيبه من ادراك الصوت الخفى والمرئيات
الدقيقة بل من ذاق الحلاوة الشديدة لا يحس بعده بحلاوة دونها . والامر فى القوة العقلية

[Page 568] بالعكس فان ادامتها للنظر الى المعقولات لا يتعبها ودرك الضروريات الجلية يقويها على درك
النظريات الخفية ولا يضعفها وان عرض لها فى بعض الاوقات كلال فذلك لاستعمالها القوة
الخيالية واستعانتها بها فتضعف آلة القوة الخيالية فلا تخدم العقل
[الاعتراض] وهذا من الطراز السابق فانا نقول لا يبعد ان تختلف الحواس الجسمانية فى
هذه الامور فليس ما يثبت منها للبعض يجب أن يثبت للآخر بل لا يبعد ان تتفاوت
الاجسام فيكون منها ما يضعفها نوع من الحركة ومنها ما يقويها نوع من الحركة ولا يوهنها
وان كان يؤثر فيها فيكون ثم سبب يحدد قوتها بحيث لا تحس بالاثر فبها فكل هذا ممكن
اذ الحكم الثابت لبعض الاشياء ليس يلزم ان يثبت لكلها
[31] قلت هذا دليل قديم من ادلتهم وتحصيله ان العقل اذا ادرك
معقولا قويا ثم عاد بعقبه الى ادراك ما دونه كان ادراكه له اسهل
وذلك مما يدل على ان ادراكه ليس بجسم لانا نجد القوى الجسمية
المدركة تتأثر عن مدركاتها القوية تأثرا يضعف بها ادراكها حتى
لا يمكن فيها ان تدرك الهينة الادراك باثر ادراكها القوية الادراك
والسبب فى ذلك ان كل صورة تحل فى جسم فحلولها فيه يكون بتاثر
ذلك الجسم عنها عند حلولها فيه لانها مخالفة ولا بد والا لم تكن
صورة فى جسم فلما وجدوا قابل المعقولات لا يتاثر عن المعقولات قطعوا
على ان ذلك القابل ليس بجسم . [32] وهذا لا عناد له فان كل ما يتأثر
من المحال عن حلول الصور فيه تاثرا موافقا او قليلا كان أو

[Page 569] كثيرا فهو جسمانى ضرورة وعكس هذا ايضا صحيح وهو ان كل ما هو
جسمانى فهو متاثر عن الصورة الحاصلة فيه وقدر تاثره هو على قدر مخالطة
تلك الصورة للجسم والسبب فى هذا ان كل كون فهو تابع لاستحالة
فلو حلت صورة فى جسم بغير استحالة لامكن ان توجد صورة
جسمانية لا يتاثر عنها المحل عند حصولها

[33] دليل ثامن

قال ابو حامد قالوا أجزاء البدن كلها تضعف قواها بعد منتهى النشوء بالوقوف عند
الاربعين سنة فما بعدها فيضعف البصر والسمع وسائر القوى والقوة العقلية فى اكثر الامر انما
تقوى بعد ذلك . ولا يلزم على هذا تعذر النظر فى المعقولات عند حلول المرض فى البدن
وعند الخرف بسبب الشيخوخة فانه مهما بان انه يتقوى مع ضعف البدن فى بعض الاحوال فقد
بان قوامه بنفسه فتعطله عند تعطل البدن لا يوجب كونه قائما بالبدن فان استثناء عين التالى
لا ينتج فانا نقول ان كانت القوة العقلية قائمة بالبدن فيضعفها ضعف البدن بكل حال والتالى
محال فالمقدم محال واذا قلنا التالى موجود فى بعض الاحوال فلا يلزم ان يكون المقدم
موجودا . ثم السبب فيه ان النفس لها فعل بذاتها اذا لم يعق عائق ولم يشغلها شاغل فان للنفس
فعلين فعل بالقياس الى البدن وهو السياسة له وتدبيره وفعل بالقياس الى مبادئه والى ذاته
وهو ادراك المعقولات وهما متمانعان متعاندان فمهما اشتغل باحد هما انصرف عن الآخر وتعذر
عليه الجمع بين الامرين . وشواغله من جهة البدن الاحساس والتخيل والشهوات والغضب
والخوف والغم والوجع فاذا اخذت تفكر فى معقول تعطل عليك كل هذه الاشياء الاخر .
بل مجرد الحس قد يمنع من ادراك العقل ونظره من غير أن يصيب آلة العقل شىء او يصيب

[Page 570] ذاتها آفة والسبب فى ذلك اشتغال النفس بفعل عن فعل ولذلك يتعطل نظر العقل عند
الوجع والمرض والخوف فانه ايضا مرض فى الدماغ . وكيف يستبعد التمانع فى اختلاف جهتى
فعل النفس وتعدد الجهة الواحدة قد يوجب التمانع فان الفرق يذهل عن الوجع والشهوة عن
الغضب والنظر فى معقول عن معقول آخر . وآية أن المرض الحال فى البدن ليس يتعرض لمحل
العلوم انه اذا عاد صحيحا لم يفتقر الى تعلم العلوم من رأس بل تعود عيشة نفسه كما كانت
وتعود تلك العلوم بعينها من غير استئناف تعلم
الاعتراض أنا نقول نقصان القوى وزيادتها لها اسباب كثيرة لا تنحصر فقد
يقوى بعض القوى فى ابتداء العمر وبعضها فى الوسط وبعضها فى الآخر وأمر العقل ايضا
كذلك فلا يبقى الا ان يدعى الغالب . ولا بعد فى أن يختلف الشم والبصر فى أن الشم يقوى
بعد الاربعين والبصر يضعف وان تساويا فى كونهما حالين فى الجسم كما تتفاوت هذه القوى
فى الحيوانات فيقوى الشم من بعضها والسمع من بعضها والبصر من بعضها لاختلاف فى
أمزجتها لا يمكن الوقوف على ضبطه فلا يبعد ان يكون مزاج الآلات أيضا يختلف فى حق
الاشخاص وفى حق الاحوال . ويكون أحد الاسباب فى سبق الضعف الى البصر دون العقل
ان البصر اقدم فانه مبصر فى اول فطرته ولا يتم عقله الا بعد خمسة عشر سنة او زيادة على ما
شاهدنا اختلاف الناس فيه حتى قيل ان الشيب الى شعر الرأس أسبق منه الى شعر اللحية
لان شعر الرأس أقدم . فهذه الاسباب ان خاض الخائض فيها ولم يرد هذه الامور الى مجارى
العادات فلا يمكن أن يبنى عليها علم موثوق به لان جهات الاحتمال فيما تزيد بها القوى أو
تضعف لا تنحصر فلا يورث شىء من ذلك يقينا
[34] قلت اما اذا وضع ان القوى المدركة موضوعها هو الحار الغريزى
وكان الحار الغريزى يدركه النقص بعد الاربعين فقد ينبغى ان
يكون العقل فى ذلك كسائر القوى اعنى انه يلزم ان كان موضوعه
الحار الغريزى ان يشيخ بشيخوخته واما ان توهم ان الموضوعات

[Page 571] مختلفة للعقل والحواس فليس يلزم ان تستوى اعمارها

[35] دليل تاسع

قال ابو حامد قالوا كيف يكون الانسان عبارة عن الجسم مع عوارضه وهذه الاجسام
لا تزال تنحل والغذاء يسد مسد ما ينحل حتى اذا رأينا صبيا انفصل من الجنين فيمرض
مرارا ويذبل ثم يسمن وينمو فيمكننا ان نقول لم يبق فيه بعد الاربعين شىء من الاجزاء
التى كانت موجودة عند الانفصال بل كان اول وجوده من اجزاء المنى فقط ولم يبق فيه
شىء من اجزاء المنى بل انحل كل ذلك وتبدل بغيره فيكون هذا الجسم غير ذلك الجسم .
ونقول هذا الانسان هو ذلك الانسان بعينه وحتى انه يبقى معه علوم من اول صباه ويكون
قد تبدل جميع أجسامه . فدل ان للنفس وجودا سوى البدن وان البدن آلته
الاعتراض ان هذا ينتفض بالبهيمة والشجرة اذا قيست حالة كبرها بحالة الصغر
فانه يقال ان هذا ذلك بعينه كما يقال فى الانسان وليس يدل ذلك على ان له وجودا غير
الجسم . وما ذكر فى العلم يبطل بحفظ الصور المتخيلة فانه يبقى فى الصبى الى الكبر وان
تبدل أجزاء الدماغ
[36] قلت هذا دليل لم يستعمله احد من القدماء فى بقاء النفس وانما
استعملوه فى ان فى الاشخاص جوهرا باقيا من الولادة الى الموت

[Page 572] وان الاشياء ليست فى سيلان دائم كما اعتقد ذلك كثير من القدماء
فنفوا المعرفة الضرورية حتى اضطرا افلاطون الى ادخال الصور
فلا معنى للتشاغل بذلك واعتراض ابى حامد على هذا الدليل صحيح

[37] دليل عاشر

قال ابو حامد قالوا القوة العقلية تدرك الكليات العامة العقلية التى يسميها المتكلمون
أحوالا فتدرك الانسان المطلق عند مشاهدة الحس لشخص انسان معين وهو غير الشخص
المشاهد فان المشاهد فى مكان مخصوص ولون مخصوص ومقدار مخصوص ووضع مخصوص
والانسان المعقول المطلق مجرد عن هذه الامور بل يدخل فيه كل ما يطلق عليه اسم الانسان
وان لم يكن على لون المشاهد وقدره ووضعه ومكانه بل الذى يمكن وجوده فى المستقبل
يدخل فيه بل لو عدم الانسان يبقى حقيقة الانسان فى العقل مجردا عن هذه الخواص وهكذا
كل شىء شاهده الحس مشخصا فيحصل منه للعقل حقيقة ذلك الشخص كليا مجردا عن المواد
والاوضاع حتى تنقسم أوصافه الى ما هو ذاتى كالجسمية للشجر والحيوان الى اخر الفصل الى اخر الفصل

[Page 573] [38] قلت معنى ما حكاه عن الفلاسفة من هذا الدليل هو ان العقل
يدرك من الاشخاص المتفقة فى النوع معنى واحدا تشترك فيه وهى
ماهية ذلك النوع من غير ان ينقسم ذلك المعنى بما تنقسم به

[Page 574] الاشخاص من حيث هى اشخاص من المكان والوضع والمواد التى
من قبلها تكترث فيجب ان يكون هذا المعنى غير كائن ولا فاسد
ولا ذاهب بذهاب شخص من الاشخاص التى يوجد فيها هذا المعنى
ولذلك كانت العلوم ازلية وغير كائنة ولا فاسدة الا بالعرض أى من
قبل اتصالها بزيد وعمرو اى انها فاسدة من قبل الاتصال لا انها
فاسدة فى نفسها اذ لو كانت كائنة فاسدة لكان هذا الاتصال موجودا
فى جوهرها و لكانت لا تجتمع فى شيء واحد قالوا: و إذا تقرر هذا
من أمر العقل وكان فى النفس وجب ان تكون النفس غير منقسمة
بانقسام الاشخاص وان تكون أيضا معنى واحدا فى زيد وعمرو .
[39] وهذا الدليل فى العقل قوى لان العقل ليس فيه من معنى الشخصية
شىء وأما النفس فانها وان كانت مجردة من الاعراض التى تعددت
بها الاشخاص فان المشاهير من الحكماء يقولون ليس تخرج من
طبيعة الشخص وان كانت مدركة والنظر هو فى هذا الموضع
[40] واما الاعتراض الذى اعترض عليهم ابو حامد فهو راجع الى
ان العقل هو معنى شخصى والكلية عارضة له ولذلك يشبه نظره

[Page 575] الى المعنى المشترك فى الاشخاص بنظر الحس الواحد مرارا كثيرة
فانه واحد عنده لا انه معنى كلى فالحيوانية مثلا فى زيد فى بعينها
بالعدد التى أبصرها فى خالد وهذا كذب فانه لو كان هذا هكذا لما
كان بين ادراك الحس وادراك العقل فرق
[41] ولم ننقل كلامه الى ههنا لما فيه من التطويل

[Page 576]

[no title]

[1] وكذلك قال ابو حامد بعد هذا ان للفلاسفة على ان النفس يستحيل
عليها العدم بعد الوجود دليلين احدهما ان النفس ان عدمت لم يخل
عدمها من ثلاثة احوال اما ان تعدم مع عدم البدن واما ان تعدم
من قبل ضد موجود لها أو تعدم بقدرة القادر وباطل ان تعدم بعدم
البدن فانها مفارقة للبدن وباطل ان يكون لها ضد فان الجوهر
المفارق ليس له ضد وباطل ان تتعلق قدرة القادر بالعدم على ما سلف .
[2] واعترضهم هو بانا لا نسلم انها مفارقة للبدن وأيضا فان المختار عند
ابن سينا ان تكون النفوس متعددة بتعدد الابدان لان كون النفس
واحدة بالعدد من كل وجه فى جميع الاشخاص تلحقه محالات كثيرة
منها ان يكون اذا علم زيد شيئا يعلمه عمرو واذا جهله عمرو جهله

[Page 577] زيد الى غير ذلك من المحالات التى تلزم هذا الوضع فهو يرد على هذا
القول بانها اذا انزلت متعددة بتعدد الاجسام لزم ان تكون مرتبطة
بها فتفسد ضرورة بفساد الاجسام . [3] وللفلاسفة ان يقولوا انه ليس
يلزم اذا كان شيئا بينهما نسبة علاقة ومحبة مثل النسبة التى بين
العاشق والمعشوق ومثل النسبة التى بين الحديد وحجر المغناطيس
ان يكون اذا فسد احدهما فسد الآخر ولكن للمنازع ان يسألهم
عن المعنى الذى به تشخصت النفوس وتكثرت كثرة عددية وهى
مفارقة للمواد فان الكثرة العددية الشخصية انما اتت من قبل المادة .
[4] لكن لمن يدعى بقاء النفس وتعددها ان يقول انها فى مادة لطيفة
وهى الحرارة النفسانية التى تفيض من الاجرام السماوية وهى
الحرارة التى ليست هى نارا ولا فيها مبدأ نار بل فيها النفوس
المخلقة للاجسام التى ههنا وللنفوس التى تحل فى تلك الاجسام فانه
لا يختلف احد من الفلاسفة ان فى الاسطقسات حرارة سماوية وهى
حاملة للقوى المكونة للحيوان والنبات لكن بعضهم يسمى هذه
قوة طبيعية سماوية وجالينوس يسميها القوة المصورة ويسميها أحيانا
الخالق ويقول انه يظهر ان ههنا صانعا للحيوان حكيما مخلقا له وان

[Page 578] هذا يظهر من التشريح فاما أين هو هذا الصانع وما جوهره فهو
اجل من ان يعلمه الانسان ومن هنا يستدل افلاطون على ان
النفس مفارقة للبدن لانها هى المخلقة له والمصورة ولو كان البدن
شرطا فى وجودها لم تخلقه ولا صورته . [5] وهذا النفس اظهر ما هى
اعنى المخلقة فى الحيوان الغير متناسل ثم بعد ذلك فى المتناسل فانا
كما نعلم ان النفس هى معنى زائد على الحرارة الغريزية اذ كانت
الحرارة بما هى حرارة ليس من شانها ان تفعل الافعال المنتظمة
المعقولة كذلك نعلم ان الحرارة التى فى الزور ليس فيها كفاية فى
التخليق والتصوير فلا خلاف عندهم فى ان فى الاسطقسات نفوسا
مخلقة لنوع نوع من الانواع الموجودة من الحيوان والنبات
والمعادن وكل محتاج فى كونه وبقائه الى تدبير وقوى حافظة له .
[6] وهذه النفوس اما ان تكون كالمتوسطة بين نفوس الاجرام السماوية
وبين النفوس التى ههنا فى الاجسام المحسوسة ويكون لها ولا بد
على النفوس التى ههنا والابدان تسليط ومن ههنا نشأ القول
بالجن او تكون هى بذواتها هى التى تتعلق بالابدان التى تكونها

[Page 579] للشبه الذى بينها واذا فسدت الابدان عادت الى مادتها الروحانية
واجسامها اللطيفة التى لا تحس . [7] وما من احد من الفلاسفة القدماء
الا وهو معترف بهذه النفوس وانما يختلفون هل هى التى فى الاجسام
او جنس اخر غيرها واما الذين قالوا بواهب الصور فانهم جعلوا هذه
القوى عقلا مفارقا وليس يوجد ذلك لاحد من القدماء الا لبعض
فلاسفة الاسلام لان من اصولهم ان المفارقات لا تغير المواد تغير
استحالة بذواتها واولًا اذ المحيل هو ضد المستحيل . [8] وهذه المسئلة
هى من اعوص المسائل التى فى الفلسفة ومن اقوى ما يستشهد به
فى هذا الباب ان العقل الهيولانى يعقل اشياء لا نهاية لها فى المعقول
الواحد ويحكم عليها حكما كليا وما جوهره هذا الجوهر فهو غير
هيولانى اصلا ولذلك يحمد ارسطو انكساغورس فى وضعه المحرك
الاول عقلا أى صورة برية من الهيولى ولذلك لا ينفعل عن شىء
من الموجودات لان سبب الانفعال هى الهيولى والامر فى هذا فى
القوى القابلة كالامر فى القوى الفاعلة لان القوى القابلة ذوات المواد
هى التى تقبل أشياء محدودة

[Page 580]

[no title]

[1] ولما فرغ من هذه المسئلة اخذ يزعم ان الفلاسفة ينكرون
حشر الاجساد وهذا شىء ما وجد لواحد ممن تقدم فيه قول . [2] والقول
بحشر الاجساد اقل ما له منتشرا فى الشرائع الف سنة والذين تادت
الينا عنهم الفلسفة هم دون هذا العدد من السنين وذلك ان اول من
قال بحشر الاجساد هم انبياء بنى اسرائيل الذين أتوا بعد موسى عليه
السلام وذلك بين من الزبور ومن كثير من الصحف المنسوبة
لبنى اسرائيل وثبت ذلك ايضا فى الانجيل وتواتر القول به عن عيسى
عليه السلام وهو قول الصابئة وهذه الشريعة قال ابو محمد بن حزم

[Page 581] انها اقدم الشرائع . [3] بل القوم يظهر من امرهم انهم اشد الناس تعظيما
لها وايمانا بها والسبب فى ذلك انهم يرون انها تنحو نحو تدبير الناس
الذى به وجود الانسان بما هو انسان وبلوغه سعادته الخاصة به
وذلك انها ضرورية فى وجود الفضائل الخلقية للانسان والفضائل
النظرية والصنائع العملية وذلك انهم يرون ان الانسان لا حياة له
فى هذه الدار الا بالصنائع العملية ولا حياة له فى هذه الدار ولا فى
الدار الآخرة الا بالفضائل النظرية وانه ولا واحد من هذين يتم ولا
يبلغ اليه الا بالفضائل الخلقية وان الفضائل الخلقية لا تتمكن الا
بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة لهم فى ملة ملة مثل
القرابين والصلوات والادعية وما يشبه ذلك من الاقاويل التى تقال
فى الثناء على الله تعالى وعلى الملائكة والنبيين ويرون بالجملة ان
الشرائع هى الصنائع الضرورية المدنية التى تأخذ مبادئها من العقل
والشرع ولا سيما ما كان منها عاما لجميع الشرائع وان اختلفت فى
ذلك بالاقل والاكثر . [4] ويرون مع هذا انه لا ينبغى ان يتعرض
بقول مثبت او مبطل فى مبادئها العامة مثل هل يجب ان يعبد الله

[Page 582] او لا يعبد وأكثر من ذلك هل هو موجود ام ليس بموجود وكذلك
يرون فى سائر مبادئه مثل القول فى وجود السعادة الاخيرة وفى
كيفيتها لان الشرائع كلها اتفقت على وجود أخروى بعد الموت
وان اختلفت فى صفة ذلك الوجود كما اتفقت على معرفة وجوده
وصفاته وافعاله وان اختلفت فيما تقوله فى ذات المبدأ وافعاله بالاقل
والاكثر وكذلك هى متفقة فى الافعال التى توصل الى السعادة التى
فى الدار الآخرة وان اختلفت فى تقدير هذه الافعال . [5] فهى بالجملة
لما كانت تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع كانت واجبة
عندهم لان الفلسفة انما تنحو نحو تعريف سعادة بعض الناس
العقلية وهو من شأنه ان يتعلم الحكمة والشرائع تقصد تعليم
الجمهور عامة ومع هذا فلا نجد شريعة من الشرائع الا وقد نبهت
بما يخص الحكماء وعنيت بما يشترك فيه الجمهور . ولما كان الصنف
الخاص من الناس انما يتم وجوده وتحصيل سعادته بمشاركة الصنف
العام كان التعليم العام ضروريا فى وجود الصنف الخاص وفى حياته
اما فى وقت صباه ومنشئه فلا يشك احد فى ذلك واما عند نقلته

[Page 583] الى ما يخصه فمن ضرورة فضيلته الا يستهين بما نشأ عليه وان
يتأول لذلك أحسن تأويل وأن يعلم ان المقصود بذلك التعليم هو ما
يعم لا ما يخص وانه ان صرح بشك فى المبادى الشرعية التى نشأ
عليها او بتأويل انه مناقض للانبياء صلوات الله عليهم وصاد عن
سبيلهم فانه أحق الناس بان ينطلق عليه اسم الكفر ويوجب له
فى الملة التى نشأ عليها عقوبة الكفر . [6] ويجب عليه مع ذلك ان يختار
أفضلها فى زمانه وان كانت كلها عنده حقا وان يعتقد ان الافضل
ينسخ بما هو افضل منه ولذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون
الناس بالاسكندرية لما وصلتهم شريعة الاسلام وتنصر الحكماء الذين
كانوا ببلاد الروم لما وصلتهم شريعة عيسى عليه السلام ولا يشك احد
انه كان فى بنى اسرائيل حكماء كثيرون وذلك ظاهر من الكتب التى
تلفى عند بنى اسرائيل المنسوبة الى سليمان عليه السلام ولم تزل الحكمة
أمرا موجودا فى اهل الوحى وهم الانبياء عليهم السلام ولذلك اصدق
كل قضية هى ان كل نبى حكيم وليس كل حكيم نبى ولكنهم العلماء

[Page 584] الذين قيل فيهم انهم ورثة الانبياء . [7] واذا كانت الصنائع البرهانية فى
مبادئها المصادرات والاصول الموضوعة فكم بالحرى يجب ان
يكون ذلك فى الشرائع الماخوذة من الوحى والعقل وكل شريعة
كانت بالوحى فالعقل يخالطها ومن سلم انه يمكن ان تكون ههنا
شريعة بالعقل فقط فانه يلزم ضرورة ان تكون انقص من الشرائع
التى استنبطت بالعقل والوحى والجميع متفقون على ان مبادى العمل
يجب ان تؤخذ تقليدا اذ كان لا سبيل الى البرهان على وجوب العمل
الا بوجود الفضائل الحاصلة عن الاعمال الخلقية والعملية
[8] فقد تبين من هذا القول ان الحكماء باجمعهم يرون فى الشرائع
هذا الرأى أعنى أن يتقلد من الانبياء والواضعين مبادى العمل والسنن
المشروعة فى ملة ملة . [9] والممدوح عندهم من هذه المبادى الضرورية هو
ما كان منها احث للجمهور على الاعمال الفاضلة حتى يكون الناشئون
عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها مثل كون الصلوات عندنا
فانه لا يشك فى ان الصلوات تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال
تعالى وان الصلاة الموضوعة فى هذه الشريعة يوجد فيها هذا الفعل

[Page 585] أتم منه فى سائر الصلوات الموضوعة فى سائر الشرائع وذلك بما شرط
فى عددها وأوقاتها واذكارها وسائر ما شرط فيها من الطهارة ومن
التروك اعنى ترك الافعال والاقوال المفسدة لها . [10] وكذلك الامر فيما
قيل فى المعاد منها هو أحث على الاعمال الفاضلة مما قيل فى غيرها
ولذلك كان تمثيل المعاد لهم بالامور الجسمانية أفضل من تمثيله بالامور
الروحانية كما قال سبحانه مثل الجنة التى وعد المتقون تجرى من
تحتها الانهار وقال النبى عليه السلام فيها ما لا عين رأت ولا اذن
سمعت ولا خطر بخاطر بشر وقال ابن عباس ليس فى الآخرة من
الدنيا الا الاسماء فدل على ان ذلك الوجود نشاة اخرى أعلى من
هذا الوجود وطور آخر افضل من هذا الطور وليس ينبغى ان ينكر
ذلك من يعتقد انا ندرك الموجود الواحد ينتقل من طور الى طور
مثل انتقال الصور الجمادية الى ان تصير مدركة ذواتها وهى الصور
العقلية . [11] والذين شكوا فى هذه الاشياء وتعرضوا لذلك وافصحوا به
انما هم الذين يقصدون ابطال الشرائع وابطال الفضائل وهم الزنادقة
الذين يرون ان لا غاية للانسان الا التمتع باللذات هذا مما لا يشك
احد فيه ومن قدر عليه من هؤلاء فلا يشك ان اصحاب الشرائع

[Page 586] والحكماء باجمعهم يقتلونه ومن لم يقدر عليه فان اتم الاقاويل التى
يحتج بها عليه هى الدلائل التى تضمنها الكتاب العزيز . [12] وما قاله
هذا الرجل فى معاندتهم هو جيد ولا بد فى معاندتهم ان توضع النفس
غير مائتة كما دلت عليه الدلائل العقلية والشرعية وان يوضع ان
التى تعود هى امثال هذه الاجسام التى كانت فى هذه الدار لا هى
بعينها لان المعدوم لا يعود بالشخص وانما يعود الموجود لمثل ما
عدم لا لعين ما عدم كما بين ابو حامد ولذلك لا يصح القول بالاعادة
على مذهب من اعتقد من المتكلمين ان النفس عرض وان الاجسام
التى تعاد هى التى تعدم وذلك ان ما عدم ثم وجد فانه واحد بالنوع
لا واحد بالعدد بل اثنان بالعدد وبخاصة من يقول منهم ان الاعراض
لا تبقى زمانين

[Page 587]

Conclusio

[1] وهذا الرجل كفر الفلاسفة بثلاث مسائل . احدها هذه وقد قلنا
كيف راى الفلاسفة فى هذه المسئلة وانها عندهم من المسائل
النظرية . والمسئلة الثانية قولهم انه لا يعلم الجزئيات وقد قلنا ايضا
ان هذا القول ليس من قولهم . والثالثة قولهم بقدم العالم وقد قلنا
ايضا ان الذى يعنون بهذا الاسم ليس هو المعنى الذى كفرهم به
المتكلمون . [2] وقال فى هذا الكتاب انه لم يقل احد من المسلمين
بالمعاد الروحانى وقال فى غيره ان الصوفية تقول به وعلى هذا فليس
يكون تكفير من قال بالمعاد الروحانى ولم يقل بالمحسوس اجماعا
وجوز هذا القول بالمعاد الروحانى وقد تردد ايضا فى غير هذا
الكتاب فى التكفير بالاجماع وهذا كله كما ترى تخليط . [3] ولا شك
ان هذا الرجل أخطأ على الشريعة كما اخطأ على الحكمة والله الموفق
للصواب والمختص بالحق من يشاء

[Page 588] [4] وقد رأيت ان اقطع ههنا القول فى هذه الاشياء والاستغفار
من التكلم فيها ولو لا ضرورة طلب الحق مع أهله وهو كما يقول
جالينوس رجل واحد من الف والتصدى الى ان يتكلم فيه من
ليس من اهله ما تكلمت فى ذلك علم الله بحرف وعسى الله ان
يقبل العذر فى ذلك ويقبل العثرة بمنه وكرمه وجوده وفضله
لا رب غيره